كرامة المؤمن والرغبة المذلة

بسم الله، وصلى الله على المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ورد عن الإمام الصادق أنه قَالَ: ”مَا أَقْبَحَ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ لَهُ رَغْبَةٌ تُذِلُّهُ[1] .

إذا تأملنا في مفاد هذا الحديث الشَّريف نجد أنَّ معناه كما يشمل الرَّغبة نحو العمل المحرم؛ فإنَّه يشمل الرَّغبة نحو العمل المباح، لأنَّ المنظور في هذا الحديث هو الرَّغبة المُذِلَّة، والرَّغبة المُذِلَّة هي ما يكون الدَّافع والباعث نحو العمل مجرد إرضاء الشَّهوة، من دون ان يكون وراء ذلك الباعث هدفٌ عقلائيٌّ منشودٌ، وإنَّما الهدف الباعث نحو هذا العمل مجرد إرضاء النَّفس، وإدخال اللَّذة على النَّفس، وفي هذا المسار طرح الصادق قانوناً تربويّاً، وهو متى ما كان الباعث نحو العمل مجرد التذاذ النفس؛ كان الإنسان في معرض الإنزلاق لإشباع نزوات النَّفس من غير قنواتها الشَّرعيّة، أو العقلائيّة السَّليمة، وكان ذلك موجباً عادةً للوقوع في خطواتٍ مُذِلّةٍ ومهينةٍ للإنسان.

وقد يكون العمل مباحا؛ ً إلاّ أنَّ الإمام يرى أنَّ المؤمن الَّذي يشتغل بالمباحات لإرضاء رغبته مؤمنٌ مُتَلبِّسٌ بالقبيح.

وقد يتساءل الإنسان ماهو الوجه في قبح العمل إذا كان مباحاً ومُرخَّصاً فيه من قِبَل الشَّرع المقدس، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ[2] .

والجواب عن ذلك:

أنَّ المنظور في هذا المجال ليس مطلق طلب المباح، بل الطَّلب الذي يُعَرِّض الإنسان إلى الذِّلّة والهوان، وهو الطَّلب بالطُّرق غير العقلائية التي تنبئ عن حالة من الشره والطمع، والتَّهالك وراء إرضاء النَّزوات فقط، وبالتَّالي فهذا العمل قبيحٌ لانَّ للإيمان عزّةٌ تتنافى مع الانسياق وراء هذا العمل.

قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[3] ، ومدلول الآية أنَّ عزّة المؤمن ليست لشخصه على نحو الموضوعيّة، وإنَّما هي عزّة الإيمان، أي أنَّ لهذا الإيمان الَّذي يحمله المؤمن في سلوكه وقلبه؛ كرامةٌ وعزّةٌ، فكما يجب على المؤمن عقلاً أن يتحفَّظ عن الوقوع في المعاصي؛ يجب أن يتحفَّظ على عزّة الإيمان، وكرامة الإيمان الَّتي يحملها، ومتى ما كانت له رغبةٌ تُذِلُّه فإنَّه يُوهن بذلك كرامة الإيمان، وعزّة الإيمان الّتي يحملها، سواء كانت تلك الرغبة رغبةً في الطعام، أو المال، أو المنصب، أو إشباع الشَّهوة الجنسيّة بأيِّ نحوٍ كان.

فمثلاً: عندما يسعى المؤمن كلَّ يومٍ، ويُجهد نفسه في الوصول إلى ألذِّ الأطعمة، حتّى لو بذل ماء وجهه للنَّاس، فإن هذه الرَّغبة تُذلّه، ولا تتناسب مع عزّة الإيمان الذي يحمله. وكذلك لو كان سعيه نحو كسب الثَّروة شاغلاً له عن الأُنس والأُلفة بأهله ومجتمعه، أو شاغلاً له عن التَّفاعل مع قضايا أمَّته، فهذا مسارٌ قبيحٌ لكونه في معرض الإذلال والإهانة لإنسانيَّته وكرامته، بحصر شخصيته في اللَّهث وراء المال، فمن جهة تراه مؤمناً مطيعاً، ولكن يصرف وقته في الحصول على المال، لا لهدفٍ عقلائيٍّ كالنَّفقة على العيال، أو المبرّات، بل لإشباع نفسه.

ومن امثلة هذا المسار: الرَّغبة في المنصب والجاه، وانتشار الصِّيت، كما هو حاصلٌ بالنِّسبة إلى بعض المؤمنين، لكي يحصل على هذا المنصب واللقب، كلقب الدُّكتور، ورئيس الموظفين، فإنه يدخل في طرقٍ كثيرةٍ، ويبذل الجهد في الحصول على ذلك، ولو أذلَّه ذلك في نظر من يعايشه، فيرى أنَّه قد أوهن إيمانه، وأذلَّ كرامته إلى حدِّ بذل ماء وجهه في أمورٍ لا تتناسب مع عزّة الإيمان.

وورد في الحديث الشّريف عن سماعة قال: قال أبو عبد الله : ”إنَّ الله عزّ وجلّ فوَّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يذلَّ نفسه، ألم تسمع لقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، يُعزّه الله بالإيمان والإسلام[4] .

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله قال: ”إنَّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كلّ شيءٍ إلا إذلال نفسه[5] . وذلك لا للموضوعيّة لنفسه، بل الموضوعيّة للإيمان الذي له كرامة لا بدَّ من التحفُّظ عليها.

ومن مصاديق هذا القانون التربويّ؛ مجال إشباع الشَّهوة الجنسيَّة، فإنَّ المؤمن وإن سلك الطُّرق المباحة، إلاّ أنَّه إذا كان همّه هو إشباع شهوته ولو بالطُّرق المُنفِّرة، فإنَّ هذه الطرق إذا أوقعته في موقع المهانة والذِّلَّة، والنَّظر إليه نظراً شهوانياً مُستهجناً مُنفِّراً، تكون غير منسجمةٍ مع عزّة الإيمان.

وما أحسن بالمؤمن أن تكون له رغبةٌ تُعِزُّه، فإذا رؤي المؤمن متهالكاً في العبادة فهي رغبةٌ تعزّه، وإذا رؤي المؤمن متفانياً في النوافل، وقراءة القران، وخدمة المؤمنين، وقضاء حوائجهم، أو مُصرّاً على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أو مُكبّاً على تحصيل العلم والمعرفة المُثمرة للمجتمع الإنسانيّ، فإنّ هذا المؤمن يكون مصداقاً لمن كان له رغبةٌ تعزه.

اللهمّ أعزّنا بطاعتك، ولا تخزنا بمعصيتك، والحمد لله ربّ العالمين،،،

[1]  وسائل الشيعة، ج‌16، ص: 24‌ «1» 67 بَابُ كَرَاهَةِ الطَّمَعِ‌.
[2]  سورة اﻷعراف: 32.
[3]  سورة المنافقين: 8.
[4]  الكافي، ج5، ص63.
[5]  الكافي، ج5، ص63.