ملخص: حاجة المجتمع الإنساني للقيادة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: 25]

انطلاقاً من الآية الكريمة كان الحديث في ثلاثة محاور:

  • مصداقية العقل
  • الحاجة المعرفية والاجتماعية
  • الحاجة التربوية
المحور الأول: مصداقية العقل

هل العقل يؤمن بضرورة وجود الأنبياء؟

لابد لأن تكون لأحكام العقل مصداقية من أجل أن نثق باستنتاجاته في تحديد الحاجة لوجود الأنبياء.

الفيلسوف البريطاني جون جيري الذي يقول إذا آمنا بالنظرية الداروينية بكل اتجاهاتها سوف نفقد الثقة بالعقل، فإذا كانت نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي نظرية صحيحة، سيكون ذلك محالا على العقل أن يبلغ الحقيقة فهذه النظرية ترى أن الإنسان في إطار التطور البيولوجي، فالإنسان يعيش من أجل البقاء ومقاومة عوامل الانقراض. إذا فهو يعيش وفق تطور بيولوجي والدماغ يصبح مادة وظيفية ناجمة عن حاجة الإنسان للبقاء. إذا فالدماغ ليس أداة مجهزة للوصول إلى الحقيقة فالعقل لا مصداقية له ولا وثوق لأحكامه.

ويمكن مقاربة هذه الفكرة من خلال ثلاثة وجوه:

الأول: ماتعرض له ديكارت في كتابه مقال عن المنهج..

يبحث الإنسان هل هناك إله أو لا، وهل هو إله مخادع أو إله كامل.

فإذا آمن بأن هناك إله كامل، آمن بأن للعقل مصداقية، ومن لم يؤمن بإله كامل لم يؤمن بأن العقل له مصداقية ولذلك يتعرض ديكارت إلى نقطتين:

الأولى: خطاب للملحدين

إذا كان لايؤمن بوجود إله كامل، من الذي يضمن له بأن العقل كامل وأن لايقع في الأوهام ويخضع لتأثير الشيطان.

الثانية: التحدث مع الربوبيين

إذا آمنا بأن الإله كامل لابد أن نؤمن بأن العقل أداة وصول للحقيقة، فلو خلق الله الإنسان وأعطاه عقل واصبح العقل مخادع، فإن الله ليس كاملا ومخادعا.

الوجه الثاني: مايذكره توماس بين في كتابه الأعمال اللاهوتية، على الإنسان أن يتحلى بأخلاق الله وصفات الله الأخلاقية.

كل إنسان يعيش بداخله ضميرا ونداءا نحو القيم والفضائل.

هل يمكن أن يكون الإنسان عادل وهو لايؤمن بالحقيقة... إذا كان الإنسان صادقاً، عادلاً، محسناً كان عقله أداة للوصول إلى الحقيقة.

الوجه الثالث: العقل لايصل إلى الحقيقة، إذا لانثق بالاستناد العقلي الذي افرز لنا فكرة أن العقل لايصل إلى الحقيقة.

وفي خلاصة هذا المحور يظهر لنا بأن العقل يصل إلى الحقيقة ويمكن للإنسان أن يعتمد عليه في وصوله للحقائق.

المحور الثاني: الحاجة المعرفية والاجتماعية.

الحاجة المعرفية والاجتماعية تفرضان ضرورة وجود الأنبياء والرسل.

الحاجة المعرفية:

الإنسان يحتاج إلى أن يتعرف على المفاهيم الغيبية والمفاهيم الخارجة عن الطبيعة، فالإنسان طاقة لا حد لها.

في الفيزياء قانون الطاقة لا تفنى ولا تستحدث فالطاقة لم تأتي من عدم ومن لا شيء بل جاءت من قوة خارقة لا حدود لها وهي الله تبارك وتعالى. فالطاقة الكونية لم تستحدث وهي خالدة دائمة وكامنة..

الإنسان طاقة متجددة متكاملة لن تفنى، فيتضح أن الإنسان يمتلك من الطاقات والقدرات والطموحات مالم يفنى به العمر المادي...

لابد من عالم آخر يستنفذ الإنسان طاقاته وقدراته وشخصيته التكاملية...

فاحتاج الإنسان إلى الأنبياء لتعريفه مفاهيم هذا العالم الآخر.

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا «26» إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا «27» لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا «28» [الجن: 26 - 28]

الحاجة الاجتماعية وهي ترتكز على ثلاثة ركائز

▪كل كائن حي يحمل غريزة إجتماعية كولد النحلة وولد الظأن أو ولد الحصان بمجرد أن يخرج من رحم أمه، يمشي في نظام اجتماعي من دون تعليم واكتساب..

فهناك غريزة اجتماعية موجودة في كل كائن حي ولها نظام. فالإنسان يمتلك غريزة

وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ «38»

- أن الحيوان غريزته غريزة قهرية بينما الإنسان يمتلك غريزة اجتماعية إرادية وهنا مكمن الخطر.

- الإنسان يمتلك غريزة فردية تدعوه إلى الانحيازية وامتلاك الثروات ويعيش صراعا مذهلا بين الغريزتين الاجتماعية والفردية فالغريزة الفردية تدعوه إلى مصلحته الخاصة والغريزة الاجتماعية تدعوه إلى التعاون مع الغير من أجل التوازن... فالإنسان يحتاج إلى وازع داخلي يرغبه ويربيه على التضحية بمصالحه الخاصة من أجل المصالح الاجتماعية.

وهنا قد يقول البعض بأن الإنسان في الغرب يحترم النظام ويؤمن بالمصالح العامة دون حاجة إلى الوازع السماوي، وهنا مغالطة فالإنسان في الغرب إنما يحترم النظام ويؤمن بالمصالح العامة لأنها تضمن مصالحه الفردية فلولا أن النظام يوفر له تعليم ومرافق صحية ما احترم هذا النظام، لذلك بمجرد اختلال النظام في منطقة ما وتغيب العقوبات والغرامات تجد الإنسان يتمرد على القانون والنظام... بينما نحن نريد الإنسان ينخلق من داخله الاحترام للنظام واحترام المصالح الاجتماعية ورعاية المصالح العامة وهذا لا يتوفر إلا من خلال رسالة السماء. فتربية الأنبياء هي التي تغذي الإنسان على التوازن بين الغريزة الاجتماعية والغريزة الفردية لذلك يركز القرآن الكريم على هذا المعنى...

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [البقرة: 272]، ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء: 95]

المحور الثالث: الحاجة التربوية

هناك حاجة تربوية موجودة في داخل كل إنسان لوجود الأنبياء، فكل إنسان يعشق القيم الإنسانية من الصدق والعدل والأمانة لأنها قيم متجذرة في فطرة الإنسان... فكيف نحول هذا العشق إلى سلوك وعمل؟. من هنا تأتي الحاجة إلى الأنبياء.

فعندما يريد الإنسان أن يحول القيم إلى سلوك يحتاج إلى عنصرين:

إيمان داخلي

إذا لم نؤمن أن وراء هذه القيم ثوابا واجرا لم نجسدها على أرض الواقع.. أساس القيم الخلقية والإنسانية محورها الصبر..

﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45]

فنؤمن أن وراء الصبر أجر ومثوبة وخلود في الجنان من خلال رسالة السماء وماتعدنا به..

ولأجل ذلك يركز القرآن الكريم على هذا المعنى

﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]

وجود القدوة

تحتاج القيم إلى وجود قدوة كاملة في خلقها وقيمها ومثلها بحيث تكون قدوة في المجتمع... ولا يكون ذلك إلا من خلال الأنبياء والرسل فهم القدوة الكاملة التي تلبي حاجاتنا إلى الصبر والقدوة...

﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18]

فضرورة القدوة تعني ضرورة وجود أنبياء ورسل يقتدي بهم الإنسان...

الإمام أمير المؤمنين يتحدث عن هذه الضرورة ”فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ“، ويؤكد أمير المؤمنين على القدوة في قوله:

”وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ، غَيْرَ رَسُولِ اللَّه وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ“

وتتمثل هذه القدوة والاتساء في حركة الحسين ع عندما قال «ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام، على مصارع الكرام، الا واني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر»