المعجزة في سياق العلم أم الخرافة؟

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر: 78]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث عن نقطة محورية وهي مسألة الإعجاز، فما هي الحكمة والهدف من الإعجاز؟

النبوة حدث غير طبيعي؛ لأن النبوة عبارة عن اتصال قلب النبي بعالم الغيب، والاتصال المادي بعالم مجرد عن المادة حدث غير طبيعي، فهو اتصال المحدود باللا محدود، واتصال عالم الملك الذي هو عالم المادة بعالم الملكوت الذي هو عالمٌ وراء المادة هو حدث غير طبيعي، فبما أن النبوة هي أمر غير طبيعي لذلك كان الدليل والبرهان على ثبوت النبوة أمراً غير طبيعي ألا وهو الإعجاز.

لكي يحصل تناسب وانسجام بين الدليل والنتيجة، والنتيجة التي نريد أن نثبتها هي النبوة، والنبوة أمر غير طبيعي، إذن بما أن النتيجة التي نريد أن نتوصل إليها أمراً غير طبيعي لذلك اقتضت الحكمة أن يكون الدليل والبرهان الموصل إلى ثبوت النبوة هو أمراً غير طبيعي ألا وهو الإعجاز، لكي يحصل تناسخ وانسجام بين النتيجة والدليل.

وحديثنا هنا عن الإعجاز في محاور ثلاثة:

  •  ما هي حقيقة الأعجاز؟
  • هل يتنافى الإعجاز مع الميزان العلمي؟
  • هل يتنافى الإعجاز مع المنطق القرآني؟
المحور الأول: ما هي حقيقة الإعجاز؟ [1] 

من أجل أن نتعرف على حقيقة الإعجاز نذكر عناصر أربعة:

العنصر الأول: هل أن الإعجاز هدم لقانون السنخية بين المسبب والسبب؟

لدينا قانون عقلي يقول أن لكل مسبب سبباً من سنخه أي من مادته، فالبيضة تنتج فرخاً ولا تنتج تفاحة، وبذرة الشجرة تنتج ثمرةً ولا تنتج حيواناً، والنطفة المنوية تنتج إنساناً ولا تنتج تفاحة، فلكل مسبب سبب من سنخه، فهل أن الإعجاز ضرب لهذا القانون العقلي؟ وهل أن الإعجاز عبارة عن إيجاد مسبب خارق للعادة من دون سبب من سنخه أم لا؟

قد يقول قائل: نعم، لأن قدرة الله مطلقة فبما أن الله قادر على كل شيء إذن فهو قادر على أن يضرب هذا القانون  وهو أن لكل سبب مسبباً من سنخه  باعتبار أن هذه القوانين «قانون السببية وقانون السنخية» هي قوانين أبدعها الله، وبما أنه هو الذي أبدعها فهو القادر على خرقها وهدمها، فإذن المعجزة هي ضرب لقانون السنخية من قبل الله تبارك وتعالى بمقتضى قدرته.

ولكننا لا نؤيد هذه الفكرة، ونقول: الله قادر على كل شيء، وأما ما ليس بشيء فلا تتعلق به القدرة، وكل أمر ممكن أن يتحقق فهو شيءٌ تتعلق به القدرة الإلهية، وأما الأمر الذي يستحيل تحققه فهذا ليس بشيء حتى تتعلق به القدرة الإلهية، مثلاً القانون الرياضي 2+2= 4، وزوايا المثلث تساوي قائمتين، هذا القانون الرياضي لا يمكن أن نقول أن الله قادر على هدمه، وأنه يمكن أن الله يجعل الاثنين ثلاثة، ويمكن أن الله يجعل زوايا المثلث تساوي قائمة واحدة! هذا أمر غير ممكن؛ لأن تساوي زوايا المثلث مع قائمة أمر مستحيل في نفسه فهو ليس بشيء حتى تتعلق به القدرة الإلهية.

كذلك عندما نأتي إلى النقيضان، فالنقيضان لا يجتمعان، ولو قال شخص: إن الله قادر على كل شيء، إذن هو قادر على جمع النقيضين، فهو قادر على أن يجعل الإنسان موجود وغير موجود في آن واحد.

فنقول له لا، لا لعجز فيه تعالى بل لأن اجتماع النفيضين ليس بشيءٍ لأنه أمر مستحيل في نفسه، ولذلك جاء كما في الرواية: روى الصدوق عن محمد بن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن الإمام الصادق جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي قال: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في بيضة من دون تكبير البيضة ولا تصغير الدنيا؟ فقال له الإمام أمير المؤمنين علي : الله لا يُنسب إليه العجز، وما سألت عنه لا يكون. هذه المسألة التي سألت عنها أن يجعل الدنيا في بيضة أمر مستحيل في نفسه فليس بشيء حتى تتعلق به القدرة، ولا يمكن أن يكون الظرف أصغر من المظروف.

إذن لا يمكن أن تكون المعجزة ضرباً لقانون السنخية؛ لأن قانون السنخية هو قانون عقلي ومن المستحيل أن يكون المسبب ناشئاً عن سبب من غير سنخه، كما أنه يستحيل أن يوجد المسبب بلا سبب، ويستحيل أن يوجد المسبب بلا سبب من سنخه، فالمعجزة ليست ضرباً لقانون السنخية، لأنه أمر محال في نفسه لا أن قدرة الله قاصرة.

العنصر الثاني: القوانين إما رياضية أو عقلية أو طبيعية.

القانون الرياضي يستحيل تخلفه، 4 × 4= 16 هذا قانون يستحيل تخلفه، وزوايا المثلث تساوي قائمتين قانون يستحيل تخلفه، وكذلك القانون العقلي أيضاً يستحيل تخلفه، «النفيضان لا يجتمعان»، «الكل أكبر من الجزء»، «لا يمكن أن يكون الكل مساوي للجزء»، «الظرف لا يمكن أن يكون أصغر من المظروف» هذه كلها قوانين عقلية لا يمكن تخلفها.

أما القانون الطبيعي وهو القانون الذي أثبتناه بالتجربة، «كل ماء إذا بلغت درجة حرارته مئة فإنه يغلي» هذا قانون طبيعي، فهل هذا القانون الطبيعي يمكن أن يتخلف؟

نعم يمكن أن يتخلف، فإنه يمكن في بعض المرتفعات البعيدة عن سطح البحر أن تبلغ درجة حرارة الماء مئة ولكن لا يغلي، وذلك لأنه القانون الرياضي والقانون العقلي قانونان اكتشفهما العقل الفطري وحده، وما اكتشفه العقل الفطري وحده لا يتخلف، اكتشفه العقل كما هو، وأما القانون الذي أثبتناه بالاستقراء التجريبي فغاية ما لدينا من دليل عليه هو الاستقراء والاستقراء يمكن أن يتخلف، نحن قمنا باستقراء مليار فرد من الماء وجدنا أن كل ماء إذا بلغت درجة حرارته مئة فإنه يغلي، لكننا لم نستقرئ كل ماء على الأرض وفي كل حال وفي كل ظرف، فبما أن الدليل على القانون هو الاستقراء، والاستقراء قابل للاستثناء، إذن نقول القانون الطبيعي المستفاد من الاستقراء التجريبي يمكن أن تكون له استثناءات.

العنصر الثالث: نقول حتى القانون الطبيعي.

وهو على قسمين: قانون واقعي لا يمكن أن يتخلف، وقانون ظاهري؛ بمعنى أننا اكتشفنا هذا القانون من خلال الاستقراء والتجربة ولكن لعل في اكتشافنا خلل، وليس الخلل في ذات القانون بل في اكتشافنا له، فلعل اكتشافنا للقانون عن طريق التجربة غير استيعابي ولذلك نسميه قانون ظاهري،، ولذلك نرى استثناءات لهذا القانون.

فنرجع ونقول القانون الطبيعي قد يكون قانوناً ثابتاً لا يتخلف حتى بالمعجزة، وقد يكون هناك قانون اكتشفناه بالتجربة ثم ثبت لنا أنه ليس قانوناً عاماً، فهو ليس قانوناً واقعياً وإنما هو قانون ظاهري، أي أنه بالتجربة قلنا عنه أنه قانون، وإلا فهو ليس قانوناً واقعياً، ومثال على ذلك: هل يمكن أن تحصل ولادة الأنثى الإنسان والأنثى الحيوان بدون نطفة منوية من أب؟ إذا مشينا على القانون الظاهري المعتاد نقول منذ قرون وإلى يومنا هذا التجربة والاستقراء أثبت أن الأنثى من الحيوان تحتاج إلى بويضة ملقحة من ذكر وأنثى، من أب وأم، لكن العلماء الآن اكتشفوا من خلال نعجة دوللي في اسكتلندا عام 1994 هـ  أن الحيوان الأنثى يمكن أن يتخلق من خلية الأنثى بلا حاجة إلى الحيوان المنوي من الأب، إذن ما كنا نراه قانون طبيعي لا يتخلف وهو حاجة الجنين الأنثى إلى أب وأم، وما كنا نعتبره قانون اكتشفنا أنه ليس قانوناً ثابتاً لا يتخلف، إذن القانون الطبيعي قد يكون واقعياً لا يتخلف وقد يكون ظاهرياً يتخلف، وسبب التخلف أننا اكتشفناه بالتجربة، والتجربة قد تتخلف، وإلا فالقانون في الواقع لا يتخلف وهو ثابت.

العنصر الرابع:

أن حقيقة المعجزة ليست ضرباً لقانون رياضي ولا ضرباً لقانون عقلي ولا ضرباً لقانون طبيعي واقعي ثابت؛ وإنما هي تحكيم قانون على قانون، مثلاً: في القضايا القانونية الاجتماعية نُحَكِّم قانوناً على قانون، مثلاً هنا في الغرب يوجد قانون يقول بأن كل مؤسسة ربحية عليها ضريبة، ولكن هناك قانون آخر يقول أن المؤسسة إذا كانت خيرية تعفى من الضريبة، فنحن عندما نؤسس مركزاً ونحوله إلى مؤسسة خيرية، فنحن لم نضرب القانون الأول «كل مؤسسة ربحية عليها ضريبة» وإنما حَكَّمنا القانون الثاني على القانون الأول.

كذلك في القضايا الطبيعية يوجد تحكيم قانون على قانون، يوجد في بعض البقاع في روسيا ليست فيها جاذبية بمعنى أنك تأخذ قارورة الماء تلقيها على هذه البقعة لا تسقط القارورة في البقعة بل تطير في الهواء أو ترجع إليك مرة أخرى، فكيف يكون ذلك وقانون الجاذبية هو قانون طبيعي ثابت؟

السر في ذلك هو حكومة قانون على قانون، ففي الكون قوةٌ جاذبة وقوةٌ مضادة، فلولا قوة الجاذبية لتبعثر الكون كله إلى أشلاء، ولولا القوة المضادة للجاذبية لارتطم الكون بعضه ببعض وتحطم، إذن شاءت إرادة الله أن توجد قوة جاذبية وقوة مضادة حتى تحفظ توازن الكون ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40].

وفي هذه البقعة من روسيا توجد قوة جاذبية وهي قانون، لكن قانون الجاذبية محكوم بقانون أقوى وهو القوة المضادة، والقوة المضادة في هذه المنطقة ولعوامل جيولوجية أصبحت أقوى من القوة الجاذبية، فأنت تلقي قارورة الماء لكنها لا تنزل على الأرض بل ترجع إليك مرة أخرى أو تطير في الهواء فهناك تحكيم قانون على قانون.

والمعجزة إذا قمنا بتحليلها هي عبارة عن تحكيم قانون على قانون، مثلاً من باب التقريب والتفسير التخميني وليس من باب الواقع لأننا لا نعلم في الواقع، مثلاً معجزة إبراهيم الخليل، فالنبي إبراهيم الخليل «عليه الصلاة والسلام» وُضِع في نار لاهبة حارقة ولكنه لم يحترق بها ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69] فهنا حصل حكومة قانون على قانون، القانون الأول هو أن الجسم المتصل بالنار يحترق لأن الحرارة الحارقة الكامنة في النار تنفذ إلى الجسم المتصل بها، وهو قانون طبيعي ثابت، لكن هناك قانون حكم على هذا القانون وهو أن إبراهيم لبس قميصاً يتضمن مادة عازلة منعت وصول الحرارة الحارقة إلى جسم إبراهيم، فقد تكون المعجزة من هذا القبيل حكومة قانون طبيعي على قانون طبيعي آخر.

أو قد ترجع المسألة إلى تفريغ المادة كما في فيزياء الثابت الكوني؛ وهو عبارة عن أن كل متر مربع من هذا الكون الذي نعيش فيه يتضمن مادة، فلا يوجد منطقة فراغ لا مادة ولا طاقة، ونتيجة وجود مادة يقع التواصل بين الأجسام، فالأجسام إنما تتواصل نتيجة وجود المادة فيما بينها، فلو قمنا بتفريغ الفضاء الوهمي من المادة لن تتواصل الأجسام، فإذن تواصل الأجسام هو فرع وجود مادة واصلة بينهما ولو قمنا بتفريغ الفضاء الوهمي من أية مادة فحينئذ لن تتواصل الأجسام، وهذا أمر غير معتاد وغير مألوف، لا نقول أنه مستحيل تفريغ الفضاء الوهمي من المادة ولكنه غير معتاد وغير مألوف.

لعل المسألة هي هكذا أن الفضاء الوهمي المحيط بجسم إبراهيم الخليل فُرغ من المادة فلما أفرغ من المادة شَكَّل هذا الفراغ عازلاً فلم تنفذ الحرارة الحارقة من النار إلى جسم إبراهيم لأن النفوذ يحتاج إلى مادة واصلة، ولا توجد مادة واصلة، فنقول لعل المعجزة من هذا القبيل، والذي نريد أن نقوله هو أن الإعجاز هو حكومة قانون على قانون.

لماذا نصر على أن الإعجاز هو حكومة قانون على قانون؟

لأنه لو كان الإعجاز هو عبارة عن هدم قانون من دون استناد هذا الأمر الخارق غير الطبيعي إلى قانون آخر فمعناه أن المسبب حدث من دون سبب من سنخه، لأنكم إذا قلتم أنه لم يحترق جسم إبراهيم بالنار وهذا أمر غير طبيعي، وتقولون أن هذا الأمر غير الطبيعي هو عدم احتراق جسم إبراهيم بالنار هذا هَدَمَ قانوناً طبيعياً من دون أن يستند إلى قانون طبيعي آخر، وهذا معناه أن المسبب حدث من دون سبب من سنخه، وقد قلنا بأن قانون السنخية هو قانون عقلي ثابت لا يتخلف، فإذا لم يكن هذا القانون العقلي قابل للتخلف إذن فبالنتيجة أن المعجزة في حقيقتها هدم لقانون بقانون، أو بعبارة دقيقة تحكيم قانون على قانون.

وإلا لكل مسبب سبب من سنخه والقرآن يقول بذلك ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 3]، ﴿قَدْرًا أي ربط كل مسبب بسبب من سنخه.

وقال تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] القدر المعلوم هو ربط المسببات بأسباب من سنخها.

المحور الثاني: هل أن المعجزة تتنافى مع الميزان العلمي؟

نتحدث عما ذكره ديفيد هيوم في كتابه «مبحث عن الفهم البشري»، ذكر عدة اعتراضات على المعجزة، ونحن نذكر منها اعتراضين:

الاعتراض الأول:

يقول هيوم أن المعجزة خرق للقانون الطبيعي وهذا أمر غير معقول لأن القانون الطبيعي مضطرد، فإذا كان القانون الطبيعي مضطرداً فلو خرقته المعجزة لم يكن مضطرداً، إذن كيف نصدق بالمعجزة مع تصديقنا بأن القانون الطبيعي مضطرد، لا يجتمع الأمران، وإذا صدقنا أن القانون الطبيعي مضطرد كما هو كذلك إذن لا يمكن لنا أن نصدق أن هناك معجزة؛ لأن المعجزة هي عبارة عن ضرب الاضطراد فكيف يجتمع هذا مع تصديقنا أن القانون الطبيعي مضطرد!

ونجيب عن هذا الاعتراض ونقول:

أولاً: نحن بحثنا في المحور الأول عن حقيقة الإعجاز، وقلنا أن الإعجاز ليس خرقاً للقانون الطبيعي الثابت، وإنما هو تحكيم قانون على قانون، وهذا الإشكال الذي يبتنيه فهو يبتني على نقطة خرق القانون الطبيعي، ونحن نقول لا، هذا قانون طبيعي مضطرد وهذا قانون طبيعي آخر مضطرد، وحكم الثاني على الأول لأقوائيته عليه، وقد مثلنا لذلك بالأمثلة.

ثانياً: من أين ثبت لنا أن هذا القانون الطبيعي مضطرد؟ أليس بالاستقراء والتجربة؟ رجعنا إلى النقطة التي ذكرناها سابقاً، قانون واقعي وقانون ظاهري من أين ثبت لكم الاضطراد؟

تقولون «الفلزات تتمدد بالحرارة» وهذا قانون، «الجسم ينكمش بالبرودة» وهذا قانون، فكيف ثبت لكم أن قانون الفلز يتمدد بالحرارة هو قانون مضطرد؟ إنما ثبت الاضطراد بالاستقراء التجريبي، وبما أن الدليل الذي أوصلنا إلى معرفة أنه قانون مضطرد هو الاستقراء التجريبي، والاستقراء التجريبي كم ذكرنا يمكن أن يتخلف، ويمكن أن يكون له استثناء.

وبعبارة أخرى التجربة لا تكشف الضرورة بين حادثة وحادثة وإنما تكشف التوالي وليست الضرورة؛ أي أنه إذا رأينا أن درجة حرارة الماء بلغت مئة وهذه حادثة، ورأينا الغليان وهذه حادثة أخرى، فنقول كلما رأينا الحادثة الأولى وهي بلوغ درجة حرارة الماء مئة فسوف نرى الحادثة الثانية وهي الغليان، فبين الحادثين توالي وتتابع، وهذا غاية ما تثبته التجربة وغاية ما يثبته الاستقراء، أن بين الحادثتين تتابع وتوالي، أما أن الحادثة الأولى سبب تام للحادثة الثانية بحيث لا يتخلف الثاني عن الأول أبداً فهذا لا تثبته التجربة ولا يثبته الاستقراء، فالاستقراء يثبت لنا مجرد التوالي ولا يثبت لنا وجود ضرورة حتمية أنه كلما حدثت الحادثة الأولى حدثت الحادثة الثانية، وبما أن الاستقراء لا يثبت لنا الضرورة والحتمية وإنما يثبت لنا مجرد التوالي، إذن الاضطراد إنما ثبت باستقراء قابل للاستثناء وقابل للتخلف.

ثالثاً: العالم الفيزيائي سي إس لويس تحدث في كتابه «معاجز» وناقش هيوم، قال: لو أخذنا بهذا الكلام فالنتيجة أن هذا الاستدلال دوري، والاستدلال الدوري باطل في علم المنطق، لا يمكن لنا أن نثبت أن القانون مضطرد إلا إذا أثبتنا عدم وقوع المعجزة، لأنه متى ما وقعت المعجزة صار القانون غير مضطرد، إذن إثبات أن القانون مضطرد يتوقف على إثبات عدم وقوع المعجزة، فلو أردنا عدم وقوع المعجزة لأجل اضطراد القانون لزم الدور، كل منهما يتوقف على الآخر، والدور باطل، فهذا الاستدلال دوري لا قيمة له.

الاعتراض الثاني:

يقول هيوم أن المعجزة حدث فردي وليس حدث متكرر، وأن الأحداث الكونية أحداث متكررة لذلك يمكن لنا التصديق بها وإثباتها لأنها متكررة، فالتكرار التجريبي يثبت لنا صدق وقوعها، أما المعجزة فهي حدث فردي لا يتكرر، وبما أنه حدث فردي لا يتكرر فلا طريق لنا لإثباته ولا طريق لنا لتصديقه، الطريق هو التكرار، وهو غير متكرر، فما هو الطريق لتصديقه وإثباته!

نحن نجيب على ذلك ونقول[2] :

فرق بين المعرفة وموضوع المعرفة، فالمعرفة هي عبارة عن إثبات الحدث بدليل قطعي، وأما موضوع المعرفة قد يكون موضوع المعرفة حدث مفرد، وقد يكون موضوع المعرفة حدث مكرر، فلا نخلط بين موضوع المعرفة والمعرفة، فالمعرفة هي عبارة عن إثبات الحدث بدليل قطعي مثلا: معجزات الأنبياء، فبما أن المعجزة حدث مهم إذن لا نكتفي فيه بخبر الآحاد بل نقول مقتضى كون المعجزة حدثاً اجتماعيا كبيراً هو أن تتظافر النقول للإخبار عنه، ومقتضى كونه حدثاً مهما أن تتوافر القرائن على صدقه وعلى وقوعه، لذلك نحن نثبت أي حدث مهم عبر دليل حساب الاحتمالات؛ أي تظافر القرائن التي إذا اجتمعت تتصاعد درجة الاحتمال إلى أن تصل إلى مستوى اليقين والوثوق بحصول هذا الحدث، فكل حدث مهم نثبته من خلال دليل حساب الاحتمالات وهذا هو المعرفة.

أما موضوع المعرفة قد يكون هذا الحدث المهم الذي نثبته بدليل حساب الاحتمالات متكرر وقد يكون هذا الحدث المهم مفرد، وكون الحدث مفرد لا يعني عدم إمكان التصديق به، ما دام يمكن الوصول إليه عبر دليل حساب الاحتمالات أو عبر الدليل القطعي ومثال على ذلك:

  • المثال الأول: الانفجار العظيم، كل هذا الكون وُلد من نقطة الانفجار العظيم، والانفجار العظيم حدث مفرد، فكيف أثبتناه مع أن الأحداث المفردة لا يمكن تصديقها ولا إثباتها! أثبتناه بالدليل القطعي، بمعادلات رياضية مبنية على قوانين كونية ثابتة أوصلتنا إلى الوثوق بحصول الانفجار العظيم، فهو حدث مفرد أثبتناه بالمعرفة أي بدليل قطعي.
     
  • المثال الثاني: مشروع علمي معروف وهذا المشروع العلمي أغدق العلماء عليه أموالاً ضخمة لإنجازه، ومهمة هذا المشروع الذي بذلوا الأموال الضخمة لإنجازه وإنجاحه أن يكتشف حياة عاقلة في كوكب آخروإثباتها، إذن مشروع إس أي تي آي الذي مهمته أن يكتشف حياة عاقلة في كوكب آخر ما هو الطريق لإثبات هذه الحياة العاقلة؟ الطريق هو طريق مفرد وغير متكرر، رسالة واحدة نحو الكوكب الآخر إذا جاءتنا ذبذبات تجيب عن هذه الرسالة كشفت لنا عن وجود حياة عاقلة في الكوكب الآخر، والطريق الذي استخدمناه لإثبات هذا الحدث وهو وجود حياة في الكوكب الآخر استخدمنا طريق مفرد غير متكرر، لأنه دليل قطعي فلا يشترط في المعرفة أن تكون عن طريق التكرار، ولا يشترط في موضوع المعرفة أن يكون حدثاً متكرراً بل يمكن أن يكون موضوع المعرفة مفرداً أو حدثاً متكرراً ما دام الطريق إليه دليلاً قطعياً كدليل حساب الاحتمالات، ولذلك وات لي في كتابه «شكوك تاريخية» قال: لو صح منهج هيوم بأنه لا يمكن إثبات الأحداث المفردة إذ لا طريق لنا إلى تصديقها فإن كل قصة نابليون هي قصة أسطورية وخرافية ولا وجود لها.

فإذا مشينا على هذا المنهج أن الحدث المفرد لا يمكن الوصول إليه ولا تصديقه على إثر ذلك كتب شكوك تاريخية في حياة نابليون إذ لا يمكن التصديق ولعله أسطورة أو خرافة، فكيف نثبت هذه الأحداث الفردية التي حدثت ما دام لا يوجد طريق للتصديق بها؟ إذن نتيجة هذا البحث أن الإعجاز ينسجم مع الميزان العلمي ولا يتنافى معه.

المحور الثالث: هل أن الإعجاز يتنافى مع المنطق القرآني؟

قد يقول قائل: نعم القرآن سد باب الإعجاز في قوله تعالى ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا «90» أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا «91» أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا «92» أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا «93» [الإسراء: 90 - 93]

﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا قد يقول قائل هذه دليل على سد باب المعجزات، وأنه أنا لست باباً للمعجزة، بل أنا مجرد بشر رسول لا أكثر، ولكن الجواب عن هذا الاستدلال بأحد وجهين:

الوجه الأول: فرق بين الإنسان الجدلي والإنسان الباحث عن الحقيقة، هؤلاء المشركون عندما قالوا للرسول ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا «90» لم يكونوا باحثين عن الحقيقة حتى يستجيب الرسول لطلبهم ويقدم لهم المعاجز بل كانوا مجرد مجادلين، ولو فعل معهم ما فعل لن يؤمنوا به، لذلك تراهم نوعوا في المطالب فطلبوا ينبوع، جنة من نخيل وأعناب، رقي في السماء، نزول كتاب، بل اقترحوا عليه أمراً مستحيلاً وهو أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، فكل هذه المقترحات تكشف أنهم مجادلون لا باحثون عن الحقيقة، فقول الرسول ﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا «93» ليس سداً لباب الإعجاز وإنما عدم استجابةٍ لطلب المجادلين لأنهم ليسوا باحثين عن الحقيقة.

الوجه الثاني: هناك فرق بين التعبير «نؤمن لك» و«ونؤمن بك»، فلو كانوا صادقين لقالوا لن «نؤمن بك» حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أي إن فجرت لنا ينبوعاً آمنا بك، لكن هم لم يقولوا لن نؤمن بك، بل قالوا ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ وفرق بينهما، فرق بين الإيمان الواقعي والإيمان الظاهري.

لاحظوا قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] جاء عبدالله بن أبي سلول إلى الرسول فقال له الرسول: يا ابن أبي سلول أخبرني جبرئيل أنك تدبر المكائد ضد المسلمين، قال: لا، جبرئيل مشتبه أنا رجل مؤمن ومتقي. فالرسول أظهر له أنه قبل كلامه وصدقه، فلما خرج ابن أبي سلول قال: محمد أذن، أنا أقول له شيء يصدقني وجبرئيل يقول له شيء فيصدقه، مجرد أذن، فنزل قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61]

لماذا اختلف التعبير في فقرة واحدة، بالنسبة إلى الله عبر ب «الباء» ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وبالنسبة للمؤمنين عبر ب «اللام» ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وذلك للإشارة إلى أن الإيمان على قسمين: إيمان هو عبارة عن تصديق واقعي وهو الإيمان بالله، والرسول يصدق بالله تصديقاً واقعياً، وإيمان هو عبارة عن تصديق ظاهري وهو للمؤمنين، فالرسول لا يؤمن بكل المؤمنين إيماناً واقعياً، ولا يصدق بكل كلامهم تصديقاً واقعياً، إنما يصدق بكلامهم تصديقاً ظاهرياً، يؤمن لهم أي يظهر التصديق بكلامهم لأجل منفعتهم وهي تأليف القلوب، ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي إنما جعلنا النبي بهذه الطريقة يصدقكم حتى يؤلف قلوبكم.

فهنا أيضاً هؤلاء المشركين قالوا للرسول نحن لا نؤمن بك ولا نصدقك تصديقاً واقعياً، لكن إذا أردت أن نصدقك تصديقاً ظاهرياً «نؤمن لك»، فنحن لن نؤمن بك على كل حال، لكن إذا أردت منا أن نصدق بك تصديقاً ظاهرياً «نؤمن لك» فعليك أن تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو.... إلى آخر المقترحات، فإن لم تحصل هذه المقترحات فلن نؤمن لك، فضلاً عن أنه نؤمن بك، فهم لم يكونوا في مقام طلب المعجزة من أجل حصول الإيمان، وإنما كانوا في وضع مقترحات من أجل التصديق الظاهري فقط.

فلأجل أنهم لم يطلبوا إيماناً وتصديقاً واقعياً وإنما طلبوا تصديقاً ظاهرياً، لأجل ذلك لم يستجب لهم الرسول وقال: ﴿هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا «93» إذن هذا يبين لنا أن هذه الآية لا تصلح دليلاً على سد باب المعجزات.

وقد ذكر القرآن المعجزات ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 49]

والمؤمنون الواقعيون والظاهريون في كل زمان، ففي زمن النبي كان المسلمون على قسمين قسم يؤمن به واقعاً وقسم يؤمن به ظاهراً، هناك مؤمنون وهناك منافقون، وفي زمن الإمام علي أيضا انقسم الناس إلى قسمين فمنهم يؤمن به واقعاً ومنهم من يؤمن به ظاهراً، وفي قضية الحسين أيضاً، عندما نادى الحسين: ألا فمن كان فينا باذلاً مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبح إن شاء. انقسم الناس إلى أربعة أقسام: انهزاميين، متذبذبين، متعاطفين، ومشاركين.

الانهزاميون أعلنوها بصراحة أنك يا أبا عبدالله مخطئ وطريقك فاشل وحركتك عقيمة ونحن لن نستجيب لك، والمتذبذبون خرجوا معه وساروا معه في الطريق لعدة كيلو مترات ثم تراجعوا بشكل تدريجي واحد بعد الآخر، فالحسين خرج من مكة بآلاف ووصل كربلاء بمئة وعشرين شخصاً على أكثر التقادير، ذهبوا لأنهم كانوا متذبذبين بين دنياهم وبين إمامهم، هل ينتصرون لدنياهم وأموالهم وثرواتهم وذرياتهم وراحتهم أم ينتصرون لآخرتهم وإمامهم؟ لأجل هذا التذبذب وصلوا إلى مستوى أن رجحوا دنياهم على آخرتهم فانسحبوا.

وهناك المتعاطفون الذين بكوا على الحسين وندبوا الحسين ورثوه، أهل الكوفة بعد أن قُتل الحسين وجيء بالسبايا إليهم، خرجن النساء يبكون وصرن يعطين أطفال الحسين الخبز والتمر فأخذت أم كلثوم من أيديهم الخبز والتمر ورمتها وقالت: يا أهل الكوفة أتقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم! هؤلاء يمثلون المتعاطفين، لكن المتعاطفين لا يقدمون شيئاً سوى العاطفة، وكثيراً من الشيعة في هذا الزمان هكذا، إذا قلت له هناك مشروع حسيني أو مشروع إصلاحي أو مشروع ديني لا يتفاعل معه، ولا يساهم فيه لا بوقف ولا بجهد ولا بمال ولا بأي شيء، لكنه يقول أنا أبكي الحسين وأندب الحسين، نعم البكاء على الحسين والندب للحسين عمل مقبول وله ثواب عظيم، لكن هذا الإنسان لن يخرج من المتعاطفين إلى المشاركين ما دام لا يمتلك الاستعداد للعطاء والبذل والتضحية.

والقسم الأهم هم المشاركون الذين لم يكتفوا بالتعاطف بل بذلوا إما وقت وإما جهد وإما أموال وإما تضحية بالنفس، وفي طليعتهم أنصار الحسين، وفي طليعة أنصار الحسين شيخ الأنصار حبيب بن مظاهر الأسدي؛ الذي فدى الحسين بنفسه وشجع الأنصار على نصرة الحسين بن علي «صلوات الله وسلامه عليه» ليبين أنه من طليعة المشاركين وطليعة الناصرين للحسين .

[1]  في تفسير حقيقة الإعجاز يمكنكم مراجعة كتاب الميزان الجزء الأول، ومراجعة كتاب النبوة للشيخ مرتضى المطهري رحمه الله.
[2]  راجع كتاب براهين النبوة للدكتور سامي عامري يتحدث عن هذه النقطة بالتفصيل مناقشة هيوم.