ليلة 23 من شهر محرم الحرام 1445هـ

لماذا لا يحتاج غير المتدينين للدعاء في تحقيق طموحاتهم؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتناول محاور ثلاثة:

  • فطرية الاتجاه إلى الله تبارك وتعالى.
  • حقيقة العبادة.
  • مراتب العبادة.
المحور الأول: فطرية الاتجاه إلى الله تبارك وتعالى.

هل الإنسان يمتلك بعداً فطرياً وهو الاتجاه إلى الله؟ بمعنى أن الإنسان منذ نعومة أظفاره ومنذ تفتح وعيه، ومنذ انطلاقه وإدراكه يرى أن في داخله اتجاهاً تلقائياً عفوياً نحو تلك القوة التي أبدعت الكون، وبرأت الوجود وإن لم يعرف أن اسمها الله، وإن لم يعرف صفاتها بالتفصيل، وإن لم يعرف ما يتعلق بجوهر تلك القوة لكنه يجد في نفسه اتجاهاً روحياً وانعطافاً قلبياً نحو تلك القوة المبدعة التي كونت هذا الوجود؟ هل أن هذا البعد يشعر به الإنسان وعندما يركز على داخله ويستقرئ أعماق نفسه يجد أن هذا البعد واضح في داخله نحو الله تبارك وتعالى أم لا؟

هنا ثلاثة أقوال لعدة علماء يركزون على البعد الفطري في اتجاه الإنسان نحو الله تبارك وتعالى:

القول الأول:

للدكتور جنيست بارت وهو بروفيسور في علم الإدراك البصري والتنمية البشرية في جامعة أكسفورد وله كتاب «فطرية الإيمان»، في هذا الكتاب يقول: الأطفال يولدون وينمون ومعهم الفضول والسؤال عن المغزى من المحيط، ثم تكبر عقولهم وتنضج تجاربهم إلى أن يصلوا إلى إدراك أن لهذا الوجود ولهذا الكون مصمماً ذكياً واسع العلم، سرمدي الخلود، وهو مصدر القيم الأخلاقية، هذه النزعة نزعة الفضول نحو الهدف، نزعة الفضول عن المغزى، ما هو المغزى من وجودي، ما هو الهدف من مجيئي لهذا الكون، أسئلة فطرية ثلاثة تحتل الصدارة في ذهن الطفل، تحتل الصدارة في ذهن الإنسان منذ نعومة أظفاره، من أين جئت وإلى أين سأذهب وما هو الهدف من وجودي، وما هو المغزى من هذا المحيط الذي أنا أعيش فيه.

هذه الأسئلة الفطرية التي تنمو مع الطفل من خلال الفضول الفطري المعرفي هي التي تقوده إلى أن يبحث عن الأدلة، إلى أن يبحث عن البراهين، إلى أن يبحث عن الطرق التي ترشده إلى أن هناك قوة تمتلك الذكاء، تمتلك العلم، تمتلك الحكمة هي التي أبدعت هذا الوجود وصممت هذا الكون بدقائقه وتفاصيله، وأن تلك القوة سرمدية الخلود، تبقى هي مصدر المدد، مصدر العطاء، بل إنها مصدر القيم الأخلاقية، أي أن هناك رابطة بين قيمة العدالة، قيمة الصدق، قيمة الأمانة، وبين تلك القوة التي أبدعت الوجود كله.

هذا أمر يتجه إليه الإنسان بالفطرة ويصل إليه إذا جعل عقله ينفتح على قراءة الوجود قراءة موضوعية آيوية توصله إلى الله تبارك وتعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]

القول الثاني:

للعالم شلاير ماخر الفيلسوف الألماني، وله كتاب «فكرة القدسي» في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، تحدث أيضاً عن فطرية التوجه نحو الله تبارك وتعالى، قال: إن الإيمان هو عبارة عن شعور، الإيمان ليس ثقافة فقط، ليس مفاهيم تلقينية أو قسرية، الإيمان ليس مجرد برهنة عقلية، الإيمان شعور وإحساس، وهذا الشعور والإحساس هو عبارة عن الإحساس باتجاه الوجود كله نحو المطلق، ونحو المعنى اللانهائي، كل شيء في هذا الوجود له معنى نهائي، معنى محدود، كل شيء في هذا الكون له قيود وحدود لكن الذهن البشري يتحول إلى إحساس وشعور في رحلته أن كل هذه الموجودات المحدودة تذوب في اللامحدود، وأن كل المعاني التي يعيشها الإنسان تتجه نحو معنى لا نهائي، معنى لا حدود له، بعبارة أخرى ذوبان هذا الوجود وفنائه كله مرآة إلى الله تبارك وتعالى وطريقاً إليه عز وجل، هذه ليست مجرد ثقافة بل هو إحساس ومشاعر يعيشها الإنسان كلما توغل في الإبحار عن هذا الدرب وعن هذا المعنى، وسيصل بالنتيجة إلى هذا الشعور وإلى هذا الإحساس.

القول الثالث:

للعالم رودلف أوتو، وهو بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين صاحب نظرية نومينوس، وتعني أن اتجاه الإنسان نحو الغيب، هناك عالم شهادة وعالم الغيب، عالم الشهادة هو عالم المحسوسات الذي نناله بحواسنا الخمس، وعالم الغيب هو عالم الملكوت؛ العالم الذي نشعر به ولكننا لا نلمسه بحواسنا، هذا العالم الذي نشعر أن بيننا وبينه علقة لكننا لا ندرك كيفيته ولا جوهره ولا حقيقته، ذلك العالم عالم الغيب كيف اتجاهنا نحوه؟

يقول أوتو: في رحلة الإنسان نحو ذلك العالم هناك ثلاثة روافد: الغيب الجليل، الغيب الساحر، والغيب المهيب.

  •  الرافد الأول: الغيب الجليل؛ وهو أن يصل الإنسان إلى إدراك تلك القوة والعظمة التي لا نهاية لها، فإذا أدركها صعق لما يجد من عظمتها وقوة نفوذها، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في حق النبي موسى ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف: 143] الصعق هو عبارة عن الاندهاش وحالة الذهول للعظمة التي لا حد لها، والتي أدركها موسى بوجدانه وجوانحه، هنا يتجلى الغيب الجليل.
     
  •  الرافد الثاني: الغيب الساحر؛ أن الإنسان يتأمل فيجد أن وجوده وأنفاسه وحياته وصحته وعلمه وكل ما عنده من النعم والمواهب له مصدر، وذلك المصدر مصدر كريم معطاء يهب بلا حدود، يهب بلا مقابل، يهب ويمنح ويعطي بلا توقف، فتدركه حالة من الشعور بالحب والرأفة، الشعور بالرحمة، أن يدرك خالقه من خلال الرأفة والرحمة وهذا ما يعبر عنه بالغيب الساحر، والقرآن الكريم يشير إلى هذا النوع من الإدراك ويقول: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165]
     
  •  الرافد الثالث: الغيب المهيب؛ وهو عبارة عن حالة التوازن بين نزعتين لدى الإنسان، كل إنسان يعيش نزعتين نزعة نحو الأرض ونزعة نحو السماء، نزعة نحو الخير ونزعة نحو الشر. نزعة نحو العطاء ونزعة نحو البخل. ويعبر علماء الأخلاق عن هاتين النزعتين بنزعة الإيثار ونزعة الاستئثار.

نزعة الاستئثار تعني الحرص على الدنيا؛ أن يتملك الأشياء، أن يحوز الأشياء، أن يحصل على الوظيفة، أن يحصل على المنصب، أن يحصل على الأموال والثروة...

وهناك نزعة تغالبها وتقاومها وهي نزعة الإيثار؛ أن يمنح، أن يقدم، أن يبذل ما عنده في سبيل إنعاش الآخرين وإسعادهم، الإنسان يعيش صراعاً بين نزعة الاستئثار ونزعة الإيثار، يحتاج إلى ميزان يصنع توازناً وتعادلاً بين النزعتين، نزعة الإيثار ونزعة الاستئثار، وهذا التوازن إنما يحصل عليه إذا اتصل بالغيب المهيب الذي يعطيه هذا التوازن ﴿يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90]، ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف: 56] بحيث يعيش حالة التوازن بين هاتين النزعتين وكما عبر القرآن الكريم قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا «19» إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا «20» وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا «21» [المعارج: 19 - 21]

الإنسان عنده نزعة الاستئثار والقبض على الأشياء والخوف من فواتها من بين يديه، لكن هذا الإنسان نفسه لديه نزعة الخير والإيثار، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «6» وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ «7» وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ «8» [العاديات: 6 - 8]

إذن هؤلاء العلماء ليسوا من علماء الشر وليسوا من علماء المسلمين ولكنهم يؤكدون على فطرية الاتجاه نحو الله، على فطرية أن الإنسان يسير نحو الله إذا جعل لعقله الانفتاح المجرد، وجعل لقلبه الانفتاح على الله تبارك وتعالى فإنه سيصل إلى الله تبارك وتعالى، ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191]

المحور الثاني: حقيقة العبادة.

عندما يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] أو عندما يقول: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ما هي حقيقة العبادة؟

العبادة لها معاني ثلاثة تختلف باختلاف الحقول:

المعنى الأول: المعنى اللغوي.

العبادة بالمعنى اللغوي هي عبارة عن الخضوع، كما ورد عن الإمام الحسين : الناس عبيد الدنيا. أي خاضعون للدنيا.

وكما ورد عن أمير المؤمنين علي : من أصغى إلى ناطق فقد عبده. أصغى هو إصغاء القبول والإذعان، فقد عبده أي فقد خضع له.

قوله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس: 60] أي لا تخضعوا للشيطان إنه لكم عدو مبين.

المعنى الثاني: المعنى الفقهي.

السيد الخوئي قدس سره عندما عرف العبادة قال: ربط العمل بالله على نحو الاستحقاق. الإنسان عندما يخضع لأي قوة وأي جهة فإن هذا الخضوع له ثلاثة دوافع:

1» الدافع الأول: الشهوة، خضوع الإنسان للشيطان دافعه الشهوة ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14] ومن هذه الشهوات يعبر الشيطان ويوسوس ويصل إلى قلب الإنسان، الدافع للخضوع إلى الشيطان هو سيطرة الشهوات.

2» الدافع الثاني: الحب، القرآن الكريم يقول: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 24] الخضوع وخفض الجناح للوالدين دافعه هو الحب والاعتزاز.

3» الدافع الثالث: الاستحقاق، وهو الدافع للخضوع لله والانقياد إليه والوقوف بين يديه، لأنه يستحق العبادة، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك. ربط العمل بالله على سبيل الاستحقاق، أصلي لأن الله يستحق العبادة، أصوم لأن الله يستحق العبادة، ربط العمل بالله على سبيل الاستحقاق هذا هو المعنى الفقهي للعبادة.

المعنى الثالث: المعنى العرفاني.

وهو المعنى الذي يطرحه علماء الأخلاق، علماء الأخلاق عندما يتحدثون عن العبادة يتحدثون عن صفتي الجلال والجمال لله تبارك وتعالى، صفة الجلال هي عبارة عن إظهار المملوكية والعبودية لله عز وجل، السيد الطباطبائي صاحب الميزان رحمه الله عندما تعرض لتفسير قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فسر العبادة بالمعنى العرفاني المعروف عند علماء الأخلاق وهو يلتقي بصفة الجلال عند الله عز وجل، يقول: العبادة إظهار المملوكية، أن تظهر أنك ملك لله، أن تظهر أن لا استقلال لك إلا بالله عز وجل، أن تظهر أن لا وجود لك إلا بالله عز وجل، أنت ملك، أنت عين الفقر، أنت عين التعلق بالله عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] أظهر أنك فقير، أظهر أنك عين الفقر، عين الحاجة، عين الارتباط بالله عز وجل، أظهر لربك في صلاتك في دعاءك أن لا وجود لك ولا حيثية إلا بمدده وعطائه، إظهار الحاجة والفقر هو عبارة عن إظهار المملوكية ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 93]

ويقول القرآن الكريم: ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت: 54] ﴿أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]

أظهر هذا المعنى أن الله محيط بك، أن الله شهيد عليك، أنك متعلقاً بالله، هذه هي حقيقة العبادة التي تعني إبراز صفة الجلال إلى الله تبارك وتعالى.

والصفة الأخرى ألا وهي صفة الجمال، الله جميل فاكتسبْ الجمال منه، الله جمال مطلق، الله صدق وعدالة، الله تبارك وتعالى عطاء ومَنّ، الله تبارك وتعالى جوهر الجمال فاكتسب الجمال منه، وتكتسب الجمال منه إذا استطعت أن تسمو بالعبادة بحيث تنتصر الروح على عالم المادة، نحن مقيدون بالمادة، مقيدون بالشهوات، مقيدون بالأموال والثروات، نحن في كل يوم أول ما نستيقظ من النوم نفكر في طعام الإفطار، نفكر في الوظيفة، نفكر كيف نكسب المال، نفكر كيف نربح المعاملة الفلانية، نفكر كيف نصل إلى ذلك الفوز في درجة مادية معينة، كل أفكارنا تغوص في وحل المادة، وكل إدراكاتنا تغوص في قذارة المادة، كلنا مشبعون مترفون في عالم المادة، نحن نعيش في قيود حديدية رصينة قيدتنا من خلال الشهوات والغرائز والنزعات والميول، إذن التحرر من الشهوات وانتصار النفس على الشهوات وانتصار الروح على رذائل المادة وذيول المادة هذا الانتصار الروحي هو عبارة عن جمال العبادة، العبادة الحقيقية عندما يشعر الإنسان أنه انتصر على شهواته وغرائزه، عندما يشعر الإنسان بأنه سما على كل ميوله البشرية المادية ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى «40» فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى «41» [النازعات: 40 - 41]

﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى «37» وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا «38» فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى «39» [النازعات: 37 - 39]

أمامك طريقان: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا «18» وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا «19» كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا «20» [الإسراء: 18 - 20]

إذا طلبت الوصول إلى الله ستفتح لك الأبواب، وإذا طلبت الدنيا وزخارفها وثروتها ستفتح لك الأبواب.

إذن عندما تعبد الله اكتساباً لصفة الجمال هو عبارة عن انتصار الروح على أوحال المادة وقيودها.

المحور الثالث: مراتب العبادة.

العبادة لها درجات، ومن أعلى مراتب العبادة الدعاء، القرآن الكريم يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]

افتتحت الآية المباركة بقول ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي يقول العلماء إضافة العباد إلى ياء المتكلم فيها إشعار بالحنان والعطف، كأنه يقول أولادي، رحمي، كما قال في آية أخرى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]

﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ ليس المقصود بالقرب هو القرب الوجودي، الله قريب وجوداً من كل المخلوقات وليس فقط عباده، قال تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال: 24] هو أقرب إلينا من أنفسنا فهو قريب من كل الموجودات على حد سواء، إذن ليس المراد بالقرب هنا القرب الوجودي، المراد بالقرب هنا هو القرب الروحي، قرب الرحمة، قرب العطف، قرب الحنان، قرب الرأفة، قرب المحبة، لذلك يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ إني قريب منهم برحمة وحنان ومحبة، تعالوا إلي حتى أجيب دعاءكم وألبي طموحاتكم فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعانِ.

هناك شبهة يطرحها بعض الباحثين وهي شبهةٌ حول فاعلية الدعاء، يقولون الدعاء لا فاعلية له، كم نسبة الداعين وكم نسبة الذين استجيب لهم، عندما نستقرئ المسلمين في العالم كم يشكل المسلمون في العالم؟ لنفترض 400 مليون، ولو افترضنا أن الذين يدعون الله في صلاتهم ومناجاتهم 100 مليون، كم الذين يستجيب الله دعاءهم من المئة مليون؟ واحد من مئة إذن الدعاء لا فاعلية له، إذا كان الله لا يستجيب من دعاء المئة مليون إلا مليون أين فاعلية الدعاء ونسبة الإجابة واحد إلى مئة؟!

أو عندما نقارن بين المسلمين وبين اللا دينيين، بين المتدينين بأي دين من الأديان السماوية وبين اللا دينيين، اللا دينيون لا يدعون ولا يتضرعون ومع ذلك يحصلون على غاياتهم وطموحاتهم، والمسلمون أو المتدينون يدعون ولكن كم من حصل على طموحاته وتلبية حاجاته؟ قد يقال إن حصول الطموحات نتيجة الدعاء ليست نسبتها أكثر من حصول الطموحات للا متدينين الذين وصلوا إلى طموحاتهم بغير دعاء، إذا كانت نسبة استجابة الدعاء ليست أكثر من نسبة تحقق طموحات اللا دينيين فإذن أين فاعلية الدعاء؟ أين أثر الدعاء كي يطالبنا الله به؟ وما يرد عن الرسول محمد أن يقول: الدعاء مخ العبادة؟ لماذا؟

الجواب:

هنا ثلاثة أجوبة نذكرها أمام هذه الفكرة:

الجواب الأول:

الله تبارك وتعالى عندما يدعونا وينادينا ويطلب منا الدعاء لأن في الدعاء نفسه نجاة لنا حتى لو لم يستجب لنا، وقوفنا بين يديه ودعاؤنا له هو أمر في صالحنا استجاب الله لنا أم لم يستجب، نفس هذا الدعاء منبع الخير لنا، نفس هذا الدعاء والمناجاة والتضرع هو مصدر عطاء، هو مصدر بركة، استجاب الله الدعاء أو لم يستجب. الدعاء يحقق الرابطة الوجودية بين الخط القصير والخط الطويل، أنت تعيش بين خطين، خط قصير قد يصل إلى سبعين سنة ثمانين سنة وبالكثير مئة سنة بالنتيجة هو خط قصير، وبين الخط الطويل الذي هو عمرك الحقيقي، والذي هو حياتك الحقيقية ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت: 64] هي الحياة الحقيقية، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، هذه الحياة الدنيا هي الخط القصير وحياتك الحقيقية في الخط الطويل، أنت تركز على الخط القصير غافلاً عن الخط الطويل، أنت تقول لماذا لا يستجيب الله دعائي، طلبت الوظيفة الفلانية وما حصلت عليها، طلبت الزوجة الفلانية وما حصلت عليها، طلبت الإقامة الفلانية وما حصلت عليها، لماذا لا يستجيب الله دعائي! أنت تركز على الخط القصير وهو يركز على الخط الطويل، الدعاء رابطة وجودية بين الخط القصير والخط الطويل، عندما يطلب منا الدعاء لأنه يطلب منا أن نربط بين الخطين، أن نربط بين الدربين والحياتين، الدعاء هو مصدر حياتنا الحقيقية ألا وهي الحياة الرابطة بين الدنيا والآخرة، ألا وهي الصلة الرابطة بين الخط القصير والخط الطويل لذلك عندما قال ادعوني استجب لكم قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] أي أن الدعاء هو عبادتي، وعندما لا تدعو فأنت مستكبر عن عبادتي.

إذن ليس المهم أن يستجيب دعائنا بل المهم أن ندعوه لأن في الدعاء نفسه مصلحة لنا لأن في الدعاء نفسه نحقق الربط بين الخط القصير والخط الطويل، لأن في الدعاء نفسه تمهيداً وتعبئة لذلك الدرب الذي ينتظرنا فإما درب أشواك وإما درب ورود، إما درب ظلام وإما درب نور، إما أن نكون ممن قال عنه تبارك وتعالى ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه: 81] وإما أن نكون ممن قال عنه تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]

الجواب الثاني:

أنت تريد، وأنا أريد، ولا يكون إلا ما أريد. هناك فرق بين مظهر الدعاء وجوهر الدعاء، نحن نخلط بين الأمرين، بين مظهر الدعاء وجوهر الدعاء. مظهر الدعاء هي هذه الكلمات التي نقولها يا رب ارزقني الوظيفة الفلانية، يا رب ارزقني الربح في المعاملة الفلانية، نذر للعباس ولأم البنين ولباب الحوائج موسى بن جعفر فقط وفقط من أجل أن أحصل على الربح في المعاملة الفلانية أو أحصل على الوظيفة الفلانية، هذا ذهني وهذا مستواي، هذا مستوى إدراكي، هذا بعدي في الحياة، هذه طموحاتي في الحياة، التوسل بالأئمة كلهم وأولادهم وذرياتهم في سبيل أن أحصل على الفوز في طلبتي، أنا أركز على مظهر الدعاء، وهو يريد مني جوهر الدعاء بمعنى أنني لماذا أدعو، لماذا أطلب الوظيفة، أدعو لأنني أعتقد أن الوظيفة خير لي فأطلب الوظيفة، لأنني أعتقد أن الزوجة الفلانية خير لي لذلك أطلبها، لأنني أعتقد أن الثروة الفلانية خير لي لذلك أطلبها، أنا إنما أدعو في الواقع أطلب الخير من الله، جوهر الدعاء هو طلب الخير من الله، الله تبارك وتعالى يقول أنت دعوتني للخير وأنا سأحقق لك هذا الخير ولكن بصورة أخرى وبشكل آخر، ومعنى آخر.

أنت تريد الزوجة الفلانية أنا سأحقق لك الخير في الزوجة الفلانية لكن عن طريق امرأة أخرى، عن طريق عمل آخر. أنت تريد الوظيفة الفلانية لأجل أنها لك خير بينما الخير ليس فيها، الخير في المكان الآخر وفي الوظيفة الأخرى، ما دعا الإنسان ربه إلا لطلب الخير والله سيستجيب الدعاء وسيحقق الخير ولكن يحققه بصورة أخرى وبشكل آخر ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة: 216]

إذن الله يستجيب الدعاء وما أخلف وعده ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي أحقق لكم الخير الذي طلبتموه حتماً ولكن أحقق لكم الخير بصورة أخرى وبشكل آخر هو أفضل لكم من الصورة التي تصرون عليها، أنتم تصرون على مظهر الدعاء وأنا أنظر إلى جوهر الدعاء، جوهر الدعاء هو الخير وليس الوظيفة أو الزوجة، وهذا الخير أحققه لكم من خلال صور، من خلال أعمال، من خلال دفع بلاء، من خلال طرق وعوامل أخرى لا تدركونها في هذه العاجلة وفي هذا الخط القصير.

الجواب الثالث:

﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقال في آية أخرى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] هناك شرط، لا يستجاب أي دعاء، يستجاب الدعاء الحقيقي فقط، والدعاء الحقيقي ليس كلمات ولا دموع، الدعاء الحقيقي هو ربط العمل بالله تبارك وتعالى ربطاً واقعياً حقيقياً، وهذا الربط الواقعي الحقيقي بالإعراض عن الذنوب والمعاصي، هل نحن مستعدون لذلك؟

نحن نلح على الله ونتهم الله بالبخل وعدم إجابة الدعاء، ماذا حقق لنا من أدعية؟ أين فاعلية الدعاء؟ أين نسبة من استجاب الله لدعائهم ممن دعوه؟ ونحن نعيد السؤال مرة أخرى نقول كم نسبة المؤمنين الذين يلتزمون أوامره ونواهيه من بقية المتدينين في الأرض؟ لا تسأل كم نسبة من استجاب لمن دعا اسأل كم نسبة الملتزمين ممن هو متدين بالدين، أنت تقول أن الذين يدعون الله مئة مليون والذين استجاب لهم مليون ونحن أيضاً نقول لك المتدينون من المسلمين مئة مليون ولكن الملتزمين الحقيقين بالإعراض عن الذنوب والمعاصي القلبية والسلوكية كم من هذه المئة مليون؟ نرجع إلى نفس النقطة مليون.

إذن تريد أن يستجيب الله دعاءك قدم إلى الله عمل، قدم إلى الله فوز، قدم إلى الله نجاحاً في التجربة، قدم إلى الله نجاحاً في الامتحان، والنجاح في الامتحان أن تبرهن أن سلوكك سلوك الإيمان، سلوك الصلاح، سلوك التقوى، سلوك الاستقامة كما قال تبارك وتعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود: 112] لذلك قال الله تبارك وتعالى في نفس الآية: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186] وقال تبارك وتعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24]

إذن تريد إجابة للدعاء قدم عملاً صالحاً حتى يستجاب الدعاء، تريد إجابة وتلبية لطموحاتك قدم استقامة واضحة حتى يستجاب دعاؤك، إذا قدمت استقامة واضحة ثم لم يستجب الدعاء حينئذ يمكن أن تقول لم يكن للدعاء فاعلية.

والدعاء أيضاً له درجات ومراتب، يقول القرآن الكريم: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ليس المراد بذكر الله الذكر اللساني فقط بل المراد الذكر القلبي، والذكر القلبي على درجات ثلاث:

  1. الدرجة الأولى: أن لا تعيش الغفلة والجفاف الروحي، نحن نعيش مرض الغفلة ومرض الجفاف الروحي، نحن نعيش الغفلة والبعد عن الله تبارك وتعالى، نحن لا نترك الصلاة ولكن صلاتنا صلاة سريعة، صلاة الغفلة، صلاة اللهو، صلاة الانشغال بكل الدنيا ونحن في أثناء أدائها، صلاة الانشغال بكل أعمالنا ونحن في أجواء الصلاة، نحن لا نعيش إلا الذكر اللفظي ولا نعيش الذكر القلبي وهو الذكر مقابل الغفلة ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179]
     
  2. الدرجة الثانية: أن تعيش الانصهار بذكر الله قياماً وقعوداً ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191] الذين يعيشون الانصهار بذكر الله، الذين يصفهم أمير المؤمنين بقوله: أما الليل فصافون أقدامهم يتلون كتاب الله يرتلونه ترتيلاً، فإذا مروا بآية فيها تشويق خفت نفوسهم إليه طمعاً وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وأظن أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم.
     
  3. الدرجة الثالثة: أن يتحول الإنسان من الوجود الملكي المادي إلى الوجود الملكوتي، أن ينطلق إلى عالم الملكوت، هو جسد ولكن روحه قد انطلقت إلى العالم الآخر، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : صحبوا الدنيا بأبدانهم وأرواحهم معلقة بالمحل الأعلى، ولو لا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب. هؤلاء الذين تحولوا إلى وجودات ملكوتية لا يرون إلا الله.

كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه. هؤلاء الذين لا يعيشون إلا ذكر الله تبارك وتعالى، ترى الإمام أمير المؤمنين وهو في وسط المعركة والسهام تنفذ إلى جسده وهو لا يشعر بها لأن روحه معلقة بالمحل الأعلى وترى شبله العظيم وهو يختضب بالدماء ولكن عينه ناظرة إلى السماء، هون ما نزل بي أنه بعين الله.