منار العظمة في شخصية الشهيد الصدر (قده)

شبكة المنير

أعوذ بالله من الشّيطان الغويّ الرّجيم

والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين

بسم الله الرّحمن الرّحيم

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [[1] ]

صدق الله العليّ العظيم

إنّ مَنْ تأمّل في سياق الآية المباركة - وكما يقول المفسّرون: بملاحظة مناسبة المحمول للموضوع - استطاع أنْ يدرك أنّ المقصود بالعلماء في الآية المباركة هم العلماء الرّبّانيّون، فالعلماء الرّبّانيّون هم الذين يخشون الله، وهم الذين أشار إليهم الإمامُ أميرُ المؤمنين عليٌ عليه السّلام في قوله: ”الناس ثلاثة: عالمٌ ربّانيٌ، ومتعلمٌ على سبيل نجاةٍ، وهمجٌ رعاع“، والعالم الرّبّاني هو العالم الذي يكون هدفه الانتصار لمبادئه ولدينه، فهو الذي لا يراعي في مساره ولا في مشاريعه الأهداف الماديّة أو الدّنيويّة أو الحصول على الألقاب أو العناوين أو المواقع الاجتماعيّة وإنّما يكون هدفه الأصيل والأوّل هو الانتصار لمبادئه وقيمه ودينه، وهذا ما يسمّىبالعالم الرّبّاني.

وفي طليعة العلماء الرّبّانيّين: الشّهيد السّعيد السّيّد محمّد باقر الصّدر قدّس سرّه الشّريف، وحديثنا عن الشّهيد السّعيد السّيّد محمّد باقر الصّدر قدّس سرّه الشّريف ليس حديثًا تاريخيًا عن سيرته المشرقة الوضّاءة أو عن تسلسل تفاصيل حياته؛ فهو مذكورٌ بشكل كافٍ ووافٍ في الكتب والمؤلفات التي أعدّت لتاريخ حياته المباركة، وإنما حديثنا عن محاورَ ثلاثةٍ من شخصيته العظيمة:

المحور الأوّل: الشخصيّة الرّوحيّة التي كان يمتلكها هذا العملاق العظيم.

ولا أتحدّث هنا عن تهجّده أو عبادته فهو معروفٌ لدى كلّ أحدٍ، ولا عن مواظبته على قراءة زيارة عاشوراء التي كان يعتبرها درسًا روحيًا في كلّ حين، وإنّما أتحدّث عن جاذبيّته الخلقيّة بحسب ما لمسنا نحن الذين رأيناه شطرًا من حياته، فالسّيّد الشّهيد السّيّد محمّد باقر الصّدر قدّس سرّه الشّريف كان يتمتّع بجاذبيّة أخلاقيّة رفيعة جدًا، كان دائم الابتسامة، شديدَ التّواضع، يقوم للصّغير وللكبير، ويقبّل رأسَ الرّجل الكبير إذا دخل إلى زيارة بيته، وكان يستمتع في الوقت الذي كان هو مِنْ مراجع الشّيعة بتقبيل يد أستاذه السّيّد الخوئي قدّس سرّهما الشّريف.

ووراء كلّ هذه الصّور الرّائعة مِنْ تواضعه وخلقه الرّفيع كان يتمتع بطهارة القلب، فكان قلبه قطعة بيضاءَ ناصعة لا تعرف الغلّ أو الحقد أو الكراهية على أحدٍ مهما أساء إليه، كان بطيء الغضب، لا يغضب إلا إذا توفرت العواملُ والمبرّراتُ العقلائيّة التي تستدعي الغضبَ، لكنه كان سريعَ الرّضا لمَنْ يسيء إليه أو يُقْبِلُ عليه أو يعتذر إليه، حتى لو كان مِنَ المناوئين والمحاربين له.

وهذه الصّفة - وهي طيب القلب - أصبحت مثارَ جدل بين معاصريه، فبعضهم اعتبر هذه الصّفة صفة سلبيّة وقال بأنّ صفة طيب القلب لا تجتمع مع القيادة، فالشخص الطيّب الذي يرضى بكلّ سرعةٍ ويقبل اعتذار أي شخص يعتذر إليه ويستمع لكلّ شخص يتحدّث إليه ليس كفؤاً للقيادة؛ لأنّ النّاس بطبيعتهم عدوانيّون والبشر بطبيعتهم يظلمون، وكما قال أبو الطيّب المتنبّي:

والظلمُ مِنْ شيم النّفوسِ فإنْ تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ

فالنّاس بطبيعتها تخاف من الشّخص الذي لا يتسامح، تخاف من الشّخص الذي لا يقبل اعتذار مَنْ يعتذر إليه، وبطبيعتها تعتدي وتظلم الشخص الطيّب الذي يقبل الإساءات ولا يغضب لمجرّد إساءات شخصيّة توجّه إلى شخصيته، لذلك فالقيادة تحتاج إلى حزم أكثر من طيبة القلب الذي كان يتمتع به السّيّد الشّهيد السّيّد محمّد باقر الصّدر قدّس سرّه الشّريف.

ولكن آخرين قالوا بالعكس: إنّ مِنَ العناصر الضّروريّة للقيادة طيب القلب، فإن القيادة على نوعين:

1/ قيادة ترتكز على الخوف والحذر، فهناك مَنْ يقود الأمّة لأنّ الأمّة تخافه وتحذر منه، وهذه القيادة لا يُكْتَب لها الاستمرارُ والاستقرارُ.

2/ وهناك قيادة ترتكز على الحبّ والمودّة، ومِنْ عوامل شيوع المحبّة والمودة أنْ يكون القائدُ طيّبَ النفس، طيّبَ القلب، منفتحًا على الأمّة، يقبل اعتذار مَنْ يعتذر عليه أو يسيء إليه.

وهكذا كانت قيادة النبي محمّدٍ الذي أثنى عليه القرآنُ الكريمُ بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَا نْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [[2] ]، وقال في آية أخرى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [[3] ]، والنبي الأعظم محمّدٌ كما تعلمون كان من أبرز صفاته طيب القلب، فلقد جاءه أعرابيٌ يسأله شيئًا من مال الزكاة وقد لبس النبيُ أيام الشّتاء بردة لها حاشية غليظة فشدّها الأعرابيُ على عنق النبي وقال: أعطني مِنْ مال الله الذي ليس مالك ولا مال أبيك، فقال له النبيُ : صدقتَ إنه ليس مالي ولا مال أبي ولكن هل أقود منك ما فعلت بي؟ قال: لا، قال: لِمَ؟ قال: لأنك لا تقابل السّيّئة بالسّيّئة وإنما تقابل السّيّئة بالحسنة، فابتسم رسولُ الله .

نبئتُ أنّ رسولَ اللهِ أوعدني والوعدُ عند رسولِ اللهِ مأمولُ

مهلاً هداكَ الذي أعطاكَ نافلة ال قرآنِ فيها مواعيظ وتفصيلُ

لا تأخذني بأقوالِ الوشاةِ ولمْ أذنبْ ولو كثرتْ فيّ الأقاويلُ

إنّ الرّسولَ لنورٌ يُسْتَضَاءُ به مهنّدٌ مِنْ سيوفِ اللهِ مسلولُ

المحور الثاني من محاور شخصيته العملاقة هو: الشّخصيّة العلميّة.

لقد كان السّيّد الشّهيد عقليّة جبّارة ونابغة متميزًا على كثيرٍ من أبناء زمانه، وهذه العقليّة الجبّارة احتاجت إلى أساتذة بحجمها وبمستواها باعتبار أنّ صقل المواهب وتفتح الملكات تحتاج إلى أسسٍ رصينةٍ ومتينةٍ لا يقوم بها إلا أساتذة أكفاء، فلذلك مِنْ نعم الله على هذا السّيّد العظيم أنّه حَظِيَ بأساتذة عمالقة ساهموا في بناء شخصيته العلميّة، وفي طليعتهم العلمان العظيمان: سيد الفقهاء والمجتهدين سيدنا الخوئي قدّس سرّه، وآية الله العظمى المحقق النحرير السّيّد محمد الرّوحاني قدّس سرّه الشّريف، فقد استفاد السّيّد الشّهيد مِنْ أساتذةٍ عظام - وخصوصًا هذين الأستاذين - ما نمت به شخصيّته العلميّة العملاقة.

والسّيّد الشّهيد لم يكن يتميّز فقط بالعمق والدّقة، فهناك أساتذة في الحوزة كثيرون يتمتّعون بالعمق والدّقة، ولكنه كان يتميّز بالإبداع والشّموليّة على مختلف الحقول، وهذا ما جعله متألقًا في القرن السّابق على أغلب أبناء ذلك القرن.

1/ فإذا جئنا على المستوى الفلسفي: فالسّيّد الشّهيد قارن بين الفلسفة الغربيّة والفلسفة الإسلاميّة، وشيّد مبادئَ الفلسفة الإسلاميّة بما يجعلها حلاً لجميع الاستفهامات المتعلقة بفلسفة الكون، وفلسفة الحياة، واستجلاء أسرار الوجود، وحقيقة النفس البشريّة، فعالج في كتابه «فلسفتنا» جميعَ الأسئلة المتعلقة بهذه الجهات الفلسفيّة العويصة.

2/ وعلى المستوى العلمي: قام بالمقارنة بين المنطق الأرسطي والمنطق الاستقرائي، ودعم المنطقَ الاستقرائي بست دعائم جعل هذا المنطق مؤديًا لليقين الرّياضي الذي هو الحجّة لدى المرتكز العقلائي في استخلاص النتائج والحقائق العلميّة، واستفاد من هذا الدّليل - ألا وهو الدّليل الاستقرائي - في أصول الفقه وفي أصول العقائد، فأرجع حجّيّة الإجماع وحجّيّة التّواتر في أصول الفقه إلى الدّليل الاستقرائي، وفي أصول العقائد عوّض الأدلة التي استدلّ بها علماؤنا - من زمن السّيّد المرتضى إلى زمانه - تعتمد على منطق الدّليل الاستقرائي.

مثلاً: أغلب علمائنا عندما يستدلون على صدق النّبوّة يقولون: الدّليل على صدق النّبوّة إقامة المعجزة؛ لأنه يقبح مِنَ الله أنْ يعطي المعجزة بيد شخصٍ كاذب؛ لأنّ إعطاء المعجزة بيد شخصٍ كاذب إغراءٌ بالجهل، وهو قبيحٌ، والسّيّد الصّدر ناقش هذا الاستدلال الموجود في كلمات سيّدنا الخوئي قدّس سرّه وقال: إنّ هذا استدلال دوريٌ، فلابد أنْ نثبت في رتبةٍ سابقةٍ أنّ المعجزة دليلٌ على صدق النّبوّة كي يثبت أنّ إعطاءها بيد الكاذب قبيحٌ، فلو قلنا إن كونها دليلاً على صدق النبوة لأن إعطائها بيد الكاذب قبيح كان ذلك استدلالاً دوريًا، فعوّض ذلك بدليل حساب الاحتمالات واستدلّ به على وجود الله وعلى عدالته وعلى نبوّة النبي محمّدٍ وعلى إمامة الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

3/ وإذا جئنا على المستوى الأصولي: فلقد ابتكر نظرياتٍ في علم الأصول، منها: أنه أرجع الوضع إلى نظريّة الاقتران الشّرطي، ومنها: أنّه حلل النّسب إلى نسبٍ أوليّةٍ وثانويّةٍ، ومنها: أنّه أرجع الواجب المشروط إلى الإرادة المشروطة، ومنها: أنّه أنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعوّضها بمسلك حقّ الطاعة، ومنها: أنّه قسّم اليقين إلى اليقين الذاتي والموضوعي وقسّم الظهور إلى الظهور الذاتي والموضوعي وقال بحجّيّة الموضوعي دون الذاتي منهما، وكثيرٌ من النظريات التي ابتكرها ذهنه الشّريف على مستوى هذا العلم المهمّ لعمليّة الاستنباط.

4/ وإذا جئنا إليه على مستوى الاقتصاد: فلقد انتزع من الاقتصاد الإسلامي عدّة نظريّات وحوّلها بصياغته إلى مذهبٍ اقتصادي يقابل المذهبَ الرّأسمالي والمذهبَ الاشتراكي، فهناك بحث جذريٌ في علم الاقتصاد وهو: ما هي المشكلة الاقتصاديّة لدى الإنسان مِنْ يوم آدم إلى يومنا هذا؟

فالمذهب الرّأسمالي يرى أنّ المشكلة هي في قلة مصادر الإنتاج.

والمذهب الاشتراكي يرى أنّ المشكلة هي في الملكيّة الفرديّة وانفتاحها بلا حدود.

وهناك مذهبٌ ثالث يرى أنّ المشكلة في عدم التّوازن بين منابع الإنتاج وكيفيّة التّوزيع.

أما السّيّد الشّهيد فقد شخّص المشكلة مِنْ خلال النّصوص الإسلاميّة وأنّ المشكلة هي الإنسان نفسه؛ لأن الإنسان لا يقدر على التّوفيق بين مصالحه الخاصّة والمصالح الاجتماعيّة العامّة، ونتج عن هذه المشكلة اختلال التّوازن بين روافد الإنتاج ووسائل التّوزيع، فعالج الملكيّة الفرديّة، وعالج المشكلة الاقتصاديّة، وعالج أساليب اقتصاد الدّولة الإسلاميّة في كتابه «اقتصادنا» الذي لا يزال بكرًا إلى يومنا هذا.

5/ وإذا جئنا إليه على مستوى علم الاجتماع: فقد تحدّث في بداية كتابه «اقتصادنا» عن حركة التّاريخ وما هي العوامل المساهمة في مسيرة التّاريخ وتعرّض ل «نظرية الماديّة التّاريخيّة» التي يقول بها بعض علماءُ الاجتماع ونقدها وناقشها وأثبت أنّها نظريّة ناقصة في تحليل عوامل مسيرة التاريخ، وعالج ب «نظريّة سنن التّاريخ» وأضاف إلى ذلك عواملَ متعددةٍ تجدها في مقدّمة كتابه «اقتصادنا».

6/ والسّيّد الشّهيد على مستوى علم التّفسير: طرح أسلوبًا جديدًا في تفسير القرآن وهو أسلوب التّفسير الموضوعي مقابل التّفسير التّجزيئي الذي دأب عليه علماؤنا المفسّرون من القرون الأولى لصدر الإسلام إلى يومنا هذا، وكانت نظريّة استفاد منها كثيرٌ من أقطاب التّفسير وكثيرٌ من العلماء في مجال علوم القرآن.

7/ وتعال إليه على مستوى الفقه: فقد طرح نظريّة سمّاها ب «الفقه الاجتماعي»، وعندما كتب العلامة المرحوم الشّيخ محمّد جواد مغنية كتابه «فقه الإمام الصادق» كتب السّيّد الشّهيد مقدّمة لكتابه تحدّث فيها عن نظريّة الفقه الاجتماعي وقال بأنّ الاتجاه السّائد لدى فقهائنا هو الانطلاق من الفقه إلى المجتمع بينما الصّحيح الانطلاق من المجتمع إلى الفقه لا من الفقه إلى المجتمع؛ فإنّ الانطلاق من الخبرة الاجتماعيّة والانطلاق من واقع الحياة المعاشة إلى الفقه يُحْدِث التأقلم والتناغم بين الفقه وبين تلبية الحاجات الاجتماعيّة المختلفة، والعكس لا يؤدي إلى هذه النتيجة.

فمثلاً: ورد عن النبي محمّدٍ لدى الفريقين: ”مَنْ أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ وأفتى الفقهاءُ طبقا لهذا الحديث مِنَ الفريقين الشّيعة والسّنة أنّ مَنْ أحيا أرضًا ملكها أو صار له حقّ الأولويّة سواءً أحياها بزراعةٍ أو أحياها ببناءٍ، أما إذا لم يُحْيِهَا وإنّما حجّرها فيثبت له حقّ التّحجير فقط ولا يكون مالكًا للأرض، وهذه الفتوى معروفة ومشهورة طبقا لهذا الحديث النبوي الشّريف.

لكنّ السّيّد الشّهيد عندما تناول هذا الحديث فلسفه وقال بأنّ هذا الحديث لا يخرج عن إطار مبدأ العدالة، فالحديث يريد أنْ يقول أنّ مَنْ بذل جهدًا في إحياء الأرض فإنّ جهده لا يضيع سدى، ومقتضى العدالة أنْ يُكَافَأ على جهده وعلى تعبه بأنْ يكون له حقٌ في الأرض أو أولويّة في الأرض، فالحديث هو في إطار مبدأ العدالة وليس حديثًا تعبّديًا.

وبما أنّه حديثٌ في إطار مبدأ العدالة فلذلك يختلف الإحياء باختلاف الظروف واختلاف الأزمنة، ففي الزمن السّابق كان الإنسانُ لا يملك إلا وسائلَ بدائيّة للإحياء لذلك لا يستطيع أنْ يحيي كيلو متر مثلاً وغاية ما يستطيعه الإنسانُ قبل ألف سنة أنْ يحيي أرضًا ذات 200 متر أو 400 متر، أما الآن في زماننا هذا فبما أنّ الإنسان امتلك وسائلَ متطورة جدًا ووسائل تقنية فإنّه يستطيع إحياءَ مئاتِ الكيلومترات، فلو طبقنا هذا القانون في زماننا وقلنا: ”مَنْ أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ أصبحت الأرضُ كلها ملكًا لأربعة أو خمسة من النّاس، لأنهم هم الذين يملكون الوسائل المتطورة والمتقدّمة للإحياء فيستطيعون أنْ يحيوا الصحارى الشّاسعة بما يمتلكون من وسائل متطورة وبالتالي لا يبقى ملكُ لأحد لأنّ مَنْ أحيا أرضًا مواتًا فهي له والأرض ملكٌ لأربعة أو خمسة من ملوك الدّنيا، وهذا لا يمكن أنْ يكون نظامًا عادلاً.

فبما أنّ هذا الحديث النّبوي: ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ في إطار العدالة فلابدّ أنْ يبقى في إطار العدالة، فلو كان قانونا مفتوحًا مِنْ دون حدودٍ ومِنْ دون قيودٍ لأوجب أنْ تُمْلَك الأرضُ كلها لخمسة أو ستة، وهذا يتنافى مع قانون العدالة، فلابد أنْ يتدخل الفقيهُ هنا ويجعل وسائلَ وأسبابًا تكليفيّة تحدّد رقعة الأرض وتحدّد وسيلة الإحياء كي يبقى هذا الحديث النّبوي وهذا القانون في إطار مبدأ العدالة، وهذا من ملامح نظريّة الفقه الاجتماعي التي بنى عليها قدّس سرّه الشّريف وسار عليها في كثير من استنتاجاته ونظريّاته وفتاواه الفقهيّة.

المحور الثالث: الشّخصيّة الحركيّة للسّيّد الشّهيد محمّد باقر الصّدر قدّس سرّه الشّريف.

فمِنَ المعلوم أنّ السّيّد الشّهيد قدّم نفسَه الزّكيّة قربانًا لدينه ولمبادئه ومضى وهو في الخمسين من عمره شهيدًا سعيدًا دون مبادئه ودون قيمه، ولكنّ هناك مَنْ أراد أنْ يتأمّل في حركته المباركة، فقال بعضٌ بأنّ حركته في العراق سنة 1399 هـ  إلى أنْ اُغْتِيلَ قدّس سرّه كانت حركة صحيحة ومباركة لأنه سار على منهج الحسين عليه السّلام فرأى أنّ الحلّ والعلاج أنْ يبذل دمه فبذل دمَه الشّريف ودماء الأزكياء من الذين ناصروه في حركته المباركة.

وهناك مَنْ قال بأنّ حركته كانت خاطئة لأنها لم يترتّب عليها شيءٌ، فقد قُتِلَ وقُتِلَت معه القاعدة الفكريّة التي بناها في العراق وبقي الحكمُ البعثي المقبور بعد موته سنينًا كثيرة ولم يتغيّر شيءٌ، بل بالغ البعضُ وقال بأنّ السّيّد الشّهيد كان عملاقًا في الفكر والعلم لكنّه لم يكن سياسيًا فلم يكن يمتلك الذكاء والخبرة السّياسيّة الكافية لذلك قام بحركةٍ أعِيقَت وأجْهِضَت بمقتله ومقتل الأزكياء من قاعدته.

لكننا عندما نتأمّل في هذا المنطق نذكر هنا ملاحظتيْن:

الملاحظة الأولى:

لا يمكن تفسير أي حركةٍ بالنّتائج الفعليّة والحاليّة والمرحليّة، فكلّ حركةٍ تقاس بنتائجها المستقبليّة - لا بنتائجها الوقتية - ومدى تأثيرها على الأجيال، ولذلك عندما نقرأ هنا حركة السّيّد الشّهيد قدّس سرّه الشّريف نجد أنّها وإنْ لم تنتج في نفس السّنة لكنّها عكست تأثيرًا على الأجيال في العراق وقدّمت رصيدًا روحيًا لكثير من الأجيال على مدى السّنين التي وَعَتْ حركته واستفادت من دروسها ومشت على دربها إلى أنْ أنتجت قاعدة إسلاميّة عريضة في داخل العراق بَقِيَ أثرُها إلى يومنا هذا.

الملاحظة الثانيّة:

عدم توفيق الحركة لا يعني خطأها، ولنا على ذلك شواهدُ كثيرة، فعندما نراجع ثورة العشرين التي قام بها المراجعُ والعلماءُ وقادها الميرزا محمّد تقي الشّيرازي قدّس سرّه ودخل في قيادتها السّيّد الحبّوبي والإمام الحكيم قدّس سرّهما نجد أنها لم تحصل على نتيجةٍ في وقتها، فقد استطاعت بريطانيا أنْ تقضي على ثورة العشرين وأنْ تُدْخِلَ العراقَ تحت الانتداب البريطاني وأنْ تدكّ عروشَ الثائرين في ذلك الوقت، وحاصرت النجف الأشرف وأرغمت أهلَ النجف على تسليم الثوّار إلى الجنود البريطانيّين وسلموا الثوار وأُعْدِمُوا أمامَ أعين أهاليهم، هذا بالنسبة لثورة العشرين.

وكذلك بالنسبة للانتفاضة الشّعبانيّة في العراق التي قادها العلماءُ ومنهم المرجع العظيم السّيّد السّبزواري قدّس سرّه ورعاها السّيّد الخوئي قدّس سرّه لكنّ هذه الانتفاضة بعد أنْ تمكنت من أربعة عشر محافظة استطاع النظامُ الصدّاميُ في ذلك الوقت أنْ يقضي عليها تمامًا، وبقي في الحكم لما بعد الانتفاضة لعشر سنين أو أكثر.

فهل هذا يعني أنّ هذه الحركات كانت حركاتٍ خاطئة أو لا مشروعيّة لها لأنها لم توفق؟! فإنّ عدم توفيق حركة السّيّد الشّهيد السّيّد الصّدر قدّس سرّه لكون العوامل الإقليميّة والدّوليّة أكبر من تلك الإمكانات التي بُذِلَت وهُيِّئَت وأعِدَّت لا يعني أنّ حركته كانت خاطئة أو لا مشروعيّة لها.

إذن فالسّيّد الشّهيد قدّس سرّه الذي ملأ الدّنيا بعلمه وملأ الدّنيا بفكره وملأ الدّنيا بطيب خلقه وقيمه الرّوحيّة العالية أيضًا أضاف إلى شخصيّته الرّوحيّة وأضاف إلى رصيده الرّوحي أنه لم يكن يفكّر في الدّنيا ولم يكن يفكّر في زينتها فرأى أنّ الطريق للانتصار إلى مبادئه وقيمه بأنْ يضحّي، وضحّى معه الآلافُ في ذلك الوقت الذي رأى أنّه وقتٌ مناسبٌ لحركته وتضحيته.

والحمد لله ربّ العالمين

[1]فاطر : 28.
[2]آلعمران : 159.
[3]القلم : 4.