علاقة أهل البيت بالكتاب المكنون

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا حول الآية المباركة في ثلاث نقاط:

  • في بيان المقصود بالكتاب المكنون.
  • في بيان المقصود بالمس في الآية.
  • في بيان من هم المطهرون الذين نالوا علم الكتاب.
النقطة الأولى: بيان المقصود بالكتاب المكنون.

نلاحظ أن الآيات القرآنية تعبّر بتعبيرات مختلفة عن الكتاب المكنون، ففي بعض الآيات القرآنية يقول «جل وعلا»: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وفي آية أخرى يقول: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ، وفي آية ثالثة: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. هذه تعبيرات مختلفة عن معنى واحد، فما هو هذا الكتاب المكنون أو الكتاب المبين أو أم الكتاب أو اللوح المحفوظ؟

المراد به مركز معلومات للكون كله، فإن أي مؤسسة لها مركز معلومات، سواء كان جهاز كمبيوتر أو كان شخصًا أو أي شيء آخر، وهذا المركز يشتمل على جميع المعلومات المرتبطة بتلك المؤسسة من صادرها وواردها وما يرتبط بموظيفها والمسؤولين عنها، فسائر ما يرتبط بالمؤسسة له مركز معلومات يشتمل عليه. وكذلك الدولة، إذ أن أي دولة تقوم لا بد لها من جهاز استخبارات، وهذا الجهاز هو مركز معلومات الدولة، فأي شيء يرتبط بالدولة وبأسرارها وبقضاياها العامة والخاصة موجود في مركز المعلومات.

إذن كل كيان يقام له مركز معلومات، وهذا الكون بأكمله - من سمائه وأرضه وجنه وإنسه وملائكته وجميع الموجودات والمخلوقات الموجودة فيه - له مركز معلومات أيضًا، ولكن هذا المركز ليس مركزًا ماديًا، فهو ليس جسمًا ماديًا يشتمل على معلومات كجهاز الكمبيوتر! بل إن مركز المعلومات الذي يرتبط بالكون بأكمله فيه جميع ما في الكون ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. هذا الكتاب المبين - الذي هو مركز المعلومات - يشتمل على كل شيء، ولكنه ليس شيئًا ماديًا، بل هو مقام معنوي محيط بمعلومات الكون، ومرتبط بجميع ما في الكون من أسرار وقضايا.

هذا المركز هو الذي تعبّر عنه آية الكرسي حيث قالت: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أي أن مركز المعلومات - المعبّر عنه بالكرسي - يشتمل على دقائق السماوات والأرض، ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا لا يتعسر عليه حفظ السماوات والأرض، إذ أن جميع المعلومات مبرمجة ومهيأة. وهذا المركز هو الذي يعبّر عنه باللوح المحفوظ، وبالكتاب المكنون، وبالكتاب المبين، وغير ذلك من التعابير القرآنية.

مركز المعلومات لا يطلع عليه إلا من اختصه الله «تبارك وتعالى» ببعض الخصائص والمميزات التي سنبينها في النقطة الثانية. إذن هذا القرآن الكريم قبل نزوله على النبي الأعظم كان - بما فيه من قوانين ودساتير ومعلومات - في الكتاب المكنون، أي أنه كان في مركز المعلومات، ثم نزل على قلب الرسول الأعظم ، كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ.

النقطة الثانية: ما معنى ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ؟

هنا تفسيران:

التفسير الأول: الضمير يعود على القرآن.

هذا ما ذكره الكثير من العلماء من الشيعة والسنة، وهناك روايات عن أهل البيت تؤيد ذلك أيضًا، وهو أن «لا يمسه» يعني: لا يلمسه، أي أن آيات القرآن الكريم لا يلمسها إلا المطهرون، وفي بعض القراءات: لا يمسّه إلا المطَّهرون، أي: إلا المتطهرون، فلا يجوز مس القرآن بدون وضوء، وهذا حكم شرعي بإجماع المسلمين، حيث اتفق فقهاء الشيعة والسنة على أنه لا يجوز مس حروف القرآن إلا على وضوء، ولذلك الولي - ولي الطفل - يجب عليه إبعاد القرآن عن الطفل؛ لأن الطفل ليس على طهارة، فمسه لحروف القرآن على غير طهارة مبغوض شرعي، ولذلك على الولي أن يبعد المصحف الشريف عن ملامسة الطفل، حتى لا يمس الحروف وهو على غير طهارة. بعض المفسرين يقول: هذا معنى الآية، فالضمير في الآية يرجع إلى القرآن، فيكون معنى ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ: لا يجوز مس الكتاب ومس الحروف إلا للشخص المتوضئ المتطهر.

التفسير الآخر والأدق: الضمير يعود على الكتاب المكنون.

الضمير في «لا يمسه» لا يعود على القرآن، بل يعود على الكتاب المكنون، إذ أن الضمير - كما يقول علماء النحو - يرجع إلى أقرب مرجع إليه، وقد قالت الآية: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ وذلك الكتاب المكنون ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وقد بيّنّا أن الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ مقام معنوي، وهو مركز معلومات الكون بأكمله، وقد كان القرآن في هذا المركز قبل نزوله، والمقصود بمسه الاطلاع عليه؛ إذ أن هذا المركز ليس شيئًا ماديًا قابلاً للمس، وعلى ذلك فمعنى الآية: الكتاب المكنون الذي انحدر القرآن منه لا يطلع عليه ولا يعرف ما فيه ولا يناله إلا المطهرون، فالمس هنا كناية عن المعرفة والاطلاع.

وقضية التطهير لا ترتبط بالسلوك فقط، إذ قد يتصور الإنسان أن معنى المطهرين: الذين طهّر الله سلوكهم من الرجس والدنس فقط! والحال أن المعنى أدق من ذلك. هؤلاء الذين يطلعون على مركز المعلومات، ويطلعون على الكتاب المكنون، مطهرون لا سلوكًا فقط، بل مطهرون عقلاً وعلمًا أيضًا. نحن مثلاً نعتقد بأن النبي الأعظم معصوم عملاً وعلمًا، لا أنه معصوم عملاً فحسب، فما هو المقصود بالعصمة العلمية؟

الإنسان قد يكون معصومًا عملاً، فلا يفعل معصية، ولا يرتكب خطيئة، لكن يمكن أن يتلقى المعلومة خطأ، فهو وإن كان معصومًا في عمله، إلا أنه ليس معصومًا في علمه. الإنسان العادي يمكن أن يسمع صوتًا فيظنه صوت قرآن، ثم يتبيّن أنه صوت غناء، ويمكن أن يسمع خطيبًا يطرح شيئًا ولكنه يفهم بشكل آخر، أي أن الإنسان قد يتلقى المعلومة خطأ. الرسول الأعظم كما هو معصوم عملاً معصوم علمًا، أي أن ذهن الرسول الأعظم وعقله صفّاه الله من جميع العوائق التي تعوقه في استقبال المعلومات. الإنسان إنما يستقبل المعلومات خطأ لوجود بعض العراقيل أو التشويشات أو العوائق المنبثة في ذهنه التي تسبّب له أن يخطئ في استقبال المعلومات. الله «تبارك وتعالى» عندما عصم النبي الأعظم من الأخطاء عصم ذهنه أيضًا من تلقي المعلومات بشكل خاطئ.

ذهن الرسول الأعظم وعقله عقلٌ معصومٌ، أي أنه عقل صافٍ من الشوائب والعوائق والتشويشات، ومن جميع ما يعيق في استقبال المعلومات، ولذلك ذهنه يتقبّل المعلومة دائمًا بشكلها الصحيح، من دون أي خطأ، ومن دون أي سهو، ومن دون أي غفلة، وهذا ما نعبّر عنها بالعصمة العلمية، وهي مختلفة عن العصمة العملية.

وهذا هو معنى التأييد بروح القدس، كما قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، ويقول: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وفي آية ثالثة: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، وفي سورة القدر: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا، فالروح غير الملائكة، والروح موجود أعظم من الملائكة، ولذلك القرآن عطفه على الملائكة، ولو كان الروح من الملائكة لما عطفه على الملائكة.

روح القدس وظيفته تأييد الأنبياء والمعصومين، وذلك من خلال الاتصال بعقل المعصوم لا بسلوكه، فإن هذا المخلوق وظيفته تصفية هذا العقل، وجعل عقله عقلاً صافيًا خاليًا من الشوائب والأدران والتشويشات، حتى يبقى عقل المعصوم يستقبل الوحي والمعلومات الإلهية استقبالاً صحيحًا. إذن معنى التأييد بروح القدس هو صقل العقل وجعله عقلاً منشرحًا منفتحًا على المعلومات، فلا يخطئ ولا ينسى ولا يسهو ولا يغفل، بل يستقبل المعلومة بصورة صحيحة ومتكاملة. إذن معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ هو: لا يطلع على الكتاب المكنون إلا الذين طهّرهم الله عملاً وعلمًا، أي أن عصمتهم عصمة علمية وعصمة عملية.

النقطة الثالثة: من هم المطهرون؟

نحن نقيم شواهد من القرآن ومن السنة ومن التاريخ على بيان المراد من المطهرين.

أولاً: الشواهد القرآنية.

القرآن الكريم هو نفسه يبيّن لنا من هم المطهرون، حيث يقول: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا أي أن الكتاب أعطي للمصطفين، ولم يعطَ لكل أحد، فلا يصح لكل شخص أن يقول: أنا أعرف القرآن وأفهم ما هو الكتاب المكنون! فمن هم المصطفون؟ القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فمن هم المطهرون ومن هم المصطفون؟ هل عندنا دليل من القرآن الكريم نفسه يعيّن لنا من هم المطهرون؟

لا يوجد عندنا إلا آيتان: الأولى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، لا نجد اللفظ ينطبق إلا على هذه الآية. لا يمسه إلا المطهرون، فمن هم المطهرون؟ آية التطهير تفسّر، وظاهر اللفظ أن الله يطهّرهم عملاً وعلمًا، فهؤلاء هم المطهرون، وأهل البيت هم - كما في الرواية التي نقلها مسلم في صحيحه، وأحمد بن حنبل في مسنده - علي وفاطمة والحسن والحسين، والنبي الأعظم ، حيث اشتمل عليهم بالكساء ثم قال: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي، لحمهم لحمي، ودمهم دمي، وحربهم حربي، وسلمهم سلمي“.

الآية الأخرى: قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فمن هم أهل الذكر؟ القرطبي في الجزء الحادي عشر من تفسيره، والطبري في الجزء الرابع عشر من تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور، وابن كثير.. كلهم يقولون: أهل الذكر هم أهل بيت محمد ، ويروي ذلك ابن عباس وجابر وحذيفة، والذكر هو القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فأهل الذكر هم أهل القرآن، أي: أهل المعرفة بالقرآن، وأهل الإحاطة بالقرآن، وأهل الاطلاع على دقائق القرآن ومغازيه، فأهل الذكر هم أهل بيت النبي .

إذن فالقضية واضحة، الآية القرآنية تقول: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فمن هم المطهرون؟ الآية الثانية تفسر: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا فالمطهرون هم أهل البيت، فمن هم أهل البيت؟ آية أخرى تقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، فمن هم أهل الذكر؟ هذه تفاسير إخواننا أهل السنة تبيّن لنا من هم أهل الذكر المطهرون الذين اطلعوا على الكتاب المكنون، ألا وهم محمد وآله.

ثانيًا: الشواهد الروائية.

لاحظ ما أورده الحاكم في الجزء الثالث من مستدركه عن الرسول الأعظم : ”أنا مدينة العلم وعلي بابها“، وعن علي أنه قال: ”علمني رسول الله ألف باب من العلم، ينشعب لي من كل باب ألف باب من العلم“. وأما إذا أردنا الاستشهاد بروايات أئمتنا أئمة الهدى فتوجد عندنا رواية صحيحة عن الحسين ابي أبي العلاء عن الإمام الصادق : ”إن عندي الجفر الأبيض، قيل: وما هو الجفر الأبيض؟ قال: الجفر الأبيض توراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم وزبور داوود“ أي أن جميع الكتب السماوية نحن نتوارثها عن الرسول الأعظم ، وهي عندنا، وتسمى بالجفر الأبيض. ثم قال: ”وإن عندي مصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآنًا، ولكن فيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج فيه إلى الناس. وإن عندي الجفر الأحمر، قيل: وما هو الجفر الأحمر؟ قال: الجفر الأحمر سلاح رسول الله ودرع رسول الله وخاتم رسول الله“.

الأئمة ورثوا من الرسول الكتب السماوية، بل ورثوا مختصاته من السلاح والدرع واللواء والخاتم. الإمام الصادق عندما يقول: عندي وعندي وعندي.. فإنه يتحدى الآخرين، كأبي حنيفة ومالك، ولذلك يروي ابن الجوزي في تذكرته عن أبي حنيفة: لولا السنتان لهلك النعمان. ويروي عن مالك بن أنس أنه قال: والله ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علمًا وفضلاً وورعًا وزهدًا.

الإمام الباقر يقول في رواية معتبرة: ”ما ادعى أحدٌ أنه جمع القرآن كلَّه إلا كذّاب، وما جمعه إلا علي بن أبي طالب، فإنه جمعه كما أنزل، وهو عندنا“، وليس المقصود من الرواية أن هناك قرآنًا يختلف عن القرآن المعروف، وإنما الترتيب يختلف، فهذا القرآن الموجود بين أيدينا قرآن صحيح أقره أهل البيت ، وأمرونا بقرءاتها واتباعه واستنباط الأحكام منه، لكن الإمام علي رتّب القرآن ترتيبًا آخر على وفق مناسبات النزول.

القرآن الذي بين أيدينا قد تأتي فيه آية مكية بعد آية مدنية، أو سورة واحدة بعض آياتها مكية وبعض آياتها مدنية، وهذا يعني أن القرآن لم يرتّب على طبق النزول، وإنما رُتِّب على طبق ما أمر به المعصوم ، ولكن الإمام أمير المؤمنين في سبيل توضيح مضامين القرآن وفي سبيل بيان معاني القرآن رتّب القرآن على طبّق النزول، فقدّم السور المكية على السور المدنية، وكل آية على آية، فالآيات التي نزلت في السنة الأولى مثلاً وضعها قبل الآيات التي نزلت في السنة الثانية، وهكذا كل آية قبل الأخرى بحسب وقت النزول، لا بحسب الترتيب الموجود الآن، وإن كان القرآن واحدًا، فالاختلاف إنما هو في الترتيب.

ثالثًا: الشواهد التاريخية.

صاحب العقد الفريد - وهو من مؤرخي أهل السنة - ينقل أن المأمون العباسي جمع أربعين عالمًا لإفحام الإمام الرضا، وأمرهم أن يسألوا الإمام المسائل الشداد، فسألوا الإمام الرضا، واستفرغوا ما في وسعهم، فأجابهم عن جميعها على مختلف المذاهب والآراء، ثم سألهم فلم يبدوا شيئًا.

ابن الجوزي في تذكرته ينقل قصة الإمام الجواد، وكلكم سمعتموها، وإنما أذكرها كشاهد من شواهد كون الأئمة أعرف بالكتاب المكنون من غيرهم. ابن الجوزي ينقل في تذكرته أنه لما أراد المأمون العباسي أن يزوّج ابنته أم الفضل بالإمام الجواد، وكان عمره سبع سنوات، قيل له: كيف تقرّب هذا وهو من بني هاشم؟! قال لهم: إنهم من أهل بيت زُقُّوا العلمَ زقًّا، فقالوا له: هذا طفل لا يعي ولا يفقه شيئًا، فكيف تقرّبه وتقدّمه؟! قال: ويحكم! أهذا طفل؟! هذا إمام وابن إمام. قالوا له: أحضر له من يسأله. فأحضر يحيى بن أكثم - الذي كان قاضي القضاة في زمان الرشيد والمأمون - وأجلسه وأحضر الإمام الجواد إلى جانبه.

ثم قال المأمون ليحيى: سل محمدًا، فالتفت إلى الإمام وقال: يا محمد، ما تقول في مُحْرِم قتل صيدًا؟ فالتفت إليه الإمام الجواد وقال له: يا هذا، قتله في الحل أم في الحرم؟ قتله في الليل أم في النهار؟ قتله في الحج أم في العمرة؟ قتله مصرًا أم نادمًا؟ قتله متعمدًا أم مخطئًا؟ قتله مباشرة أم بالواسطة؟ أكان من ذوات الطير من غيرها؟ من صغار الطير أم من كبارها؟ من ذوات الظفر أم...؟! وهكذا أدخله في زوايا وفروع لا حوصلة له بها.

ثم قال له الإمام: فأنا أسألك: ما تقول في رجل نظر إلى امرأة أول النهار فكان نظره إليها حرامًا، فلما صار الضحى صار نظره إليها حلالاً، فلما صار الظهر صار نظره إليها حرامًا، فلما صار العصر صار نظره إليها حلالاً، فلما صار المغرب صار نظره إليها حرامًا، فلما صار نصف الليل صار نظره إليها حلالاً، فلما صار الفجر صار نظره إليها حرامًا؟ فسكت ولم يحر جوابًا.

إذن هذه الشواهد واضحة المدلول، وإلا كيف يتصدى طفل ذو سبع سنوات للإمامة ويتحدى العلماء من مختلف الطبقات؟! بل أذعن بإمامته كبار العلماء، كعلي بن مهزيار، وصفوان بن يحيى، وأبي نصر البزنطي، وأبي السلط الهروي، فإن هؤلاء كانوا فقهاء زمانهم، ولذلك حتى أهل السنة يروون عن هؤلاء ويحترمونهم ويعتبرونهم من العلماء، ومع ذلك هؤلاء العلماء الفقهاء أذعنوا بإمامة طفل عمره سبع سنوات، أفليس هذا شاهدًا على صدق إمامتهم وكونهم أعرف بالقرآن وبالكتاب المكنون من باقي الأمة؟!

ووالِ   أناسًا   ذكرهم   iiوحديثهم   روى جدنا عن جبرئيل عن الباري

ولم يقتصر هذا الأمر على رجالهم، بل امتد إلى نسائهم، ولذلك الإمام الرضا والإمام الجواد كانا يُرْجِعان في الأحكام الشرعية إلى حكيمة بنت الإمام الجواد، وقد كانت امرأة عالمة فقيهة، وكانت مرجعًا يرجع إليه الشيعة في معرفة الأحكام الشرعية، وكانت بابًا من أبواب أهل البيت.

وينص المؤرخون في حق العقيلة زينب أن الإمام أوصى الشيعة في المدينة وفي مكة قبل خروجه إلى كربلاء بالرجوع إلى العقيلة زينب بعد مقتله؛ حفاظًا على حياة الإمام زين العابدين ، فكان الشيعة يرجعون إليها في الأحكام الشرعية والقضايا الدينية أربع سنوات، حيث توفيت سنة 65، وفي خلال تلك السنوات كانت مرجعًا للشيعة في الأحكام والأمور الشرعية.

وهذا ما قصده الإمام السجاد ، حيث قال لها - كما يروي ابن شهرآشوب في مناقبه - يوم عاشوراء: ”عمة زينب، أنتِ بحمد الله عالمة غير معلمة، وفاهمة غير مفهّمة“. الإمام المعصوم لا يقول كلامًا كهذا من باب المدح والمجاملة! بل هذه كلمة عظيمة صادرة من الإمام المعصوم.

هذا إذا كان في حق العقيلة زينب، وفي حق حكيمة، فكيف بفاطمة الزهراء ؟! جوهرة العصمة، والحلقة الواصلة بين نور النبوة ونور الإمامة، ولذلك عندما نراجع خطبة الزهراء نجد من المضامين العجيبة ما لم تتضمنها خطبة أخرى، ولذلك الدكتور المصري عبد الفتّاح عبد المقصود يقول: من قرأ خطبة الزهراء وقرأ خطب أمير المؤمنين وجد نفسًا واحدًا وروحًا واحدة، فكما حمل الإمام علي علمًا ومعرفة، وقد تجلت معلوماته ومضامينه من خلال خطب نهج البلاغة، كذلك تجلت عظمة مقام الزهراء في خطبتها.

ولذلك البغدادي - من علماء إخواننا أهل السنة - يروي في بلاغات النساء في القرن الثالث الهجري خطبة الزهراء بهذه المضامين العالية وبهذه المفاهيم الشامخة التي تطرحها الزهراء من خلال خطبتها، ولا غرابة في ذلك! وقد قال لها الرسول الأعظم : ”بنية، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، قالت: يا رسول الله، ومريم؟ قال: مريم سيدة نساء عالمها، وأنتِ سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين والجن والإنس أجمعين“.

ويروي البخاري: ”أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة“ أي أنها سيدة حتى على مريم وغيرها من نساء الجنة، فهي حاوية المفاخر والفضائل والمكارم، شبيهة أبيها رسول الله، كما قالت أم المؤمنين عائشة: ”ما رأيتُ أحدًا أشبه برسول الله من ابنته فاطمة، ولقد كانت إذا دخلت عليه قام إليها إجلالاً، وقبّل ما بين عينيها، وكانت إذا مشت ابتسم وهو ينظر إليها ويقول: فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها“.