نص الشريط
مشاركة | الفلسفة النورية في خطبة الزهراء (ع)
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: قاعة الغدير | قم المقدسة
التاريخ: 23/6/1432 هـ
مرات العرض: 3559
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1708)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد عن النبي محمّدٍ أنّه قال: ”فاطمة بضعة مني يرضى اللهُ لرضاها ويغضب لغضبها“

صدق الرّسول الكريم

انطلاقًا من هذه الكلمة المحمّديّة الشّريفة نتحدّث عن محاورَ ثلاثةٍ:

المحور الأوّل: معنى كون الزهراء بضعة الرسول.

إنّ هذه الجملة - وهي قوله : ”فاطمة بضعة مني“ - تشير إلى المسانخة بين ذاته وبين ذات فاطمة الزّهراء ، فإنّه إنّما يصحّ عرفًا هذا التّعبير بأنْ يقال: «فلانٌ بضعة مني» إذا كانت هناك مسانخة بين الأوّل والثاني حتى يصحّ أنْ يقال أنّه بضعة منه، والمسانخة بين فاطمة وأبيها صلى الله عليهما وآلهما في موردَيْن:

المورد الأوّل: المسانخة في الوجود.

فكما أنّ وجود النبي الأعظم مرّ بمراحلَ: مرّ بالوجود النّوري حيث كان نورًا محيطًا بساق العرش، ومرّ بالوجود الذرّي حيث أصبح روحًا تسبّح الله تبارك وتعالى وتهلله، ومرّ بالوجود المادّي حيث أصبح مَوْئِلاً للوحي على هذا الكوكب الأرضي، وهو في هذه المراحل كلها عندما كان نورًا وعندما أصبح روحًا وعندما أصبح مهدًا ومستودعًا للوحي فهو في هذه المراحل كلها هو أشرف الموجودات، فهو في عالم الأنوار أشرفها، وفي عالم الأرواح أشرفها، وفي عالم الوجودات الإمكانيّة المادّيّة أشرفها وأفضلها، وبناءً على ذلك فإنّ هناك مسانخة في الوجود بين وجود فاطمة ووجود أبيها في جميع هذه المراحل التي مرّ بها وجودُ النبي الأعظم محمّدٍ .

المورد الثاني: المسانخة في الكمالات.

فالمسانخة في الكمالات لأنّ الكمالات درجاتٌ من محيط الوجود ومنازلُ من حيّز الوجود، فالتّسانخ في الوجود يعني التّسانخ في الكمالات، فهناك تسانخٌ بينهما في العلم، وهناك تسانخٌ بينهما في الخُلق، وهناك تسانخٌ بينهما في الخَلق، وهناك تسانخٌ بينهما حتى في الكلام، فقوله: ”فاطمة بضعة مني“ أي أنّها نسخة مني في تمام مراحل وجودي وفي تمام الكمالات التي شرّفني اللهُ بها وأعزّني بها حتى تصل هذه المسانخة إلى الكلام نفسه، فكلام فاطمة كلام أبيها، وبيان فاطمة بيان أبيها، فهناك تسانخٌ حتى في مرحلة البيان وحتى في مرحلة الخطاب.

ولأجل ذلك ورد في الزّيارة الجامعة الشّريفة: ”كلامكم نورٌ“، وهذا التّعبير - وهو قوله : ”كلامكم نورٌ“ - يرشد إلى المسانخة، فإنّ في الحكمة يقال: «التّشكيك الوجودي مرجعه إلى أنّ ما به الاشتراك عين ما به الامتياز»، مثلاً: النّور يحمل تشكيكًا وجوديًا، فدرجات النّور المتفاوتة ما به الاشتراك بين هذه الدّرجات هو عين ما به الامتياز، فالتّفاوت بين درجات النّور لا يلغي السّنخيّة بين نفس هذه الدّرجات، وهذا معنى أنّ مرجع التّشكيك الوجودي إلى أنّ ما به الاشتراك عين ما به الامتياز.

فعندما يرد علينا هذا الحديث: ”كلامكم نورٌ“ أي أنّه كما أنّ النّور يحمل تشكيكًا وجوديًا فكلامكم كذلك، كلامكم قد يتفاوت في درجاته وقد يتفاوت في منازله إلا أنّ كلامكم يرجع أيضًا إلى خيطٍ واحدٍ ويرجع إلى نقطة اشتراكٍ بين أطرافه وبين درجاته وبين منازله، وهذا معنى أنّ كلامهم كالنّور من حيث رجوع ما به الاشتراك بين كلماتهم إلى ما به الامتياز، ”كلامكم نورٌ، وأمركم رشدٌ، ووصيّتكم التّقوى، وفعلكم الخير“.

المحور الثاني: إثبات صحة خطبة الزهراء بحساب الاحتمالات.

ذكر علماؤنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم أنّ دليل حساب الاحتمالات هو دليلٌ عقلائيٌ، ومرجعه لدى البناء العقلائي إلى أنّ هناك ملازمة بين تراكميّة الاحتمال وبين الوثوق والاطمئنان، فكلما حصل تراكمٌ في الاحتمالات في محورٍ معيّنٍ ومنطقةٍ معيّنةٍ أدّى وجود هذا التّراكم في ذلك المحور إلى الوثوق والاطمئنان به، فهناك ملازمة يبني عليها المجتمعُ العقلائي بين تراكم الاحتمالات وبين الوثوق بمحور هذه الاحتمالات، إلا أنّ هذه التّراكميّة أحيانًا تنشأ عن عاملٍ كمّي، وأحيانًا تنشأ عن عاملٍ كيفي، ولا تنحصر التّراكميّة بنشئها عن عاملٍ معيّنٍ.

فمثلاً: ما يذكره العلماءُ في الشّبهة غير المحصورة، يقولون: مثلاً إذا علمتَ بوجود خطرٍ كهربائي في قمّ المقدّسة على سعتها وعلى كبرها وامتداد مساحتها فإنّ كثرة الأطراف بلغت حدًا يضعف معه احتمالُ الإصابة بهذا الخطر إلى حدّ أنْ يصبح احتمال الإصابة بهذا الخطر في كلّ بيتٍ أو في كلّ شارع احتمالاً موهومًا لا يعتني به العقلاءُ في أعمالهم وإنجازاتهم، وهذا معناه أنّ العامل الكمّي أضعف درجة الاحتمال إلى أنْ حوّل الاطمئنانَ على خلافه والوثوقَ على خلافه، فيحصل للإنسان في كلّ طرفٍ يضع يده عليه اطمئنانٌ بعدم وجود هذا الخطر الكهربائي في هذا الموطن المعيّن، إذن هنا ملازمة بين تراكم الاحتمالات واليقين ولكنّ هذا نشأ عن عاملٍ كمّي وهو كثرة الأطراف إلى حدٍ ضَعُفَ معها الاحتمالُ إلى الحدّ الذي لا يُعْتَنَى به.

وأحيانًا يكون منشأ هذه الملازمة عاملاً كيفيًا لا عاملاً كمّيًا، مثلاً: إذا لاحظنا أفعالَ شخصٍ معيّنٍ ودرسنا سيرتَه من خلال سلوكه، من خلال كلامه، من خلال علاقاته، من خلال سائر أنحاء تصرّفاته، فاستطعنا بملاحظة القرائن المختلفة أنْ نكتشف ميزة معيّنة لهذا الشّخص وسِمَة معيّنة لهذه الشّخصيّة من خلال قراءة سيرته وسلوكه وتصرّفاته وأفعاله فهنا الملازمة بين تراكم الاحتمالات والوثوق بمحورٍ معيّنٍ وبميزةٍ معيّنةٍ نشأ عن عاملٍ كيفي وهو حصول مؤشرٍ معيّنٍ في كلماته، في سيرته، في سلوكه، في تصرّفاته، فالملازمة بين التّراكم والوثوق بالمحور قد ينشأ عن عاملٍ كيفي وقد ينشأ عن عاملٍ كمّي.

فإذا جئنا وطبّقنا هذه القاعدة على كلامهم صلوات الله وسلامه عليهم، الكلام المنسوب إليهم ”كلامكم نورٌ“ نرى مثلاً نهجَ البلاغة عندما نلاحظه من حيث المجموع بما هو مجموعٌ نرى أنّ هناك ملازمة في نهج البلاغة بين احتمالات الصّدور عن علي أمير المؤمنين وبين الوثوق بهذا الصّدور، ومنشأ هذه الملازمة هو العامل الكيفي، أي أنّ لنهج البلاغة لغة معيّنة ونفسًا معيّنًا ونكهة معيّنة تتجلى في تمام خطبه، في تمام أقواله، في تمام بياناته، بحيث كلما قرأنا خطبة قويت تلك النكهة وظهر ذلك النّفس بشكلٍ أوضح إلى أنْ يحصل لنا الوثوق برجوع جميع هذه الخطب والكلمات إلى نفسٍ واحدٍ وإلى منبعٍ واحدٍ وهو أميرُ المؤمنين عليٌ .

وهذا يأتي في خطبة الزّهراء سلام الله عليها، فإنّ خطبة الزّهراء وإنْ وصلتنا بطرق مختلفةٍ إلا أنّ الطريق المهمّ للوثوق بصدورها عن سيّدة النّساء فاطمة صلوات الله وسلامه عليها تطبيق دليل حساب الاحتمالات على هذه الخطبة الطويلة، فإنّ من خلال ذلك نرى ملازمة بين تراكم الاحتمالات في هذه الخطبة وبين الوثوق بصدورها لعاملٍ كيفي، وهو اشتراك نفسٍ معيّنٍ ونكهةٍ معيّنةٍ بين جميع أطراف هذه الخطبة وكلماتها التي نُسِبَت للسّيّدة الزّهراء صلوات الله وسلامه عليها، وهذا ما يؤكّد ما ذكرناه في المحور الأوّل أنّ كلامهم نورٌ وأنّ النّور ما به الاشتراك فيه عين ما به الامتياز، «كثرته فانية في وحدته، ووحدته مظهرٌ لكثرته» فهذه الخاصيّة الموجودة في النّور موجودة في كلماتهم صلوات الله وسلامه عليهم.

المحور الثالث: تأملات في فقرة من الخطبة الشريفة.

ورد عنها صلوات الله وسلامه عليها أنّها قالت في خطبتها: ”ابتدع الأشياءَ لا من شيءٍ كان قبلها“، ومن أجل أنْ نقف على مصداق هذا التّعبير ”كلامكم نورٌ“ علينا أنْ نتأمّل في هذه الفقرة الشّريفة: ”ابتدع الأشياءَ لا من شيءٍ كان قبلها“، وهنا أركّز على ثلاثة معانٍ لهذه الجملة الشّريفة كي يتبيّن لنا مدى النّوريّة المختزنة في ثنايا هذه الفقرة الشّريفة الواردة عن السّيّدة الزّهراء صلوات الله وسلامه عليها.

المعنى الأوّل: الابتداع.

عبّرت صلوات الله وسلامه عليها بالابتداع: ”ابتدع الأشياءَ“ فما هو المنظور في التّعبير بكلمة الابتداع؟ أرادت سلام الله عليها أنْ تقول بأنّ علاقة الوجود بمصدره جلّ وعلا ليست هي «علاقة العليّة» وليست هي «علاقة التّبعيض والتّجزئة» وإنّما هي «علاقة الابتداع والاختراع».

بيان ذلك: لو كانت علاقة الوجود به تبارك وتعالى علاقة العليّة فقد صرّحوا بأنّ المعلول وجودٌ نازلٌ من وجودات العلة، بمعنى أنّ للعلة شؤونًا ومن شؤونها وجودها بوجود معلولها، فالمعلول وجودٌ نازلٌ من وجودات العلة، ولذلك يقولون: المعلول موجودٌ كامنٌ في علته بنحوٍ أشرف وبنحوٍ أقوى، كوجود الحرارة النّاريّة في قلب النّار وفي صميم النّار، فإنّ هذا الوجود بمعنى أنّ الحرارة شأنٌ من شؤون النّار ووجودٌ نازلٌ من وجودات النّار، وهذا لا يمكن تطبيقه على علاقة الله بخلقه بأنْ يقال بأنّ سائر هذه الوجودات شأنٌ من شؤون وجوده تعالى، وأنّ سائر هذه الموجودات كانت موجودة في صميم ذاته بنحوٍ أقوى وبنحوٍ أشرف، هذا لا يمكن القول به، فليست العلاقة بين وجوده وسائر الموجودات علاقة العليّة، ليس الأمر كذلك.

كما أنّه ليست العلاقة بين وجوده وسائر الوجودات علاقة التّبعيض والتّجزئة بمعنى أنّ هذا الوجود جزءٌ من وجوده وبعضٌ من وجوده، فإنّه لا يُعْقَل التّبعيضُ والتّجزئة بين عالم الإمكان وعالم الوجوب المطلق.

فالعلاقة بين الوجود ووجوده تبارك وتعالى علاقة ابتداع، ”ابتدع الأشياءَ“ لا أنّها كامنة في ذاته ولا أنّها جزءٌ منها، ”ابتدع الأشياءَ لا من شيءٍ كان قبلها“، فالعلاقة علاقة فيضٍ وابتداع واختراع وليست العلاقة علاقة عليّة أو علاقة تجزئةٍ وتبعيضٍ، ”ابتدع الأشياءَ لا من شيءٍ كان قبلها“. هذا المعنى الأوّل الذي يمكن استجلاؤه من هذه الفقرة الشّريفة.

المعنى الثاني: تعلق الابتداع بالأشياء.

قالت: ”ابتدع الأشياءَ“ ولم تقل: ابتدع الوجودَ، أو: ابتدع الوجوداتِ، قالت: ”ابتدع الأشياءَ“ وعبّرت بصيغة الجمع، ولم تقل: ابتدع الشّيءَ، ”ابتدع الأشياءَ لا من شيءٍ كان قبلها“، وهنا حتى نصل إلى النّتيجة التي نريد إثباتها من خلال هذه الفقرة الشّريفة أنّ مفاد هذه الفقرة الشّريفة إلى عدم التّسانخ بين صور الأشياء، وذلك لأمرَيْن:

الأمر الأوّل: تعلق الابتداع بالصور.

الحكماء يقولون: شيئيّة الشّيء بصورته لا بمادّته، فإنّ المادّة الهيولائيّة مشتركة بين جميع الموجودات، إنّما التّمايز بين الموجودات بحيث يكون كلّ موجودٍ شيئًا بالصّورة سواءً كان ذلك صورة نوعيّة «كالتّمايز بين الأنواع، بين الإنسان والنّبات..» أو صورة شخصيّة «كالتّمايز بين زيدٍ وبكرٍ وعَمْرٍ..»، وعلى كلّ حالٍ فإنّ شيئيّة الشّيء التي بها يكون شيئًا مقابل غيره من الأشياء بصورته لا بمادّته، فبما أنّها قالت : ”ابتدع الأشياءَ“ فمحط النّظر في الابتداع هو عالم الصّور التي يكون بها الشّيء شيئًا، هذا هو الأمر الأوّل.

الأمر الثّاني: التعبير بلام الاستغراق.

أنّها عبّرت بالألف واللام المفيد للاستغراق، ”ابتدع الأشياءَ“ أي أنّ جميع الأشياء خضعت من حيث شيئيّتها وصورتها النّوعيّة والشّخصيّة إلى الابتداع والاختراع.

ومحصّل هذيْن الأمرَيْن نصل إلى النّتيجة، وهي أنّ مفاد هذه الجملة الشّريفة هو مفاد قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ باعتبار أنّه لمّا كانت جميعُ الأشياء مُبْتَدَعَة إذن فصورة كلّ شيءٍ تمتاز عن صورة الشّيء الآخر، إذ صورة كلّ شيءٍ مُبْتَدَعَة - أي: مُبْتَكَرَة - وليس لها شبيهٌ وليس لها سنخٌ، ”ابتدع الأشياءَ“ أي أنّ جميع الصّور التي يكون بها الأشياءُ أشياءً هي مُبْتَدَعَة ومُبْتَكَرَة، فلا يوجد تسانخٌ ولا يوجد اشتراكٌ ولا يوجد اتّحادٌ بين صورةٍ وأخرى، بل كلّ صورةٍ مخالفة ومغايرة للصّورة الأخرى.

فلأجل ذلك كان هذا من آياته جلّ وعلا، ومن دلائل عظمته جلّ وعلا أنّه برأ هذا الكون كله من دون أنْ يكون هناك شبهٌ أو تسانخٌ بين شيءٍ وشيءٍ، بل جميع الأشياء مختلفة بلحاظ صورها النّوعيّة والشّخصيّة، ”ابتدع الأشياءَ لا من شيءٍ كان قبلها“ وهذه المباينة والممايزة بين الصّور النّوعيّة والشّخصيّة التي عبّر عنها تعالى في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ دليلٌ على عظمته وإبداعه وقدرته جلّ وعلا، ”ابتدع الأشياء لا من شيءٍ كان قبلها“.

المعنى الثالث: الحدوث الذاتي للعالم.

من المعاني التي يمكن استجلاؤها من هذه الخطبة الشريفة أنْ يقال بأنّ هذه الفقرة ناظرة لحدوث العالم حدوثًا ذاتيًا لا حدوثًا زمانيًا، فهناك بحثٌ في الحكمة: هل أنّ حدوث العالم حدوثٌ زمانيٌ «أي أنّه مسبوقٌ بعدم زماني» أو أنّ حدوثه حدوثٌ ذاتيٌ «بمعنى أنّه مسبوقٌ بعدم ذاتي لا عدم زماني فشأنه أنّه عين التعلق وعين الرّبط بمبدئه تبارك وتعالى»؟

يمكن القول هاهنا - وإنْ كان هذا المعنى ليس واضحًا بنحوٍ من الوضوح كالمعنيَيْن الأوّلَيْن - أنّ الزّهراء غيّرت التّعبيرَ، فلم تقل: ابتدع الأشياءَ من لا شيء، بل قالت: ”ابتدع الأشياءَ لا من شيءٍ“ ولم تقل: ابتدع الأشياءَ من لا شيء، فتغيير التّعبير من التّعبير العدمي إلى التّعبير الوجودي - إذ لم تقل: ابتدع الأشياء من لا شيء، بل قالت: ”ابتدع الأشياء لا من شيءٍ كان قبلها“ - يحتمل أمرَيْن:

الأمر الأوّل: أنْ يكون من باب إبراز نكتةٍ بلاغيّة ليس إلا، باعتبار أنّها لو قالت: ابتدع الأشياءَ من لا شيء، لربّما ورد إشكالٌ بأنّ العدم لا يكون مادّة للوجود، فكيف يصحّ أنْ يقال: «ابتدع الأشياءَ من لا شيء» والعدم لا يصلح مادة للوجود؟! فمِنْ أجل رفع هذا المحذور غيّرت التّعبير مِنْ «لا شيء» إلى «لا من شيء»، محتملٌ.

ويُحْتَمَلُ أمرٌ آخر: وهو أنّ تغيير التّعبير: ”ابتدع الأشياءَ لا من شيء“ للإشارة إلى الحدوث الذاتي للعالم لا إلى الحدوث الزّماني باعتبار أنّه أرادت أنْ تقول بأنّ هذا العالم... لا نقصد العالمَ المادّي، إذ لا إشكال في حدوث العالم المادّي حدوثًا زمانيًا، وإنّما المقصود مبدأ الوجود، أي من أوّل صادرٍ في الوجود، وهو نور محمّدٍ وآله محمّدٍ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إلى آخر درجات الوجود التّنازليّة.

هذا الوجود بجميع عوالمه التي مرّ بها هذا الوجود لم يكن مسبوقًا بعدم زماني، وإلا لصحّ أنْ يقال: ابتدع الأشياء من العدم، أو: ابتدع الأشياء من لا شيء، بل هذا الوجود بتمام مراتبه وتمام درجاته مسبوقٌ بالسّبق الذاتي، أي أنّ الوجود الواجبي لله تبارك وتعالى سابقٌ عليه سبقَ الفيض وليس سابقًا عليه سبقًا زمنيًا، فهو كما يقول الحكماءُ: قديم الإحسان، فبما أنّ إحسانه كمالٌ من الكمالات، وهو تعالى مجمع الكمالات، فهو قديم الإحسان، وقديم الفيض، والوجود حادثٌ عنه حدوثًا ذاتيًا بمعنى أنّه متعلقٌ به تعلقَ الرّبط بطرفه وليس تعلقَ العرض بجوهره، كما يفسّره الحكماءُ ويذكره الحكماءُ في مورده.

والنّتيجة: أنّ قولها : ”ابتدع الأشياءَ لا من شيءٍ كان قبلها“ يؤكّد لنا ما ذكرناه في بداية حديثنا وهو مبدأ النّوريّة ”كلامكم نورٌ“ فكلامهم واحدٌ رغمَ اختلاف درجاته، وكلامهم يحكي عن منبع واحدٍ ولوح واحدٍ وإنْ اختلفت الصّورُ واختلفت المرايا، ”كلامكم نورٌ، وأمركم رشدٌ، ووصيّتكم التّقوى، وفعلكم الخير“.

ونحن في هذه الجامعة الشّريفة جامعة الحوزة العلميّة في قمّ المقدّسة نحن الطلبة أولى من غيرنا بأنْ نتدبّر في كلماتهم وأنْ نصهر عقولنا ونسخّر أوقاتنا ونسخّر سائرَ قدراتنا في سبيل التّأمّل والتّدبّر في كلماتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهي نورٌ ومبعث النّور إلى قلوبنا وعقولنا وأنفسنا، وبدل أنْ نشتغل بكلمات المخلوقين وأنْ نُتْعِبَ أنفسنا في تفسير كلمات بعض الشّخصيات أو بعض الأعيان أو بعض الأرقام علينا أنْ نسخّر أوقاتنا بالتّحليل والتّدبّر والتّأمّل في كلماتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإنّها النّور ومبعث النّور والزّهراء هي النّور.

هي النّورُ مِنْ نورٍ وبالنّورِ زُوِّجَتْ
فنورُ  علي  قد  غشى نورَ iiفاطمٍ
  تبارك   ربٌ  فيهما  جمعَ  iiالخيرَ
فأوْلَدَهَا    نَجْمًا    وأعْقبَهَا   بَدْرًا

نسأل الله تبارك وتعالى أنْ يرزقنا في الدّنيا رشحًا من فيض كلامها، وأنْ يرزقنا نصرتها، وأنْ يرزقنا السّير على دربِها دربِ الجهاد والنّضال دون المبادئ ودون القيم ودون المثل، وأنْ يرزقنا في الآخرة قربها وجوارها وشفاعتها صلوات الله وسلامه عليها وعلى آلها.

صلى  الإلهُ  على البتولِ وآلِها
نبويّة   الأعراق  طيّبة  iiالشّذى
ما كان يشبهها بفضلِ iiخصالِها
هي زينبُ مَنْ أشعلتْ iiبحروفِها


 
مَنْ  تشرقُ  الآياتُ في iiأقوالِها
عطرُ  الجنانِ يفوحُ مِنْ iiأذيالِها
إلا   ربيبة   فضلِها  iiوخصالِها
قبسًا يضيء على مدى أجيالِها

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

كلمة | الشيخ الأوحد في أفق الإنصاف
كلمة | مولد الإمام الحسين (ع)