1/ التأجيل المعوّض، وذلك بضمان السماء لتحقيقه عبر الدنيا أو الآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، وقال: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.
2/ والتأجيل المثمّن، وهو عبارة عن انصهار الإنسان في رضا الله وإن لم يحصل على عوض مادي، إلا أن عوضه بكونه راضيًا مرضيًا، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾.
3/ والتأجيل القيمي، وهو عبارة عن تحول الإنسان من شخصية متذبذبة إلى شخصية نورية، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، وتتجسد في هذه الشخصية مبادئ السماء، وهو أرقى أنواع التأجيل، ويرتكز على حكومة العقل الواعي على العقل الباطن بتهذيب ميوله واستثمار طاقاته عبر مبادئ، وهي: التسليم المعبر عنه بالتوكل، والتعامل مع معالم العالم المادي بحجمها الواقعي المعبر عنه بالزهد، والفناء في الله بأن يكون مظهرًا للتخلق بأخلاق الله.
وهذا التحليل والربط بين التأجيل ومبادئه هو الذي تميزت به الرؤية الدينية عن الرؤية المادية.
النوع الأول: ما كان حدثًا مستندًا لليد الغيبية محضًا دون مشاركة من النبي ، نحو إعجاز القرآن، وهو في حد ذاته ليس تحكيمًا لقانون على قانون، بل هو من قبيل التجلي لمجموعة من الوجودات المجردة الملكوتية ضمن لغة ذهنية في قلب الرسول ، وليس حدثًا في عالم الطبيعة ليكون من قبيل تحكيم قانون على قانون. قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾.
النوع الثاني: ما كان حدثًا في عالم الطبيعة استنادًا لتصرف من قبل النبي ، سواء كان فعلًا كالإسراء، أم إخبارًا عن المغيبات، ومع ذلك فليس أمرًا نسبيًا يقتدر عليه الإنسان العادي بعد التقدم العلمي، وذلك لوجهين:
أ/ أحدهما: أن تحكيم قانون طبيعي على قانون طبيعي آخر هو بتدخل عنصرين ملكوتيين لدى النبي نفسه، وهما: علمه اللدني، كما قال القرآن الكريم: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، وإرادته القدسية التي يقول عنها القرآن: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، وهذان العنصران لا يتوفران للإنسان العادي وإن ترقى في مستواه العلمي والتكنولوجي.
ب/ وثانيهما: أن الفعل الخارق يحدث دون مقدمات تدريجية وأدوات مادية حسية، بل بمجرد اتصال النفس القدسية العالمة بعالم الملكوت تفاض المعجزة بتغليب قانون على قانون آخر، بخلاف ما يقوم به البشر ولو بعد قرون، فإنه يستند للمقدمات والأدوات.
أولًا: ذكرنا في المحاضرة أن الحضارة الغربية بهويتها المادية لم تغذِ حاجات أساسية لدى الإنسان:
أ/ منها: حاجته إلى الإرشاد السماوي الذي لولاه لم يقدر الإنسان بعقله - المحدود بالتراكم المعرفي الثقافي في كل زمن بحسبه - على اكتشاف جميع الجهات الدخيلة في تحديد المصالح العامة، وكيفية تشخيصها والتوازن بينها وبين المصالح الخاصة، وهو ما أشار إليه الإمام علي في قوله: «وبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسي نعمته، وليثيروا دفائن العقول».
ب/ ومنها: حاجته لتطويق قيمة الحرية بإطار القيم الإنسانية الأخرى.
ج/ ومنها: حاجته للحضارة العادلة المبنية على مبدأ الأخوة البشرية، لا على مبدأ الفردية وخدمة الأنا المفرد.
وكل هذه الحاجات تغذيها الهوية الدينية برسوخ.
ثانيًا: إنّ الهوية الغربية المادية لا تتعامل مع الشخصية الحقيقية للإنسان المتقومة بالأبعاد الثلاثية: المادة والنفس والروح، وإنما تتعامل مع خصوص البعد المادي للإنسان، ولذلك يعيش الإنسان في الغرب غربة في الروح وآفاقها، لعدم توفير المعرفة الفطرية للإنسان ومساراتها التي تؤدي إلى الكمال الروحي.
ثالثًا: إن الهوية الغربية تجسدت في حضارة عالمية راسخة، فلذلك غذت بعض الحاجات الإنسانية المادية، وأما الهوية الدينية فهي لم تُعْطَ الفرصة للتحول إلى حضارة عالمية، فالمقارنة بين الهويتين مع عدم توفر الفرص للثانية كما توفرت للأولى ليس على طبق الميزان العلمي الموضوعي.