المعرفة القرآنية ثلاث: تدبرية، تفسيرية، وتأويلية
حلا - القطيف - 26/11/2012م
السيد منير طرح في إحدى محاضراته بيان المعرفة القرآنية بأن المعرفة القرآنية ثلاث: تدبرية، تفسيرية، وتأويلية، وعلى الرغم من عدم اقتناعي بالفرق بين التفسير والتأويل إلا أنني أسأل أسئلة تاهت في جنبات عقلي :
س1/ الفكر الإمامي يعرف عنه أنه فكر تأويلي لا يأخذ الأمور على ظاهرها في الأمور العقائدية، بينما يأخذها على ظاهرها في الأمور الفقهية، أليس ذلك ازدواجية في التعامل مع النصوص؟ أعني كيف قرر الفكر الإمامي بتأويل العقيدة والأخذ بالظاهر في الأمور الفقهية؟؟
س2/ متى نستخدم التأويل ومتى نأخذ بالظاهر؟ ولماذا؟
سؤالي الأهم:
س3/ لم الفكر الإمامي يؤول آيات وآيات يفسرها وأخرى يأخذ بظاهرها؟ على أية قاعدة؟
س4/ إذا كان التأويل لا يفهمه إلا الراسخون في العلم والتفسير يحتاج إلى أدوات لا يعلمها الكثيرون، فما بقي من الآيات للتدبر قليلٌ، ومعظمه فقهي فكيف يقرأ الإنسان العادي القران بتدبر.؟؟
 
الجواب
حدد الفكر الإمامي لكل مفردة من هذه المفردات مفهوماً، فالظهور هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن العربي العام عند سماع هذه الجملة أو عند سماع الآية كما في قوله تعالى ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا «2» فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا «3» فإن هذه السورة واضحة لدى الذهن العربي بمعانيها ومفاهيمها.
وعلماؤنا في علم أصول الفقه طرحوا أدلة وبراهين على حجية ظواهر الكتاب، بمعنى أن ما يفهمه العرف العربي من القران الكريم يصح للفقيه أن يستند إليه في الإستنباط ما لم ترد رواية معتبرة مخصصة أو مقيدة أو مفسرة للآية. وقد ذكر السيد الخوئي «قده» من الأدلة على حجية ظاهر الكتاب أن الأئمة استدلوا في عدة روايات بظواهر الآيات كاستدلال الإمام الصادق على أن المسح في الوضوء يكون ببعض الرأس لا بتمام الرأس بالآية المباركة ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ حيث قال > لمكان الباء < كما أنه «قده» ذكر أن من الأدلة على حجية ظواهر القران الروايات الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب فإنه لولا أن ظاهر الكتاب حجة لما صح أن يؤمر بعرض الأخبار عليه؛ فإن كان ظاهر الخبر مبايناً لظاهر الكتاب يسقط الخبر عن الحجية، وإن كان موافقاً لظاهر الكتاب أو مقيداً أو مخصصاً فإنه حجة.
وأما المفردة الثانية وهي التفسير فهي عبارة عن تحديد المعنى الواقعي للآية.
وهناك فرق بين حجية الظاهر والتفسير، فإن حجية الظاهر تعني أن العمل بهذا الظاهر إن أصاب الواقع كان منجزاًن وإن أخطأ الواقع كان معذّرا، فليس معنى حجية الظاهر هو أن هذا هو المعنى الواقعي للآية، بل معناه أن العمل به مجزٍ، فهذا المعنى الذي استفدناه من ظاهر الآية إن أصاب الواقعَ تنجز علينا وإلا فنحن معذورون، لا أكثر من ذلك. أما التفسير فهو عبارة عن تحديد المعنى الواقعي للآية، ولذلك يصح نسبة المعنى إلى الله تعالى بأن نقول: مقصود الله تبارك وتعالى من آية التطهير ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا هو هبة العصمة لأهل البيت يعني أن المعنى الذي حددناه ننسبه إلى الله تعالى ونقول هون مراد الله تعالى، بينما في المفردة الأولى وهي العمل بالظواهر لا نستطيع أن ننسب المعنى إلى الله، بل نقول ظاهر الآية كذا، والعمل بهذا الظاهر معذّر، أما أن هذا هو المعنى الواقعي الذي قصده الله فلا نستطيع الجزم به، وإنما نجزم به إذا استطعنا أن نجمع من أدوات التفسير ما يحدد لنا ذلك. ولذلك يتوقف التفسير على ثلاث أدوات:
1» وجود الرواية الصحيحة التي تبين لنا ما هو المعنى والمقصود الواقعي للآية المباركة.
2» الاعتماد على البراهين العقلية القطعية في تحديد معاني الآيات المباركات.
3» الجمع بين الآيات القرآنية من مختلف السور على طبق الموازين العلمية في مقام تحديد المعنى.
وأما المفردة الثالثة وهي مفردة التأويل، فقد ذكر العلماء للتأويل عدة معانٍ:
المعنى الأول: ما ذكره بعضهم من أن المقصود منه هو بيان المعنى الباطن للآية؛ إذ قد يكون للآية معنى ظاهر، ولها معنى باطن، كما لو فرضنا أن في قوله تبارك وتعالى ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ قلنا بأن المقصود بنوره هو نور الهداية، وهذا هو المعنى الظاهر، والمقصود بنوره هو نور محمد وآل محمد، وهذا هو المعنى الباطن، فإذا وردت عندنا رواية صحيحة تحدد لنا معنى باطناً للآية وراء المعنى الظاهر فهذا يسمى بالتأويل. فعلى هذا المعنى يكون المقصود من التأويل هو المعاني الباطنة التي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الروايات الصحيحة، فالتأويل يختص بالمعاني الباطنة، بينما التفسير لا يختص بها، بل قد يكون المعنى الذي نصل إليه بأدوات التفسير هو نفس المعنى الظاهر وقد يكون هو نفس المعنى الباطن.
المعنى الثاني: أن المراد من التأويل هو مغزى الآية، وبيانه أن الآية المباركة قد يكون لها معنى ويكون لهذا المعنى مغزى وهدف قُصد الوصول إليه، فتكون الآية ـ بما لها من معنى ـ لها دلالة رمزية لذلك الهدف، فيُسمى ذلك الهدف الذي ترمز إليه الآية بتأويل الآية، فمثلاً عندما نلحظ الآيات التي تعبر عن قصة موسى والخضر حيث قال له ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا يعني أن الخضر قام بمجموعة من الأفعال ترمز إلى هدف معين، عندما ذكر له الهدف من الفعل يكون قد أوّل الفعل، فالفعل له معنى وله هدف، وبيان الهدف الذي يُرمى إليه بذلك الفعل يُسمى بتأويله.
المعنى الثالث: ردّ المتشابهات إلى المحكمات، وهو المعنى الذي ذهب إليه السيد صاحب الميزان استفادة من الآية المباركة ﴿آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ حيث يقول إن المستفاد من هذه الآية هو أن التأويل هو ردّ المتشابهات إلى المحكمات، فمثلاً عندنا خمس آيات متشابهات، فعندما نرجع هذه الخمس آيات المتشابهات إلى آية محكمة فنستطيع ببركة إرجاع المتشابهات إلى الآية المحكمة أن نفهم المعنى المقصود من الآيات المتشابهات، فهذا يسمى بالتأويل، وهو ـ لغة ـ مأخوذ من الأوْل بمعنى الرجوع، آل أمر فلان إلى كذا أي رجع إليه، فالتأويل هنا المراد منه معناه اللغوي وهو إرجاع الشيء إلى أصوله وقواعده، حيث إن في القرآن الكريم آيات تتضمن قواعد كليه، كقوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وفيه آيات تتضمن تفاصيل جزئية، كقوله تعالى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وقوله ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وقوله ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فهذه كلها قضايا تتحدث عن الله تعالى بصور تفصيلية، ولذلك تُسمى بالمتشابهات، ولا يُعرف المقصود منها إلا بإرجاعها إلى آية تُشكّل قاعدة كلية وهي الآية المحكمة، فتُسمى هذه العملية بعملية التأويل.
وقد يكون المراد من التأويل جميع هذه المعاني أي ما يجمعها كلها، وبالتالي يكون الفرق بين التفسير والتأويل أن التفسير هو تحديد المعنى الواقعي للآية سواء كان هذا المعنى الواقعي هو ظاهر الآية وقد استطعنا الوصول إليه برواية أو بالقرائن العقلية أو بالجمع بين الآيات من سور مختلفة، وأما التأويل فهو عبارة عن تحديد المعنى الباطن للآية أو بيان الأهداف التي ترمي إليها بعض الآيات، أو ردّ المتشابهات إلى المحكمات. فبين التأويل والتفسير عموم وخصوص من وجه حيث يلتقيان في بعض الموارد ويفترقان في بعض الموارد الأخرى.
وأما أن الفكر الإمامي يعتمد في الفقه على الظواهر ويعتمد في العقائد على التأويل فليس صحيحاً؛ فإن الفكر الإمامي يعتمد في تحديد العقيدة إما على العقل القطعي الفطري كأصول الدين الخمسة حيث نعتمد في تحديدها على العقل، وكذلك ما يتفرع على هذه الأصول من القول بعصمة الأنبياء والأئمة، والمعاد الجسماني، وضرورة الإعجاز للأنبياء والأئمة فإن هذه الأفكار كلها متفرعة على الأصول الخمسة، فهي أفكار دليلها العقل وليس النقل. وقسم من العقائد دليلها النقل، فإذا كان دليلها النقل فإن وردت لنا رواية معتبرة غير معارضة تدل على هذه العقيدة أخذنا بها، وعندما نأخذ بها فإننا نعمل بظاهر الرواية، ولا نقوم بعملية التأويل إطلاقاً بل نستند في إثبات العقيدة على ظاهر الرواية وليس على عملية التأويل، فالمعتقدات النقلية كالأحكام الفقهية تماماً نعتمد في استفادتها واستنباطها على الظواهر وليس على التأويل، وإنما نقوم بالتأويل في خصوص القران الكريم في خصوص الآيات المتشابهات التي يكون ظاهرها الحديث عن الله عز وجل بما يستلزم التجسيم أو الحديث عن الأنبياء بما يستلزم المعصية، في خصوص هذين القسمين لمّا كان هذا الظاهر منافياً لحكم عقلي قطعي وهو أن الله ليس بجسم، وأن النبي يجب أن يكون معصوما قمنا بتأويل الآيات؛ لوجود الحكم العقلي القطعي على خلاف ظواهرها، لا أن التأويل عندنا منهج في العقائد، إنما التأويل نرتكبه في خصوص هذين القسمين من الآيات القرانية.
س4/ إذا كان التأويل لا يفهمه إلا الراسخون في العلم والتفسير يحتاج إلى أدوات لا يعلمها الكثيرون، فما بقي من الآيات للتدبر قليلٌ، ومعظمه فقهي فكيف يقرأ الإنسان العادي القران بتدبر.؟؟
آيات القران الكريم على أقسام، فقسم يتحدث عن الأحكام الفقهية، وهذه نعتمد فيها على التدبر والأخذ بالظاهر ما لم ترد عندنا رواية مقيدة أو مخصصة أو مفسرة، وقسم من الآيات القرآنية يتحدث عن تنظيم السلوك الفردي والسلوك الاجتماعي، وهي الآيات التي تتحدث عن القيم والأخلاق، وتتحدث عن الموعظة والعبرة، وتتحدث عن أطوار الإنسان وحالاته السلوكية والنفسية، وكل هذا القسم نعتمد فيه على الظاهر والتدبر، وقسم من الآيات تتحدث عن الطبيعة، كعالم الفلك والسماء، وكالعالم الباطني للإنسان، وفي هذه الآيات حيث لا يمكن أن يصل إليها بعقله فيحتاج إلى مادة علمية لكي يفهم أسرار الطبيعة وأسرار حقيقة الإنسان، وقسم من الآيات يتحدث عن التاريخ منذ يوم آدم وإلى يوم النبي الأعظم ومن الطبيعي أننا نحتاج إلى مادة تاريخية لفهمه، وقسم من الآيات هو الآيات المتشابهة التي تتحدث عن الحقيقة الإلهية أو الحقيقة النبوية وهنا حيث إن هتين الحقيقتين مجهولتان لدينا بتمام تفاصيلهما نعرف عنهما مقداراً ونجهل الكثير، لذلك نحتاج إلى الرجوع إلى الراسخين في العلم وهم أهل بيت العصمة والطهارة.
إذن فهناك عدة أقسام متاحة للتدبر والتأمل والأخذ بالظاهر، وليس ذلك قسماً قليلاً ونادراً في القران الكريم.
السيد منير الخباز
أرسل استفسارك