القرآن الكريم بين التفسير والتأويل

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في ثلاث نقاط:

  • بيان منشأ التشابه في القرآن الكريم.
  • بيان الفرق بين التفسير والتأويل.
  • بيان أقسام التفسير.
النقطة الأولى: منشأ التشابه في القرآن الكريم.

نلاحظ الآية المباركة صنّفت الآيات القرآنية على صنفين: آيات محكمات، وآيات متشابهات، فكيف نشأ هذا التصنيف: محكم ومتشابه؟ حتى نفهم نشأة هذا التصنيف لا بد من التعرف على نقطة دقيقة جدًا في القرآن الكريم، وهي أن القرآن الكريم مرَّ بمرحلتين لا مرحلة واحدة: مرحلة الإحكام والجمع، ومرحلة التفصيل والتفريق، وهذا ما صرحت بها الآيات القرآنية نفسها، كقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وقوله: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا أي أنه كان مجموعًا لا متفرقًا، فخرج من مرحلة الجمع إلى مرحلة التجميع، وفي آية ثالثة تتحدث عن هاتين المرحلتين يقول تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هذا هو التنزيل، وهذه هي المرحلة الثانية، ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ، أي أن هناك مرحلة للقرآن قبل مرحلة التعريب والصياغة اللفظية، وهذه المراحل تحتاج إلى بيان، فما معنى هذا الكلام؟

القرآن الكريم كان مجموعة من المعارف العامة عن الوجود وعن الله وعن الكون وعن الإنسان وعن الحياة والموت، وبعد ذلك لما أراد الله «تبارك وتعالى» وشاءت الحكمة الإلهية تنزيل القرآن على النبي محمد دخل القرآن المرحلة الثانية، فخرج من كونه معارف عامة إلى كونه معارف مفصلة، أي أن تلك المعارف العامة أمرت اليد الإلهية بصياغتها صياغة لفظية عربية وتفصيلها إلى آيات وسور وإلى مكي ومدني، فنزلت بهيئة مفصلة على النبي. قبل أن تنزل وقبل أن تأتي هذه المرحلة لم يكن القرآن هكذا، أي أنه لم يكن آيات وسورًا ولفظًا عربيًا ومعارف مفصلة، بل كان القرآن معارف عامة غير ملفوظة، وغير مصبوبة في قوالب لفظية، وغير مفرقة، وغير مجزأة، وبعد ذلك لما وصل القرآن إلى مرحلة التنزيل خرج من مرحلة الإحكام إلى مرحلة التفصيل.

لذلك القرآن الكريم يعبر عن المرحلة الأولى - مرحلة الجمع - باللوح المحفوظ، ويعبر عنها بالكتاب المكنون، ويعبر عنها بأم الكتاب، حيث كان القرآن معارف عامة ليس إلا، فيقول: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، ويقول: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، ويقول: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. إذن فبالنتيجة: القرآن مر بمرحلتين: مرحلة الإحكام، وأنه معارف عامة فقط، ومرحلة التفصيل، وهي مرحلة صياغة القرآن صياغة لفظية على شكل آيات وسور، توزيع المعارف إلى معارف تفصيلية.

في هذا الوقت - وقت تنزيل القرآن وتفصيله - نشأت ظاهرة التشابه، فانقسام القرآن إلى محكم ومتشابه انقسام نشأ على القرآن وقت تنزيله، ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وفي وقت إنزاله انقسمت الآيات إلى محكم ومتشابه ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ. إذن ظاهرة التشابه ظاهرةٌ اتصف بها القرآن في مرحلة التنزيل، لا عندما كان القرآن في مرحلة الإحكام، لا عندما كان القرآن في مرحلة الجمع، وإنما عندما وصل القرآن إلى مرحلة التنزيل انقسم إلى محكم ومتشابه، ولكن كيف انقسم؟

التشابه والإحكام ليس ناشئًا عن قصور في القرآن، وإنما ناشئ عن قصور عندي أنا المتلقي للقرآن، فإن العقل البشري عندما تلقى القرآن انقسمت الآيات - نتيجة لقصور العقل - إلى محكم ومتشابه، فليس الانقسام راجعًا للقرآن نفسه، بحيث يكون هذا عيبًا في القرآن أو إشكالاً عليه.

ما هي فلسفة وجود المتشابه في القرآن؟

قد يستشكل مستشكل ويقول: كيف يجعل القرآن قسمًا كبيرًا من آياته متشابهات، مع أن المتشابه موجب للفتنة؟! هذا يعني أن القرآن يغري الناس بالفتنة! القرآن كتاب هداية، كما قال: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وكتاب الهداية لا يناسب معه وجود متشابهات في الكتاب؛ لأن وجود الآيات المتشابهة يمنع من الوصول للهدف، ويمنع من الوصول للغرض؛ إذ أن وجود الآيات المتشابهة يكون طريقًا للفتنة، ويكون طريقًا للزيغ، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فوجود التشابه يقود للفتنة وللزيغ، فلماذا جُعِلَت في القرآن آيات متشابهات مع أنه كتاب هداية؟!

الجواب هو ما ذكرناه: هذا الانقسام الذي نراه - أي: انقسام الآيات إلى محكمات ومتشابهات - ليس انقسامًا في القرآن، بل هو انقسام عند عقل البشر، أي أن العقل الذي تلقى القرآن تلقاه محكمًا ومتشابهًا، وما استطاع العقل أن يتلقاه على نسق واحد، وهذا معنى دقيق يحتاج شرحًا.

القرآن الكريم - كما شرحنا - مر بمرحلتين: مرحلة الإحكام، حيث كان مجموعة من المعارف العامة، ومرحلة التفصيل، حيث صاغته اليد الإلهية صياغاتٍ لفظيةً، وجعلته سورًا وآياتٍ، وأنزلته على النبي محمد ، فهنا نتيجة المرحلة الثانية - وهي مرحلة التفصيل والتفريق - نشأ التشابه في القرآن، وذلك لعاملين: أولهما هو عامل التفصيل نفسه، والعامل الآخر هو عامل اللفظ.

العامل الأول: عامل التفصيل.

المعارف مادامت عامة فهي محكمة، وعندما تفصّل يكون التفصيل مدعاة للتشابه، فمثلاً: قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ آية عامة تقول بأن الله لا يُدْرَك بالأبصار، فهي آية محكمة، ولكن عندما نأتي لآيات التفصيل التي تتحدث عن الله بتفصيل وتفصّل هذه المعرفة العامة نجد التشابه موجودًا، كما في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، هذه معرفة جزئية وليست معرفة عامة؛ إذ أنها تتحدث عن رؤية الله في موقف معين، وكذلك قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. لما دخلت الآيات في التفاصيل الجزئية حصل التشابه: كيف يأتي الله؟! كيف يستوي إلى السماء؟! كيف استوى على العرش؟! كيف تنظر إليه الوجوه؟!

إذن حصل التشابه نتيجة التفصيل، وإلا فإن الآية التي تتضمن المعرفة العامة - كقوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ - آية محكمة، كذلك قوله: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، وقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وهكذا هي جميع الآيات التي تتضمن معارف عامة، فإنها آيات محكمة، بينما الآيات التي فصّلت هذه المعارف ودخلت في الجزئيات والتفاصيل حصل التشابه نتيجة التفصيل.

والتشابه - كما قلنا - ليس في القرآن نفسه، بل في العقل البشري، أي أن العقل البشري ما كان قادرًا على استيعاب هذه التفاصيل ومعرفة كنهها وواقعها، وإلا فإن هذه التفاصيل في علم الله واضحة، وإنما العقل البشري نتيجة قصوره ومحدوديته صار عاجزًا عن استيعاب هذه التفاصيل، فحصل التشابه عنده، فالتشابه ليس وصفًا في القرآن، وإنما هو وصف عند العقل نفسه، حيث صارت الآيات أمام العقل - نتيجة لقصوره ونتيجة لعجزه - على قسمين: محكم، وهو ما يتضمن المعارف العامة، ومتشابه، وهو ما دخل في تفاصيل هذه المعارف، ونتيجة عجز القرآن عن استيعاب التفاصيل حصلت ظاهرة التشابه في آيات القرآن الكريم.

العامل الثاني: عامل اللفظ.

هذه المعلومة الإلهية قبل أن تصاغ صياغة لفظية هي معلومة محكمة، ولكن لما صيغت هذه المعلومة صياغة لفظية عربية - كما قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - نشأ التشابه، أي أن التشابه نشأ عن طبيعة اللفظ، إذ أن اللفظ العربي لفظ ضبابي مرن، فمثلاً: اليد في قوله: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ تحتمل معاني، فقد تكون اليد هي اليد الحسية، وقد تكون القدرة والقوة، فاليد تحتمل المجاز وتحتمل الحقيقة، وتحتمل الكناية، وتحتمل الاستعارة، فاللفظ العربي نتيجة مرونته واحتماله لعدة معان حصل التشابه في القرآن الكريم، فالتشابه ليس وصفًا موجودًا في القرآن، بل هو وصف حصل في القرآن نتيجة في العقل نفسه، ونتيجة من تلقاه، وليس وصفًا ذاتيًا للقرآن.

إذن شرحنا كيفية حصول التشابه ومنشأ حصوله، فعندما يقال: لماذا حصل التشابه في آيات القرآن؟ نقول: لعاملين: عامل التفصيل، وعامل اللفظ، ونتيجة هذين العاملين حصل التشابه في آيات القرآن بالنسبة لمن تلقاه وبالنسبة لمن استقبله، ألا وهو العقل البشري، فنحن عندنا آيات متشابهة، ولكن..

كيف نعالج ظاهرة التشابه؟

نعالج ظاهرة التشابه برد المتشابه إلى المحكم، إذ أن هناك آياتٍ عامةً عبرنا عنها بالمحكمات، وهناك آيات مفصلة عبرنا عنها بالمتشابهات، وهذه الآيات المفصِّلة التي حصل التشابه فيها - نتيجة عامة التفصيل أو نتيجة عمل اللفظ - حتى ترفع التشابه منها ترجعها للآيات المحكمة. لذلك نجد القرآن دقيقًا، حيث عبّر عن الآيات المحكمة بأنها أم الكتاب، والأم بمعنى المرجع، أي أن الآيات المحكمة هي مرجع الكتاب، ولذلك القرآن يعبّر عن مكة بأم القرى، حيث يقول: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، أي أن مكة هي مرجع القرى التي يرجع إليها كل القرى، فالأم هي المرجع.

كذلك هو القرآن، إذ فيه آيات تتضمن معارف عامة، وهي الآيات المحكمة، وهذه الآيات هي مرجع القرآن، ولذلك قال: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي أنهن مرجع الكتاب، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وهي الآيات المفصِّلة التي تتكلم عن التفاصيل، فإذا أردت معرفتها فأرجعها إلى أمها، أي: أرجعها إلى الآيات المحكمة تعرف التشابه منها. مثلاً: قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، هذا تشابه، إذ لا يُعْقَل النظر إلى الله؛ لأن النظر يستدعي محدودية المنظور، فلا يمكن النظر لغير المحدود، بل يجب أن يكون المنظور محدودًا بجهة وبمكان معين، والله لا يحده مكان ولا تحده جهة، فإذن الله لا يمكن النظر إليه، ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، فكيف قالت الآية: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ؟!

هذا متشابه، فإذا أرجعناه إلى المحكم عرفنا معناه، وإذا أرجعناه إلى المحكم عرفنا أن النظر هنا ليس نظرًا للذات، بل هو نظر لمظاهر الذات وتجلياتها، كما في قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، ماذا رأى الفؤاد؟ هل رأى الله؟! ﴿لقد لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، فقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني إلى آيات ربها وإلى مظاهر رحمة ربها لا إلى الذات، وقد فهمنا هذا برد المتشابه إلى المحكم.

النقطة الثانية: ما هو الفرق بين التفسير والتأويل؟

التفسير هو تحديد المعنى، فإذا حدّدنا معنى الآية بالقرائن أو بالروايات مثلاً فقد فسّرنها، فمثلاً: الله تعالى يقول: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، فما معنى اليد؟ هل هي من الذراع أم من الكف أم من أطراف الأصابع؟ الآيات تحتاج إلى تفسير وإلى تحديدٍ للمراد. من أين تقطع اليد؟

الإمام الصادق في محاجته مع سفيان الثوري قال له: من أين اليد؟ قال له الإمام: من الأصابع، أي أن الأصابع الأربعة هي التي تقطع في حال السرقة، فقال له: هذه الكف يد فلم لا تقطعون الكف؟ قال له الإمام: أو لم تقرأ قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا؟! المساجد ليست هذه المساجد التي نصلي فيها، بل المقصود بالمساجد مساجد البدن السبعة، وهي: الجبهة والكفان والركبتان والرجلان، وهذه المساجد جُعِلَت لله «تبارك وتعالى»، فالكف مَسْجَد من المساجد، وبما أنها مسجد من المساجد، والمسجد يجب أن يكون لله، إذن لا تُقْطَع الكف؛ لأنها جُعْلَت للسجود لله، فتقطع الأصابع فقط. إذن هذا تحديدٌ للمراد من الآية، فنسميه بالتفسير.

وأما التأويل فهو مرتبط بالنقطة الأولى التي شرحناها، والتي كانت نقطة دقيقة جدًا. التأويل هو إرجاع التنزيل للإحكام، إذ أن كلمة التأويل لغة من الأَوْل، فالتأويل هو إرجاع الشيء إلى ما يؤول إليه، أوّل هذا الشيء أي أرجعه إلى ما يؤول إليه. نحن ذكرنا أن القرآن مر بمرحلتين: مرحلة إحكام، حيث كان مجرد معارف عامة فقط، ولم يكن فيه صياغة لفظية ولا آيات ولا سور ولا تفصيل، بل كان مجرد معارف عامة، فالمرحلة الأولى التي مر عليها القرآن - وهي مرحلة الإحكام - والمرحلة الثانية التي مر بها هي مرحلة التنزيل، حيث صار لفظًا وآياتٍ وسورًا وصار مفصلاً في المعارف، فإذا أراد الإنسان معرفة حقيقة التنزيل فلا بد من إرجاعه إلى مرحلة الإحكام.

هذا القرآن كله حتى نعرف حقيقته وواقعه ونصل إلى البطن.. كما ورد عن الرسول محمد : ”إن للقرآن ظهرًا وبطنًا، وإن للقرآن سبعين بطنًا“، فما معنى البطن؟ البطن هو الحقيقة وواقع المعنى، فكيف نصل إلى واقع المعنى؟ هل نصل إليها بظواهر هذه الآيات؟! هذه الآيات كلها تفصيل وتنزيل، فإذا أردنا معرفة واقع المعنى لا بد من إرجاع هذا التنزيل كله إلى مرحلة الإحكام، أي أن من أراد أن يصل إلى باطن المعنى لا بد من أن يكون من أهل المعرفة بالمرحلة الأولى التي مر بها القرآن، وهي مرحلة الإحكام، وأما إذا لم يصل إلى هذه المرحلة - مرحلة الإحكام - فمن المستحيل أن يصل إلى باطن القرآن، إذ أن باطن القرآن بتأويله، بمعنى إرجاعه إلى المرحلة التي كان فيها قبل أن ينزل على النبي ، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. قبل أن ينزل القرآن على النبي كان في اللوح المحفوظ في مرحلة الإحكام، فإذا أراد الإنسان معرفة تأويل القرآن فعلاً وأراد معرفة واقع بطون القرآن فلا بد من إرجاع هذا القرآن والتنزيل كله إلى المرحلة الأولى، وهي مرحلة الإحكام، حتى تطلع على باطنه.

ولذلك قالت الآية المباركة: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، أي أن الذين اطعلوا على المرحلة الأولى يستطيعون تأويل القرآن، وإلا فلا. إذن هناك فرق بين التفسير والتأويل، إذ أن التفسير هو تحديد معنى الآية المنزلة على النبي، وأما التأويل فهو إرجاع القرآن المنزّل إلى مرحلة الإحكام التي كان عليها القرآن قبل أن ينزل على النبي . ولذلك اختص التأويل بالله والراسخين في العلم، فمن هم الراسخون في العلم؟

القرآن هو نفسه يفسّر بعضه بعضًا، ففي هذه الآية يقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وفي آية أخرى يقول: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ أي أنه في مرحلة الإحكام ﴿لَا يَمَسُّهُ وليس المس هو اللمس، بل المس هو النيل، والضمير لا يرجع إلى القرآن، بل يرجع إلى الكتاب المكنون، أي: لا يمس ذلك الكتاب المكنون - الذي هو مستودع القرآن وأمه - ولا يناله ولا يصل إليه ﴿إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فالمطهرون هم الذين ينالون أصل الكتاب المكنون، ويطلعون على مرحلة الإحكام والجمع في القرآن الكريم، فينالون القرآن وهو في أم الكتاب، وينالون القرآن وهو في اللوح المحفوظ، وينالون القرآن وهو في الكتاب المكنون، فمن هم المطهرون؟ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. إذن القرآن يفسّر بعضه بعضًا، فعرفنا أن الذين يعرفون تأويل القرآن، وينالون حقائق وبواطن القرآن، هم أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

النقطة الثالثة: أقسام التفسير.

بعد أن عرفنا الفرق بين التفسير والتأويل نأتي إلى أقسام التفسير، وهي ثلاثة أقسام: التفسير العلمي، والتفسير بالعقل، والتفسير بالنقل.

القسم الأول: التفسير العلمي.

هو أن نستند في تفسير الآية إلى الحقائق العلمية، فمثلاً: أنت تقرأ قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ، هذه الآية تستوقف الإنسان: لماذا قال كلما نضجت جلودهم؟ لماذا لم يقل: كلما نضجت أجسامهم؟ لماذا لم يقل: كلما نضجت لحومهم؟ عندما نرجع إلى الحقيقة العلمية نجد علم وظائف الأعضاء يقول: مركز الألم هو الجلد، فلو أصيب شخص بحروق عميقة - لا سمح الله - بحيث ينسلخ الجلد كله من بدنه فإنه لا يحس بألم أبدًا، ولو وُخِزَ بإبرة مثلاً لما شعر بألم الإبرة؛ لأنه لا جلد له.

إذن مركز الألم هو الجلد، وبما أن مركز الألم هو الجلد.. لاحظ دقة القرآن في التعبير. القرآن لم يجعلهم في النار حتى يفرحوا! بل جعلهم في النار حتى يذوقوا ألم العذاب، وإنما يذوقونه بواسطة الجلد، ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ، أي: حتى يشعروا بالألم جيدًا، فهذا تفسير علمي للقرآن، أي أنه استنادٌ للحقيقة العلمية.

كذلك عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، ولم يقل: يسبحان، أي أن مسألة جمع وليست مسألة اثنين فحسب، فأين هو الجمع؟! الشمس واحد والقمر هو الثاني، فأين الثالث الذي يسبح؟! عرفنا أن الشمس لها مسار معين تسبح فيه، والقمر أيضًا له مسار معين تسبح فيه، ولذلك لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر، ولكن الليل والنهار لا يسبحان، فكيف يقول القرآن: يسبحون؟! الليل لا يسبح، والنهار لا يسبح، وإنما الذي يسبح هو القمر، أي أن له مسارًا، وكذلك الشمس لها مسار، ومع ذلك استخدم الجمع لا التثنية، فأين هو ثالثهما؟!

الليل زمن، والنهار زمن، والزمن ليس له واقعية، بل هو - كما يقول الفلاسفة - خط وهمي ترسمه الحركة، فلا يوجد شيء في الخارج اسمه الزمان، فليس للزمان واقعية، وإنما هو خط موهوم ترسمه الحركة، أي أن هذه الحركة عندما تتحرك ترسم لنا خطًا في ذهننا نعبر عنه باليوم والأسبوع والسنة... إلخ، فالزمان خط موهوم ترسمه الحركة، وإلا ففي الخارج لا يوجد إلا الحركة والمتحرك، فلا يوجد شيء في الخارج غير الأرض وحركتها نعبّر عنه بالزمان، فكيف يسبح الليل والنهار؟!

إذن ﴿وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ رمزٌ للأرض المتحركة، أي أن هذه الآية رمزٌ لحركة الأرض، فالشمس تسبح، والقمر يسبح، والليل والنهار كناية عن الأرض، وعلى ذلك فالأرض تسبح، وهذا يعني أن الأرض متحركة، فهذا التعبير ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ إشارة علمية إلى حركة الأرض، وهذا ما نعبّر عنه بالتفسير العلمي.

القسم الثاني: التفسير بالعقل.

أنت تقرأ قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى «1» أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى «2» وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «3» أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى «4» أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى «5» فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى «6» وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى «7» وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى «8» وَهُوَ يَخْشَى «9» فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، ويأتيك شخص ويقول لك: هذه الآية نزلت في النبي محمد!! هل تقبل ذلك بعقلك؟! دع عنك كل شيء، وكن مع العقل فقط، فهل تقبل نزول هذه السورة في النبي؟! أنت عقلك كمسلم لا يقبل هذا التفسير؛ لأن القرآن يذمه ذمًا بشعًا، وليست المسألة مسألة عبوس فحسب، بل هي مسألة ركض وراء الأغنياء، وابتعاد عن الفقراء، ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى «5» فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى «6» وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي أنك تمشي وراء الغني غير مكترث باستقامته، فمادام غنيًا فأنت خلفه! ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى «8» وَهُوَ يَخْشَى «9» فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي أنك تبتعد عن الفقير لأنه فقير، فهذا إنسان يركض وراء الأغنياء ويبتعد عن الفقراء، فكيف نقبل ذلك في حق النبي؟!

هذا مناقضٌ لكلام القرآن نفسه حيث يقول: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، كان النبي إنسانًا حنونًا على الأمة يفيض عطفًا على الناس، وكان يحبهم، ويبتسم للقريب والبعيد، ويقوم للقريب والبعيد، ويحتضن القريب والبعيد، ويبذل حنانًا وعطفًا ورحمة، فأين الرأفة والرحمة في الركض وراء الأغنياء والابتعاد عن الفقراء؟! أين قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ؟! وأين قوله: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ؟! أين قوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟! كيف نقول بأن الرسول لم يكن يخفض جناحه، بل يتلهى عنهم ويعرض عنهم لمجرد كونهم فقراء!

إذن عندما نقرأ هذه الآيات نجد أن القرآن يرسم شخصية النبي كشخصية عملاقة في قمة الخلق، وفي قمة الرحمة، وفي قمة الحنان، فكيف يناسب هذه القمة أن يعبس وأن يعرض عن الفقراء وأن يجري وراء الأغنياء؟! إذن أنت بعقلك وحده - ومن غير أن يقال لك شيء - تقول: هذه الآيات ما نزلت في النبي المصطفى محمد ، وإنما نزلت في رجل كان مع النبي، وكان الرجل يعد وجيهًا من وجهاء الصحابة، ولذلك استحق أن يخاطَب أو يُلْفَت، فالخطاب للنبي، إلا أنه من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة»، وهذا ما نعبر عنه بأنه تفسير بالعقل.

القسم الثالث: التفسير بالنقل.

أي: التفسير اعتمادًا على الرواية الواردة عن النبي أو عن الإمام المعصوم، فمثلاً: زرارة بن أعين - أحد أصحاب الإمام الصادق - كان فقيهًا من فقهاء الشيعة، لكنه قبل أن يتفقه على يد الإمام الباقر والصادق كان متأثرًا بفكر العامة، أي: كان متأثرًا بفكر المذاهب الأخرى، فجاء إلى الإمام الصادق، وقال له: سيدي، من أين علمتَ أن المسح ببعض الرأس؟ توضأ الإمام أمامه ومسح على مقدمة رأسه، فسأله زرارة: من أين هذا؟ لماذا لا تمسح الرأس كله؟! وكان زرارة يريد دليلاً من القرآن على أن المسح على بعض الرأس لا على تمام الرأس.

الإمام أجابه، فقال: اقرأ قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فعرفنا أن الغسل كله يُغْسَل، ثم قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ ولو لم يقيّد لغسلنا اليد كلها، ولكنه قيّد فقال: ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ، فالوجوه لم يقيدها، ولذلك غسلنا الوجه كله، ولكن لما وصل إلى اليد قيّد الغسل بحد المرافق، ولما جاء إلى الرأس قال: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ، ولو كان يريد مسح الرأس كله لقال: امسحوا رؤوسكم! هو ألا يفهم؟! ألا يعرف كيف يعبّر؟! ألا يعرف كيف يختار العبارة الصحيحة؟! إذا كان يريد مسح الرأس كله فكما قال: واغسلوا وجوهكم، لقال: وامسحوا رؤوسكم، ولكنه أراد أن يلفت النظر إلى الوجه يغسل كله، وأما الرأس فلا يمسح كله، فاستخدم الباء، والباء باء التبعيض، أي: بعض رؤوسكم، فعلمنا أن المسح على بعض الرأس وليس على تمامه.

إذن هذا التفسير تفسيرٌ بالنقل، وقد ورد عن الإمام الصادق ، وهم أهل التفسير، والكتاب يُعْرَف منهم، فهم العارفون بحقيقة القرآن، وهم العارفون بواقع القرآن.

ساووا   كتابَ   الله   إلا  iiأنه   هو صامتٌ وهم الكتاب الناطقُ

قتادة دخل على الإمام الباقر ، فقال له: يا قتادة، بلغني أنك تفسر القرآن! قال: بلى، فقال: ”إن كنتَ تفسّره من قِبَل نفسك فقد هلكتَ وأهلكتَ، وإن كنتَ تفسّره من قِبَل الرجال فقد هلكتَ وأهلكتَ. إنما يعرف القرآنَ من خوطب به، وما هو إلا عند الخاصة من ذرية نبينا محمد ، وما ورّثك الله من كتابه حرفًا“. أنت لا تفهم حتى حرفًا واحدًا! فأهل البيت أعرف بالكتاب، وهم عِدْل الكتاب، ”فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض“، ولذلك لا ينفصل أهل البيت عن الكتاب، ولا ينفصل الكتاب عن أهل البيت، بل أهل البيت دائمًا مع الكتاب، والكتاب معهم، يتلونه ويقرؤونه ويرتلونه في أحرج اللحظات، وفي أحرج المواقف، ولذلك تراه رأسًا مفصولاً عن الجسد، وهو مع ذلك يتلو الكتاب.