الدرس 64

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

من فروع «مسألة القبلة»: المسألة الثامنة، بحسب ترتيب سيّد العروة، قال «قده»:

المسألة الثامنة: «إذا ظنّ بعد الاجتهاد أنّها في جهة فصلّى الظهر إليها، ثم تبدلّ ظنّه إلى جهة أُخرى، وجب عليه إتيان العصر إلى الجهة الثانية. وهل يجب إعادة الظهر أو لا؟. الأقوى: وجوبها، إذا كان مقتضى ظنّه الثاني وقوع الأولى مستدبراً أو إلى اليمين أو اليسار. وإذا كان مقتضاه وقوعها ما بين اليمين واليسار: لا تجب الإعادة».

أفاد سيدنا: أنّ البحث يعتمد على تحليل عنوان التحري الوارد في صحيحة زرارة حيث ورد فيها: «يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة». فهل التحرّي ملحوظ على نحو الموضوعية أم على نحو الطريقية أم أنّه تنزيل في مقام الامتثال؟.

التصور الأول: أنّ التحرّي ملحوظ على نحو الموضوعية، أي: أنّ التحرّي لجهة القبلة موضوع إلى الصلاة إلى تلك الجهة وافقت أم خالفت؛ فبناءً على ذلك: يكون التحرّي مأخوذاً في وجوب الصلاة على نحو الموضوعية، وهذا يعني أنّ المكلّف إذا تحرّى في صلاة الظهر وشخّص أنّ القبلة في الشرق، ولكن عندما تحرّى لصلاة العصر شخّص أنّ القبلة في الغرب. فكل من الصلاتين صحيحة... فما صلّاه ظهراً لا يجب إعادته عندما تحرّى جهة أخرى في العصر.

التصور الثاني: أنّ التحرّي ملحوظ على نحو الطريقية المحضة فالمدار على القبلة الواقعية والتحرّي مجرد طريق لا أكثر. فبناءً على ذلك: إذا تحرّى ثانية بعد صلاة الظهر وشخّص أنّ القبلة جهة أخرى فهو بتحريه الثاني يُخطّئ تحريه الأول وأنّ الصلاة التي صلاها قد صلاها مستدبراً أو إلى أقصى اليمين أو اليسار. فمقتضى ذلك: وجوب إعادة الظهر إلى الجهة الثانية.

التصور الثالث: أحدثه السيد الخوئي من بين كلمات الاعلام، قال: «ثالثها: لا هذا ولا ذاك، - أي لا على نحو الموضوعية ولا على نحو الطريقية - وإنّما هو من باب الاكتفاء بالامتثال الظني من غير نظر إلى اللوازم الأُخر ليقتضي فساد ما صدر بموجب الاجتهاد الأول، فهو طريق في مقام الامتثال وتطبيق العمل عليه فحسب».

ومحصّل كلامه: أنّ التحرّي ليس إمارة لا على نحو الموضوعية أو الطريقية، وإنّما هو تنزيل ظاهري في مقام الامتثال؛ مثلاً: لو وجب على المكلّف صلاة الظهر فصلّى، وبعد الفراغ شكّ في أنّه ترك ركناً أم لا؟! فأجرى قاعدة الفراغ في صلاته، فالصلاة التي جرت فيها قاعدة الفراغ، نقول عنها بأنّها: تنزيل ظاهري في مقام الامتثال، أي: أنّ الشارع نزّل مجرى قاعدة الفراغ منزلة الامتثال اليقيني، لا أنّ قاعدة الفراغ إمارة كي نبحث هل أنّها ملحوظة على نحو الموضوعية أم الطريقية؛ بل نقول: أنّ مجرى قاعدة الفراغ امتثال تنزيلي في مرحلة الظاهر من دون أن يكون لهذا التنزيل لوازم، لأنّه ليس إمارة كي تكون حجة في مثبتاتها ولوازمها بل هي مجرد أصل عملي وإن كان محرزاً - أي تنزيلياً -.

كذلك الامر في المقام: وهو أنّه من تحرّى القبلة عند الظهر وشخّص أنّها شرط ثم تحرّى القبلة عند العصر وشخّص أنّها غرب أو شمال، فحينئذٍ: ليس التحرّي إلّا أنّ الشارع قال أن الصلاة المتحرى قبلتها امتثال تنزيلي في مرحلة الظاهر من دون نظر إلى اللوازم.

فبناءً على الاحتمال الثالث: هل تكون الوظيفية إعادة ما صلّاه ظهراً إلى الجهة المتحرّى بها ثانياً؟ أم الاكتفاء والإتيان بصلاة العصر فقط؟!.

فهنا أفاد: فقال: قد يقال بفسادها - أي الظهر - نظراً إلى العلم الاجمالي ببطلان إحدى الصلاتين. قال «قده»: «وقد يقال بفساده ولزوم إعادة الأُولى على هذا المبنى أيضاً، نظراً إلى العلم الإجمالي ببطلان إحدى الصلاتين. بل التفصيلي ببطلان‌ الثانية في المترتبتين، إما لفقد الاستقبال أو لعدم رعاية الترتيب، فلا مناص من إعادة الاولى فراراً عن مخالفة العلم المذكور».

ثم أضاف عبارة غامضة، قال: «فإنّها - أي لزوم الإعادة - مدلول التزامي لما دلّ على وجوب الاجتهاد، وإن لم يكن من لوازم نفس الاجتهاد».

ومقصوده من هذه العبارة: أنّ الدليل الدال على كفاية التحرّي كما في صحيحة زرارة «يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة»، لهذا الدليل مدلول التزامي وهو: إذا تحرّى القبلة في جهة فما أتى به من عمل إلى جهة أخرى فهو باطل، كما لو دفن ميتاً أو صلّى، فإنّ أي عمل رتبّه على غير ما تحرّى فهو باطل، وهذا مدلول التزامي لنفس دليل «يُجزي التحري»، وليس مدلولاً لنفس التحرّي فإنّ التحرّي الخارجي مجرد أصل عملي وليس حجة في لوازمه، إلّا أنّ الدليل الدال على الاجتزاء بالتحرّي من الأمارات فهو حجة في لوازمه، ومن أنّ من مداليله الالتزامية وجوب الإعادة نحو أي عمل لأي جهة غير ما تحرّى، فلابد من الإعادة.

ثم أشكل السيد الخوئي على هذا الكلام: «وفيه: أنّه لو صح ذلك كان مقتضاه إعادة الثانية أيضاً إلى الجهة التي اجتهد فيها أوّلًا، لعين المناط الذي من أجله أعاد الاولى، أعني العلم الإجمالي المزبور الذي مرجعه لدى التحليل إلى العلم إجمالًا ببطلان أحد الاجتهادين، فلابُّد من إيقاع كل من الصلاتين بكل من الطرفين تحصيلاً للفراغ اليقيني، ولا تكفي إعادة الأولى بمجردها كما لا يخفى. لكن الذي يهوّن الخطب أنّ الاحتمال الأخير بعيد عن ظاهر الدليل بحسب المتفاهم العرفي جدّاً، بل المنسبق منه إنّما هو الاحتمال الثاني، أعني: الطريقية المحضة كسائر الطرق المعتبرة المستلزمة لترتيب جميع الآثار التي منها إعادة الاولى حسبما عرفت».

ويلاحظ على ما أُفيد:

أنّه لا يمكن الجمع بين الجهتين. فإمّا أن نقول: بأنّ لدليل التحري مدلول التزامياً وهو بطلان الآثار التي رتّبها على تحريه الأول، فإن كان لدليل التحرّي هذا المدلول الالتزامي وهو حجة فقد انحل العلم الاجمالي حكماً، نظير: أيّ علم إجمالي آخر تقوم حجة في أحد طرفيه بلا معارض؛ نظير: ما لو ترددت القبلة بين جهتين وقام خبر ثقة على أنّ القبلة في جهة من الجهات. فإنَّ العلم الاجمالي ينحل حكماً، فإذا التزمنا بأنّ لدليل التحرّي مدلولاً التزامياً وهو: أنّ كل عمل أتى به على طبق الجهة الأولى التي أتى بها فهو باطل، فإذاً العلم الاجمالي انحل حكماً فلم يلزمه إلّا إعادة الأولى إلى الجهة الثانية، فالعلم الاجمالي لازال موجوداً، ولكن لا منجزية له.

وأمّا إذا قلنا: أنّ دليل التحرّي ليس له هذا المدلول الالتزامي، فالعلم الاجمالي قائم، ومقتضى منجزيته: إعادة الثانية إلى الجهة الأولى والثانية إلى الجهة الأولى، فالجمع بين الأمرين غير صناعي.

أمّا بحسب مقام الإثبات: فالمستظهر هو الاحتمال الثاني وهو أنّه ملحوظ على نحو الطريقية. والوجه في ذلك: قرينة لفظية وقرينة ارتكازية.

أمّا القرينة اللفظية: فهي نفس عنوان التحرّي. فهو ظاهرٌ عرفاً في الطريقية. وأمّا القرينة الارتكازية: فهي ما أشار إليه جمع من الأعلام أنّه لا يحتمل بحسب الارتكاز المتشرعي أن تختلف القبلة باختلاف التحريات والمكلفين، فيصلّي زيد إلى جهة وبكر إلى أخرى وكلاهما إلى قبلة... فحيث إنّ هذا غير محتمل كان منبها على أنّ المتلقى من عنوان التحري لدى المتشرعة أنّه على نحو الطريقية المحضة.

هذا كله إذا انكشف أنّه بتحريه الثاني استدبر أقصى اليمين أو اليسار. وأما إذا انكشف بينهما: فمقتضى القاعدة صحّة صلاته.

المسألة التاسعة: إذا انقلب ظنه في أثناء الصلاة إلى جهة أُخرى انقلب إلى ما ظنه إلا إذا كان الأول إلى الاستدبار أو اليمين واليسار بمقتضى ظنه الثاني فيعيد. ذكر سيدنا: «لصحتها حينئذ حتى واقعاً، والاجتزاء بها بمقتضى ما دل على أن ما بين المشرق والمغرب قبلة».

وأمّا بطلان صلاته إذا انكشف الاستدبار أو اقصى اليمين أو اليسار: «فلما عرفت في المسألة المتقدمة من بطلان الأجزاء السابقة بمقتضى الاجتهاد الثاني، فلا مناص من رفع اليد واستئناف الصلاة إلى الجهة التي انقلب ظنه إليها ما لم يكن الانحراف دون اليمين واليسار، لثبوت الاغتفار وقتئذ كما سبق».

المسألة العاشرة: يجوز لأحد المجتهدين - أي في القبلة - المختلفين في الاجتهاد الاقتداء بالآخر إذا كان اختلافهما يسيراً بحيث لا يضر بهيئة الجماعة ولا يكون بحد الاستدبار أو اليمين أو اليسار.

أمّا القيد الأول: فواضح، لأنّه إذا اختلفا في اقصى اليمين أو اليسار يرى بطلان صلاة الإمام حتّى في حق الإمام لأنّ القبلة من الخمسة التي تعاد الصلاة لها.

وأما القيد الثاني: وهو أن لا يكون الاختلاف فاحشاً، لأنّ الاختلاف الفاحش وإن كان كليهما ما بين اليمين واليسار أنّه مانع من صدق الاقتداء عرفاً بأن يكون المأموم خلف الإمام أو على يمينه، فيحصل العلم الاجمالي ببطلان إحدى الصلاتين أو التفصيلي ببطلان صلاة المأموم، أما ببطلان صلاته في نفسه أو لبطلان صلاة الإمام.

والحمدُ لله ربِّ العالمين