نظرية القبض والبسط

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة، نتحدث في محورين:

  •  في إمكان تحصيل اليقين.
  • في بيان درجات الايمان.
المحور الأول: إمكان تحصيل اليقين.

هل يمكن للإنسان أن يحصل على يقين في معتقداته الدينية أم لا؟ هل يمكن أن يصل الإنسان في معتقداته الدينية إلى يقين بالمعتقد مئة بالمئة، بحيث لا يشوبه شك ولا نقص ولا وسوسة؟

معنى نظرية القبض والبسط:

هناك نظرية هي نظرية القبض والبسط، نظرية القبض والبسط تؤدي إلى هذا المضمون، وهو أن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى اليقين في معتقداته الدينية، وهذه النظرية تتألف من أمرين:

الأمر الأول: تداخل العلوم.

إن العلوم متداخلة، كل علم يُكمل العلم الآخر، فالعلوم بينها تداخل وتشابك، مثلا: عندما نأتي للآية المباركة: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، قالوا أن هذه الآية تدل على نظرية التمدد في الفضاء، يعني مساحة الفضاء لا تثبت عند درجة معينة، بل الفضاء دائمًا في حالة توسع وتمدد، حتى نستفيد هذه النظرية من الآية، هل فعلًا الآية تدل على هذه النظرية؟

هنا نحتاج إلى عدة علوم، نحتاج إلى علم الفيزياء حتى يصور لنا قبول هذه النظرية، أن فعلًا الفضاء فيه قابلية للتمدد والاتساع، وبما أن علم الفيزياء يعتمد في معادلاته على علم الرياضيات، إذن بالنتيجة نحن محتاجون إلى علم الرياضيات أيضًا. دلالة الآية على هذه النظرية تدخل في قسم اللغة لأن الآية باللغة العربية، فدلالتها تدخل في علم اللغة، نحتاج إلى أن نستفيد من علم اللغة، لنعرف هل كلمة ”موسعون“ تدل فعلًا في اللغة العربية على التمدد وعلى الاتساع أم لا. بعد هذا نحتاج إلى علم الأصول، علم أصول الفقه هو العلم الذي يتكفل في البحث في دليلية الدليل، يعني الآن مثلًا: أنت تقول الآية تدل على النظرية، الآية تدل على نظرية التمدد الفضائي، لكن هل هذه الدلالة حجة؟ يعني هل هذه الدلالة نستطيع أن نتكئ عليها ونعتمدها كدليل في هذا المجال أم لا؟ هذا ما يُعنى به علم الأصول.

إذن حتى تستفيد هذه النظرية من الآية المباركة نحتاج إلى علوم أربعة، هذا يعني أن العلوم متداخلة، أن العلوم متشابكة، وبالتالي أي تغير في أي علم سوف ينعكس على النتيجة، ما دامت العلوم اشتركت في هذا المضمون، أي تغير في أي علم من هذه العلوم سينعكس على النتيجة نفسها.

الأمر الثاني: العلوم متحركة لا جامدة.

العلوم ليسيت جامدة، العلوم فيها انبساط وانقباض، نتيجة مرور الزمن العلوم تتطور، فتلغى نظريات، وتستجد نظريات، إذن العلوم في حالة بسط وقبض، لا تثبت العلوم على حد واحد، العلوم دائما في حالة تغير، في حالة تكامل، في حالة استحداث نظريات وانحذاف نظريات أخرى، بما أن العلوم في حال تغير إذن أي نتيجة أنت تبنيها على هذه العلوم سوف تتغير.

المعتقدات الدينية من أين نثبتها؟ نثبها بهذه العلوم، اعتقادنا بالله، اعتقادنا بالنبوة، اعتقادنا بالإمامة، وهكذا من المعتقدات، بما أن المعتقدات نتائج توصلنا إليها عبر مجموعة من العلوم، والعلوم في حالة تغير، إذن بالنتيجة لن يحصل لنا يقين بمعتقد من المعتقدات، أي معتقد من المعتقدات سوف نشك في ثبوته، لماذا؟ لأن هذا المعتقد يعتمد على مجموعة من العلوم، وهذه العلوم خاضعة للتغير والتبدل، فكيف يتسنى لنا ويتأتى لنا اليقين بهذا المعتقد؟ افترض نبوة النبي أو إمامة الإمام، كيف يتسنى لنا اليقين به ونحن نعلم أن هذا المعتقد نشأ عن علوم، وهذه العلوم خاضعة للتغير والتبدل؟

مناقشة هذه النظرية:

إذن نظرية القبض والبسط تؤدي بالنتيجة إلى أن لا يقين بمعتقد من المعتقدات، ما زال الاحتمال - احتمال التغير واحتمال التبدل - قائمًا في نفس الإنسان، ولكننا نطرح ملاحظتين بإزاء هذه النظرية:

الملاحظة الأولى: لا فرق بين الدين وغيره في طرق الوصول لليقين.

نسأل سؤالًا: أساسًا هل يمكن أن يصل الإنسان إلى اليقين في القضايا الآخرى غير الدينية؟ نترك الدين جانبًا الآن، هل يمكن أن يصل الإنسان إلى اليقين في القضايا الأخرى أو غير ممكن؟ نحن نبحث هذه النقطة: هل يتأتى للإنسان أن يحصل له جزم مئة بالمئة في قضية من القضايا أم أنَّ الإنسان دائما لا يصل إلى اليقين؟ هل هو دائمًا في حالة شك وتحير؟

نقول: لا، قطعًا الإنسان يمكن أن يصل إلى يقين بقضية من القضايا، هذا الشيء حتمي. كيف؟! الأدلة التي يستخدمها الإنسان حتى يصل إلى القضايا، حتى يصل إلى النتائج، ما هي؟ الأدلة على أقسام ثلاثة: دليل وجداني، ودليل عقلي، ودليل تجريني، وكل دليل من هذه الأدلة يمكن أن يوصل إلى اليقين.

القسم الأول: الدليل الوجداني.

أنت الآن استخدم وجدانك في إثبات القضايا التي تشعر بها، هل تصل إلى اليقين بها؟ مثلا: أنا أشعر بفرحي، أشعر بحزني، أشعر بخيالي، أشعر بالأفكار التي تجول في ذهني، هل أنا على يقين بذالك أم لا؟ طبعًا على يقين، أنا على يقين بنفسي، إذن أنا على يقين بمشاعري، إذن أنا على يقين بخواطري، أنا قطعًا الآن أفكر، أنا قطعًا الآن أحب إنسانًا، وأبغض إنسانًا، أنا قطعًا الآن أعيش حالة من المشاعر، هذه الأمور الوجدانية أنا متيقن بها مئة بالمئة، لا يشوبني بها شك ولا وسوسة ولا واحد بالألف، لماذا؟ لأن هذه القضايا شهدتها بوجداني فتيقنت بها.

القسم الثاني: الدليل العقلي.

الدليل العقلي أيضًا تستطيع تصل به إلى قضايا يقينية أم لا تستطيع؟ نعم يمكن، الآن تأتي إلى قسم الرياضيات، يمكن أن تتيقن بالقضايا الرياضية أو لا؟ ممكن، هذه قضايا عقلية وليست وجدانية، نأتي مثلًا ونقول: أربعة ضرب ثمانية يعطينا اثنين وثلاثين، هل هذه قضية يقينية أم فيها شك؟! ليس عندنا فيها شك، قضية أدركها العقل على مستوى اليقين، ليس عندي ولا واحد بالألف شك في هذه النتيجة، إذن القضايا الرياضية يمكن أن يصل إليها الدليل العقلي على مستوى اليقين، مثل الدليل الوجداني.

القسم الثالث: الدليل التجريبي.

هناك قضايا لا نستطيع أن نثبتها بالوجدان، لا نستطيع أن نثبتها بالعقل، لا نستطيع أن نثبتها إلا عن طريق بالتجربة، الحديد يتمدد بالحرارة، كيف نثبت هذه القضية؟ نحتاج إلى التجربة، أقمنا تجربة على ألف فرد من الحديد، يعني أقمنا ألف تجربة، ألف تجربة في ظروف مختلفة، في حالات متنوعة، وجدنا أن النتيجة واحدة، إذا وصل الحديد إلى درجة معينة من الحرارة فإنه يتمدد، هل عندنا يقين بهذه النتيجة؟ عندنا يقين مئة بالمئة، إذا يصل إلى هذه الدرجة من الحرارة يتمدد، كيف حصلتم على اليقين؟ عبر التجربة مع ضميمة قواعد عقلية لأن التجربة لوحدها لا تنتج، تحتاج إلى قواعد عقلية، كيف؟

يعني أنت الآن أقمت ألف تجربة، ورأيت النتيجة أن الحديد يتمدد إذا بلغت الحرارة درجة معينة، هل هذا الأمر حدث بلا سبب؟ كيف تمدد هكذا وانتهى الأمر؟! طبعًا لا، لماذا؟ لوجود قاعدة عقلية، المسبب لا بد له من سبب، إذن هذه القصية العقلية تدخلت في النتيجة، هذا المسبب ألا وهو التمدد، هل يمكن أن يخضع لأسباب عديدة، بمعنى أن كل تجربة فيها سبب لوحدها؟ يعني عندنا ألف تجربة، وعندنا ألف سبب، فهل هذا ممكن؟ غير ممكن، لأن المسبب واحد فلا بد أن يكون سببه واحدًا، المسبب الواحد يستحيل أن يصدر عن أسباب متعددة، إذن هذه قاعدة عقلية أيضًا استفدنا منها في الوصول إلى النتيجة.

نتيجة هذه القواعد العقلية قلنا: ما دامت هناك نتيجة مشتركة، ألا وهي أن الحديد يتمدد بالحرارة إذا بلغ درجة حرارته درجة معينة، بالنتيجة أن هناك سببًا مشتركًا بين هذه التجارب كلها، وهو الحرارة المعينة، فالقضايا التجريبة أيضًا تصل إلى اليقين، وتصل إلى اليقين مع استخدام قواعد عقلية بديهية مسلمة.

فلاحظنا أن الإنسان يمكن أن يصل إلى اليقين، إما أن يصل إلى اليقين عبر دليل وجداني، إما أن يصل إلى اليقين عبر دليل عقلي، إما أن يصل إلى اليقين عبر دليل تجريبي، فالإنسان يمكنه أن يصل إلى يقين في قضاياه مئة بالمئة، لا يشوبه شك ولا يشوبه نقص. هذا أمر ممكن وإلا تأتينا المغالطة، يعني إذا تقول الإنسان لا يصل إلى يقين، نفس هذه القضية، نفس هذه الكلمة عندك يقين بها أو لا؟! أنت عندما تقول الإنسان لا يصل إلى اليقين، نفس هذه الكلمة أنت وصلت إلى يقين بها أو لا؟! إذا وصلت إلى يقين بها إذن صار الإنسان يصل إلى اليقين، إذا تقول لم تصل إلى يقين بها، إذن نقضت نفسك بنفسك! إذن بالنتيجة لا يمكنك أن تصد وأن تقول لا يمكن للإنسان أن يصل إلى اليقين إلا إذا وصلت إلى يقين بصحة هذه القضية نفسها، فإذن القضية هي تنقض نفسها بنفسها.

ما دام الإنسان يمكن أن يصل إلى اليقين في قضاياه الأخرى، في معلوماته، في تجاربه، في وجدانياته، فهل يمكنه أن يصل إلى اليقين في القضايا الدينية؟ في المعتقدات الدينية، كالاعتقاد بالألوهية، وكالاعتقاد بالنبوة، كالاعتقاد بالإمامة، أو لا يمكن؟

طبعًا نقول: لا فرق بين القسمين من القضايا، لماذا؟ لأن نفس الأدلة - نحن ليس عندنا أدلة جديدة نستخدمها في الدين - التي نستخدمها في إثبات قضاينا الأخرى هي الأدلة نستخدمها في إثبات الدين، نفسها، الدين مجموعة من القضايا، بعضها نثبتها بالعقل، بعضها نثبتها بالوجدان، بعضها نثبتها بالتجربة، نفس الأدلة، نفس الأقسام، الدين مجموعة من المعتقدات نثبتها بنفس الأدلة التي نستخدمها في إثبات القضايا الأخرى، فإذا كانت هذه الأدلة الثلاثة توصل إلى اليقين في القضايا الأخرى، إذن سوف توصل إلى اليقين في القضايا الدينية.

أضرب لك مثالًا: كيف نحن نثبت وجود نيويورك؟ والله شخص يقول لك لا وجود لنيويورك! أنتم مخطئون! كيف تُثبتْ أنت له وجود نيويورك؟ تُثبت له عن طريق التواتر، ما معنى التوتر؟ التواتر إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب، وسائل الاعلام، والناس الذين ذهبوا إلى هذه المدينة، والجغرافيا وغيرها من الأدلة، هذه كلها إذا اجتمعت يحصل لك يقين بوجود مدينة نيويورك، أخبرك جماعة كثيرة عبر وسائل الإعلام يمتنع تواطؤهم على الكذب بوجود نيويورك، نتيجة هذا الإخبار حصل لك اليقين، إذن دليل التواتر يؤدي إلى اليقين.

نفس هذا الدليل نحن نستخدمه في إثبات القرآن الكريم، هذا القرآن هل هو القرآن الذي جاء به محمد بن عبد الله ؟ نعم هو هذا، كيف؟ نقول بالتواتر، يخبرنا عن هذا القرآن في كل جيل - يعني في كل خمسين سنة، في كل مئة سنة تمر على الناس - جماعة كثيرة يمتنع تواطؤهم على الكذب، نتيجة تراكم الإخبارات، كل مئة سنة يأتينا مخبرون، كل خمسين سنة يأتينا مخبرون، نتيجة تراكم الإخبارات حصل التوتر، يعني إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب بأن هذا القرآن تلقيناه جيلًا عن جيل، يدًا بيد عن محمد بن عبد الله ، فالدليل الذي يثبت نيويورك هو الدليل الذي يثبت انتساب القرآن إلى النبي، إذا أوجب اليقين في الصورة الأولى، يوجب اليقين في الصورة الثانية.

مثال آخر: دليل حساب الاحتمالات، كيف نطبق دليل حساب الاحتمالات؟ يعني الآن مثلًا: افترض أنت عندك ابن أخ طفل، ابن أخيك طفل يدرس في أول ابتدائي، كتب لك رسالة وكتب لك قصيدة بديعة من أرقى أنواع الشعر، وصلتك القصيدة البديعة، وكاتب تحتها: الشاعر ابن اخيك مثلًا، أنت تأتي وتطبق دليل حساب الاحتمالات، فتقوم بالمقارنة بين النتيجة وبين المقدمات، هل النتيجة تتناسب مع المقدمات أم لا؟ ماهي المقدمات؟ طفل يدرس في أول ابتدائي، ليس عنده ثقافة أدبية، ليس عنده ممارسات أدبية سابقة، هذه المقدمات لا تنتج هذه النتيجة حتمًا، النتيجة أكبر حجمًا من المقدمات! دليل حساب الاحتمالات في علم الرياضيات يقول: كلما كانت النتيجة أكبر حجمًا من المقدمات كشفت لنا عن يد أخرى تدخلت وساهمت في إبداع هذه النتيجة، إذن هناك شخص هو الذي كتب هذه القصيدة وليس هذا الطفل.

نفس دليل حساب الاحتمالات نطبقه على نبوة النبي ، طبعًا مع غض النظر عن عقائدنا الخاصة، نحن نعتقد في النبي شيء آخر، هذا فقط دليل لشخص لا يعتقد بنبوة النبي ، نريد أن نثبت له، نأتي ونقول له: اقرأ المقدمات واقرأ النتيجة، النتيجة ما هي؟ كتاب - وهو القرآن الكريم - في قمة البلاغة! كتاب يضم مادة قانونية! يضم مادة تاريخية! يضم مادة في علم النفس! وعلم الاجتماع! يضم مادة من الإخبار عن المغيبات! يضم يضم يضم... ماهذا الكتاب؟! كتاب في قمة البلاغة وفي قمة التقنين والتشريع، هذه هي النتيجة التي قال عنها الوليد بن المغيرة: ”لقد سمعت كلامًا ما هو من كلام الإنس وماهو من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه“، هذه هي النتيجة.

المقدمات ما هي؟ المقدمات: رجل فقير لا يملك شيئًا، لم يقرأ ولم يكتب، لم يحضر عند معلم، عاش أربعين سنة من عمره لم يحضر عند معلم، لم تكن له أي ممارسة في مجال الشعر أو الأدب، الجاهلية كانت فيها أسواق، مواسم للأدب والشعر، لم يشارك في أي موسم، ليس له أي ممارسة، هذه هي المقدمات وهذه هي النتيجة! عندما نقارن النتيجة بالمقدمات - رجل فقير لم يتعلم، لم يحضر موسمًا ثقافيًا، لم تكن له مشاركات في مجال الشعر والأدب، والنتيجة كتاب قانوني - نجد النتيجة أكبر من المقدمات! بما أن النتيجة أكبر من المقدمات يكتشف العقل بنحو اليقين بأن هناك يدًا - وهي يد الغيب - تدخلت وأبدعت هذا الكتاب، إذن الكتاب ليس منه وإنما من يد غيبة أبدعت هذا الكتاب، ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إذن لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.

فوصلنا إلى أن دليل حساب الاحتمالات الذي نستخدمه في القضايا الأخرى ويوجب لنا اليقين هو نفس الدليل نستخدمه في إثبات النبوة فيوجب لنا اليقين، إذن الملاحظة الأولى على نظرية القبض والبسط أن الإنسان يمكنه أن يصل إلى اليقين في المعتقدات الدينية كما يصل إلى اليقين في القضايا الأخرى، لأن الأدلة التي يستخدمها في المعتقدات الدينية هي نفس الأدلة التي يستخدمها في القضايا الأخرى، فإذا أثبت اليقين في القضايا الأخرى أثبت اليقين في المعتقدات الدينية.

الملاحظة الثانية: انحصار النظرية في النظريات دون الضروريات.

المعتقدات على قسمين: معتقدات ضرورية، ومعتقدات نظرية. المعتقدات الضرورية هي التي تعتمد على مقدمات بديهية فقط، لا تعتمد على مجموعة من العلوم، والمعتقدات النظرية هي التي تعتمد على مجموعة من العلوم والأدلة، لأجل ذلك نحن نقول لو سلمنا بنظرية القبض والبسط، يعني سلمنا أن تغير العلوم يوجب تغير في المعتقدات؛ لأن المعتقدات تعتمد في إثباتها على هذه العلوم، فأي تغير في العلوم ينعكس على المعتقدات، لو سلمنا بهذه النظرية نسلم بها في القسم الثاني من المعتقدات: ألا وهي المعتقدات النظرية، يعني المعتقدات التي لا نستطيع أن نثبتها إلا بمجموعة من العلوم، هنا نقول نعم أي تغير في هذه العلوم سوف يُحدث تغير في هذه المعتقدات، هذه نسميها معتقدات نظرية.

مثلًا: نأتي إلى مسألة رجعة الأئمة الطاهرين ، الأئمة الطاهرون هل يرجعون إلى الدنيا؟ نعني رجعتهم كلهم طبعًا، وليست رجعة الحسين بن علي، فإن الرجعة لها أنحاء وآراء.. القول برجعة جميع الأئمة، أن جميع الأئمة يرجعون إلى عالم الدنيا عند ظهور الإمام المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، هذا المعتقد نسميه من المعتقدات النظرية، لماذا؟ لأن هذا يعتمد على مجموعة من الروايات، الروايات لا بُدَّ أن تتم سندًا، لا بُدَّ أن تتم دلالة، فيتدخل علم الرجال، يتدخل فيها علم الحديث، يتدخل فيها علم اللغة، يتدخل فيها علم الأصول، إذن هذا المعتقد اعتمد على مجموعة من العلوم، وبالتالي أي تغير في نظرية من نظريات هذه العلوم سوف ينعكس على المعتقدات نفسها.

أما عندنا القسم الأول من المعتقدات - وهي المعتقدات الضرورية - لم تعتمد على مجموعة من العلوم، بل تعتمد على مقدمات بديهية، يعني يُؤمن العقل بها بالبداهة، ثبوت وجود الله عز وجل، ثبوت نبوة النبي كما ذكرنا بدليل حساب الاحتمالات، دليل حساب الاحتمالات دليل علمي، بديهي في الإنتاج، المعتقدات التي تعتمد على دليل علمي، بديهي في الإنتاج كإثبات وجود الله، كإثبات نبوة النبي، الذي يعتمد على دليل حساب الاحتمالات وهو دليل بديهي الإنتاج في علم الرياضيات، هذا القسم من المعتقدات يسمى معتقدات ضرورية، هذا لا يتغير، هذا يعتبر ثابتًا في الدين، هذا يدخل تحت القسم الثابت من الدين.

هذه المعتقدات لا تتغير حتى لو تغيرت العلوم والنظريات، لماذا؟ لأن هذه المعتقدات لم تعتمد على هذه العلوم، هذه المعتقدات اعتمدت على دليل علمي بديهي الإنتاج ألا وهو دليل حساب الاحتمالات، لذلك هذه المعتقدات لا يعرضها التزلزل أو النقص، لأنها أساسًا لم تعتمد على مجموعة من العلوم كي يكون التغير في العلوم منعكسًا على هذه المعتقدات نفسها.

المحور الثاني: هل الإيمان يقبل الزيادة والنقص؟

القرآن الكريم يصرح أن الإيمان يقبل الزيادة ويقبل النقص، حيث يقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ، وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، كيف يزداد الإيمان وينقص؟

الإيمان يعتمد على رافدين: العلم والعمل، العلم مجرده لا يترتب عليه الإيمان، قد يكون عند الإنسان علم ولا يكون لديه إيمان، لماذا؟ لأن الإيمان هو عبارة عن خضوع النفس للمعلومات، أنت قد تسمع معلومات لكن لا تخضع نفسك لها، الإيمان خضوع النفس وسكونها للمعلومات، أحيانًا الإنسان يكون عنده مرض نفسي، مرض الشك والوسوسة، مهما يسمع من معلومات لا تسكن نفسه، لا تستقر على هذه المعلومات، يعني هذا ماعنده إيمان، القرآن الكريم يقول: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ، هم عندهم علم لكنهم لم يخضعوا له، بل جحدوا، ويقول القرآن الكريم: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ، هو عنده علم لكنه مع ذلك ضل، إذن العلم وحده غير كاف في تحقيق الإيمان، لا بُدَّ من سكون من النفس، وخضوع من النفس نحو هذه المعلومات التي تدخل إلى ذهن الإنسان، هذا الرافد الأول هو العلم.

الرافد الثاني هو العمل، كثير منا يظن أن المعصية لاتضر بالإيمان! الاستمرار على المعصية يؤثر على الإيمان بالتدريج، قد يتبخر الإيمان في النهاية، ولذلك نحن دائمًا ندعو: اللهم ارزقنا حسن الخاتمة. المعاصي ينعكس أثرها على الإيمان، قد يتبخر الإيمان يومًا من الأيام نتيجة الإصرار على المعصية، الإصرار على الذنب، لذلك القرآن الكريم يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ، فإذن العلم يرفد الإيمان، والعمل أيضًا، فبقاء الإيمان واستقراره يعتمد على هذين الرافدين.

لذلك كلما زاد العلم والعمل زادت درجة الإيمان، ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، زيادة العلم والعمل توجب زيادة الإيمان إلى أن يصل الإنسان إلى درجة من اليقين لا يشوبها نقص، اليقين له درجات: علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين، يصل الإنسان إلى أعلى درجات اليقين نتيجة قوة إيمانه.

أمير المؤمنين علي قيل له: يا أبا الحسن، هل رأيت ربك؟ قال: وكيف أعبد ربًا لم أره؟! قالوا: كيف رأيته؟ قال: ”ما رأته الأبصار بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان“، يعني أنا وصلت إلى درجة من اليقين لا ترجع مرة أخرى، وقال : ”لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا“، لذلك علي بن أبي طالب أقوى الناس إرادة، أشدهم عزيمة، أعظمهم صبرًا، إرادة حديدية لا تتزلزل أبدًا، ”والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“، ”والله لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف والمال مال الله!“.

أمير المؤمنين لأنه باب مدينة العلم هو أقوى الناس إرادة، أشدهم عزيمة وأعظمهم صبرًا، ليس هناك إمام صبر كما صبر أمير المؤمنين! كل حياته صبر! كل حياته ألم! كل حياته جهاد! كل حياته تحمل! ولذلك أنت تقرأ في زيارته: ”السلام عليك يا أول مظلوم“، أول من ظلم بعد وفاة رسول الله .

ويقول : ”فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبًا“، ولم يكن من يدافع عنه سوى السيدة الزهراء، دافعت عنه ببدنها، بصوتها، بجراحها، بضلوعه، بآهاتها، وقفت دونه تدافع عنه، تدافع عن إمام زمانها...