ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا

صدق الله العلي العظيم

الآية الكريمة في سياق الآيات التي تتحدث عن الأبرار: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، ونحن نسير مع فقرات الآية فقرةً فقرةً.

الفقرة الأولى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ.

هنا تفسيران في معنى «على حبه»:

التفسير الأول: «على حبه» أي: على حب الله عز وجل، أي أنهم يطعمون الطعام حبًا لله وابتغاء وجه الله، لا يرجون وراء إطعام الطعام جائزة من أحد، ولا شكرًا من أحد. لكنَّ هذا التفسير ضعيف؛ باعتبار أنَّ الله صرّح في الآية التي بعدها: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ، فيكون ذلك تكرارًا، فكأنه يقول في الآية الأولى: ويطعمون الطعام على حب الله، ثم يرجع في الآية الأخرى ويقول: إنما نطعمكم لوجه الله، فيكون ذلك تكرارًا، والتكرار بعيد عن أسلوب القرآن الكريم.

التفسير الآخر: «على حبه» أي: على حب الطعام، أي: مع أنهم يحبون الطعام، ومع أنهم مضطرون إلى أكل الطعام، ومع أنهم محتاجون إلى تناول الطعام، مع ذلك، إيثارًا لغيرهم على أنفسهم يطعمون الطعام، ف ”على“ هنا بمعنى مع، أي: ويطعمون الطعام مع حبهم له، ويطعمون الطعام مع حاجتهم له، ويطعمون الطعام مع اضطرارهم إليه.

الفقرة الثانية: ﴿مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا.

المسكين واليتيم معلومان، ولكن ما معنى الأسير؟ الأسير هو الذي أسر من دار الحرب. حينما يغزو المسلمون دار الكفر، فيأسرون بعض الرجال، هذا عندما يؤتى به لدار الإسلام، يكون بعنوان الأسير. نعم، إذا أسلم، صار من جملة المسلمين، وأما إذا لم يسلم، يبقى تحت عنوان الأسير، فهذا هو المقصود بالآية.

ومن هذه الكلمة، نستفيد أن الآية مدنية، وهي تعني فاطمة والحسن والحسين، لأن بعضهم يحاول أن يصرف الآية عن أهل البيت ، ويقول: الآية نزلت بمكة، وفي مكة لم يتزوج علي بعد، ولم يكن في ذلك الوقت حسن ولا حسين، فالآية ما نزلت في أهل البيت؛ لأنها مكية، وإنما ولد الحسنان في المدينة. نحن نقول: الأسير لم يكن إلا في المدينة؛ لأن الرسول المدة التي كان فيها في مكة ما غزا دار الكفر، وما حصل على أسراء للحرب، فمن أين أتت كلمة أسير؟! فكلمة أسير دليل على أن الآية مدنية، أي: بعد خروج الرسول إلى المدينة، وغزوه للمشركين، وأسره لبعض رجالهم، جاءت كلمة أسير، فيتحقق مدلول الآية ومضمونها في المدينة.

الفقرة الثالثة: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ.

هل معنى هذه الآية أن لله وجهًا؟ وتقول آية أخرى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، هل له يد؟ طبعًا، الظاهريون الذين أخذوا بظواهر القرآن يقولون: القرآن كما صرّح بأن له يدًا ووجهًا وساقًا، فما دام القرآن صرّح بمجموع هذه الألفاظ نحمل القرآن على ظاهره، ونقول: له يد لا كالأيدي، وله رجل لا كالأرجل، وله وجه لا كالوجوه. ما معنى لا كالوجوه؟! ما معنى لا كالأرجل؟! ما معنى لا كالأيدي؟! لا معنى لذلك، ولكنهم يقولون: نحن نحمل الآيات على ظاهرها، ويأتي بعضهم ويبالغ في القضية، ويطورها إلى أكثر من هذا الأمر، فيروي مسند أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله أنَّ طول الله أربعة وعشرين ذراعًا، وعرضه سبعة أذرع! أي أن القضية تطورت من أن له رجلاً لا كالأرجل ويدًا لا كالأيدي، وصارت القضية أن له جسمًا مجسّدًا له طول وعرض!

ألأي  شيء  قلتمُ  في  الله  iiما
من  أنه  في  كل  ليلة  iiجمعةٍ
ونبيه    يصغي   للحن   iiقيانه


 
أجرى  دمًا  من  عين كل iiموحدِ
يأتي المساجد فوق جحشٍ أسودِ
وإذا  ضربن  الدف  صفّق  باليدِ

إذن قضايا التجسيم وأحاديثه ورواياته شائعة وموجودة بكثرة، وأما نحن فنعتقد بأن الله مجرد عن شوائب المادة وعن شوائب التجسيم والتجسيد. إذا كان الله مجردًا عن ذلك، فما معنى هذه الآيات؟ اليد كناية عن القدرة، أي: قدرة الله وقدرته فوق قوتهم وقدراتهم، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أي: إلى رحمة ربها ناظرة، وهذه الآية أو الآية الأخرى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ، المراد بالوجه ما يستقبل الإنسان غيرَه، أنت إذا وقفتَ أمامي أستقبلك بوجهي، فالوجه هو ما يستقبل به الإنسانُ غيرَه.

وأما وجه الله فهو الرابطة بين الله وعباده، وجه الله هو صفاته الفعلية، أنا الإنسان المخلوق أستقبل الله أو أتعلق به بماذا؟ أنا لا أستطيع أن أراه؛ لأنه لا يرى، ولا أستطيع أن أتصل مباشرة بالله؛ لأن ذلك متعذر، فإنني مادي، وهو مجرد عن المادة، فكيف أستقبل الله وكيف أتعلق بالله؟! هناك صفات فعلية بين الله وبين خلقه، هي التي تكون وجهًا لله عز وجل، والصفات الفعلية هي الرحمة، والخلق، والتدبير، والرزق، والإحياء، والإماتة... هذه صفات فعلية لله عز وجل، أنا لا أرى الله، لكن أرى رحمته ورزقه وتدبيره وخلقه، فالصفات الفعلية لله عز وجل من الرحمة والخلق والتدبير والرزق صفات تتوسط بين الله وخلقه، وهذه الصفات الفعلية هي التي نسميها وجه الله عز وجل، لأن من خلال هذه الصفات الفعلية يستقبل الإنسان ربه، ويتعلق بربه عز وجل.

على هذا الأساس، عندما نقول بأن المراد بوجه الله هو الصفات الفعلية، إذن ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ أي: إنما نطعمكم لطلب رحمة الله ومرضاته، ونترقى أكثر من هذا، ونقول: الصفات الفعلية مبدؤها الصفات الذاتية، وهذا يتوقف على اصطلاح موجود عند المتكلمين، وهو أن صفات الله عز وجل صفات ذاتية وصفات فعلية.

الصفات الفعلية هي ما يمكن نفيها، كالرحمة، فيقال مثلاً: لم يرحم الله فلانًا ورحم الله فلانًا، لم يخلق الله كذا، لم يرزق الله كذا، فتستطيع أن تنفي الرحمة ونحوها من الصفات الفعلية عن بعض الأشخاص أو الأزمان، وأما الصفات الذاتية فهي التي لا يمكن نفيها أبدًا، كالقدرة والحياة والعلم، فلا يصح أن يقال: لم يعلم الله بكذا، هذه صفة لا يمكن نفيها بحال، ولا يصح أن يقال: لم يقدر الله على كذا، هذه الصفة لا يمكن نفيها، أو لم يكن الله حيًا مثلاً، هذا لا يمكن، فالصفات التي لا يمكن نفيها، كالعلم والقدرة والحياة، نسميها صفات ذاتية، وأما الصفات التي يمكن نفيها، كالرحمة والخلق والرزق، نسميها صفات فعلية، وهذا هو الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية.

يقول المتكلمون بأن مبدأ الصفات الفعلية الصفات الذاتية، فالخلق مثلاً صفة فعلية، ولها مبدأ، وهو الصفة الذاتية، وهي القدرة، لولا القدرة لم يكن خلق، والرحمة أيضًا من الصفات الفعلية، ولها مبدأ من الصفات الذاتية، وهو الجمال والكمال المطلق. كذلك هنا نقول: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ فسّرنا وجه الله بالصفة الفعلية، أي: الرحمة والرضا الإلهي، ومبدأ الصفة الفعلية الصفة الذاتية، مبدأ الرحمة كونه عز وجل جميلاً مطلقًا، كونه عز وجل كاملاً مطلقًا، صاحب الجمال والكمال المطلق، فإذن ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ أي: إنما نطعمكم لكون الله عز وجل جميلاً وكاملاً على الإطلاق، وبعبارة أخرى: إنما نطعمكم حبًا لله عز وجل.

وهذه العبادة هي العبادة الظاهرة على أهل البيت ، وهي أن تعبد الله عز وجل لأنه أهلٌ للعبادة، هي أن تعبد الله عز وجل حبًا لله، ولأن الله أهلٌ لأن يعبد، وهذا الوارد عن أمير المؤمنين : ”إن قومًا عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار، وإن قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار“، وقال أمير المؤمنين يرشد إلى عبادته هو: ”ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك“، أي أنني تجردت عن المصالح الشخصية.

مصلحتي الشخصية تقتضي أن أعبدك خوفًا من نارك، لأنني أخاف من عذاب النار أقوم بعبادتك، فأنا أعبدك رعاية لمصلحتي الشخصية، أو أعبدك طمعًا في جنتك، أي أنني أحب أن أتنعم في الجنة، فرعايةً لمصلحتي الشخصية أعبدك. يقول الإمام علي: أنا لا توجد عندي مصالح شخصية، حفاظًا على بدني من النار، أو نعيمًا لبدني في الجنة، هذه المصالح الشخصية أنا لا أنظر إليها، وإنما أعبدك لأنك أهل للعبادة، لا لمصلحتي الشخصية. هذه الآية تشير إلى هذا النوع من العبادة: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا لمصلحة شخصية ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، عبادة مرتبطة بالله عز وجل ارتباطًا جوهريًا وثيقًا.

إذن تارة نقول بأن المراد بوجه الله الرحمة، أي: الصفة الفعلية بين الله وخلقه، وتارة نترقى أكثر من هذا، ونقول: وراء الرحمة صفة ذاتية لله عز وجل، ألا وهي الجمال المطلق، أي: إنما نطعمكم حبًا لله، ولجماله وكماله المطلق، وهذه هي العبادة الحقيقية التي تجسّدت في أعمال أهل البيت . من يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، أو يصلي والحرب قائمة على قدم وساق، والسهام تترى عليه من كل جهة، لولا حبه لله وتفانيه في الله وذوبانه في حب الله عز وجل، لما قام بالصلاة في أحرج المواقف والأوقات.

الفقرة الرابعة: ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.

ما هو الفرق بين الجزاء والشكور؟ الجزاء مقابلة فعل بفعل، أي: أنت تقدم لي خدمة، وأنا في المقابل أقدم لك خدمة أخرى، وأما الشكور فمقابلة الفعل باللسان، أنت تقدم لي خدمة معينة، فأقول لك: شكرًا، متكرم، متفضل، فمقابلة الشكر باللسان تسمى شكورًا، وأما مقابلة الفعل بالفعل فتسمى جزاء، فأهل البيت يقولون: لا نريد منكم خدمة تقدمونها لنا، ولا ثناء باللسان أيضًا، وإنما نريد وجه الله عز وجل.

نزول الآيات في أهل البيت:

هذه الآيات نازلة في علي وفاطمة والحسن والحسين وفضة جاريتهم، وهذا من كتب أهل السنة، فقد روى تفسير الكشّاف للزمخشري عن ابن عباس، وعن ابن عمر، كما روى ذلك الحاكم، وابن مردويه، وابن ماجة في سننه، كلهم رووا هذه الرواية: مرض الحسن والحسين، فجاء الرسول مع الصحابة يعودونهم من المرض، فقال الصحابة لأمير المؤمنين : هلا نذرت نذرًا لعل الله يشفي هذين الطفلين من المرض؟ فنذر علي وفاطمة وفضة لئن شفي الحسن والحسين ليصوموا ثلاثة أيام. أذن الله بشفائهما، فتحقق النذر، وبدأ الصيام.

لم يكن في البيت شيء حتى يكون مائدة للطعام بعد الصوم، فاستدان الإمام علي - كما يقول صاحب الكشاف - من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من الحنطة والدقيق، وجاء بها إلى الزهراء . في أول يوم، عجنت شيئًا منها، وعملت خمسة أقراص بعددهم، فلما وُضِعَت مائدة الإفطار، وأرادوا أن يأكلوا، وإذا بمسكين على الباب يقول: أنا مسكين من مساكين المسلمين يا آل بيت محمد، وإذا بهذه النخبة كل واحد منهم يحاول أن يسبق الآخر في سبيل أن يحرز الفضيلة، وهي فضيلة التصدق والإيثار، الكبار - علي وفاطمة وفضة - يتحملون، لكن الطفلين أيضًا تسابقا إلى إحراز هذه الفضيلة، فتبرعا بما عندهما على ذلك المسكين.

في الليلة الثانية، وُضِعَت مائدة الإفطار، أرادوا أن يأكلوا، وإذا بيتيم على الباب، تسابقت النخبة إلى إحراز تلك الفضيلة، فآثروا ذلك اليتيم على أنفسهم، وتصدقوا بأقراصهم. وفي الليلة الثالثة، وقف أسير عليهم، تصدقوا بما عندهم من الأقراص، وباتوا ثلاثة أيام لم يشربوا إلا الماء، حتى كانوا يرتعشون كالفراخ.

أتى علي بالحسن والحسين إلى رسول الله، وقد انهارت صحتهما، فلما رأى الرسول ذلك تعجب وقال: قد ساءني ما أرى بكما. ثم جاء بهما إلى البيت، وإذا بفاطمة الزهراء - رغم هذا الجوع والصيام - واقفة في محرابها، صافة قدميها، رافعة يديها، ما أعظم فاطمة الزهراء! ابنها الحسن يقول: ”ما رأيتُ أعبد من فاطمة، كانت إذا قامت إلى الصلاة لا تنفل عنها حتى تتورم قدماها“، رآها الرسول وإذا قد التصق بطنها بظهرها من شدة الضمور والجوع، فتألم الرسول لذلك، جلس، فنزل جبرئيل من السماء وقال: أهنّئك يا رسول الله بهذه الآية، وتلا عليه هذه الآيات الكريمة.

ضربوا المثل الأروع في الإيثار، والمثل الأعلى في الصبر والصمود وقوة الإرادة، صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً، ضربوا المثل الأروع في ذلك، وهكذا هي سيرتهم التي ساروا عليها، وربوا عليها أبناءهم ومتعلقيهم، سيرة الإيثار، سيرة الصمود، سيرة الإرادة وقوة السلطان على النفس وعلى شهواتها وغرائزها، وناهيك من النماذج التي تربت على مثل هذه التربية، وعلى مثل هذا الصمود، حسبك من تلك النماذج أبو الفضل العباس، هو من أولئك النفر الذين تربوا في حجر هؤلاء، ونهلوا من سيرة هؤلاء، وساروا عليها.