الإنجازات الحضارية في سيرة أهل البيت

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

صدق الله العلي العظيم

حديثنا هذه الليلة عن قراءة سيرة أهل البيت وتاريخهم. إذا قرأ الإنسان تاريخ أهل البيت ، ينقدح في ذهنه هذا التساؤل يرتكز على التفريق بين نوعين لقيمة الإنسان: القيمة الغيبية والقيمة الإنسانية.

مقدمة في الفرق بين القيمة الغيبية والقيمة الإنسانية:

القيمة الغيبية معيارها واضح، وهو التقوى، قيمة الإنسان في السماء، قيمة الإنسان في عالم الغيب، ترتبط بالتقوى، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، القيمة السماوية للإنسان ترتكز على مبدأ التقوى. أما القيمة الإنسانية فهي تختلف عن القيمة السماوية، القيمة الإنسانية: متى يعدّ الإنسان عظيمًا؟ هذه هي القيمة الإنسانية، متى يعد الإنسان إنسانًا عظيمًا؟ ما هو الميزان والمقياس الذي على أساسه يعتبر الإنسان إنسانًا عظيمًا؟ هنا نبحث عن القيمة الإنسانية ولسنا نبحث عن القيمة السماوية الغيبية.

النصوص الشريفة - من القرآن والسنة - تحدّد أن القيمة الإنسانية بالعمل، قيمتك بمقدار إنجازاتك، قيمة الإنسان بحجم إنجازه، بحجم عطائه، قيمة الإنسان مرهونة بحجم إنجازه وبمستوى عطائه. القيمة السماوية ميزانها التقوى، ولكن القيمة الإنسانية مناطها وميزانها العطاء والإنجاز، إنجاز الإنسان وعطاؤه هو مقياس قيمته الإنسانية، هذا ما يستفاد من النصوص الشريفة، كقوله تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، هؤلاء لهم إنجاز أكبر حجمًا من إنجاز أولئك. القرآن الكريم يقول: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ، الإنسان حبيس عمله وإنجازه وعطائه، عطاؤه هو مقياسه وميزانه. كذلك السنة الشريفة: ما ورد عن الإمام علي : ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“، إحسانه وعمله وعطاؤه هو قيمته. إذن القيمة الإنسانية ترتبط بإنجاز الإنسان وبعطائه.

توضيح معالم الشبهة:

انطلاقًا من هذه النقطة التي شرحناها - حيث فرّقنا بين القيمة الغيبية والقيمة الإنسانية - نقول: عندما نقرأ سيرة أهل البيت وتاريخهم، قد ينقدح عند الإنسان سؤال، وهو أن أهل البيت لا يتساوون في الإنجازات، هناك مجموعة منهم لهم إنجازات حضارية واضحة رائعة، كالإمام علي ، حيث أقام إنجازًا حضاريًا رائعًا، وهو أنه أقام الدولة الإسلامية، وأرسى أسسها وركائزها، وجاءنا عهده لمالك الأشتر، ليشرح لنا ركائز ودعائم الدولة الإسلامية، هذا إنجاز حضاري. الإمام الحسين في نهضته وثورته وحركته الاستشهادية قدّم وأعطى للبشرية إنجازًا حضاريًا واضحًا. الإمام الصادق الذي أسّس في المدينة جامعةً علميةً تضمّ أربعة آلاف طالب كلٌ يقول: حدثني سيدي ومولاي جعفر بن محمد الصادق، هذا إنجاز حضاري.

ولكن الأئمة الآخرين ليسوا كذلك، نحن عندما نقرأ سيرة علي، سيرة الحسين، سيرة الصادق، نرى إنجازات حضارية، لأجل ذلك نصنّف هؤلاء في عظماء الإنسانية، في رموز البشرية، لأنهم قدّموا إنجازات حضارية للمجتمع البشري، بينما الأئمة الآخرون أين إنجازاتهم الحضارية؟! أين عطاؤهم الواضح البارز على مستوى المجتمع البشري؟! مثلاً: الإمام زين العابدين ، كان الإمام زين العابدين عابدًا زاهدًا، إنسانًا كان له دورٌ روحيٌ واضحٌ، ولكن أين إنجازاته الحضارية؟! الإمام الهادي والإمام العسكري، كانا مقتصرين على الإفتاء، كانا يفتيان ما يصل إليهما من المسائل والاستفتاءات، أين دورهما وأين إنجازهما الحضاري؟!

ربما يقول قائل: إذن كيف نعد الأئمة من عظماء الإنسانية؟! كيف نعطيهم قيمة إنسانية؟! نحن لا نتحدث عن القيمة السماوية التي ميزانها التقوى كما ذكرنا، وإنما نتحدث عن القيمة الإنسانية. كيف نصنفهم من عظماء الإنسانية ومن رموز البشرية، ونحن لا نجد إنجازًا حضاريًا واضحًا لهم؟! لو قارناهم بخلفاء زمانهم من بني العباس، لوجدنا أن أولئك الخلفاء تصدوا للفتوحات الإسلامية، ووسّعوا الإمبراطورية الإسلامية، إلى أن سيطرت على الشرق والغرب، وكانت إمبراطورية وحضارة ضخمة، إذن خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس كان لهم إنجازات واضحة رائعة، أما أهل البيت الذين عاصروهم كانوا علماء أتقياء، ولكن أين إنجازاتهم الحضارية التي على أساسها نعتبرهم من عظماء الإنسانية ومن رموز المجتمع البشري؟! هذا هو السؤال الذي طرحناه، ونجيب عنه بوجهين:

الوجه الأول: التفريق بين المعيار الكمي والمعيار الكيفي.

المعيار الكمي هو الذي يدرس العمل من خلال علته الصورية، بينما المعيار الكيفي هو الذي يدرس العمل من خلال علته الغائية. كل عمل له علتان: علة صورية، وعلة غائية، فمثلاً: مجيئك للمأتم الحسيني عملٌ، وهذا العمل له صورةٌ، وهي أنك أتيت وجلست في المأتم مستمعًا لخطيب المنبر، هذه صورة العمل، هذه تسمى العلة الصورية للعمل، ولكن ما هي أهدافك من المجيء؟ لماذا جئت إلى المأتم؟ هدفك من المجيء هو العلة الغائية للعمل، جئت لأجل الثواب، جئت للقاء الصديق، جئت للاستفادة من المحاضرة، جئت لإحياء ذكر الحسين... هدفك من العمل هو العلة الغائية للعمل، فهناك صورة، وهناك غاية للعمل.

نحن عندما نريد أن ندرس العمل من خلال صورته، هذا يسمى معيارًا كميًا، من يدرس العمل من خلال صورته، من خلال علته الصورية، هذا يسمى دراسة على أساس العامل الكمي. مثلاً: هذا جاء للمأتم، جلس ثلاث ساعات يستمع الخطباء المتعددين في هذا المأتم، نحن درسنا العمل من خلال العامل الكمي، من خلال صورة العمل، أما إذا أردنا أن ندرس العمل من خلال غاياته وأهدافه، لا من خلال صورته ومظهره، ما هي أهداف المجيء إلى المأتم؟ إذا كانت أهدافًا كبيرة عملاقة، فالعمل كبير وعملاق، وإن كانت صورته الشكلية صورةً محدودةً صغيرةً. إذا أردنا أن ندرس العمل من خلال غاياته وأهدافه، فالعمل حينئذ يكون عملاً كبيرًا وعظيمًا؛ لأن أهدافه كبيرة وعظيمة. إذن عندنا معياران: معيار كمي، ومعيار كيفي، المعيار الكمي يدرس العلة الصورية، والمعيار الكيفي يدرس الأهداف والعلة الغائية للعمل.

العمل قيمته بكيفه لا بكمه، وحتى يتضح المطلب نضرب بعض الأمثلة: لنفترض أن أديسون اخترع الكهرباء في خلال ساعة واحدة مثلاً، هذا عمل يُحدّد بساعة واحدة، وفي المقابل، يوجد إنسان آخر أسّس لنا مدينة تشتمل على مليون وحدة سكنية، إنسان خلال عشرين سنة بنى لنا مدينة تشتمل على مليون وحدة سكنية، هذا عمل، وذاك عمل، بحسب المعيار الكمي أيهما أفضل؟! طبعًا العمل الثاني، العمل الثاني كمه أكثر، عمل استغرق عشرين سنة، بنى لنا مليون وحدة سكنية، فبحسب المعيار الكمي العمل الثاني أفضل وأجود وأعظم من العمل الأول، وهو من اخترع الكهرباء خلال ساعة واحدة. ولكن إذا نظرنا إلى المعيار الكيفي رجحنا العمل الأول على العمل الثاني، هذا بنى مدينة تشتمل على مليون وحدة سكنية، ولكن كم ستبقى هذه المدينة؟ خمسين سنة؟! مئة سنة؟! هذه المدينة كم ستعطي؟! كم ستقدّم للبشرية؟! بينما هذا الذي اخترع الكهرباء إلى يومنا هذا وإلى ما بعد غد تعتمد وترتكز جميع المشاريع الحيوية على الاستفادة من طاقة الكهرباء، فعمل الأول بلحاظ المعيار الكيفي أقوى وأهم وأعظم من العمل الثاني، وإن كان بحسب المعيار الكمي العمل الثاني أفضل من الأول.

مثال أوضح يذكره علماء التربية: أنا مثلاً أمامي ولدي، ولدي عمره سبع سنوات، أو عشر سنوات، أريد أن أعلّمه، هناك طريقتان للتعليم: الطريقة الأولى هي الطريقة الكمية، يعني أنا منذ أن يكون عمري تسع سنوات أبدأ معه دروسًا، وأعلّمه ألف درس في مختلف الحقول، أعلّمه دروس التفسير، دروس التاريخ، دروس الفقه، دروس العقيدة، دروس علم الاجتماع، دروس علم النفس... ألف محاضرة ودرس أقرّرها على ولدي، هذه طريقة كمية في مجال التعليم، ولدي يصبح إنسانًا يجمع معلومات كثيرة وهائلة.

هناك طريقة أخرى: أنا قد أدرّس ولدي خمسة دروس فقط، من خلال هذه الدروس الخمسة أعلّمه آليات التعلم، أعلّمه أدوات التعلم، كيف يعتمد على نفسه في معرفة المعلومات من دون معلم، كيف أنا أوصل ولدي إلى هذا المستوى؟ من خلال خمسة دروس أعلّمه كيف يصبح إنسانًا مثقفًا اعتمادًا على نفسه، لا أحتاج أن أدرّسه ألف محاضرة، ولا أحتاج أن ألقي عليه ألف درس، بل تكفيني خمسة دروس من خلالها أعلّم ولدي كيف يتعلم، كيف ينتزع المعلومات، كيف يستنتج المعارف، كيف يصل إلى الحقائق، أدله على الأدوات، أدله على الآليات، أدله على كيفية برمجة المعلومات، تنقيطها، استنتاجها، الانتقال من الكبريات إلى الصغريات... أعلّمه طريقة التعلم، بخمسة دروس أهيّئ ولدي لكي يكون إنسانًا مثقفًا.

من الواضح أن الطريقة الأولى أفضل من الناحية الكمية، ولكن الطريقة الأخرى - كما يصرح علماء التربية - هي الأفضل من الناحية الكيفية، ليس المهم أن يحمل ولدك مليون معلومة، بل المهم أن يتعلم كيف يتعلم، المهم أن يمتلك أدوات التعلم، المهم أن يمتلك آليات التعلم، وليس المهم أن يحمل كمًا هائلاً من المعلومات.

من هذا المنطلق نرى الإمام أمير المؤمنين يقول: ”علمني رسول الله ألف باب، من كل باب يفتح لي ألف باب من العلم“، أنا أعتمد على نفسي، أنا أستقل في الوصول إلى المعلومات والنتائج، لأنه علّمني كيفية التعلم، كيفية اقتناص المعلومات، فإذن الطريقة الكيفية تتميز على الطريقة الكمية، والمعيار الكيفي أفضل من المعيار الكمي.

انطلاقًا من هذه النقطة نصل إلى الجواب: نحن كيف نقرأ سيرة أهل البيت؟ هل نقرؤها على أساس المعيار الكمي، أم على أساس المعيار الكيفي؟ كيف نقرأ سيرة أهل البيت؟ على أي أساس وعلى أي معيار؟ على أساس المعيار الكمي، أم على أساس المعيار الكيفي؟ هنا نضرب بعض الأمثلة والنماذج.

النموذج الأول: ضربة أمير المؤمنين يوم الخندق.

الإمام أمير المؤمنين ضرب عمرو بن ود يوم الخندق بضربة، وقطع فخذه، وألقاه على الأرض. هذا العمل من حيث المقياس الكمي عادي، مجرد ضربة سيف كسائر ضربات السيوف الأخرى، وهناك الكثير من المجاهدين ضربوا أعداءهم بالسيوف عدة ضربات، وهذه ضربة استغرقت دقيقة واحدة، فهي من الناحية الكمية ليست أمرًا عظيمًا، بحسب المعايير الكمية ليست أمرًا مهمًا وعظيمًا، مع أن رسول الله محمدًا قال: ”ضربة علي يوم الخندق تعدل أعمال الثقلين إلى يوم القيامة“، ضربة استغرقت دقيقة واحدة، تعدل أعمال الثقلين إلى يوم القيامة! لأن الرسول نظر إليها بالمعيار الكيفي، نظر إليها بالعلة الغائية، ولم ينظر إليها بالمعيار الكمي، ولم ينظر إليها بالعلة الصورية، ولم ينظر لصورة العمل، بل نظر إلى غايات العمل، وإنجازات العمل. هذا العمل صار مفتاحًا لانتصار الإسلام، لولا هذه الضربة لما انتصر الإسلام، وارتفع إلى الذرا، ولما صار لواء الإسلام مرفرفًا خالدًا إلى يومنا هذا. إذن هي تعدل أعمال المسلمين لأنها مفتاح الانتصار وبذرته، فهي تعدل أعمال المسلمين إلى يوم القيامة.

النموذج الثاني: حركة الحسين.

الحسين يوم عاشوراء خاض معركة عسكرية خلال ساعتين فقط، إذا قايسنا حركة الحسين بالحركات الأخرى، إذا قايسنا حركة الحسين بحركة الإخوة الفلسطينيين في فلسطين، قد تكون حركة الحسين أقل بكثير بحسب المعايير الكمية، وبحسب المعايير الرقمية، من هذه الحركة الفلسطينية. حركة استغرقت ساعتين، لا تملك هذه الحركة مقدارًا هائلاً من البطولات والتضحيات كما تمتلكها - بحسب المعايير الرقمية العددية - الانتفاضة الفلسطينية. إذا نظرنا إلى المعايير الرقمية والعددية نقول: انظر إلى الانتفاضة الفلسطينية! هذه أضعاف أضعاف أضعاف حركة الحسين ! حركة خلال خمسين سنة تقدّم شهداء وتضحيات وبطولات، ومصائب وفجائه ونوائب متعددة متلونة متغيرة، إذن فبالنتيجة: بحسب المعايير الكمية هذه الحركة أعظم.

ولكن بحسب المعيار الكيفي: الحسين بهذه الحركة فتح باب الاستشهاد، ما كان هذا الباب مفتوحًا قبل الحسين، الحسين أول من قام بعملية استشهادية، الحسين في هاتين الساعتين اللتين مارسهما يوم عاشوراء سجّل للبشرية وللمجتمع الإسلامي أول عملية استشهادية في سبيل حفظ المبادئ والقيم، فكان رمز الاستشهاديين، وكان رمز الفدائيين، وكان المفتاح لكل عمل استشهادي بعده. إذن إذا لاحظت حركة الحسين بالمقاييس الكيفية تجدها إنجازًا حضاريًا رائعًا.

النموذج الثالث: الإمامان العسكريان وفتح باب الاجتهاد.

كذلك إذا جئنا إلى الإمامين الهادي والعسكري «عليهما السلام»: لنفترض أنهما عاشا ثلاثين سنة، ماذا قدما؟ كانا يعيشان في سامراء، ويجيبان على الاستفتاءات التي تُرْسَل إليهما من قِبَل المؤمنين، إذن أين الإنجاز الحضاري لهذين الإمامين؟! الإنجاز الحضاري الذي أبدعه الإمامان العسكري والهادي هو فتح باب الاعتماد على العقل والحركة الاجتهادية. المسلمون منذ زمان النبي وإلى زمان الأئمة المتأخرين كانوا يعتمدون على النص، إذا أرادوا أن يعرفوا حكمًا رجعوا إلى النص الموجود في الكتاب أو في أحاديث النبي أو في أحاديث أهل البيت، وانتزعوا الحكم من النص، نص واضح يدل على حكم واضح.

من الطبيعي أن النصوص لا تستغرق الحياة كلها، كم نصًا موجودًا في القرآن والسنة؟! مئة ألف؟! مئة ألف لا تستوعب الحياة كلها، لنفترض أن مجموع القرآن والأحاديث مئة ألف نص، هذا الكم لا يستوعب جميع مسائل الحياة وحقولها بمختلف ألوانها وصورها المتجددة والمتغيرة والمتسعة بمرور الزمان واختلاف الحضارات والأدوار الإنسانية، مئة ألف نص لا تستوعب هذه المسائل كلها، إذن كان لا بد أن يأتي يوم تعتمد فيه البشرية على حركة العقل، تعتمد على المخزون العقلي، أي: تصبح النصوص مجرد مبادئ وقواعد عامة، أما الانطلاق من هذه القواعد والمبادئ العامة إلى استخراج أحكام قانونية عديدة بعدد مسائل الحياة، بعدد حقول الحياة، التي لا تنتهي ولا تحد، هذا يحتاج إلى الاعتماد على حركة العقل.

إذن كان المسلمون يحتاجون إلى مشروع حضاري، وهو مشروع الاعتماد على العقل، وما يسمى بمبدأ الاجتهاد، وهذا المشروع مارسه الإمامان العسكري والهادي «عليهما السلام»، تركا الأمة تعتمد على الفقهاء. بعثا الفقهاء في سائر الأمصار، أمرا الأمة بأن تعتمد على الفقهاء، فبدأ الفقهاء يعتمدون على حركة الاجتهاد، وبدأت الناس تنتفح على مبدأ الاعتماد على العقل، في الرجوع للفقهاء، والتمييز بينهم، والمقارنة بين فتاواهم وأدوارهم. إذن الإمامان العسكريان قاما بإنجاز حضاري رائع، وهو تعويد الأمة وتربيتها على اللجوء إلى مبدأ الاجتهاد وحركة العقل.

فنريد أن ننتهي من هذا الوجه، نقول: الجواب أنَّ سيرة أهل البيت إذا قرئت بالمقياس الكمي ربما يقول الإنسان: لا نرى إنجازًا حضاريًا واضحًا، ولكن إذا قرئت بالمقياس الكيفي رأى الإنجازات الحضارية المتعددة الواضحة.

الوجه الثاني: التفريق بين القراءة التفكيكية والقراءة الجمعية.

أنت الآن مسلم، ومأمور بعدة أوامر، الله «تبارك وتعالى» يقول: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، أنت مأمور بذكر الله، أنت أيضًا مأمور بالتعلم، ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، الرسول يقول: ”اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد“، أنت مأمور بمودة أهل البيت ، ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أنت مأمور بطلب الثواب، حاول بقدر ما تستطيع أن تحصل على أكبر قدر من الثواب، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، أنت مأمور بأربعة أوامر، فكيف تتمثل لهذه الأوامر الأربعة؟ أمامك طريقتان: الطريقة التفكيكية، والطريقة الجمعية.

ربما تمتثل هذه الأوامر بأعمال متعددة، وربما تمتثل هذه الأوامر بعمل واحد. أنا لأجل أن أمتثل هذه الأوامر الأربعة أقول: أنا مأمور بذكر الله، فلأقرأ دعاء التوسل، هذا امتثال للأمر الأول، أنا مأمور بالتعلم، فلأحضر محاضرة ثقافية في النادي الفلاني أو في القاعة الفلانية، أنا مأمور بمحبة أهل البيت، فلأقرأ قصيدة في مدح أهل البيت، ترسّخ في قلبي المحبة والمودة لهم، أنا مأمور بطلب الثواب، فلأصل رحمي حتى أحصل على الثواب، فقد امتثلت أوامر أربعة بأربعة أعمال، هذه طريقة تفكيكية. أما الطريقة الجمعية: أن أحضر للمأتم الحسيني، بغية الثواب الإلهي، حضوري للمأتم يكون امتثالاً لأربعة أوامر: حضوري للمأتم هو في حد ذاته ذكر الله تبارك وتعالى، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. حضوري للمأتم طلبٌ للعلم؛ لأنني أستفيد من محاضرات المأتم، من علوم هذا المأتم. حضوري للمأتم هو في حد ذاته ترسيخٌ لمحبة أهل البيت ومودتهم . حضوري للمأتم هو في حد ذاته تزوّدٌ من الثواب والأجر الجزيل، الذي وُعِدَ به من يشيّدون ذكر أهل البيت، ويحيون أمر أهل البيت. إذن أنا بعمل واحد امتثلتُ عدة أوامر. هذه نسميها طريقة جمعية، جمعت الامتثالات في حركة واحدة وعمل واحد.

قراءة سيرة الإمام زين العابدين بنظرة مجموعية:

نفس هذه النظرة نطبقها في قراءة سيرة أهل البيت، فمثلاً: كيف نقرأ سيرة الإمام زين العابدين ؟ الكثير من الباحثين والعلماء والخطباء، إذا استعرضوا سيرة الإمام زين العابدين، ماذا يقولون؟ كان للإمام دور روحي، وهي عباداته، صحيفته السجادية. كان للإمام دور سياسي، وهو بكاؤه على أبيه الحسين . كان للإمام زين العابدين دور ثقافي، وهو تعليم ولده الإمام الباقر مقاليد النبوة ومواريث الإمامة. كان للإمام زين العابدين دور اجتماعي، وهو صدقاته ونفقاته. إذن الإمام له أدوار متعددة. هذه نسميها طريقة تفكيكية، أي: نظرنا لحركة الإمام زين العابدين نظرة تفكيكية، حيث فكّكنا أعماله إلى أدوار متعددة، وجعلنا كل جزء من أعماله يندرج تحت دور معين، وتحت عنوان معين.

أما إذا نظرنا لزين العابدين كل عمل منه، حتى العمل البسيط، كل عمل من أعماله هو في حد ذاته يحمل أدوارًا متعددة، العمل الواحد يحمل إنجازات متعددة، العمل الواحد يحمل أدوارًا متعددة، فهذه قراءة جمعية وليست قراءة تفكيكية. مثلاً: ابن شهاب الزهري يروي عن الإمام زين العابدين : رأيتُ الإمام زين العابدين في ليلة مظلمة، وهو يحمل جرابًا على ظهره، قلتُ له: إلى أين سيدي؟ قال: إلى سفر أعددتُ له زادًا. بعد أيام رأيتُه، قلتُ: سيدي، قلتَ بأنك على سفر ولم تسافر؟! قال: ”ليس السفر ما ظننت، إنه سفر الآخرة، وزاده الورع عن محارم الله، وبذل الندى في الخير“، هذا هو زاد السفر الأخروي.

أبعاد حمل جراب الطعام:

هنا أخذنا بالكاميرا لقطة من حياة الإمام زين العابدين، هذه اللقطة الواحدة تحمل أدوارًا كثيرة، تحمل إنجازات كثيرة، لا حاجة إلى أن نقول بأن الإمام كان له دور روحي ودور تربوي ودور... إلخ، نفس هذه اللقطة الواحدة تحمل في طياتها وتختزن في ذاتها إنجازات حضارية متعددة، هذه اللقطة الواحدة، وهذا هو موطن الإبداع، كيف يكون الأئمة مبدعين لولا ذلك؟! الإمام زين العابدين عندما يحمل جراب الطعام المملوء من الخبز واللحم، ويدور به على فقراء المدينة، هذا في حد ذاته دور روحي، لأن الدور الروحي هو العبادة، والعبادة لا تقتصر على الصلاة والعمل المحرابي، بل العبادة لها ألوان وأشكال مختلفة، والصدقة من أفضل مصاديق العبادة. من أفضل أنواع العبادة الصدقة، الإمام زين العابدين وهو يحمل جراب الطعام هو يمارس عبادة ودورًا روحيًا عظيمًا، وهذا ما صنعه الإمام علي عندما تصدق بخاتمه وهو راكع، الإمام وهو في عبادة جمع عبادة أخرى، تصدق بخاتمه وهو راكع، فجمع عبادتين: عبادة محرابية، وعبادة اجتماعية، جمع علاقتين في آن واحد وفي حركة واحدة. الإمام زين العابدين عندما يمارس الصدقة والإنفاق فهو يقوم بعمل عبادي، وهذا دور روحي.

ونفس هذا العمل هو عملٌ اجتماعيٌ، مضافًا إلى أنه دور روحي، هو دور اجتماعي أيضًا. الإمام زين العابدين يعلّم الأمة الإسلامية مبدأ التكافل والتضامن الاجتماعي، هل توجد صورة أروع من هذه الصورة للتكافل الاجتماعي؟! أصحاب الصناديق الخيرية، أصحاب الجمعيات والمؤسسات الخيرية، هل يرون صورة أجلى وأروع للتكافل الاجتماعي من أن يخرج قائد الأمة في زمانه، يحمل جرابًا من الطعام، يدور به على الفقراء، يلقمنهم بنفسه، يغذينهم بنفسه، يرعاهم بنفسه، يداريهم بنفسه، هل توجد صورة حية أجلى وأروع للتكافل الاجتماعي من هذه الصورة التي كان يمارسها زين العابدين ؟! هذا دور اجتماعي.

وهو في نفس الوقت دور سياسي؛ لأن السياسة الأموية تعاملت مع المجتمع الإسلامي آنذاك بسياسة التجويع والحرمان، انتشر الفقر في المجتمع الإسلامي، وانتشرت البطالة في المجتمع الإسلامي، وضيّق بنو أمية موارد الرزق على المسلمين في ذلك الوقت، تعاملت الدولة الأموية مع الأمة بسياسة التجويع والحرمان، وكان لا بد من دور إعلامي مضاد للدور الأموي، كان للأمة من دور إعلامي مضاد للدور الأموي، وهو ما تكفّل به الأئمة . الأئمة عندما يقومون، ويحملون جراب الطعام، ويدورون على فقراء المدينة، ليست هذه حركة رياضية، يمارسها من يمشي على الكورنيش لممارسة الرياضة البدنية! بل هذه الحركة التي يمارسها زين العابدين هي إعلامٌ مضادٌ للسياسة الأموية، يريد أن ينبّه هذه الطبقة الفقيرة من الأمة، هذه الطبقة الكادحة من الأمة، يريد أن ينبههم على مدى مقت الدولة الأموية لهم، وأنهم تركوهم يعيشون ألوانًا مأساوية من الجوع والحرمان، إلى أن اضطر أهل البيت إلى أن يدوروا بالأطعمة على بيوتهم يوميًا وليلاً، فهذا دور سياسي في نفسه.

وهو دور ثقافي أيضًا، الإمام زين العابدين يعلم بأنه سيصادفه في الطريق ابن شهاب الزهري، كان بإمكانه أن يسلك طريقًا آخر حتى لا يراه ابن شهاب، ابن شهاب عندما سأله كان بإمكان الإمام زين العابدين ألا يجيب ويسكت عن الجواب، إذن الإمام مروره على ابن شهاب، ودخوله مع ابن شهاب في محاورة ثقافية حول السفر الأخروي وزاده، الإمام قام بدور ثقافي في ضمن قيامه بدور اجتماعي.

إذن فالإمام في عمل واحد، وفي حركة واحدة، مارس أدوارًا متعددة. في عمل واحد، قام بإنجازات متعددة: دور روحي، دور تربوي، دور اجتماعي، دور ثقافي... أدوار تلخصت في عمل واحد، وفي حركة واحدة. ينبغي أن نقرأ سيرة أهل البيت هكذا، ينبغي لنا أن نقرأ سيرة أهل البيت بقراءة جمعية لا بقراءة تفكيكية، بقراءة ننظر إلى كل عمل منهم كيف يختزن هذا العمل الواحد البسيط إنجازات وأدوارًا وأهدافًا عديدة، هذه القراءة الجمعية هي التي تُظْهِر لنا عظمة أهل البيت، وإبداع أهل البيت، وإعجاز أهل البيت، وأهمية أهل البيت، وكيف استطاعوا في حركة واحدة أن يجمعوا مشاريع وأعمالاً وأدوارًا وأهدافًا عديدة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». وكان من إنجازات الإمام زين العابدين أنه بكى على أبيه سنين طويلة، وكان يثير المشاعر والعواطف ضد الاضطهاد والظلم الأموي ببكائه وبدمعته الساخنة.