مفهوم الحق في المنظور الإسلامي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تناولت مفردةً من المفردات القانونية، ألا وهي عنوان الحق، وعندما نريد أن نتحدث عن عنوان الحق، فإننا نتحدث في ضمن نقطتين:

  • في تحليل مفهوم الحق.
  • وفي خصال حق الصدقة والإنفاق.
النقطة الأولى: تحليل مفهوم الحق.

هذه نقطة دقيقة جدًا تستدعي منك مقدارًا من الالتفات والتركيز، وأنا أذكر أمورًا ثلاثة إذا اتضحت يتضح معنى مفهوم الحق.

الأمر الأول: ما هو الفرق بين الأمر الاعتباري والأمر الواقعي؟

يقول الفلاسفة: الأمر الاعتباري هو ما يختلف باختلاف الأذهان، والأمر الواقعي هو الذي لا يختلف باختلاف الأذهان، فمثلاً: علاقة الإنسان بالإنسان الآخر أحيانًا تكون علاقة واقعية، وأحيانًا تكون علاقة اعتبارية. عندما تكون بيني وبين إنسان علاقة محبة وصداقة، فهذه علاقة واقعية، أمر واقعي لا يختلف باختلاف العقول، هذا أمر واقعي لا يتغير، مثل جاذبية الأرض وطلوع الشمس. هذا أمر واقعي لا يختلف باختلاف العقول، فلا يصح أن يأتي عقل ويقول: هذا أمر موجود، ويأتي عقل آخر ويقول: هذا أمر غير موجود، فالأمر الواقعي لا يختلف باختلاف العقول. بينما علاقة الأمومة أو الولدية علاقة اعتبارية وليست واقعية، وحتى يتضح المطلب نضرب مثالاً فقهيًا.

لو أخذنا بويضة امرأة، ولقحناها مع المادة المنوية لزوجها، ثم وضعنا هذه البويضة في رحم امرأة أخرى، والمرأة الأخرى هي التي ولدت هذا الإنسان، فمن أمه؟ هل الأم من أولدته أم الأم هي صاحبة البويضة؟ الفقهاء يختلفون هنا، بعض الفقهاء - مثل سيدنا الخوئي قدس سره - يقولون: الأم هي التي أولدته حتى لو كانت مستأجرة، لأن القرآن يقول: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، بينما السيد الأستاذ السيد السيستاني «دام ظله» يقول: أمه هي صاحبة البويضة.

إذن الفقهاء يختلفون في تحديد من هي الأم، هذا معناه أن الأمومة ليست علاقة واقعية، بل هي علاقة اعتبارية، فقيه يرى الأمومة هكذا، وفقيه يرى الأمومة هكذا، إذن الأمومة ليست أمرًا واقعيًا؛ لأنها تختلف باختلاف العقول، وليست مثل علاقة المحبة، فإن علاقة المحبة أمر واقعي لا يختلف باختلاف العقول. علاقة الأمومة تختلف باختلاف العقول، الموازين تختلف، إذن الأمومة أمر اعتباري، وليس أمرًا واقعيًا.

نفس الشيء بالنسبة لعلاقة الولدية، فمثلاً: افترض أن امرأة متزوجة وزنت والعياذ بالله، وبعد ذلك أنجبت ولدًا، شكننا أن هذا الولد من نطفة - والعياذ بالله - الزنا، أم أنه من زوجها، فحينئذ يُلْحَق الولد بزوجها، يُعدّ هذا الولد ولدًا لزوجها، حتى ولو كانت قد زنت مع رجل آخر، المسألة مسألة اعتبارية وليست واقعية، لأنه ورد عن الرسول محمد : ”الولد للفراش، وللعاهر الحجر“، أي: الزاني لا يعطى شيئًا، لا حق له في شيء، الزاني حقه الرجم، وليس من حقه أن ينسب له الولد.

إذن الولدية مسألة اعتبارية، والأمومة مسألة اعتبارية، تختلف باختلاف الآراء والاعتبارات، بينما المحبة أمر واقعي، لا يختلف باختلاف الاعتبارات، ولا يختلف باختلاف الآراء، فالفرق بين الأمر الواقعي والأمر الاعتباري: أن الأمر الواقعي لا يتغير بتغير الآراء، والأمر الاعتباري يتغير بتغير الآراء والاعتبارات.

الأمر الثاني: ما هي حقيقة الاعتبار؟

هذا بحث فلسفي دقيق.. الاعتبار عملية محاكاة عالم التكوين بهدف نقل الأثر النفسي، فمثلاً: الفنّان الذي يرسم لوحة زيتية معينة، كما لو رسم طفلاً يبكي، ومعه دمار ومنازل مهدمة، وأموال تالفة، هذا الإنسان الفنّان عندما يرسم هذه اللوحة، هذا الرسم خيال، الخيال هي عملية محاكاة، فهذا رأى في عالم الواقع، في عالم التكوين، رأى صورة طفل يبكي، رأى صورة ضحايا، رأى صورة منازل مهدمة، هذه الصور أراد أن يحاكيها، يعني: أراد أن يحاكي تلك الصور التي رآها، هي صور واقعية، لكنه أراد أن يحاكيها، فرسم لنا بريشته المبدعة صورةً تحاكي الواقع، تحاكي ما هو حاصلٌ في الواقع، إذن هناك عملية المحاكاة، فما هو الهدف من عملية المحاكاة؟

الهدف هو نقل التأثير. الإنسان عندما يدخل فلسطين، ويرى أمام عينيه الطفل الذي يبكي، والمنازل المهدومة، وآثار الدمار، كما ان هذا الإنسان يتأثر تأثرًا نفسيًا بليغًا، كذلك الإنسان الذي يرى الصورة المعبرة يتأثر بنفس الأثر، فهناك عملية محاكاة بين عالم الرسم وعالم الواقع، والهدف من عملية المحاكاة نقل الأثر الذي كان للواقع إلى اللوحة.

نأتي لعملية الاعتبار: لو قلتُ لك مثلاً: غاندي أسد، الإمام الخميني أسد.. أنا لماذا أقول أسد؟ هذه عملية اعتبارية، تمامًا مثل عملية الرسم، ذاك يرسم لك صورة أسد، وأنا أقول لك: غاندي أسد، عمر المختار أسد. أنا عندما أقول: ”أسد“ فهذه عملية اعتبار، هو ليس أسدًا، الأسد حيوان مفترس، ولكنني أنقل الصورة التي للأسد إلى غاندي، هذه عملية اعتبار، أجعل نوعًا من المحاكاة بين غاندي وصورة الأسد، ما هو الهدف من عملية المحاكاة؟ الهدف: نقل الأثر، فكما للأسد أثر نفسي، وهو أثر الرهبة والإعجاب، الإنسان إذا رأى الأسد يصاب بأثر نفسي، وهو الرهبة من الأسد، والإكبار للأسد، أنا أريد نقل هذا الأثر إلى عمر المختار، فأقول: عمر المختار أسد، حتى تنطبع في ذهنك نفس الصورة، وينطبع في نفسك نفس الأثر، فتعيش أثر الرهبة والإعظام لعمر المختار، كما تعيشه إذا رأيت الأسد الحقيقي، فعملية الاعتبار عملية محاكاة بهدف نقل الأثر.

مثال آخر: لو قلتَ مثلاً: ابنتي قمر، من الواضح أن ابنتك ليست قمرًا! بل القمر كوكب في السماء، لكنك عندما تقول بأن ابنتك قمر فمقصودك من هذا عملية المحاكاة، لأجل نقل الأثر، فكما أن للقمر أثرًا نفسيًا، وهو أن من رآه يصاب بالإحساس الجمالي، وبإحساس المحبة، وبإحساس البهجة والانشراح، أنا أيضًا أريد نقل الأثر، فأقول: ابنتي قمر، حتى ينتقل الأثر من القمر الحقيقي إلى القمر الاعتباري الخيالي، فهي عملية محاكاة بهدف نقل الأثر.

مثال ثالث: لو قلتُ لك مثلاً: الجماعة الفلانية علوج! أنت تستغرب، ما معنى علوج؟! هذه عملية اعتبارية وليست حقيقة، العلوج جمع علج، والعلج هو ذميم الوجه وسخ البدن، الشخص قبيح المنظر وسخ البدن يقال له علج، فالعلوج هم الأشخاص الذين وجوههم قبيحة وأبدانهم متسخة، هذه عملية اعتبارية، الغرض منها نقل الأثر، كما أن الإنسان لو رأى أمامه عشرين رجلاً قبيحي الوجوه متسخي الأبدان، فلا شك في أنه يصاب بالانهيار والتأذي النفسي! لأنه رأى قباح الوجوه وسخي الأبدان، وأنا أريد أن أنقل الصورة، فأقول لك: الجماعة الفلانية علوج، حتى تنعكس نفس الصورة التي تنعكس في ذهنك عندما ترى العلوج الحقيقيين، وتنتقل إلى العلوج الاعتباريين. إذن عملية الاعتبار هي عملية محاكاة شيء واقعي لشيء اعتباري بهدف نقل الأثر النفسي، أنا أنقل الأثر النفسي من الواقع إلى الاعتبار، هذا يسمى بعملية الاعتبار.

الأمر الثالث: الإنسان له سلطنة تكوينية، وله سلطنة اعتبارية.

الإنسان له سلطنة على قلبه، وله سلطنة على لسانه، وله سلطنة على عمله وحركته، لكن كل نوع من أنواع هذه السلطنة يختلف عن النوع الثاني، سلطنة الإنسان على قلبه أقوى من سلطنته على لسانه، وسلطنته على لسانه أقوى من سلطنته على فعله وعمله، كل نوع من أنواع السلطنة هو أضعف من السلطنة الأخرى.

سلطنة الإنسان على العمل، مع أنها سلطنة تكوينية، مثلاً: أنا آتي وأصعد المنبر، وأجلس من أجل أن أتحدث، هذا عمل من أعمالي، ولي سلطنة عليه، ولكن هذه السلطنة قابلة للمزاحمة، فقد يأتي شخص آخر، ويصعد معي على المنبر، ويجلس معي على المنبر، وكلما أردت أن أتكلم هو يتكلم، وكلما أردت أن أتحرك هو يتحرك، لا يجعلني أؤدي عملي كما أريد، فأنا عندي سلطنة على عملي، لكنها سلطنة خاضعة للمزاحمة، أي: قابلة لأن تزاحم وتُكْسَر.

وهناك نوع أقوى من السلطنة، كسلطنتي على لساني، لا يستطيع أن يأتي شخص ويزاحمني، بمعنى أن يأخذ لساني ويتكلم به كما أنا أتكلم! كل إنسان له لغة، حتى الأخوين التوأمين المتشابهين، فإنهما يتشابهان في كل شيء إلا اللسان، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، كل إنسان له لغة، له أسلوب، له طريقة في النطق، له طريقة في الكلام، كل إنسان يختلف لسانه عن لسان الآخر، مستحيل أن يأتي إنسان ويستعير لساني، ويتكلم به كما أتكلم به أنا، فإذن سلطتني على اللسان لا تقبل المزاحمة، لكنها تقبل الإكراه، فيمكن أن يأتيني إنسان ظالم ويكرهني، يقول لي: امدح فلانًا، وأنا لا أريد مدحه، أو يكرهني على الذم، وأنا أذم فلانًا، ولكنني مكره على ذمه، أو يأتي إنسان ظالم ويقول لي: اسكت عن الموضوع الفلاني، وأنا لا أريد أن أسكت، ولكنني أكره على السكوت عنه. إذن اللسان يمكن.. مع أن عندي سلطنة تكوينية عليه، لكن هذه السلطنة التكوينية تقبل الإكراه، يمكن أن أكره على لفظ لساني وخطابه.

عندنا سلطنة أقوى من هاتين السلطنتين كليتهما، وهي سلطنة الإنسان على قلبه، فإنها لا تقبل المزاحمة ولا الإكراه، سلطنتي على قلبي سلطنةٌ لا يمكن أن يزاحمني أحدٌ فيها، بأن يستعير قلبي، ولا يمكن أن يكرهنني أحد عليها، لا يستطيع إنسان أن يسيطر على قلبي أبدًا، القلب منطقة حرة تعيش ديمقراطية، تحب من تشاء، وتبغض من تشاء، تفرح متى تشاء، وتحزن متى تشاء، تعتقد بما تشاء، وتنكر ما تشاء.. القلب منطقة حرة، ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، الدين لا يمكن الإكراه فيه، لأن الدين موطنه القلب، الدين هو الاعتقاد، الدين هو العقيدة، والعقيدة موطنها القلب، والقلب منطقة الحرة، إذن الدين دائمًا حر، ولا يمكن الإكراه عليه.

أحمد شوقي أمير الشعراء عنده منظومة قيس وليلى، منظومة جميلة جدًا، يتعرض لهذه المسألة، ويبين كيف تختلف سلطنة الإنسان على لسانه عن سلطنته على قلبه، فيقول:

وذا ابن ذُرَيْح رضيع الحسين
أحب     الحسين     iiولكنما
حبست  لساني  عن  iiمدحه

 
فديت  الرضيعين  iiوالمرضعا
لساني   عليه  وقلبي  iiمعه
أخاف    أمية   أن   iiتقطعه

سلطنة الإنسان على لسانه تختلف عن سلطنة الإنسان على قلبه، هذه المنظومة تتضمن معاني تاريخية جميلة جدًا، إذا كان بإمكانكم قراءة هذه المنظومة الشعرية الأدبية لأحمد شوقي، التي فيها أيضًا قيس لما جاء إلى ليلى، ورأته الفتيات وهن حول ليلى، ضحكن من رؤيته، فقال قيس:

ما  الذي  أضحك iiمني
ألأني     أنا    iiشيعيٌ
اختلاف          iiالرأي

 
ظبيات        iiالعامرية
وليلى           iiأموية
لا يفسد في الود قضية

إذن هناك سلطنة على اللسان، وهناك سلطنة على القلب، وبين السلطنتين اختلاف. هذا الاختلاف في درجات السلطنة، سلطنة الإنسان على قلبه أقوى من سلطنته على لسانه، وسلطنته على لسانه أقوى من سلطنته على عمله، هذه مسألة تكوينية. الفقهاء والمقنّنون يريدون تشكيل الاعتبار محاكيًا لعالم التكوين، فكما أن الإنسان عنده سلطنة تكوينية تتفاوت، كذلك له سلطنة اعتبارية تتفاوت، كيف؟ حتى يتضح ذلك أذكر بعض الأمثلة الفقهية المفيدة.

مثال: لو أتى شخص إلى أرض موات خارج حريم البنيان - أي: أرض خالية لا زرع فيها خارج حدود البلاد - وحجّر هذه الأرض، بمعنى أنه جعل عليها حاجز معين من الألمنيوم أو الخشب مثلاً، فهل ملكها بهذا الحجز؟ لا، لكن صار له حق فيها، وهو حق التحجير، بمجرد أن يحجّرها يصبح له فيها حق التحجير، ولكن إذا زرع الأرض، وضع فيها البذور، سقاها بالماء، فأنبتت، بمجرد أن تنبت تصبح الأرض ملكًا له، ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“، صارت الأرض ملكًا لي. إذن عندنا نوعان من السلطنة: السلطنة الأولى نسميها حقًا، وهي التي تتم بالتحجير، والسلطنة الثانية نسميها ملكًا، وهي التي تتم بالإحياء، وبين السلطنتين تفاوت.

كما أن سلطنة الإنسان على لسانه أقوى من سلطنته على عمله، كذلك أيضًا السلطنة الملكية أقوى من السلطنة الحقية، أي أن الحق سلطنة، والملك سلطنة، ولكن الحق سلطنة أضعف من سلطنة الملك، وهكذا حاكينا عالم الاعتبار بعالم التكوين، سلطنة الإنسان على الحق أضعف من سلطنته على الملك، لماذا؟ أشرح لك بالآثار.

الأثر الأول: الحق قابل للإسقاط، بينما الملك ليس قابلاً للإسقاط.

أنا بمجرد أن أدخل هذا المسجد، أنا لا أملك أرض المسجد، لكن بمجرد أن أضع قبعتي في مكان، أو أضع ساعتي في مكان، أريد أن أصلي فيه، صار لي حق في المكان، التربة ليست حقًا، التربة لا تجعل لك حقًا، التربة ليست من مختصاتك، لو أخذ إنسان تربة ووضعها في المكان وذهب، لا يصبح له حق بمجرد التربة، بل لا بد من وضع شيء من مختصاته أو يكون جالسًا في المكان، حتى يصبح له حق في المكان، فأنا عندما آتي لمكان وأجلس فيه، صار لي حق السبق، فلا يجوز لغيري مزاحمتي في هذا المكان، ولو أتى شخص وأبعدني عن المكان وصلى فيه، لكان في صلاته إشكال؛ لأنه صلى في موضع حق السبق.

ولكن حق السبق حقٌ قابلٌ للإسقاط، فيمكن للإنسان أن يسقط حقه ويجعل غيره يصلي في مكانه، فالحق أمر يقبل الإسقاط، لأن الحق سلطنة ضعيفة، لكن الملك لا يقبل الإسقاط، فمثلاً: أنا أعرضت عن خاتمي، هو ملكي، ولكنني أعرضت عنه، ورميته في مكان معين، هل خرج عن ملكي؟ لا، لم يخرج عن ملكي، لا يخرج عن ملكي بمجرد الإعراض، ولهذا لو رميته في مكان، وبقي إلى أن جاءتني الوفاة، ومت، يصبح هذا الخاتم ميراثًا لورثتي، ما خرج عن ملكي بمجرد إسقاطه في مكان معين، وإنما يخرج عن ملكي إذا أخذه شخص وتصرف فيه تصرف المُلّاك، شخص جاء بعد أن أعرضت عنه، فأخذه ولبسه، وتصرف فيه، إذا أخذه وتصرف فيه تصرف المُلّاك خرج عن ملكي حينئذ ودخل في ملكه، لكنه لا يخرج عن ملكي بمجرد الإسقاط والإعراض. إذن الملك سلطنة قوية لا تقبل الإسقاط، والحق سلطنة ضعيف تقبل الإسقاط.

الأثر الثاني: الملك يقبل النقل، بينما الحق لا يقبل النقل.

أنا إذا عندي سيارة ملكي، أستطيع نقلها إليك بالبيع، أستطيع بيعها عليك وأنقلها لك، فتنتقل السيارة من ملكي إلى ملكك، فالملك يقبل النقل، بينما الحق يقبل رفع اليد ولا يقبل النقل. مثلًا: أنت تصطاد سمكة ميتة من البحر، أخرجتها من البحر وهي ميتة، فلا تملكها، ولكن يكون لك حق فيها، يسمى حق الاختصاص، لو أتيت وعرضتها في سوق، وأتى كوري، الكوري لا يهمه حياتها من موتها، فلو أراد شراء هذه السمكة، فقلتَ له: هذه أخرجتها من البيت ميتة، وقال: لا بأس بذلك! هل يجوز أن تبيعها؟ لا، وإنما ترفع يدك عن الحق، أنت ما صار لك ملك فيها، ولكنك ترفع يدك عن الحق فيها، تقول له: أنا لي حق الاختصاص في هذه السمكة الميتة، وأرفع يدي عن حقي مقابل مبلغ معين، هذا يسمى رفع اليد عن الحق وليس بيعًا، ليس من باب البيع والنقل، وإنما هو من باب رفع اليد عن الحق. إذن الملك يقبل النقل، والحق لا يقبل النقل.

مثال فقهي أوضح: مسألة الأسهم، أنت مثلًا عندك أسهم في البنك، هذه الأسهم أسهم اعتبارية وليست حقيقة، أنت ليس عندك سهم في شركة لها أعيان وأجهزة، إذ إن البنك ليس عنده أعيان، ليس عنده عقار حتى يكون لك سهم فيه، عندك سهم في البنك، يعني ماذا؟! يعني: البنك إذا عنده مئة مليون، وأنت عندك مليون، عندك 1% من أموال البنك لا أقل ولا أكثر، لا يوجد شيء حقيقي، مسألة اعتبارية.

بعض الفقهاء - وكان منهم سيدنا الخوئي «قدس سره» والسيد الكلبيكاني «قدس سره» - يقولون: لا يجوز شراء الأسهم من البنوك الربوية، فلو اشترى إنسان، ماذا يفعل؟! إنسان لم يعرف هذا الحكم، واشترى أسهمًا من البنوك الربوية، عنده مجموعة من الأسهم في البنوك الربوية، كيف يتخلص منها؟! ماذا يفعل؟! عنده أسهم تقدّر بمئة ألف مثلًا، كيف يتخلص من هذه الأسهم وقد اشتراها؟! يقول لك: ليس له حق البيع، إذ لا يوجد شيء حتى يبيعه، وإنما يرفع يده عن حقه، له حق عقلائي في هذا البنك، ويرفع يده عن حقه، يقول: أنا أرفع يدي عن حقي في البنك - أي: في الأموال الموجودة والمنسوبة لي في البنك - مقابل مبلغ معين، يسلَّم له المبلغ وتنتهي المشكلة، فهذا من باب رفع اليد عن الحق، وليس من باب البيع والشراء.

إذن عندما نرجع للآية المباركة التي افتتحنا بها: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، ما معنى الحق؟ شرحت لك أمورًا كثيرةً حتى أوصلك لهذه النقطة: الحق هو عبارة عن سلطنة اعتبارية أضعف من سلطنة الملك، لأن هناك فرقًا بين الحق وبين الملك، وهذه السلطنة الاعتبارية لها آثار: تسقط بالإسقاط، ولا تقبل النقل والبيع، وإنما تقبل رفع اليد مقابل دفع مبلغ معين.

النقطة الثانية: خصال حق الصدقة والإنفاق.

من الحقوق: حق الصدقة الذي تعرضت له الآية المباركة: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، حق الصدقة يتناوله الإمام زين العابدين في رسالته رسالة الحقوق، رسالة معروفة ومشهورة، تُظْهِر مدى العقلية القانونية للإمام زين العابدين، تُظْهِر مدى حجم المعلومات القانونية التي أفرغها الإمام زين العابدين من خلال رسالته العظيمة العملاقة: رسالة الحقوق. الإمام زين العابدين عندما يتعرض لحق الصدقة يقول: ”وأما حق صدقتك عليك: فأن تعلم أنَّها ذخرك عند ربك، وأنها وديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد عليها؛ لأنك أودعتها عند أمينٍ لا يخون الوديعة، فإذا علمتَ بذلك، فكن بما اُسْتُودِعْتَهُ سرًا أوثق منك بما اُسْتُودِعْتَهُ علانية“، ما معنى هذه الكلمات عن الإمام زين العابدين ؟ الإمام زين العابدين يتعرض إلى خصال ثلاث للصدقة.

الخصلة الأولى: أنها وديعة.

أنت لا تحتاج أن تُشْهِدَ عليها؛ لأنك أودعتها أمينًا لا يخون الوديعة، فما معنى كون الصدقة وديعة؟ القرآن الكريم يعبّر عن الصدقة بتعبير دقيق جدًا: ﴿هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ، كيف يأخذ الصدقات؟ الذي أخذ الصدقة هو الفقير وليس الله، فكيف تقول الآية بأن الله هو الذي يأخذ الصدقات وليس الفقير؟! الآية القرآنية تقول: الله يأخذ الصدقة، فما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أن أقرب عمل إلى الله «تبارك وتعالى» هذه صدقة، أقرب عمل يدنيك من الله عز وجل هو هذه الصدقة، التي تدفعها قربةً إلى الله تبارك وتعالى، القرآن يريد أن يصوّر لك كيف يصبح الله قريبًا منك عندما تدفع الصدقة، كأنه يأخذ الصدقة من يديك تمامًا. أنت تناولها الفقير، ولكن اليد الإلهية تتناولها قبل أن تتناولها يد الفقير، أقرب عمل يدنيك من ربك ويجعلك قريبًا جدًا من ربك تبارك وتعالى هو الصدقة، الله يأخذ الصدقة من يدك، هذه كيانة عن شدة القرب، وشدة الرحمة التي يصبغها الله تبارك وتعالى على المتصدقين.

الخصلة الثانية: أنها ذخرك.

كيف تكون الصدقة ذخرًا عند الله تبارك وتعالى؟! هذا الذخر يبقى حتى بعد موت الإنسان، ولذلك ورد عن الرسول محمد : ”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنْتَفَع به، وولد صالح يدعو له“، الصدقة الجارية تبقى حتى بعد الموت، أيوجد ذخر أعظم من هذا الذخر؟! ذخر يبقى حتى بعد موت الإنسان، يدر عليه الثواب، ويدر عليه الرحمة، هذا الإنسان في قبره كل يوم تهطل عليه رحمة من الله عز وجل، فإذا سأل عن منشئها، قيل: هذه صدقتك، صدقتك الجارية ما زالت تدر عليك الرحمة، وما زالت تدر عليك الأجر والمثوبة.

الخصلة الثالثة: صدقة السر.

”فإذا علمت بذلك، فكن بما اُسْتُودِعْتَهُ سرًا أوثق منك بما اُسْتُودِعْتَهُ علانية“، صدقة السر تربّي الإنسان على الإخلاص لله، تربّي الإنسان على الارتباط بالله، تربّي الإنسان على أن يعيش علاقة روحية حميمة مع ربه عز وجل، كما ورد عن الإمام زين العابدين : ”صدقة السر تطفي غضب الرب“. ولذلك كان الأئمة منوالهم دائمًا صدقة السر، الإمام علي سنَّ السنة، ومشى على هذه السنة ذريته وأبناؤه. الإمام علي يحمل جراب الطعام، وهو خليفة المسلمين، وقائد الأمة في زمانه، لكن يحمل جراب الطعام على ظهره، يملؤه خبزًا ولحمًا، وهو يأكل اللحم اليابس، ويرش عليه الملح والخل، ولكن يحمل الخبز واللحم على ظهره، يدور به على فقراء الكوفة، ويدور به على فقراء المدينة.

وكذلك أبناؤه من بعده، مشوا على نفس السيرة، مشوا على نفس الخط، الإمام الحسين سنين طويلة يمشي جراب الطعام على ظهره، يدور به على فقراء المدينة، يتفقد أوضاعهم، يكسوهم، يشبعهم، يغذيهم، يسقيهم، إلى أن قُتِل ، وجاء السُلّاب، وسلبوا الثوب الذي على صدره وظهره، فانكشف ظهره، فرأوا أثرًا واضحًا على ظهره، معالم واضحة على ظهره، ابن سعد قريب من الإمام الحسين، ابن سعد ليس شخصًا بعيدًا عن البيت العلوي، يعرف أنفاس هذا البيت العظيم، لما نظر إلى الأثر البادي على ظهر الحسين قال: ويحكم! يفخر علينا ابن فاطمة بأثر الجراب على ظهره. هذا الأثر بقي معلمًا على صدقة الحسين، وعلى الضمير الاجتماعي الذي كان يعيشه قلب الحسين .