حق الصدقة في المنظور الإسلامي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ

صدق الله العلي العظيم

تحدثنا في الليلة السابقة عن مفهوم الحق، ونتحدث هذه الليلة في نقاط ثلاث:

  • في بيان مناشئ الحق.
  • في بيان أقسام الحق.
  • في حق الصدقة الذي تعرضت له الآية المباركة.
النقطة الأولى: مناشئ الحق.

حتى أوضح لك هذا الأمر، أذكر لك عدة مقدمات.

المقدمة الأولى: الفرق بين القوانين التعبدية والقوانين المعللة.

القوانين الإسلامية تنقسم إلى قسمين: قوانين تعبدية، وقوانين معلّلة. بعض القوانين قوانين تعبدية، ليس لها علة طبيعية، ليس لها منشأ طبيعي، وبعض القوانين الإسلامية قوانين معللة، أي: قوانين تستند لعلل طبيعية تكوينية، فمثلًا: الفقهاء يفتون بنجاسة الكافر غير الكتابي، الكافر الذي ليس يهوديًا ولا نصرانيًا، كالبوذي مثلاً، يفتون بنجاسته. هذا القانون ما هي علته؟ هل جسم الكافر يختلف عن جسم الإنسان المسلم؟! لا، الجسم واحد، جسم الكافر يعيش نفس الخواص التي يعيشها جسم الإنسان المسلم، لا فرق بين الجسمين من حيث الخواص الطبيعية، ومن حيث الخواص الفيزيائية، فلماذا يعد جسم الكافر نجسًا، بينما يعد جسم الإنسان المسلم طاهرًا؟! هذا قانون تعبدي فقط. هذا مثله مثل صلاة المغرب ثلاث ركعات، لماذا لا تكون ركعتين أو أربع ركعات؟! لماذا صلاة الظهر أربع ركعات؟! هذه قوانين تعبدية محضة، ليس لها علة طبيعية، ليس لها علة تكوينية، قوانين تعبدية محضة.

وهناك قسم من القوانين قوانين لها علل طبيعية، مثلًا: الشريعة الإسلامية تحرّم شرب الخمر، لماذا؟ العلة الواضحة، هذا قانون له علة طبيعية واضحة، كما ورد عن الإمام الصادق : ”إن الله لم يحرّم الخمر لاسمها، وإنّما حرّمها لعاقبتها“ أي: للإسكار، ”فما كانت عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر“، أي: أي شيء يشترك مع الخمر في النتيجة، كالمخدِّرات، فهو خمر، أي: حرام تناوله، العلة واحدة. إذن هذا القانون قانون معلّل، أي: قانون علته طبيعية، علته تكوينية واضحة.

إذن فالقوانين الإسلامية على قسمين: قوانين تعبدية، وقوانين معللة. الحق من أي قسم؟ عندما أقول لك مثلًا: الإنسان إذا دخل إلى المسجد، وجلس في مكان، صار له حق في ذلك المكان، ورد عن الرسول محمد : ”من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلمٌ فهو أحقُّ به“، هذا يسمى حق السبق، إذا أنا سبقتك وجلست في هذا المكان، صار من حقي هذا المكان، ولو سبقتك في اصطياد سمكة من البحر، صار لي حق في هذه السمكة، ولو سبقتك وأخذت ثمرة من شجرة صار لي حق في تلك الثمرة، وهذا هو حق السبق. حق السبق قانونٌ، فهل هو قانون تعبدي، أم هو قانون معلل؟ هل الحقوق من قسم القوانين التعبدية، أم من قسم القوانين المعلَّلة؟ لا بد من فهم هذه النقطة، هذه المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية: الفرق بين العلاقة السببية والعلاقة الغائية.

الفلاسفة يقسّمون العلاقات الكونية إلى قسمين: علاقة سببية، وعلاقة غائية. هذا الكرسي الذي أنا أجلس عليه، هذا المنبر له علاقتان: علاقة سببية، وعلاقة غائية، علاقة هذا المنبر بمن صنعه، هناك إنسان نجّار نجر هذا المنبر، صنع هذا المنبر، علاقة هذا المنبر بمن صنعه تسمى علاقة سببية، أي أن السبب في وجوده هو ذلك الإنسان الذي صنعه. علاقة هذا المنبر بالهدف الذي من أجله صُنِع، لماذا صُنِع هذا المنبر؟ صُنِع من أجل الخطابة، من أجل إلقاء الكلمات والمواعظ، فعلاقة المنبر بهدفه تسمى علاقة غائية، أي أن الغاية من صنعه هي الخطابة، علاقة المنبر بغايته وبهدفه تسمى علاقة غائية. إذن العلاقة على قسمين: علاقة سببية، وعلاقة غائية.

العلاقات الغائية في عالم التكوين:

هنا سؤال مطروح، وهو: الموجودات الكونية، الظواهر الكونية، قطعًا بينها علاقة سببية، هذا شيء واضح، مثلًا: بين الولد ووالده علاقة سببية، الوالد وضع النطفة في رحم المرأة، فأنتجت جنينًا، هناك علاقة سببية بين الوالد والولد. هناك علاقة سببية بين الشمس والحرارة، هذه الحرارة التي تُصْبَغ على الإنسان سببها الشمس، هذه علاقة سببية. العلاقة السببية بين المخلوقات واضحة، لكن هل بين المخلوقات علاقة غائية؟ هنا محط الخلاف بين الماديين والإسلاميين، النظرية المادية تقول: لا توجد علاقة غائية، توجد علاقة سببية، لكن لا توجد علاقة غائية بين الظواهر والموجودات الكونية، فمثلًا: أن وُجِدت على الأرض والشمس وُجِدت، هل بيني وبين الشمس علاقة غائية هادفة؟ هل الهدف من وجودي هو الشمس، أو الهدف من الشمس هو وجودي؟ هل بيننا علاقة هادفة؟ هل بيننا علاقة غائية؟

النظرية المادية تقول: لا، ليس بين الموجودات علاقة غائية. التفاعل حصل نتيجة الصدفة، صدفةً وُجِد الإنسان، وصدفةً وُجِدت الشمس، صدفةً وجِدت الأرض، وحصل بينهم التفاعل على سبيل الصدفة والاتفاق، وإلا فلا توجد علاقة هادفة. بينما النظرية الإسلامية تؤكد أن هناك علاقة هادفة، أي أن الشمس خُلِقَت لأجلي، بيني وبين الشمس علاقة هادفة، لولا وجودي لما وُجِدَت الشمس، ولولا وجودي لما وُجِدَت الأرض، ولولا وجود الأرض لما وُجِدَت الشمس، ولولا وجود الشمس لما وُجِدت الأرض، كل حلقة من الكون بينها وبين الحلقة الأخرى هدف وغاية، كلٌ غايته وهدفه المخلوقات الأخرى، إذن بين الظواهر الكونية علاقة غائية هادفة.

ودليلنا على ذلك حساب الاحتمالات، هذا الدليل المذكور في علم الرياضيات، الدليل الذي يؤدي إلى اليقين الرياضي، دليل حساب الاحتمالات هو دليلنا على أن بين الموجودات الكونية علاقة هادفة، علاقة غائية. أنت إذا نظرت إلى ظاهرتين بشكل منفصل، ربما تقول: يوجد احتمال الصدفة. مثلًا: الذبابة والإنسان، ما هي العلاقة الغائية بينهما؟! ربما أنت إذا نظرت إلى هاتين الظاهرتين فقط تقول: من المحتمل أن التفاعل بين الذبابة والإنسان أمرٌ على سبيل الصدفة، لا توجد أي علاقة هادفة أو علاقة غائية بين الذبابة والإنسان، ومن المحتمل أيضًا أن تكون بينهما علاقة غائية وعلاقة هادفة، كلا الاحتمالين موجود.

ولكن لا تقتصر على ظاهرة واحدة، وهي ظاهرة الإنسان والذبابة، بل استقرئ خمس مئة ظاهرة في هذا الكون، إذا استقرأت خمس مئة ظاهرة سوف تصل بدليل حساب الاحتمالات إلى أن هذا الكون كله تحكمه علاقات هادفة، تحكمه علاقات غائية. أضرب لك أمثلة: الأم عندما تلد جنينها، بمجرد أن تلد الجنين يمتلئ ثديها لبنها مهيَّأ لهذا الجنين، وقبل أن تلده لم يكن هكذا، وبمجرد أن تلد الجنين يبدأ الثدي بالامتلاء بغذائه، وتبدأ مسامات حلمة الثدي بالانفتاح، وبمجرد أن يقترب الجنين من حلمة ثدي أمه حالًا اللسان والغدد اللعابية في فم الطفل تبدأ بالتحرك، يبدأ اللسان بإفراز الغدد اللعابية، ويتناول هذا اللبن بشكل تلقائي واسترسالي، لا الأم علّمت جنينها، ولا الجنين علّم أمه، هي عملية تلقائية واسترسالية.

أنت إذا قرأت هذه الظاهرة تقول: حتمًا هناك علاقة هادفة، لا يمكن أن يكون ذلك على سبيل الصدفة، ما هو ربط ثدي الأم بهذا الجنين الذي انفصل عن جسمها؟! إذن هناك علاقة غائية، خُلِق هذا الثدي، وخُلِق هذا اللبن لأجل هذا الجنين، وخُلِق اللسان والغدد اللعابية في فم هذا الجنين ليتناول هذا الغذاء، فكل منهما خُلِق للآخر، فإذن بينهما علاقة غائية.

حتى التفاحة.. علماء الأحياء يركزون، يقولون: هذه التفاحة لماذا صارت بلون جذّاب وبرائحة زكية وبطعم شهي؟ فلتكن التفاحة كالحنظلة مثلًا، لماذا التفاحة بهذا اللون، وبهذه الرائحة، وبهذه النكهة؟! هناك غاية حتمًا، هناك هدف من ذلك، الهدف أنها غذاء لهذا الإنسان، ولولا وجود الإنسان ما وُجِدَت هذه التفاحة، لولا وجود إنسان يملك ذوقًا ولذةً لما وُجِدَت التفاحة بهذا اللون، وبهذه الرائحة، وبهذا الطعم الشهي. إذن هناك علاقة غائية بين هاتين الظاهرتين.

مثال ثالث: النبات كائن حي على الأرض، والإنسان أيضًا كائن حي، لكن هذا الكائن الحي يملك جهازًا هضميًا: بلعومًا، ومريئًا، وأمعاء دقيقة، وأمعاء غليظة.. هذا الجهاز الهضمي مع هذا النبات الموجود على الأرض، بمجرد أن تقارن بينهما تفهم أن هذا لهذا، لو لم يكن هذا الغذاء موجودًا لما وُجِد هذا الجهاز الهضمي، وُجِد هذا الجهاز لتناول هذا الغذاء، إذن هناك علاقة غائية، وهكذا، كلما تكثر الظواهر، إذا استقرأت خمس مئة ظاهرة يضعف احتمال الصدفة ويقوى احتمال العلاقة الغائية، إلى أن يتصاعد رقم الاحتمال، ويتصاعد نصيب الاحتمال، فتصل إلى اليقين الرياضي بأن هناك علاقة غائية بين هذه الموجودات والمخلوقات. دليل حساب الاحتمالات يؤدي إلى اليقين الرياضي بوجود علاقات غائية بين موجودات الكون، وبين مخلوقات الكون. إذن فهمنا الفرق بين العلاقة السببية والعلاقة الغائية، وأن الكون كله يعيش هاتين العلاقتين.

المقدمة الثالثة: الحق قانون تعبدي يرجع إلى كلا العلاقتين.

نأتي الآن إلى الحق: الحق يرجع إلى إحدى العلاقتين، الحق الذي هو قانونٌ إسلاميٌ، قانونٌ اعتباريٌ، هذا القانون يرجع لإحدى العلاقتين: إما العلاقة السببية، أو العلاقة الغائية، وليس الحق قانونًا تعبديًا، فمثلًا: أنت عندما تستخرج من البحر سمك القرش، سمك القرش لا يؤكل، لا يجوز أكله، لأنه ليس له فلس، وما ليس له فلس لا يجوز أكله، السمك الذي له فلس يجوز أكله، والسمك الذي ليس له فلس لا يجوز أكله. أنت إذا استخرجت سمكًا ليس له فلس من البحر، هذا لا يجوز أكله، أنت لا تملكه، ولكن لك حقًا فيه، فتستطيع أن تبيعه لمختبر علمي، أو تستطيع بيعه إلى أشياء محللة نافعة، ليس من الضروري أن يباع للأكل، هذا السمك أنت لا تملكه، لكن لك حقًا فيه، الحق من أين أتى؟

أتى من علاقة السببية، من الذي أخرجه من البحر؟ أنا. من الذي أوصله إلى السوق؟ أنا. من الذي هيّأه للناس كي يأخذوه ويتبادلوا به بعض القيم؟ أنا، فأنا السبب في كل هذا، إذن بيني وبين هذه السمكة علاقة سببية، ومن أجل هذه العلاقة السببية صار لي حقٌ في هذه السمكة، فأنا أقول: أنا لي حق في هذه السمكة، وأنا أرفع يدي عن هذا الحق مقابل مبلغ معين، مقابل ريالين أو ثلاث ريالات مثلًا، أرفع يدي عن هذا الحق وأسلّمك السمكة، فالحق جاء نتيجة علاقة سببية، وليس قانونًا تعبديًا كوجوب ثلاث ركعات في المغرب وأربع ركعات في العشاء، فهو قانون يستند إلى علاقة طبيعية، وهي علاقة السببية.

وأيضًا ترى أن الحق أحيانًا ينشأ عن علاقة غائية، فمثلًا: الماء وُجِد على الأرض، الماء موجود على الأرض، الماء جاء من السماء، الماء ما جاء من الأرض مباشرة، كما يذكر العلماء، نحن الآن لا ندخل فيما يقول علماء الطبيعة في هذا المجال، عندما انفصلت كتلة الأرض عن كتلة الشمس، وتحولت المواد الغازية إلى هذا السحاب المتراكم، وهذا السحاب المتراكم بفعل العوامل الطبيعية تحول إلى ماء، وهذا الماء نزل إلى كوكب الأرض واستقر فيه، والقرآن يؤيد هذه النظرية: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا. إذن هذا الماء الذي استقر في الأرض، هذا الماء لم وُجِد؟ هناك علاقة غائية، وُجِد الماء لكي أنا أشربه، يشربه الحيوان، يشربه النبات، وُجِد الماء لأجل أن تتناوله الكائنات الحية، إذن بين الماء والإنسان علاقة غائية، وُجِد الماء لأجل الإنسان، فبين الماء والإنسان علاقة غائية.

هذه العلاقة الغائية صارت منشأ للحق، صار لك منشأ في الماء، هذا الحق ليس قانونًا تعبديًا، لأن بينك وبين الماء علاقة غائية، إذن لك حق في الماء، غاية ما في الأمر أن هذا الحق يسمى حقًا عامًا وليس حقًا خاصًا، ولذلك ورد عن الرسول محمد : ”الناس شَرَعٌ سواء في ثلاثة: الماء، والكلاء، والنار“، أي أن الناس لهم حق متساوٍ في الماء، وكذلك في الكلاء، وهذا ما يعبّر عنه الفقهاء بالمباحات العامة، أي أن الماء ليس ملكًا لأحدٍ، بل هو مباحٌ عامٌ لكل المسلمين، ولكل من يحتاج لهذا الماء، فهذا حق عام. إذن عندنا حق خاص ينشأ من علاقة سببية، وعندنا حق عام ينشأ من علاقة غائية، كحقي في الماء، حقي في النبات، حقي في النار، حقي في الفضاء، وما أشبه ذلك.

النقطة الثانية: أقسام الحق.

هذه مسائل قانونية وفقهية مفيدة، علماء القانون والفقهاء يتفقون في هذه النقطة. الدكتور عبد الرزّاق الصنهوي البغدادي من أكابر علماء القانون العراقيين، له كتاب «الوسيط في علم القانون»، يعدّ من أعظم وأعمق الكتب العربية القانونية، وهناك كتب أخرى في القانون تتعرض إلى تقسيم الحق. الحق ينقسم إلى حق عيني وحق شخصي، والحق الشخصي ينقسم إلى حق ذمي وحق تكليفي، فما معنى هذه التقسيمات؟

الحق يتعلق بشيء، فإذا تعلق بعين من الأعيان، سمي حقًا عينيًا، فمثلًا: أنا آتي وأحجّر الأرض، أرض موات خارج المدينة ليست مملوكة لأحد، آتي وأحجّرها، أجعل عليها حاجزًا، بمجرد أن أجعل عليها حاجزًا يصبح لي حق في الأرض يسمّى حق التحجير، هذا الحق يسمى حق التحجير. هذا الحق يسمى حقًا عينيًا؛ لأنه متعلق بعين، وهي الأرض. أحيانًا الحق يتعلق بشخص، فيسمى حقًا شخصيًا، كحق الزوجة على زوجها، هذا لا يتعلق بعين، بل يتعلق بشخص، فيسمى حقًا شخصيًا. تارة يكون الحق الشخصي حقًا ذميًا، وتارة يكون حقًا تكليفيًا. هذه المسألة تختلط على كثيرين: ما هو الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة الأولاد؟ يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، ويجب على الأب أن ينفق على أولاده، فما هو الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة الأولاد؟

نفقة الزوجة دينٌ في ذمة الزوج، حتى لو كانت الزوجة ثرية، فإنها تملك على ذمة زوجها نفقتها، أي أن هناك دينًا في ذمة زوجها، يجب أن ينفق عليها مطعمها ومشربها ومسكنها اللائق بها، دين على زوجها، حتى لو كانت أغنى من زوجها. ولذلك لو مات الزوج، هو ما كان ينفق على زوجته، لو لم ينفق عليها عشر سنين أو عشرين سنة، ومات، جميع نفقات عشرين سنة تُخْرَج من تركته؛ لأنه دين، والدين يُخْرَج من أصل التركة، قبل أن تقسّم التركة على الوراثين تُخْرَج ديون الميت، كما في الآية المباركة: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، فإذا مات الزوج وهو لم ينفق على زوجته، يكون ذلك دينًا عليه، والدين يُخْرَج من أصل التركة. إذن بالنتيجة نفقة الزوجة دَيْنٌ.

بينما نفقة الأولاد مجرد حكم تكليفي وليست دينًا على الأب، يجب على الأب شرعًا أن ينفق على أولاده، فلو لم ينفق فقد ارتكب محرمًا، يعاقَب، لكن لا يكون عليه دَيْن، نفقة الأولاد ليست دينًا، لو مات لا تُحَمّل تركته نفقة الأولاد، ولكنه واجب تكليفي، فهذا حقٌ للأولادي، حقٌ شخصيٌ للأولاد على والده، لكنه ليس حقًا ذميًا، كنفقة الزوجة، وإنما هو حقٌ تكليفيٌّ فقط.

ولذلك بعض الفقهاء يقول: حتى لو أنفق الأب على أولاده من أموالهم لا من أمواله هو، سقط عنه الواجب. لو كان لهذا الولد عنده أموال، بعض الأطفال عندما يأتون للحياة تقدّم لهم هدايا، هذا الوليد الجديد بمجرد أن يأتي تقدّم له الناس هدايا، افترض أنه قد وصل لهذا الطفل خمسة آلاف ريال، وأنفق الأب عليه من أموال الطفل لا من أمواله هو، إذا أنفق عليه من أمواله وكان في صالحه، سقط عنه الواجب، لا يجب عليه أن ينفق من أمواله، بعض الفقهاء هكذا يرى: يجب عليه أن ينفق عليه، سواء من أمواله هو، أو من أموال الطفل. إذن هناك فرق بين الحق الذمي والحق التكليفي.

مسألة حق الابتكار والتأليف:

هناك مسألة قانونية تثار عبر المحاكم، وعبر الإنترنت، وعبر جميع المؤتمرات القانونية الأخرى، وأعتقد أنها في ذهنك: حق الابتكار، ما معنى حق الابتكار؟ مثلًا: أنا خطيب، أصعد المنبر، أتكلم ساعة معينة، هل لي حق في صوتي؟ لو أن إنسانًا سجّل صوتي، أنا تكلمت ساعة كاملة، إنسان سجّل صوتي، ووزّع الشريط بدون إذني، هل يجوز ذلك أم لا؟ هل يحق لي أن أمنع الآخرين من توزيع الشريط المشتمل على صوتي إلا بإذني؟ هل لي حق شرعي في صوتي؟

كذلك أيضًا حق التأليف، أنا أكتب كتابًا معينًا، أسلّمه إلى المطبعة، المطبعة تحوّله إلى السوق، يأتي شخص إلى السوق ويشتري هذا الكتاب، ثم يقوم بطباعته ويوزع النسخ أو يبيعها، هل يجوز أم لا بد من استئذاني أنا المؤلف؟ والأعظم من هذا: أنت عندك في الكمبيوتر برنامج معين، برنامج فيه معلومات عنك، أو معلومات لك، هل يحق لشخص آخر أن يأتي ويفتح أقفال هذا البرنامج، ويستنسخ البرنامج من دون إذنك، أم لا؟ هذا يسمّى حق الابتكار، حق البراءة العلمية، هل هذا الحق حق شرعي، أم لا؟

سيدنا الخوئي «قدس سره» كان يقول: ليس حقًا شرعيًا، أنت يمكنك تسجيل صوتي وتوزيع الشريط من غير استئذان، ويمكنك أن تأخذ كتابي الذي تعبت عليه وتطبعه وتنشره من دون إذني، ولو علمت أن هذه الشركة في الإنترنت عندها برامج علمية معينة، وتستطيع فك الأقفال وتأخذ هذه البرامج من دون دفع ريال واحد.. لا يوجد مانع. إذن بالنتيجة: هو لا يرى حق الابتكار حقًا شرعيًا، ويقول: أنت لا تملك هذا كله، ما دامت الفكرة في عقلك أنت تملكها، وبمجرد أن تخرج منك عن طريق لسانك تحولت إلى هواء، وأنت لا تملك الهواء، وهكذا تخرج الفكر عن ملكك، فلا يجب على أحد أن يستأذني في التسجيل ولا في النشر وفي التوزيع. أنا بمجرد أن أحوّل فكرة معينة إلى ورق، ويصل الورق إلى إنسان آخر، وأنا لا أملك هذا الورق، خرجت الفكرة عن ملكي، وهذا الإنسان الآخر يريد أن يوزّع الكتاب ويطبعه وينشره، يجوز له ذلك، ولا يجب عليه أن يستأذني.

بينما بعض الفقهاء الآخرين - ومنهم السيد الصدر «قدس سره» - يقولون: هذا حق قانوني وشرعي، لك حق في صوتك، ولك حق في كتاباتك، ولك حق في برامجك العلمية، ولك حق في موقعك في الإنترنت، لك حق في كل هذا، لا يجوز لغيرك أن يتصرف فيه إلا بإذنك، وإلا يرتكب محرمًا شرعيًا؛ لأن عندنا نصًا عن النبي محمد : ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“. إذا فهمت النص بالفهم الحرفي فستقول: هذا النص لا علاقة له، هذا النص يتحدث عن عملية إحياء الأرض، فمن أحيا الأرض ملكها. هذا النص لا علاقة له بالحقوق، حق الابتكار، وحق الصوت، وحق التأليف، هذا النص لا علاقة له بهذه القضايا.

السيد الصدر يقول: لا تفهم النص بفهم حرفي، بل افهمه بفهم تحليلي، إذا فهمت النص بفهم تحليلي ستجد أن هذا النص يريد أن يقول: من بذل عملًا ملك نتيجة عمله، هذا معنى النص، النص لا خصوصية له في الإحياء، لا علاقة له بالإحياء، ”من أحيا أرضًا مواتًا له فهي له“ أي: من بذل جهدًا وطاقةً ملك نتيجة جهده وطاقته، هذا معنى النص، وليس معناه خاصًا بالأراضي، كل من بذل جهدًا وطاقةً، كل من بذل عملًا ملك نتيجة عمله، ملك نتيجة جهده، ملك نتيجة طاقته، هذا معنى النص الوارد عن النبي .

إذن أنا عندما أبذل جهدًا - أصوغ أفكارًا وأرتبها وألقيها - فإنني أملك نتيجة جهدي، وعندما أكتب أفكارًا معينة أملك نتيجة جهدي، وعندما أركّب برنامجًا معينًا من خلال الإنترنت أملك نتيجة جهدي، فلا يحق لغيري التصرف فيه إلا بإذني ومراجعتي. إذن هذه مسألة يختلف فيها الفقهاء، أردنا الإشارة إليها.

النقطة الثالثة: حق الصدقة والإنفاق.

الآية المباركة: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ تتكلم عن حق الصدقة، سواء كان منها الحق الواجب، وهو الزكاة، أو المستحب، وهو الصدقة المستحبة. تحدثت في الليلة الماضية عن الخصال الروحية لحق الصدقة، وأتحدث في هذه الليلة تحت إطار حق الصدقة في أمور ثلاثة أحب أن ألفت نظركم إليها.

الأمر الأول: حق الصدقة ليس حقًا فرديًا، بل هو حق اجتماعي.

القرآن الكريم يقول: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ. عندما نقرأ هذه الآية نفهم منها أن الدين ليس مجرد مظاهر، ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ أي: الدين ليس مظهرًا، فلو وقف شخص أمام القبلة وكبّر لما صار متدينًا بمجرد ذلك، وإنما الصلاة إلى القِبْلة مجرد مظهر من مظاهر الدين، وليست هي الدين الواقعي، الدين شيء أعمق وأقوى من ذلك، الدين أمرٌ اجتماعيٌ، الدين كما ورد عن الرسول : ”الدين المعاملة“. الدين هو المعاملة الحسنة، المعاملة الإنسانية، المعاملة المتخلقة، المعاملة الإنسانية هي الدين الواقعي، وهذه مجرد مظاهر للتدين، التدين الواقعي هو المعاملة الإنسانية.

ولذلك قالت الآية: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ثم ذكرت المعاملة: ﴿وَآتَى الْمَالَ عنده ضمير اجتماعي وحركة اجتماعية، ولذلك قدّمت الآية الصدقة على الصلاة، حيث قالت: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ثم قالت: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، إذن قدّمت إيتاء المال على الصلاة؛ لأن واقع الدين وحقيقته هي حقيقة اجتماعية ترتكز على المعاملة الإنسانية، وأوضح مصاديق المعاملة الإنسانية هي الشفقة والصدقة والضمير الاجتماعي ومساعدة الآخرين.

الأمر الثاني: عدم انحصار الصدقة في إعطاء المال.

الكثير منا بمجرد أن يسمع كلمة الصدقة يظن أنها هي جمع المال! بمجرد أن يسمع كلمة الصدقة على المنبر يقول: هذا الرجل يريد منا أن نجمع مالًا للفقراء! لا، الصدقة لا تنحصر بالمال الذي يعطى للفقير، بل إن كل عمل صادق فهو صدقة، وكل عمل قُصِد به وجه الله فهو عمل صادق، إذن هو صدقة، فالصدقة هي العمل الصادق، والعمل الصادق هو كل عمل قُصِد به وجهُ الله عز وجل.

ولذلك ورد عن الرسول محمد : ”إماطة الأذى عن الطريق صدقة“. أنت إذا رفعت العقبات أمام الناس، كما لو رفعت الأوساخ والعقبات لكي يمر الناس وتمر السيارات في الشارع، فهذه صدقة. البيئة إذا تلوثت انتشرت الأوبئة والأمراض، أنت عندما تساهم في نظافة البيئة، ترفع القمامة والأوساخ من البيئة، لتحافظ على نظافتها وعلى نقاء الجو، هذا العمل يعتبر صدقة، فالصدقة لا تنحصر بالتصدق على الفقير ببعض الأموال، بل إنَّ المحافظة على نظافة البيئة صدقة، والمحافظة على سلامة الأموال والأنفس صدقة. كذلك تعليم الآخرين مثلًا. لو تطوع شخص وعلّم آخر مادة الرياضيات أو الفيزياء أو الفقه أو التاريخ أو التفسير، لو تطوّع لتعليمه بعض المعلومات قربةً لله تعالى، هذا يعدّ صدقة، فالصدقة لا تنحصر في إعطاء الأموال.

ولذلك، من أجلى مصاديق الصدقة: ظاهرة الوقف. انظر إلى الإمام أمير المؤمنين ، أنت إذا ذهبت إلى المدينة، وأردت أن تلبس ثوبي الإحرام، فإنك تلبسهما في مسجد الشجرة، وتحرم من مسجد الشجرة، هناك في ضواحي مسجد الشجرة منطقة تسمّى أبيار علي، وهي عبارة عن منطقة زراعية، زرعها الإمام أمير المؤمنين، الإمام أمير المؤمنين في زمان النبي كان في أوقات فراغه يخرج إلى خارج المدينة، ويبذل الجهد في سبيل استخراج الآبار، وإذا استخرج الآبار نثر البذور، وإذا نثر البذور سقاها بالماء، وشكّل أراضي زراعية واسعة، سمّيت بأبيار علي، وبعد أن شكّل هذه الأراضي الزراعية وقفها على الحجّاج والمعتمرين والزائرين، وإلى الآن في تاريخ الإمام علي هذه صيغة الوقف التي وقف بها منطقة أبيار علي، وهذه من أوضح مصاديق الصدقة.

من أوضح نماذج الصدقة ظاهرة الوقف، أن يوقف الإنسان داره للفقراء، أو يوقف بيته مسجدًا، أو يوقفه مأتمًا، أو مركزًا للمعاقين. كل مجتمع فيه معاقون، وهؤلاء المعاقون يحتاجون إلى مراكز تعنى بهم وبصحتهم وبتعليمهم، هذه المراكز قد تهيّئها الدولة، وقد يهيّئها المجتمع الواعي الرشيد. إذا وقفت دارك مركزًا للمعاقين، فلا تظن أن ذلك ليس عليه ثواب، بل ثوابك لا يقبل عن ثواب من وقف الأرض مأتمًا أو مسجدًا، إذا وقفت هذه الأرض لخدمة أبناء المجتمع قربةً إلى الله تعالى فإن ثواب هذا الوقف لا يقل عن ثواب من وقف أرضه لمأتم أو لمسجد؛ لأن هذا فيه قضاء لحوائج المؤمنين، وقد ورد عن الرسول محمد : ”من قضى لأخيه المؤمن حاجةً نودي من بطنان العرش: عليَّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنة“، فقضاء حوائج المؤمنين لا يقل ثوابًا عن غيره من الأعمال الصادقة، ومن الأعمال الخيرية، ومن الأعمال القربية.

الأمر الثالث: حدود حرمة الصدقة على السادة.

الكثير من الناس يظن أن الصدقة حرام على فقراء السادة! وهذا اشتباه؛ إذ يوجد فرق بين الزكاة والصدقة. الذي يحرم على السيد الفقير أخذ الزكاة، زكاة العامي، إذا دفع العامي زكاته لا يجوز للسيد الفقير أن يأخذ من الزكاة، وأما الصدقة المستحبة فلا إشكال فيها. إذا أعطيت سيدًا فقيرًا مبلغًا من المال كصدقة فلا إشكال شرعي في ذلك، وإنما الممنوع والمحرّم الزكاة، أو الصدقة الواجبة، وإلا فالصدقات المستحبة ليست محرّمةً على السادة الفقراء، إلا إذا لزم الوهن. أنت عندما تعطي السيد الفقير الصدقة بشكل فيه من أو تعالي، بحيث يلزم الوهن، ويكون إعطاؤك الصدقة سببًا لوهنه وهتك حرمته، فهنا تكون الصدقة حرامًا، وإلا هي بالعنوان الأولي ليست محرمة.