سنة الاختلاف في المنظور القرآني

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في نقاط ثلاث:

  • تفسير الآية والمباركة.
  • بيان الهدف من الاختلاف.
  • التعامل الموضوعي مع الاختلاف.
النقطة الأولى: تفسير الآية المباركة.

الآية المباركة تقول: ومن آياته الدالة على قدرته وإبداعه شيئان: الشيء الأول هو خلق السماوات والأرض، بما يضم هذا النظام الكوني من عجائب دقيقة، ومن فن رائع، والشيء الآخر هو الاختلاف، فما هو المقصود باختلاف الألسن والألوان؟ توجد تفسيرات ثلاثة لاختلاف الألوان، وكذلك اختلاف الألسن.

الجهة الأولى: ما معنى اختلاف الألوان؟

التفسير الأول: اختلاف درجات اللون.

اختلاف الألوان يعني: لا تجد شخصين، حتى ولو كانا توأمًا، لا تجد شخصين يتساويان في درجة اللون تمامًا، لا يوجد شخصان إلا وبينهما اختلاف في اللون، ولو كان اختلافًا ضئيلًا يحتاج إلى التدقيق لمعرفته، المهم أنه ليس هناك شخصان إلا وهما مختلفان في درجة من درجات اللون.

التفسير الثاني: اختلاف الصور.

إن المراد بالألوان الصور، وليس المراد باللون هو الشكل، اختلاف ألوانكم يعني اختلاف صوركم، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وكما قال تعالى: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ. إذن، هناك اختلاف في قسمات الوجه، هناك اختلاف في معالم الوجه، حتى لو كان الشخصان توأمًا، حتمًا إذا دققت تجد بينهما اختلافًا في معالم الوجه وقسماته، اختلاف الصور هو المراد باختلاف الألوان.

التفسير الثالث: اختلاف الدم.

المسألة ليست مسألة شكل ولا صورة، بل هي أعمق من هذا. اختلاف ألوانكم المقصود به اختلاف الدم، اختلاف الحامض الكيميائي الذي يميّز هذا الدم عن غيره من الدماء، فمثلًا: كما هو الآن متعارف في مجال علم التشريح والفحص، إذا شكننا أن هذا ابن فلان أم ليس ابنه، منحدر من نطفته أم لا، يُفْحَص دمه، ومن خلال فحص هذا الحامض الكيميائي في دمه يتوصّل إلى معرفة أنه ابن فلان أو ليس ابنه، أو إذا اختلط الشخص، مثلًا: شخص أصيب بحادث احتراق أو تحطم، ولم يعرف شكله ولم تعرف هويته، نتيجة لاحتراقه أو نتيجة تلف وجهه، إذا لم يعرف يحدّد عن طريق فحص الدم، فمن خلال فحص دمه يعرف أن هذا فلان بن فلان، هذا من العائلة الفلانية. إذن المسألة وراء اختلاف اللون ووراء اختلاف الصورة هناك اختلاف أعمق من ذلك، وهو اختلاف الدم، اختلاف فصيلة الدم، اختلاف ما يتقوّم به هذا الجسد عن غيره، وهذا هو الاختلاف الأساس الذي عليه يتم التمييز.

الجهة الثانية: ما هو المراد باختلاف الألسن؟

التفسير الأول: اختلاف طريقة النطق.

أنا عندما أنطق أختلف عنك عندما تنطق. نحن عندنا فكرة معينة، وهي فكرة إمامة الإمام علي مثلًا، أقول لك: تكلم عن إمامة الإمام علي، وأنت تكلم، كل واحد عندما يتحدث تختلف طريقة نطقه وحديثه عن الشخص الآخر. الشخصان ولو كانا من أسرة واحدة من بيئة واحدة، توأم، مع ذلك ترى بينهما اختلافًا في طريقة الحديث والنطق. إذن المقصود باختلاف الألسن اختلاف طريقة النطق.

التفسير الثاني: اختلاف اللغات.

هناك لغة عربية، لغة إنجليزية، لغة فارسية، لغة سواحلية... اختلاف اللغات، كل لغة لها أصول معينة، تنطلق منها شرارة اللغة وتفاصيلها. اللغة الإنجليزية لها أصول وقواعد تنطلق منها شرارة اللغة، اللغة العربية لها أصول وقواعد تنطلق منها شرارة هذه اللغة، إذن اختلاف الألسن هو اختلاف اللغات، وليس المقصود به اختلاف طريقة النطق. لهذا تجد بحثًا موجودًا في علم اجتماع اللغة، هذا البحث يقول: ما هو منشأ اللغة؟ كيف نشأت اللغة عند الإنسان؟ طبعًا يذكر علماء الاجتماع نظريتين:

النظرية الأولى: نظرية الحاجة.

منشأ اللغات هي الحاجة الاجتماعية؛ فإن الحاجة أم الاختراع. لأن الإنسان احتاج إلى طريقة لقطع الطرق، اخترع السيارة والطيارة ووسائل النقل، ولأنه احتاج إلى أن يوصل رسالتَه إلى من هو أبعد منه، اخترع التلفون، فالحاجة أم الاختراع. إذن كما أن الإنسان اخترع وسائل الاتصال، واخترع وسائل النقل، كذلك أيضًا اخترع اللغة؛ لأن اللغة هي أداة التفاهم والتحاور، وهي أداة نقل الفكر للآخر، واستيعاب واستقبال الفكر من الآخر، فهي أداة الإرسال والاستقبال، ولذلك الإنسان اخترع اللغة، فاللغة اختراع من الإنسان.

النظرية الأخرى: نظرية الإلهام الإلهي.

الله «تبارك وتعالى» ألهم كل مجموعة من البشر أصول اللغة، ألهم مجموعة من البشر أصول اللغة العربية، فتكونت اللغة العربية، وألهم مجموعة أخرى من البشر أصول اللغة الإنجليزية، فانطلقت اللغة الإنجليزية، فاللغات لا ترجع إلى نظرية الحاجة، وإنما ترجع إلى نظرية الإلهام والمدد الإلهي. العلماء الذين يقولون بهذه النظرية - أن اللغة ترجع للإلهام الإلهي - يستندون إلى هذه الآية: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أي: هو الذي قام بذلك، ﴿خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ، فاختلاف اللغات جاء من الله «تبارك وتعالى»، فإن هذا من آياته ومن دلائل عظمته الباهرة، أنه جعلكم تختلفون في اللغات، وهذا الاختلاف في اللغات مصدره الله «تبارك وتعالى»، هو الذي صار منشأ للاختلاف في اللغة.

التفسير الثالث: اختلاف طرق التفكير.

ليس المقصود باختلاف الألسن اختلاف طريقة النطق، وليس المقصود به اختلاف اللغات، بل المقصود به اختلاف طريقة التفكير. حتى يتضح مغزى هذا الكلام الدقيق، نذكر مطلبًا طرحه علماء الاجتماع، وهو أن التفكير الإنساني لغوي وليس تجريديًا. علماء الاجتماع في علم اجتماع اللغة - وهو فرع من فروع علم الاجتماع - يذكرون أن طريقة التفكير عند الإنسان طريقةٌ لغويةٌ وليست طريقةً تجريديةً. الإنسان لا يستطيع أن يفكّر في المعلومات بدون استخدام رموز، مستحيل، لا يستطيع. مستحيل أن يفكر الإنسان في معلومات معينة من دون استخدام رمز. أنت تريد أن تفكر في الإمام علي، من دون كلمة علي لا تستطيع التفكير في الإمام علي. أنت تريد مثلًا أن تفكر في مسألة اجتماعية، لا تستطيع أن تفكر فيها إلا من خلال ألفاظ ورموز تستذكرها. طريقة تفكير الإنسان طريقة رمزية لغوية، الإنسان إنما يفكر عبر الرموز والألفاظ، لا يستطيع أن يفكر تفكيرًا تجريديًا معرى من اللغات والرموز، لا يمكن، لماذا؟

الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا. إذا أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، فمن أين حصلنا على المعلومات؟! ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إذن الإنسان خرج من بطن أمه لا يملك معلومات، من أين اكتسب المعلومات؟ اكتسبها عن طريق الحواس، السمع ينقل له معلومات، البصر ينقل له معلومات، الحواس الأخرى تنقل له معلومات، فالحواس هي التي نقلت المعلومات لذهن الإنسان، وبعد أن انتقلت المعلومات إلى ذهنه بدأ الإنسان بالتفكيك بين المعلومات المتأصلة - كما يقول الفلاسفة - والمعلومات الانتزاعية، هذه حركة العقل وتمييزه بين المعلومات المتأصلة وبين والمعلومات الانتزاعية، بين البديهيات وبين النظريات، هذه حركة بعد أن أخذ المعلومات عن طريق الحس، بعد أن زوّده الحس بمعلومات، بدأ العقل بالتحرك في هذه المعلومات.

إذن أول عمل قام به الإنسان منذ أول يوم من ولادته، من أول لحظة يخرج الإنسان فيها من بطن أمه، يستخدم الإحساس، إحساس السمع، يسمع صوت أمه، صوت من حوله، ولهذا القرآن بدأ بالسمع: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ، أول حاسة تعمل هي السمع، وآخر حاسة تنتهي هي السمع. الميت قبل يبقى بعد موته ساعات وأيامًا يسمع، آخر حاسة تنتهي عند الإنسان هي حاسة السمع. إذن أول عمل قام به الإنسان أنه تزوّد بالمعلومات عن طريق السمع، وبعد أن تزوّد بالمعلومات عن طريق السمع والبصر والحواس الأخرى، بدأ عقله بالتحرك بين المعلومات، وتقسيمها إلى معلومات متأصلة ومعلومات انتزاعية، ومعلومات بديهية ومعلومات نظرية... وهكذا.

الإنسان بما أنه استفاد المعلومات من الخارج، المعلومات جاءت له عن طريق الحواس، هل وصلت له المعلومات من دون رموز؟ مستحيل، لا تصل إليك المعلومات إلا عبر رموز. أي معلومة معينة لا تصل إليك إلا من خلال رمز، لفظ أو صورة أو أي شيء آخر. مستحيل أن تصل إليك المعلومة إلا عن طريق رمز معين. تسمع كلمة ”علي“ أو كلمة ”ok“ أو كلمة ”good“ وهكذا اللغات المختلفة، فتصل لك المعلومات عن طريق رموز وألفاظ وإشارات معينة، وبعد أن تصلك المعلومات عن طريق الرموز يبدأ العقل بالتحرك في المعلومات، يستنتج المعلومات المجهولة من المعلومات المعروفة عنده، عملية الاستنتاج لا تتم إلا عبر الرموز؛ لأن المعلومات وصلت إليك عن طريق الرموز، بما أنها وصلت إليك عن طريق الرموز لا يمكن لعقلك أن يتحرك بين هذه المعلومات، ويصنع مقدمات، ويخرج منها إلى النتائج، لا يمكن لحركة العقل والاستنتاج - كما يقولون - ينطلق العقل من المعلومات إلى المجهولات، هذه الحركة كلها حركة رمزية، كلها حركة عبر الرموز، عبر اللغة، عبرة الألفاظ.

إذن طريقة التفكير عند الإنسان هي طريقة رمزية لغوية، وليست طريقة تجريديةً، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، ليس البيان هو التحدث والكلام، بل: طريقة التفكير عنده طريقة بيانية رمزية، ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ أعطاه هذه الموهبة: أن حركة العقل عنده ضمن البيان، ضمن إطار اللغة، ضمن إطار الرموز. ولذلك تجد الفلاسفة يقولون: الإنسان حيوان ناطق، قد الإنسان لا يقبل، يقول: أنا حيوان! حيوان بمعنى أنك تشترك مع سائر الحيوانات في بعض العناصر، أنت تشترك مع سائر الحيوانات في الإحساس، كما أن باقي الحيوانات عندها إحساس أنت عندك إحساس، وتشترك مع بقية الحيوانات في الحركة الإرادية، فإذن أنت تشترك في بعض العناصر مع الحيوانات الأخرى، فأنت عندك عنصر حيواني، ”حيوان ناطق“، ما معنى ناطق؟ يعني متكلم؟!

لا، قد يكون الإنسان أخرس لا يتكلم، فليس المقصود بالناطق النطق اللساني الظاهري، بل المقصود به النطق الباطني العقلي، أي: طريقة التفكير، كما ذكرنا أن طريقة التفكير طريقة رمزية لغوية بيانية، إذن أنت حيوان ناطق بمعنى أن عقلك بُرْمِج، الله برمجه هكذا، عقله بُرْمِج على أن يفكّر من خلال الألفاظ، ومن خلال الرموز، وهذا هو المائز بين الإنسان وغيره من الحيوانات الأخرى.

بعد أن نفهم هذا المعنى يتضح لنا تفسير الآية المباركة. اختلاف الألسن معناه اختلاف طرق التفكير؛ لأن طرق التفكير هي طرق لسانية، بمعنى أنها طرق رمزية ولغوية، وأنتم تختلفون في طرق التفكير، ويستحيل أن ترى إنسانًا كالآخر في طريقة التفكير، يستحيل إطلاقًا؛ لأن اختلاف البيئة يفرض اختلافًا في التفكير، واختلاف التربية يفرض اختلافًا في التفكير، واختلاف القدرة الذهنية يفرض اختلافًا في التفكير، واختلاف البنية التي يعيش عليها الإنسان يفرض اختلافًا في التفكير. إذن البشر يختلفون في طريقة التفكير، البشر جميعًا يختلفون في طرق التفكير، فالمقصود باختلاف الألسنة اختلاف طرق التفكير بين أبناء البشر.

النقطة الثانية: الهدف من الاختلاف.

لماذا جعل الله الاختلاف؟ لماذا جعل الله البشرَ مختلفين؟ لماذا لم يجعلهم متساوين؟ لماذا خلق البشر مختلفين؟ كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، يختلفون في طرق التفكير، يختلفون في القدرات، يختلفون في المناهج، يختلفون في المواهب، يختلفون في الطبائع، يختلفون في الملكات، فما هو الهدف من جعل البشر مختلفين؟

الهدف هو بناء المجتمع، لولا اختلاف البشر لما بُنِي المجتمع. ذكرتُ في ليالٍ سابقة أن علماء الاجتماع يقولون: بذرة المجتمع هي نظرية الاستخدام. لو أن الله «تبارك وتعالى» أعطى لكل إنسان قدرة مطلقة، لاستغنى الإنسان عن الإنسان الآخر، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، ليس المقصود بالاستغناء هو الثراء، بل المقصود الاستغناء عن الناس في القدرات، الإنسان إذا رأى نفسه مستغنيًا عن الآخرين فإنه يطغى. الله «تبارك وتعالى» شاءت حكمته أن يجعل البشر مختلفين، هذا يملك قدرة مادية، هذا يملك قدرة عقلية، هذا يملك قدرة جسمية، هذا يملك قدرة بيانية ولسانية.

كل واحد يمتلك نوعًا من القدرة، كل واحد يمتلك نوعًا من الموهبة، وزّع القدرات والمواهب بين عباده لكي يحتاج بعضهم إلى البعض الآخر، ولو جعلهم متساوين لما احتاج كل للآخر، وإذا لم يحتج كل للآخر فإن الكيان الاجتماعي ينهار؛ لأنه قائم على الحاجة. أنا أحتاج إلى المدرس لكي يدرّس أولادي، وأحتاج إلى الطبيب كي يداويني، وأحتاج إلى المهندس كي أبني منزلي، وأحتاج إلى النجار كي يؤثث بيتي.. لولا أني أحتاج إلى الآخرين وهم يحتاجون إلي لما بني الكيان الاجتماعي، فبناء الكيان الاجتماعي قائمٌ على نظرية الحاجة، وهي ما تسمّى بنظرية الاستخدام، كل يستخدم الآخر لقضاء حاجته، هذا ما ذكره علماء الاجتماع.

وهذا ما يؤكده القرآن الكريم: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، كل واحد يسخّر الثاني لخدمته، فإذن نحن وزّعنا الأرزاق والقدرات والكفاءات بطريقة مختلفة؛ حتى يحتاج كل فرد للآخر، وحتى يقوم الكيان الاجتماعي. إذن الهدف من الاختلاف بناء الكيان الاجتماعي، ولو كان البشر متساوين لما قام الكيان الاجتماعي.

البعض قد يفهم الآية بفهم آخر، مثلًا: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ، ما معنى دفع الله الناس بعضهم ببعض؟ يعني الحروب؟! البعض يتصور أن معنى الآية هو أن الله هو الذي يريد الحروب حتى كل واحد يدفع الآخر!! لا، ليس المقصود بالدفع عملية الاشتباك والنزاع والحرب، وإنما المقصود بالدفع أن كل إنسان حدٌ للثاني، أنت تحد من قدرتي وأنا أحد من قدرتك، ليست لي قدرة مطلقة وليست لديك قدرة مطلقة، فأنا أحدّد قدرتك وأنت تحدّد قدرتي. لو أعطيت قدرةً مطلقةً لطغيت على الكل، ولو أعطيتَ قدرةً مطلقةً لسحقتَ الكل، إذن أنت لم تُعْطَ قدرةً مطلقةً، وأنا لم أعطَ قدرةً مطلقةً، بل كلٌ منا أعطي قدرةً محدودةً، فأنا أحد قدرتك وأنت تحد قدرتي. الله دفع الناس بعضهم ببعض، أي: جعل كلًا منهما حدًا لقدرة الآخر؛ حتى لا يطغى الإنسان عن الآخر، فلمنع الطغيان والفساد جعل كلًا من البشر محدودًا بالبشر الآخر.

النقطة الثالثة: التعامل الموضوعي مع الاختلاف.

الاختلاف - كما ذكرنا - أمر طبيعي. اختلاف البشر في الدين، اختلاف البشر في المذهب، اختلاف البشر في طرق التفكير، اختلاف البشر في أساليب العمل، اختلاف البشر في الأفكار والآراء أمر طبيعي جدًا، ولا بد أن يكون. اختلاف البشر في طرق التفكير يقتضي اختلافهم في الدين والمذهب، وفي الأفكار والآراء والأساليب، اختلاف البشر أمر فرضته طبيعة البشر، وفرضه تكوين البشر. المسألة: كيف نتعامل مع الاختلاف؟ نحن - المسلمين أو الشيعة بصفة خاصة - كيف نتعامل مع اختلافاتنا الفكرية والعملية والمنهجية؟ كيف نتعامل مع ظاهرة الاختلاف؟ كيف نتعامل مع موضوع الاختلاف؟

نحن مع الأسف قساة جدًا، إذا اختلفنا قسا بعضنا على البعض الآخر، لا نتحمل شيئًا اسمه التعددية أبدًا، لا نتحمل أجواء التعددية، لا نتحمل شيئًا اسمه رأي ورأي آخر، لا نتحمل شيئًا اسمه أنا وأنت، لا نتحمل، نحن لا نريد إلا ”أنا“! وأما ”أنت“ فمصادر، صفر على الشمال! نحن لا نتحمل إلا الوحدوية، لا نتحمل شيئًا اسمه متعدد. إذا اختلفنا فنحن قساة جدًا، وتصل بنا القسوة إذا اختلفنا في الرأي أو في الفكر أن نتعدى على الأطر والقوانين الإنسانية والطبيعية. أعتدي عليك بالسباب، أعتدي عليك بالشتم، أعتدي عليك بالنبذ، أعتدي عليك بالإلغاء النهائي، وقد أعتدي عليك حتى اعتداء جسديًا، ألغيك من الوجود! لأنك تختلف معي في الرأي، وتختلف معي في الفكر، أو تختلف معي في أساليب العمل.

نحن عندنا قسوة في الاختلاف، وهذه القسوة هي سبب تخلفنا. نحن - المسلمين - لماذا متخلفون؟! لماذا يعيش المسلمون تخلفًا؟ لأنه ليس عندهم استعداد للتفكير في الأهداف العامة أبدًا، وليس عندهم استعداد للتفكير في الأهداف العليا المشتركة التي تجمعهم، بل دائمًا ينصب ويتقوقع تفكيرهم في الهدف القريب، الهدف الآني، الهدف الفعلي، الهدف الخاص، لا يوجد انطلاقة وبعد نظر وبعد أفق للأهداف العليا، والأهداف المشتركة، لذلك نحن نعيش قسوة في الاختلاف وحدّة غريبةً.

من مظاهر الاختلاف: الاختلاف بين الشيعة الإمامية، مع الأسف! أبناء المذهب الواحد، أو الجلدة الواحدة، أو المكان الواحد، أو الجسم الواجد، تجد بينهم اختلافًا يتعدى الإطار الإنساني، ويصل إلى أسلوب الوحشية، ويصل إلى أسلوب القسوة والعنف والحدة، فأنا ألغي الآخر وأصفيه حتى أعيش وحدي، وحتى أحقّق ما أريد. وهذا هو مدعاة تخلفنا وتأخرنا وتقهقرنا إلى الوراء، فنحن لا نستفيد من التجارب أبدًا، بل نكرر التجارب مرة أخرى، وبين فترة وأخرى نعيد الأخطاء والمشاكل مرة أخرى، لا نتعلم من التجارب السابقة، ولا من الظروف السابقة، بل نرجع إلى القسوة والحدة عند الاختلاف، إلى أن يلغي بعضها بعضًا، ويصفّي بعضنا البعض الآخر، ويقسو بعضنا على البعض الآخر. بينما إذا رجعنا لمنهج أهل البيت نجد أنهم يحاولون التعامل مع ظاهرة الاختلاف من خلال بنود وخطوات ليست شرعية فحسب، بل هي إنسانية، ومن أهم الخطوات الضرورية للتعامل الموضوعي مع ظاهرة الاختلاف:

الخطوة الأولى: حسن الظن.

هناك أحاديث ونصوص تركز على حسن الظن. القرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. «لا، هذا يقصدني، هذا ما قال كذا، ولا عمل كذا، إلا وهو يريد أن يلغيني، وأن يقضي على وجودي»!! أين حسن الظن؟! أين هو مبدأ حسن الظن الموجود عند أئمتنا وفي النصوص الشريفة؟! الإمام أمير المؤمنين يقول: ”احمل أخاك المؤمن على سبعين محملًا من الخير، ولا تظنن بكلمة صدرت من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير سبيلًا“، وورد عن الرسول محمد : ”من اتهم أخاه المؤمن انماث الإيمان من قلبه انمياث الملح في الماء“.

إذن الأئمة يأمروننا بحسن الظن، ولو كنا نعيش أجواء حسن الظن، بأن يحمل بعضنا البعض الآخر على الموضوعية والشرعية.. اختلف معي، لعل عنده بينة شرعية، لعل عنده دليلًا شرعيًا، لعل عنده طريقة شرعية أنا لست مطلعًا عليها، الشرع ليست محتكرًا عندي فقط وليس عند الآخرين، لعل الآخر لديه بينة، لعل الآخر لديه دليل شرعي، لعل لديه طريقًا شرعيًا، الشرع ما انحصر فيَّ أنا. إذن بالنتيجة، حسن الظن خطوةٌ نحو التعامل الموضوعي مع ظاهرة الاختلاف.

الخطوة الثانية: عدم تتبع العورات.

مع الأسف، بعضنا بمجرد أن تصبح عنده علامة استفهام على شخص، لا يسكت ويجلس مرتاحًا، بل يحاول أن يخرج عيوبه، فيتتبعه ويسأل عنه ويفحص ويحقق إلى أن يستخلص مجموعة من العيوب عنه، ومجموعة من الأخطاء عنه، يحاول دائمًا أن يعيش حالة التتبع والتحقيق في شخصيات الآخرين، وفي سلوك الآخرين، وفي أوضاع الآخرين، وهذا يتنافى تمامًا مع روح الأئمة، ومع روح الشريعة، ومع روح الإسلام.

ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا، التجسس هو تتبع العورات. وورد عن الرسول محمد : ”من تتبع عورة أخيه المؤمن تتبع الله عورته، حتى يفضحه ولو في بيته“، وورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”رحم الله عبدًا اشتغل بعيوبه عن عيوب الناس“. بدلًا من أن يركّز على الآخرين وعيوبهم وأخطائهم، يركّز على عيوبه وأخطائه، من أجل أن يصلحها، ومن أجل أن يغيّر من وضعه.

الخطوة الثالثة: عدم الاعتداء على الآخر.

الآخر ما دام مؤمنًا، ما دام رجلًا مسلمًا يؤمن بالله، ليس من اللازم أن يكون إنسانًا متقيًا، بل حتى لو كان فاسقًا، لا يجوز لك الاعتداء عليه، بسباب أو بشتم أو باعتداء جسدي، فقد ورد عن الرسول محمد : ”سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه، وأكل لحمه معصية“. المسلم له حرمة عند المؤمن، فلا يجوز لك إلا أن تحترمه، ما دام مسلمًا فهو محترم، له حرمة الدم، حرمة المال، حرمة العرض، حرمة الكرامة، ولو كان فاسقًا، ولو كان إنسانًا منحرفًا، فضلًا عما إذا كان إنسانًا مؤمنًا.

الخطوة الرابعة: الحوار.

نحن لا نعالج اختلافاتنا عن طريق الاعتداء، بل نعالج اختلافاتنا عن طريق الحوار. الله «تبارك وتعالى» يقول: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. لاحظوا أئمتنا أئمة الهدى «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». الإمام الباقر عنده مناظرات وحوارات مع ابن أبي العوجاء، مع أنه كان ملحدًا، ولم يكن مسلمًا أصلًا، ومع ذلك إذا أقبل للإمام الصادق، ابتسم له، وجلس معه، وحاوره حوارًا علميًا هادئًا، الحوار الهادئ حتى مع أعدائهم.

الإمام الحسن الزكي اعترض عليه أناس من شيعته، ومن خُلِّصه، ومع ذلك ما نهرهم، ولا شجبهم، ولا أبعدهم عنه، بل احتضنهم واستوعبهم، وهنا العقلية. إذا كنتَ تملك عقلية ناجحة فعلًا فعليك أن تستوعب وتحتضن من يختلف معك، لا أن تلغيه. إذن بالنتيجة: هؤلاء مع أنهم كانوا يغلون، لكن الإمام الحسن لما أقبلوا إليه هدّأهم، وناقشهم، وحاورهم، ولم يقل: أنا إمام معصوم، وهؤلاء على باطل، فليذهبوا إلى جهنم! بل احتضنهم واستوعبهم، وعاش الاختلاف معهم بطريقة موضوعية، حتى أقنعهم بصحة طريقه.

وهكذا الأئمة من أهل البيت ، ساروا على طريق الحوار الهادئ الهادف لمعالجة ظاهرة الاختلاف، وأصروا على طريق الحوار إلى النفس الأخير. الإمام الحسين إلى آخر أيامه، ليلة العاشر من المحرم، بعث رسولًا إلى عمر بن سعد، يريد أن يحاوره، يريد أن يناقشه، وفعلًا أتى عمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وعذرة بن قيس، أتوا إلى الإمام الحسين، والإمام الحسين مع ولده علي الأكبر، ومع أخيه أبي الفضل العباس، جلسوا معهم في خيمة واحدة، وفتح الحسين معهم باب الحوار. ليلة العاشر المسألة حُسِمَت، ومع ذلك الإمام ما ترك الحوار أبدًا، بل فتح معهم باب الحوار، ونصح ابن سعد، وبيّن له الأخطاء، وبيّن له ظلم بني أمية، وبيّن له خطأ طريقه، لكنه أصر على أمره، وأصر على معصيته.