التشريح في المنظور القرآني

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا

صدق الله العلي العظيم

حديثنا في ظلال الآية المباركة في نقطتين:

  • في تفسير مداليل الآية المباركة.
  • وفي الحديث حول مسألة التشريح.
النقطة الأولى: تفسير مداليل الآية المباركة.

الآية المباركة تتضمن ثلاث فقرات، أي أنَّ الآية تثير ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: ما معنى التكريم في قوله: ﴿ولقد كرمنا بني آدم؟ والسؤال الثاني: ما معنى التفضيل في قوله: ﴿وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا؟ والسؤال الثالث: لماذا فضّل الإنسان على الكثير ولم يفضّل على الكل؟

السؤال الأول: ما هو المقصود بالتكريم؟

التكريم هو إعطاء منصب الخلافة. تكريم الإنسان عبارة عن إعطائه منصب الخلافة، الله «تبارك وتعالى» جعل الإنسان خليفة له على الأرض، أعطاه منصب الخلافة. إعطاء منصب الخلافة هو التكريم الذي حظي به هذا الإنسان. ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة... ما لا تعلمون. الإنسان خليفة الله في الأرض، كما قال في آية أخرى: ﴿وجعلكم خلائف في الأرض واستعمركم فيها. وهذا ما تشير إليه عدة آيات قرآنية أخرى، كقوله تعالى: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال... جهولا، الأمانة هي الخلافة. الأمانة التي عرضها على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، أي: لا تملك هذه المخلوقات الكفاءة والجدارة والطاقة لتحمل منصب الخلافة، ولتحمل مبدأ الخلافة. الله «تبارك وتعالى» وهب الخلافة لهذا الإنسان؛ لأنه الذي يمتلك كفاءتها، وهو الجدير بها.

إعطاء الإنسان منصب الخلافة، الله «تبارك وتعالى» جعل الإنسان خليفة، إعطاء الإنسان مبدأ الخلافة يفترض أن يزوّد بطاقة الخلافة، لا يمكن للإنسان أن يكون خليفة ما لم يزوّده الله بعناصر الخلافة. الله «تبارك وتعالى» عندما اقتضت حكمته أن يجعل الإنسان خليفة، زوّده بعناصر الخلافة أيضًا، جعله خليفة، وأعطاه العناصر التي تؤهله لأن يكون بدور الخلافة، تؤهله لأن يقوم بمنصب الخلافة، ما هي عناصر الخلافة؟

أهم عنصر من عناصر الخلافة عقلية الإعمار. الإنسان أعطي عقلية إعمار الأرض، أعطي عقلية بناء الحضارة. جميع المخلوقات الأخرى ما أعطيت عقلية البناء، عقلية الإبداع، عقلية الإعمار. جميع المخلوقات الأخرى تدور في حلقة معينة واحدة، معروف طريقها ومسارها، لا تتطور ولا تتغير ولا تتخلف. الله «تبارك وتعالى» ميّز الإنسان بأن أعطاه عقلية الإبداع، عقلية البناء، عقلية الإعمار، ولأجل أنه أعطي عقلية الإعمار، لذلك أعطي الخلافة، لأن الخلافة تتوقف على هذا العنصر. ما لم يمتلك الإنسان عقلية الإعمار والبناء، فهو غير مستعد للقيام بالخلافة، بما أنه جعله خليفة أعطاه عقلية الإعمار.

ولذلك تلاحظ أن الفقرات القرآنية واضحة: ﴿ولقد كرمنا بني آدم، أي: أعطيناه الخلافة، ثم عقّب على ذلك بالإعمار: ﴿وحملناهم في البر والبحر، هذا هو الإعمار، اخترع الإنسان وسائل النقل، واستطاع أن يسيطر على البر والبحر من خلال وسائل النقل التي اخترعها، فلولا أنه يمتلك عقلية الإعمار، وعقلية البناء، لما استطاع أن يبدع وسائل النقل، ومن خلالها يسيطر على البر والبحر، ﴿ورزقناهم من الطيبات، كيف حصل الإنسان على الطيبات؟ بعقلية الإعمار، حيث حرث الأرض، ونثر البذور فيها، ثم سقاها بالماء، فأنبتت الطيبات، وهكذا صار الإنسان يرتزق ما تعب عليه، ويأكل من كدح يديه. إذن ﴿وحملناهم في البر والبحر لأنهم يمتلكون عقلية الإعمار، ﴿ورزقناهم من الطيبات لأنهم أيضًا يمتلكون عقلية الإعمار وبناء الحضارة، فهاتان الفقرتان تشيران إلى معنى التكريم.

السؤال الثاني: ما معنى التفضيل؟

التفضيل هو عبارة عن حركة الكمال. الإنسان خُلِق لأجل أن يصل إلى الكمال، خُلِق لكي يصل إلى أعلى درجات ومراتب الكمال، وإنما يصل الإنسان إلى مراتب الكمال عبر الحركة، إذا قاد حركة استطاع أن يصل إلى الكمال، طريق الوصول إلى الكمال عبر الحركة، الحركة هي التي توصل الإنسان إلى الكمال، أي نوع من الحركة؟ الحركة الجوهرية، ما معنى الحركة الجوهرية؟

هذا المصطلح الفلسفي نشرحه بشكل مختصر: الفلاسفة يقسّمون الحركة إلى حركة جوهرية وحركة عرضية. الحركة العرضية واضحة، وهي حركة الإنسان في المكان، أنا أتحرك، أدخل إلى المسجد وأصل إلى المنبر، هذه حركة مكانية عرضية، وهناك حركة أعمق من هذه الحركة العرضية، وهي حركة الإنسان في ذاته، حركة الإنسان في صميم ذاته، وهذه تسمى بالحركة الجوهرية. مثلًا: أنت تأخذ هذه البذرة، تجعلها في التربة، تعطيها سمادًا، تسيقها ماءً، البذرة تتحرك، هي في مكانها، ليست عندها حركة مكانية، لكن البذرة تتحرك في داخلها، تتحرك في صميم ذاتها، هذه البذرة تتحرك في صميم ذاتها، فتمتد منها الجذور، ويرتفع منها الساق، والطاقة الحيوية النباتية تأخذ مفعولها في صميم هذه البذرة، طاقة الحياة، طاقة النمو، تتكامل وتتصاعد في صميم هذه البذرة، إلى أن تنفجر طاقة النمو إلى شجرة مثمرة، وإلى شجرة معطاء. إذن حركة البذرة في داخلها تسمى حركة جوهرية، حركة أعمق من الحركة العرضية، حركة في صميم الذات، حركة في صميم الجوهر، تسمى حركة جوهرية.

مثال آخر: النطفة عندما يلقيها الرجل في رحم المرأة، فإنها تلتصق بجدار الرحم، ﴿وجعلناه نطفة في قرار مكين، تستقر في جدار الرحم، إذا استقرت فيه فإنها لا تتحرك حركة مكانية، بل تتحرك حركة جوهرية، نفس النطفة في باطن ذاتها وفي صميم ذاتها تتحرك إلى علقة إلى مضغة إلى جسد متكامل، ﴿ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، هذه تسمى حركة جوهرية. إذن حركة الجوهر في ذاته أعمق من الحركة العرضية، تسمى بالحركة الجوهرية.

الحركة الجوهرية لا تنحصر بالحركة المادية، بل قد تكون حركية معنوية. أنت عندما تأتي وتستمع للمحاضرة، تارة تستمع وأنت نائم! وتارة تستمع المحاضرة وأنت تسبح في بحر من الأفكار الأخرى! في الأسهم وأين وصلت وأين أصبحت! وتارة تستمع المحاضرة بالتركيز. أنت عندما تركز وأنت تستمع المحاضرة، وتنتقل من معلومات إلى معلومات، من نقطة إلى نقطة آخر، من باب إلى باب آخر، أنت تعيش حركة، وأنت جالس في مكانك تعيش حركة. العقل نفسه، ليس الدماغ، الدماغ لا يتحرك، بل هو باق في مكانه، ولكن الفكر يتحرك من المعلومات إلى المجهولات، يستنتج ويستخرج ويحلّل ويجزّئ ويقسّم ويجمع، حركة العقل حركة جوهرية، الروح تتحرك في صميم ذاتها، الروح تتحرك في داخلها حركة فكرية، حركة علمية. إذن، الحركة الفكرية والعلمية حركة جوهرية.

كذلك أيضًا الحركة الروحية حركة جوهرية. أنت قد تظن أنك لا تتحرك، والحال أنك تتحرك. مثلًا: عندما تصلي صلاة الليل ليلة الجمعة، قد تتصور أن هذه حركة جسمية، قيام، قعود، ركوع، سجود.. فهي حركة رياضية جسمية! هي حركة جسمية ورياضية، ولكنها أيضًا حركة للروح. الإنسان عندما يقف بين يدي ربه، وقد خيّم عليه الظلام، ولا رقيب يراقبه، ولا شخص ينظر إليه، ويأن ويحن ويجهش ويناجي ربه ويبتهل ويتوسل ويتضرع ويستغفر من ذنوبه ويقر بمعاصيه، هذا الإنسان يعيش حركة، كما أن عنده حركة جسمية، عنده حركة داخلية روحية، الروح تتحرك، كما ورد عن الرسول محمد : ”الصلاة معراج المؤمن“، أنت تعرج، وإن كنت لا تشعر، تعرج معراجًا روحيًا إلى أعلى السماوات، تصل إلى العرش، لكن بعروج روحي لا بعروج جسدي، أنت تعرج بروحك وتعيش حركة روحية قوية جدًا، هذه الحركة توصلك إلى الله «تبارك وتعالى»، وتجعلك متصلًا بعالم اللاهوت، بعالم السماء، ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح أنت تعيش في حركة ﴿إلى ربك كدحًا فملاقيه، تلتقي به حتمًا، بدلًا من أن تلتقي به وهو شديد العقاب، التقِ به وهو رحيم رؤوف. إذن أنت تعيش حركة كدح، حركة روحية في صميم ذاتك، وفي صميم داخلك، إلى أن تصل إلى ربك «تبارك وتعالى». هذه الحركة الروحية هي الكمال.

الإنسان خُلِق لكي يصل إلى الكمال عبر الحركة الروحية، وهذه الحركة الروحية هي التي تميّز الإنسان عن بقية المخلوقات، كما ورد عن أمير المؤمنين : ”إن الله خلق البهائم شهوةً بلا عقل، وخلق الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركّب في الإنسان عقلًا وشهوةً، فمن غلبت شهوتُه عقلَه“ أي: بدلًا من أن يتحرك للأعلى يتحرك للأسفل، بدلًا من السير في قوس الصعود يسير في قوس النزول، حركة للأرض لا للسماء، ”فمن غلبت شهوتُه عقلَه فهو أدنى من البهائم، ومن غلب عقلُه شهوتَه“ ارتفع عن الأرض وصار فوق الأرض ”فهو خير من الملائكة“. إذن، أنت تتميز على الملائكة أنك تعيش حركة نحو الكمال، تصل إلى الكمال عبر الحركة، وهذا الذي فُضِّل به الإنسان على غيره.

السؤال الثالث: لماذا فُضِّل الإنسان على كثير من الخلق لا على جميعهم؟

الآية قالت: ﴿وفضلناهم على كثير، ولم تقل: وفضلناهم على جميع من خلقنا تفضيلًا، لماذا؟ العلماء يجيبون بوجهين أتعرض لهما بشكل مختطف كخطف البرق.

الجواب الأول: أفضلية روح القدس على نوع البشر.

إنَّ هناك مخلوقًا أفضل من نوع البشر، وهو روح القدس، الذي وظيفته تسديد وتأييد الرسل والأنبياء، كما في قوله تعالى: ﴿وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس، وقوله تعالى: ﴿تنزل الملائكة والروح فيها، أي أن روح القدس ينزل مع الملائكة في ليلة القدر. وقال تعالى: ﴿عالم الغيب فلا يظهر... من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا، الرصد هو روح القدس، الذي يراقب حركة النبي في مجال استقبال الوحي وتبليغه، ﴿ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددًا. إذن بعض علمائنا يقول: روح القدس أفضل من نوع البشر، وليس أفضل من كل البشر، بعض البشر أفضل منه، لكنه أفضل من النوع، يعني أفضل من أغلب البشر، ولذلك الآية قالت: ﴿وفضلناهم على كثير ولم تقل: على جميع.

الجواب الثاني: انحصار الآية في المخلوقات الأرضية العاقلة.

أن الآية ناظرة للمخلوقات العاقلة التي تعيش على الأرض. الآية عندما قالت: ﴿ولقد كرمنا بني آدم ذكرت آدم، وآدم خُلِق من الأرض، إذن الآية ناظرة إلى المخلوقات التي تعيش على الأرض. ﴿وحملناهم في البر والبحر والبر والبحر أجزاء من الأرض، إذن الآية ناظرة للأرض. ﴿ورزقناهم من الطيبات والطيبات من الأرض، إذن الآية ناظرة للأرض. هذه فقرات ثلاثة في الآية تشير إلى أن الآية ناظرة للمخلوقات العاقلة التي تعيش على الأرض. الإنسان فُضّل على جميع المخلوقات العاقلة التي تعيش على الأرض، لكن بما أن هذه المخلوقات العاقلة التي تعيش على الأرض - من جن وملائكة - هي كثير في حد ذاتها، لذلك الآية قالت: ﴿وفضلناهم على كثير، أي: وفضلناهم على المخلوقات التي تعيش على الأرض، وهي كثير، هذا معنى الآية المباركة، وأما المخلوقات السماوية فالآية ساكتة، لم تبيّن أن الإنسان أفضل أو ليس بأفضل، سكتت عن هذا الجانب.

النقطة الثانية: مسألة التشريح.

بعض الجماعة أصر عليَّ، وإن لم يكن بنائي أن أتعرض لهذا الموضوع. أنا تعرضت للآية في ليلة سابقة، وشرحتها بغير هذا الشرح، والليلة شرحتها بشرح آخر، حتى يصبح عنده عدة شروح، وعقلك ينطلق في آفاق متعددة، وفي معارف متعددة، ولكن المسألة الثانية في الآية المباركة هي مسألة التشريح.

ذكرنا أن كرامة الإنسان كرامة تكوينية، بأن أعطي منصب الخلافة، وكرامة تشريعية، بمعنى أن القانون السماوي اعتبر للإنسان كرامة، فلا تجوز غيبته، ولا يجوز سبه، ولا يجوز شتمه، الإنسان بما هو إنسان القانون السماوي اعتبر له كرامة، هذا الإنسان لا يجوز لك غيبته، ولا سبابه، ولا الاعتداء عليه، له كرامة عند الله. من مظاهر الكرامة التشريعية: مسألة التشريح. هل يجوز تشريح بدن الإنسان، أم أن هذا ينافي كرامة الإنسان؟ هنا أطرح عدة أسئلة فقهية، وأجيب عنها.

السؤال الأول: هل يجوز التشريح في مجال المزاحمة أم لا؟

مثلًا: أمامي شخصان، أحدهما حي، والآخر ميت، وهذا الحي لا يمكن أن أحافظ على حياته إلا إذا شرّحت هذا الميت. افترض أن هناك وباءً منتشرًا في البلد، أو افترض أن هناك مرضًا منتشرًا، كمرض الالتهاب الرئوي الذي يغزو العالم. هذا الإنسان المريض لا يمكن المحافظة على حياته، إلا إذا شرحنا الإنسان الميت، حتى نكتشف المرض، ومن خلال اكتشاف المرض نستطيع أن نحافظ على حياة هذا الإنسان الحي، فهنا تقع مزاحمة بين هتك حرمة الميت، وحفظ حياة الحي، فإن تشريح الميت هتكٌ لحرمته، وهتك حرمة الميت حرام، وترك الحي بلا علاج تضحيةٌ بحياته، وعدم حفظ حياة الحي حرام أيضًا، فيقع التزاحم: إما أن نحفظ حياة الحي، أو نحافظ على حرمة جسد الميت، هنا إذا وقت التزاحم هل يجوز التشريح أم لا؟

يقول علماؤنا: نعم، يجوز التشريح حينئذ. إذا توقف حياة الحي على تشريح بدن الميت جاز تشريحه؛ لأن حفظ حياة الحي أهم من حرمة جسد الميت، هذا أهم بلا إشكال. وهذا ما تؤيده الروايات، ففي صحيحة علي بن يقطين: يسأل الإمام الصادق : امرأة ماتت وهي حامل، والجنين في بطنها؟ قال: ”يشقّ بطنها، ويُخْرَج ولدُها“، فهنا حصل تزاحم بين المحافظة على جسد الأم، وإخراج الجنين حيًا، وقُدِّم حفظ حياة الحي، على حرمة جسد الميت، قُدِّم الأهم على المهم. إذن، في مجال التزاحم يجوز التشريح.

السؤال الثاني: هل يجوز التشريح من أجل اكتشاف الجريمة؟

لو مات شخص، ولا ندري هل مات بالخنق أم بالسم، فحتى نحدد الجريمة، ونعرف المجرم الذي قام بها، نشرّح بدن الميت من أجل اكتشاف الجريمة، فهل يجوز ذلك؟ هل تشريح بدن الميت لأجل اكتشاف الجريمة جائز، أم ليس بجائز؟

بعض الفقهاء يقول: نعم، يجوز تشريح بدن الميت من أجل اكتشاف الجريمة. أنت من الذي يمنعك من التشريح؟ أليس هو المحافظة على حرمته؟! الذي يمنعنا من تشريح الجسد هو المحافظة على حرمة الجسد، فإذا كانت حرمة الميت تقتضي أن يشرّح؛ لأننا إذا لم نشرحه لم نعرف المجرم، وإذا لم نعرف المجرم ذهب دم الميت هدرًا، فمن أجل ألا يذهب دمه هدرًا، ومن أجل ألا يذهب دمه ضياعًا، نشرحه حتى نكتشف الجريمة، ونكتشف المرجم، وبالتالي نأخذ القصاص من هذا المجرم. إذن بالنتيجة: تشريح بدن الميت من أجل اكتشاف الجريمة ليس هتكًا لحرمة الميت، بل هو محافظة على حرمة الميت، لئلا يذهب دمه هدرًا، فحينئذ يجوز تشريحه من أجل اكتشاف نوع الجريمة، وعلى أساس تحديد الجريمة يحدّد المجرم، ليؤخذ القصاص منه.

وهنا نقطة مهمة: إذا كان تشريح بدن الميت يوصلنا إلى العلم واليقين بمعرفة المجرم، فيجوز حينئذ القيام بهذا التشريح، وإلا إذا لم يوصلنا إلى العلم، وإنما يوصلنا إلى الظن أو الحدس أو التخمين، فإن الطرق الظنية لا تُعْتَمَد في باب القضاء. أنت عندما تراجع باب القضاء، تجد أن علماءنا يقولون: باب القضاء لا يعتمد على الطرق الظنية، بل يعتمد على الطرق العلمية، في مجال الطرق الظنية لا يُعْتَمد إلا على البينة واليمين؛ لما ورد عن الرسول محمد : ”إنَّما أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات“، أي: إذا كان هناك علم اُعْتُمِدَ عليه، وأما إذا لم يكن هناك علم، فلا يُعْتَمَد على الطرق الظنية، وإنما يُعْتَمَد على البينة واليمين فقط. إذن بالنتيجة: التشريح إذا كان طريقًا لتحصيل العلم بالجريمة والمجرم، فهو جائزٌ؛ حفاظًا على حرمة دم الميت.

السؤال الثالث: هل يجوز للإنسان أن يوصي بتشريح بدنه؟

هل يجوز للإنسان أن يكتب في وصيته: إذا كانت هناك مصلحة مهمة تقتضي تشريح بدني، كأن يُكْتَشَف مرضٌ من الأمراض، أو دواء معين مثلًا، فأنا أجيز لكم تشريح بدني لأجل تلك المصلحة؟ هل يجوز أن يوصي بذلك؟ وإذا أوصى بذلك، هل يجوز العمل بهذه الوصية، أم لا؟

هنا خلاف بين الفقهاء: سيدنا الخوئي «قدس سره» يقول: إذا كانت هناك مصلحةٌ مهمةٌ تقتضي تشريح بدن الميت، وكان الميت قد أوصى بذلك، فإنَّ وصيته نافذة، ويجوز تشريحه تنفيذًا وتطبيقًا لتلك الوصية. سيدنا «قدس سره» يقول: نحن عندنا روايات تدل على أنَّ الإنسان مفوّض في بدنه من حيث الوصية، ففي موثقة عمار مثلًا: ”إنَّ الله فوّض للمؤمن أموره كلَّها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه؛ لأنه الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ولله العزة ولرسوله وللؤمنين“، أنت مفوض إليك إلا الذلة، لا يجوز لك أن تذل نفسك إطلاقًا، وأما ما سوى الإذلال فقد فُوِّض للمؤمن. إذن، من حق المؤمن، ومن صلاحيته في جسده، أن يوصي، فيقول: إذا احتاج أحدٌ إلى كلية مني خذوها، وإذا احتاج أحد إلى قلبي خذوه، وإذا احتاج أحد إلى الكبد خذوه، وإذا توقف شفاء إنسان أو معالجة إنسان على تشريحي شرّحوا. من حق الإنسان أن يوصي بذلك بعد موته، وتكون وصيته نافذة.

وهذا ما يعبّر عنه الفقهاء بالفرق بين الحق والحكم، فإن الحكم لا يسقط بالإسقاط، بينما الحق يسقط بالإسقاط. مثلًا: من حق الزوجة على زوجها الإنفاق عليها، ومن حق الزوجة على زوجها: أن ينام معها على الفراش ليلة من أربع ليال. هذا يسمى حقًا، حق القسمة، يجوز للزوجة أن تسقط حقها، وتقول: أنا لا أريد منك نفقة ولا شيئًا آخر، فإذا أسقطت سقط الحق، فلا يجب على الزوج الإنفاق عليها بعد أن أسقطت حقها. وأما حرمة الغيبة فهي حكم وليست حقًا، فلو قال قائل: فلان، اغتبني كما تشاء اليوم! أجزت لك أن تغتابني! لما كان لكلامه قيمة، بل تبقى الغيبة حرامًا؛ لأنها حكم وليست حقًا، فلا يسقط بالإسقاط. وهكذا هي مسألتنا، فإنها من موارد الحق، أي أن صلاحية الإنسان في بدنه حق، وليست حكمًا، فإذا أسقط الإنسان حقه، وقال: حرمة بدني بعد موتي أسقطتها من حيث التشريح أو قطع العضو ونقله لشخص آخر، فحينئذٍ يجوز ذلك ما دام الميت قد أوصى بذلك.

السؤال الرابع: هل يجوز التشريح ابتداءً؟

هل يجوز لنا التشريح ابتداءً من أجل التعلم مثلًا؟ الإنسان إذا دخل مجال الطب، فلا بد من دخوله قسم التشريح، ولا يمكن أن يُكْمِل المسيرة العلمية إلا بالدخول في مجال التشريح، فالدخول في مجال التشريح جزءٌ من المسيرة العلمية الطبية، فإذا لم يكن الإنسان في حال مزاحمة، ولا في حال اكتشاف مرض، ولا توجد وصية بالتشريح، فهل يجوز للإنسان ابتداءً القيام بعملية التشريح، إذا كان في ضمن مسيرته العلمية، وفي ضمن مسيرته في تعلم الطب؟ هل يجوز له ذلك أم لا؟

بعض الفقهاء - كسيدنا الخوئي «قدس سره» - فرّقوا بين المسلم والكافر. إذا كان الميت كافرًا، جاز تشريحه؛ اعتمادًا على بعض الروايات، وإذا كان مسلمًا، فلا يجوز تشريحه، ولا أريد الدخول في هذا البحث الفقهي الآن. بعض الفقهاء الآخرين قالوا: إذا كان ضمن التعلم، جاز التشريح، سواء كان المشرَّح مسلمًا أو كافرًا. هنا نقطة حضارية مهمة في هذا الموضوع.

بعض الفقهاء يقول: إذا لم يعتمد المسلمون على أنفسهم.. يعني: الآن نحن ننتظر أن يحضروا لنا كافرًا، من الفلبين أو من الهند أو من مكان آخر، حتى نشرحه، وإلا نغلق عملية التشريح، مع أن التشريح باب ضروريٌ في المسيرة العلمية، ولا يمكن أن تتم المسيرة العلمية بدون الطب. لو أغلقنا باب التشريح، ستكون معلوماتنا الطبية معلومات ناقصة وغير مكتملة، وإذا كانت معلوماتنا الطبية ناقصة سوف نعتمد على الغرب في سبيل أن يُكْمِل معلوماتِنا، أي: سوف نعتمد على المجتمعات والحضارات الأخرى في مجال الطب؛ لأننا لا نمتلك معلومات متكاملة، وذلك لأن باب التشريح عندنا باب مغلق.

الاعتماد على المجتمعات والحضارات الأخرى هو - كما يقول بعض الفقهاء - من أعظم المحرمات؛ لأن الاعتماد على هذه المجتمعات يفتح بابًا للكافرين على المسلمين، وقد قال «تبارك وتعالى»: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا، لا بد من سد السبل كلها، لا تفتح بابًا للكافر على المسلم، لا تفتح للحضارة الأخرى على الحضارة الإسلامية، لا تفتح سبيلًا للطرف الآخر عليك، لا بد أن تعتمد على نفسك، لا بد أن تسد هذه السبل.

ومن جهة أخرى: اعتماد الحضارة الإسلامية، واتكال المجتمع الإسلامي على المجتمعات الأخرى.. تحتاج أجهزة فتأخذها من المجتمعات الأخرى، وتحتاج طبًا فتأخذه من المجتمعات الأخرى، وتحتاج علمًا في مجال الفلك والذرة، فتعتمد على المجتمعات الأخرى، وهكذا تعتمد في كل صغيرة وكبيرة على المجتمع الآخر، وعلى الحضارة الأخرى، وهذا وهنٌ للإسلام، ووهنٌ للمجتمع الإسلامي، وقد قال «تبارك وتعالى»: ﴿ولله العزة ولرسوله وللؤمنين. إذن، يجوز للمسلمين أن يشرّحوا في مجال المسيرة الطبية ولو كان المشرَّح مسلمًا؛ لأجل ألا يعتمد المجتمع الإسلامي في مجال العلم والمعرفة على المجتمع الآخر، وهذا فتحٌ للسبيل للمجتمع الآخر على المجتمع الإسلامي، وعلى الحضارة الإسلامية.

حول الرشد الاجتماعي:

وهذا ما يعبّر عنه بالأمة الرشيدة، والمجتمع الرشيد. المجتمع الرشيد هو الذي ينهض على أكتاف أبنائه، هو الذي ينهض على قدراته وطاقاته وإمكاناته الذاتية، هذا هو المجتمع الرشيد. المجتمع الذي يخطّط للمستقبل، المجتمع الذي يخطّط للحضارة الشامخة، المجتمع الذي يمتلك بُعْدًا في النظر، المجتمع الذي يمتلك سعةً في الأفق، هذا المجتمع إذا امتلك سعةً في الأفق وبُعْدًا في النظر فهو مجتمعٌ رشيدٌ، يعتمد على إمكاناته الذاتية، وعناصره الذاتية، وقدراته وطاقاته، في سبيل أن ينهض بنفسه، فيحتفظ بعزته وكرامته وكيانه، هذا هو المجتمع الرشيد.

ولذلك، ترى المجتمعات الإسلامية مجتمعات رشيدة، تعي مسؤوليتها، وتعي أنها قادرةٌ على إحياء كرامتها، وإحياء شخصيتها، وإحياء كيانها. وأنا كرّرت في عدة من السنوات، لعلي سنويًا أذكر هذا الكلام، أقول: المجتمع هنا، في هذه المنطقة، في هذا المكان، إلى متى؟! فليعتمد على نفسه، فليكن علماؤه من نفسه، فليكن خطباؤه منه، فليكن أئمته منه، لماذا يعتمد على المجتمعات الأخرى؟! هذا المجتمع بحمد الله مجتمع مثقف، يمتلك طاقات جبّارة، هذا المجتمع فيه أذكياء، فيه مثقفون، إلى متى؟! فليكن هذا المجتمع - المجتمع اللواتي بصفة خاصة، والمجتمع الشيعي في هذا المكان بصفة عامة - فليعتمد على نفسه، فليكوّن له خطة مستقلبية مدروسة.

وجهاء المنطقة، كبار المنطقة، يرسمون خطة، خلال كذا سنة، من خلال كذا سنة، يستخرجون مجموعة من الخطباء، مجموعة من العلماء، مجموعة من الأدباء، مجموعة من الشعراء، مجموعة من المفكّرين. إذا رُسِمَت خطةٌ معيّنةٌ، وتُعُهِّد بتنفيذها، ووُضِعت لها آلياتها، ووُضِع لها رصيدها، ودُرِسَت دراسة محكمة من حيث الأهداف والنتائج، وقراءة كل مرحلة من مراحل هذه الخطة، سوف تنتج هذه الخطة في المستقبل، سوف تنتج مجموعة من العلماء والخطباء والكفاءات الفكرية والأدبية، وهذا دليل وعلامة على رشد المجتمع ووعيه وبُعْد نظره وسعة أفقه. إلى متى يظل المجتمع متكّلًا على الآخرين حتى يأتوا ويفدوا ويتدخلوا ويحلوا ويشكلوا؟! فليعتمد المجتمع على نفسه، وعلى أبنائه، فإنهم أحرص على مصلحته، وأكثر إخلاصًا لكيانه، وللنهوض به، وللقيام به خير قيام.

حول المسيرة النجفية ونبذة عن تاريخ النجف الأشرف:

ولا يفكر الإنسان في القلة أو في الكثرة. لاحظ اليوم مثلًا، هذا مظهر حضاري عظيم في النجف الأشرف، مسيرة ضمّت الآلاف في النجف الأشرف، خرجوا في النجف الأشرف يهتفون بتأييد المراجع كلهم، يهتفون بالوحدة الإسلامية بين طوائف المسلمين، يهتفون بأنهم يريدون عزتهم وكرامتهم، يهتفون بأن للنجف موقعًا علميًا، وموقعًا حضاريًا، وموقعًا إسلاميًا، وهذه الموقعية الإسلامية والحضارية لهذه المدينة العظيمة، التي هي بابٌ من أبواب علي ، الموقع الحضاري، والموقع الديني، والموقع الفكري، لهذه المدينة العظيمة، يقتضي من أبنائها أن يحافظوا على عزتها، وكرامتها، وحسن سمعتها، وحسن موقعها بين المسلمين، وانطلاقًا من وعيهم والتفاتهم لأهمية هذه المدينة العظيمة - مدينة علي بن أبي طالب - انطلقوا في هذه المسيرات، تأييدًا لمراجع النجف، وحفاظًا على الحوزة العلمية في النجف، وإظهارًا للعالم أنهم يد واحدة، مع مراجعهم، مع علماء الدين، مع فكرهم، مع كرامتهم، مع عزتهم.

مدينة النجف مدينة عظيمة. منذ أيام الشيخ الطوسي إلى هذه الأيام، أكثر من ألف سنة، تصوّر جامعة عمرها ألف سنة، هل توجد جامعة بهذه المثابة؟! جامعة عمرها ألف سنة، جامعة النجف، جامعة أخرجت الكثير من الفقهاء والفطاحل والأفذاذ على مدى التاريخ، أخرجت آلاف الكتب، أخرجت آلاف المفكرين، أخرجت آلاف الفقهاء، أخرجت آلاف الأفكار، وآلاف القواعد، وآلاف الأطروحات، جامعة استمرت ألف عام، وستستمر - إن شاء الله - بعنفوانها وهيبتها، وتستمر - إن شاء الله - بقدوتها وعمقها وأصالتها. مدينة النجف مدينة أمير المؤمنين، باب مدينة العلم.

ولذلك، فعلًا العلم في مدينة النجف.. أنا إنسان درست في النجف اثنتي عشرة سنة، ودرست في قم المقدسة سنينًا أخرى، وما زلت في قم المقدسة، لكن ليس طعم قم طعم النجف أبدًا، النجف لها تميّزٌ، الإنسان في النجف الأشرف يشعر بانشراح الصدر، يشعر بانطلاق الفكر، يشعر بأنه موفّقٌ في علمه، موفّقٌ في وقته، موفّقٌ في عقله، موفّقٌ في استنتاجاته، الإنسان يشعر وهو يعيش أجواء النجف، يشعر بجاذبية روحية بينه وبين أمير المؤمنين .

الإنسان في النجف الأشرف يشعر بجاذبية روحية، تسيطر على النجف، تضفي جوًا روحيًا وفكريًا على النجف الأشرف، يضفي هذا الجو ضريح أمير المؤمنين . يشعر الإنسان فعلًا في النجف أنه يلتهم العلم التهامًا، يشعر برغبة ملحة على العلم، يشعر بانفتاح، بنشاط، بحيوية، بإقبال على التعلم والمعرفة، وهذا سرٌ من أسرار النجف؛ لأنها مدينة باب مدينة العلم.

إنما المصطفى مدينة علم   وهو الباب، من أتاه iiأتاها

من أتى العلم في النجف فقد أتى ذلك الباب، فعلًا للنجف خواص خاصة، ولذلك النجف تتميز على الحوزات الأخرى بأنها حوزة متعددة الآفاق، فيها الفقه، فيها الأصول، فيها الفلسفة، فيها الشعر، فيها الأدب، فيها الفكر، فيها الثقافة، النجف لا تنحصر في مجال معين، تجد فيها مجالس الفقهاء، تجد فيها مجالس الشعراء، تجد فيها مجالس الأدباء، تجد فيها مجالس المفكرين، تجد فيها مجالس المثقفين، ترى جميع الحقول، وجميع المجاميع، وجميع الآفاق، تحتضنهم مدينة النجف الأشرف، ولذلك هي مدينة الشعر، وهي مدينة الأدب، كما هي مدينة العلم، وكما هي مدينة الثورات والتضحيات والبطولات والعطاء المتواصل، مدينة ضمّت روح علي ، ضمّت نفس علي بن أبي طالب، ضمّت تلك الأجواء الطاهرة التي تستند إلى بركات علي بن أبي طالب .

النجف لماذا سمّيت نجفًا؟ هناك بحر يسمّى بحر النجف، إذا ذهبت إلى النجف، وصعدت إلى الأعلى، ونظرت إلى الأسفل، تجد آثار بحر لا زالت موجودة. في منطقة الجدول في النجف، كان هناك بحر، ولكن هذا البحر بمرور الأيام جف، وكان البحر اسمه نا، فقيل: نا جف، فسمّيت نجف، أي أن أصلها بحر نجف، فسميت نجفًا. النجف الأشرف كانت هضبة مرتفعة، والكوفة تعتبر منطقة نازلة بالنسبة للنجف، والكوفة بلد زراعي يطل على شاطئ الفرات، وكان الناس يعيشون في الكوفة، فلما قُتِل أميرُ المؤمنين أخرجه أولاده ليلًا خوفًا من السلطة الأموية أن ينبشوا قبره وأن يعتدوا على جسده، فأخرجه أبناؤه ليلًا إلى صحراء الكوفة، إلى هضبة الكوفة، ودفنوه في هذا الموضع، ولم تكن في ذلك الوقت مدينة أصلًا، بل كانت هضبة خالية، وهكذا دفنوه في ذلك الموضع، الذي هو موضع قبره الآن .

وبقي القبر مخفيًا، كقبر الزهراء ، نفس الحدث، الزهراء دُفِنَت ليلًا، وعلي دُفِن ليلًا، والقبر ظل مخفيًا، والقبر هنا ظل مخفيًا، ظل قبر أمير المؤمنين مخفيًا لسنين طويلة، لا يعرفه إلا أهل البيت، الإمام الصادق يرشد بعض أصحابه، يقول: إذا وصلت إلى الذكوات البيض - هضبات بيضاء - فخذ على يسارك، وقف، فهناك قبر جدي أمير المؤمنين . ما كان يعرفه إلا أهل البيت وخواصهم.

إلى أن جاء زمن هارون الرشيد واكتشف القبر الشريف. هارون الرشيد جاء إلى الكوفة، هو طبعًا الخليفة، ويسكن في بغداد، ولكنه يخرج أحيانًا إلى الكوفة، فجاء إلى الكوفة يومًا من الأيام خارجًا للصيد، خرج إلى هضبة الكوفة - وهي النجف الأشرف - لاصطياد الغزلان، وفي الأثناء سدّد سهمًا نحو غزالة يريد أن يصطادها، فهربت، لحقها هارون الرشيد، فرأى الغزالة التجأت إلى أكمة، أي: مكان مرتفع في الأرض، لجأت إليه الغزالة، وتشبت به بيديها، تمسك على الأكمة بكلا يديها، فاستغرب هارون من المنظر، ما الذي أحضر الغزالة إلى هذا المكان؟! ولماذا تمسك بالمكان وكأنها تمسك بأمها أو بأبيها كي يحميها؟! هناك رعاة يرعون أغناهم، التفت إليهم هارون الرشيد، قال: ما هذا المكان؟ قال: فيه شيء، قال: أخبرني، قال: إذا أخبرتك لي الأمان، ولا شيء عليَّ؟ قال: لا، قال: هذا قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

هارون الرشيد ماذا يفعل؟! أسقط ما في يديه. صحيح أنه يبغض أهل البيت، لكن علي بن أبي طالب ابن عمه، وقد دخل هنا النفس النسبي في الموضوع، وبدأ في التحرك بدوافع عائلية، وبدوافع نسبية، فقال: كيف لا يزار؟! قال: يخافون من زيارته. فأمر ببنائه وزيارته، وفعلًا بُنِي القبر، ووُضِعَت عليه مظلة، وصار الزوار يقصدون زيارته ، وأصبح قِبْلَة الزائرين، وأصبح موضع الزائرين.

الغزالة التجأت لقبر علي، وكأنها تشعر بأنَّ هذا هو حلال المشاكل، ومغيث من يستغيثه، كأن العزالة تشعر في داخله أن لهذا القبر قوة خارقة، أن لهذا الضريح قوة غير عادية، أن لهذا الإنسان قوة فريدة غيبية، تغيث من يستغيث به، وتفزع من يفزع إليه، وتحل مشكلة من يلجأ إليه.