عصمة النبي وأخلاقه في المنظور القرآني

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ،

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

هناك جانبان مهمان في شخصية الرسول الأعظم : الجانب الأول: جانب عصمته. والجانب الثاني: جانب خلقه العالي.

الجانب الأول: جانب عصمته.

القرآن قد نادى بعصمته ، أما عصمته في مجال التبليغ فقد قال عنها القرآن الكريم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وأما عصمته في مجال سلوكه وفي مجال عمله فقد تحدث عنها القرآن الكريم في عدّة آيات، منها قوله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وقال في آية أخرى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وقال في آية ثالثة: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، كلّ هذه الآيات تكشف عن عصمته السلوكية، وإلا لما أوجب الله طاعته، ولما أوجب الأخذ بأقواله وبأعماله وأفعاله من دون قيد ولا شرط.

ولكنّ هناك بعض الآيات القرآنية التي قد يُسْتَشَمُّ منها عدم عصمة النبي ، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، قد يقال بأنّ هذه الآية تدل على صدور الذنب من الرسول ، وهذا يتنافى تمامًا مع عصمته التي ذكرنا أنّ القرآن سجّلها في مجال التبليغ وفي مجال السلوك.

الجواب عن هذه الشبهة:

الآية المباركة وإن نسبت الذنب إلى النبي ، لكن المقصود به الذنب الاجتماعي لا الذنب الشرعي، وحتى يتضح الفرق بينهما، نضرب مثالًا: إذا صدر أمرٌ من الأبوين على سبيل الشفقة - كما يقول الفقهاء - حرم على الإنسان مخالفته؛ لأن مخالفته عقوقٌ لهما، فلو خالف الأمر الصادر من الأبوين مع أنه صادر على سبيل الشفقة فإنّ هذه المخالفة تعدّ ذنبًا شرعيًا، ولكن لو صدر أمر من قبل أخيه الأكبر أو عمه أو خاله مثلا، فإنه إذا خالف الأمر لم يذنب ذنبًا شرعيًا؛ لأنه لا يجب إطاعة العم أو الخال أو الأخ الأكبر، ولكن أذنب ذنبًا أسريًا، يعني الأسرة تراه مذنبًا، الأسرة تقول: المفروض أن تطيع أخاك الأكبر أو تطيع عمّك الكبير أو تطيع خالك الكبير، فمخالفتك لأوامر هؤلاء ليست ذنبًا شرعيًا ولكنها ذنب اجتماعي، ذنب أسري، يعني أجواء الأسرة تعدّه ذنبًا.

الأمر تمامًا حصل بالنسبة للنبي المصطفى محمدٍ ، الرسول لم يذنب ذنبًا شرعيًا، وهو القائل: ”خلقني الله نبيًا وآدم بين الماء والطين“. النبي اصطفي للنبوة منذ قبل خلقه ، فخرج مبرّأً من العيوب ومن الذنوب.

خلقت مبرّأ من كلّ عيبٍ   كأنّك  خلقت كما iiتشاءُ

النبي لم يذنب ذنبًا شرعيًا، ولكنّه ضرب بقبيلته عرض الحائط ألا وهي قبيلة قريش، كانت قبيلة قريش من أعظم القبائل بل هي أشرف القبائل العربية آنذاك في الحجاز، قبيلة قريش قبيلة معروفة بثرائها، بموقعها الاجتماعي، بخدمتها للبيت الحرام، فكانت هي القبيلة الموجّهة لدى المجتمع الحجازي آنذاك، هذه القبيلة لم تنصر النبي ، قلائل من القبيلة هم الذي وقفوا مع النبي، عمه أبو طاب، وعمه حمزة، وبعض أبناء عمه أبي طالب، هم الذين وقفوا معه فقط، وبقية القبيلة وقفت بالمرصاد للنبي مع أنّها عشيرته وقبيلته اعتبرته خارجًا عنها تمرّدًا عليها غير مطيع لها، وبدأت تظهره أمام قبائل العرب بأنه إنسانٌ منبوذٌ من قبل قبيلته مطرودٌ من قبل عشيرته وأنّه من أفقر بيت في القبيلة وأنه إنسان لا يمثل قبيلة قريش بثرائها وموطنها لأنه صدر من بيت فقير يتيم مغمور في قبيلة قريش.

إذن فقريش تعتبر أنّ الرسول عندما صدع بالدعوة وحاربها وقاتلها في يوم بدر وفي وم أحد وقتل أشياخ قريش وقتل صناديد قريش وقتل وجهاء قريش.. قريش اعتبرت ذلك ذنبًا كبيرًا صادرًا من النبي ، ذنبًا لا يغتفر في حقّ قبيلته وعشيرته وأعمامه ووجهاء قبيلته.

الله تبارك وتعالى يقول: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، يعني أعطينا الراية بيدك، وفعلًا خضعت مكة لك، وبعد خضوع مكة لك سنحبّب لك قلوب قبيلتك، سنجعلهم يغيّرون رأيهم، كانوا يعتبرونك مذنبًا، أما الآن فسيعتبرونك أبًا رحيمًا عطوفًا، سيعتبرونك شيئًا آخر، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، يعني أخضعنا مكة لك وإنّا أيضًا سنغفر لك الذنب، يعني سنغفر لك هذه الخطيئة الاجتماعية، بمعنى أنّنا سنسترها، الغفران بمعنى الستر، سنستر هذه الخطيئة الاجتماعية وسنجعل هؤلاء الذين كانوا يواجهونك ويعتبرونك مجرمًا الآن سيعتبرونك أبًا رحيمًا، ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ تجاه قومك ﴿وَمَا تَأَخَّرَ أيضًا. إذن، ليس المراد بالذنب هنا هو الذنب الشرعي، بل المراد به الذنب الاجتماعي، والذنب الاجتماعي ليس مخلًا بالعصمة، عصمة النبي المصطفى محمدٍ .

الجانب الثاني: خلقه العالي.

القرآن الكريم ركّز على أنّ النبي تمتع بخلق لم يتمتع به أحد من البشر: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، وقال في آية أخرى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، الرسول خُلِقَ هكذا، خُلِقَ صاحب خلق عظيم لكي يكون إنسانًا جذّابًا، إنسانًا يجذب أعداءه إلى دينه، يجذب مناوئيه إلى دينه، يجذب معارضيه إلى خطه بأخلاقه، بتواضعه، بتسامحه، ببسمته، برأفته ، كان خلقه عنصرًا إعلاميًا، كان خلقه عنصرًا جذّابَا لخطه ولدعوته .

بلغ   العلى   بكمالهِ
حسنت جميع خصالهِ
  كشف الدجى iiبجمالهِ
صلّوا    عليه   وآلهِ

قد يقول قائل بأنّ هناك بعض الآيات القرآنية التي تتنافى مع الخلق العالي ومع الخلق السامي للنبي المصطفى ، مثلًا: قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، قد يقول أنّ هذه الآيات تظهر أنّ النبي يعبس في وجوه الآخرين، ويقطّب في وجوههم، ويعرض عنهم، ولا يقبل عليهم، ولا يزكّيهم، ولا يعلّمهم الأحكام كما أمره الله تعالى به.

نحن نقول: هذه السورة كما هو المعروف بين الشيعة الإمامية لم تنزل في النبي ، وإنّما نزلت هذه السورة في بعض الصحابة الذي كانوا يتصدون للدعوة في محضر النبي ، طبعًا النبي إذا جلس مع أصحابه هو يتصدى للإجابة على بعض الأسئلة وبعض أصحابه المتعلمين يتصدون لتعليم الآخرين أيضًا، فإذا دخل الإنسان مسجد النبي، وإذا دخل الإنسان مجلس النبي، يرى عدّة حلقات، الرسول يعلم، وبعض أصحابه أيضًا يتصدّى للتعليم، ويتصدّى للتوجيه، ويتصدّى لإرشاد الذين يفدون إلى المسجدِ أو إلى المجلس المحمدي لتعلّم الأحكام.

بعض الصحابة المتصدّين للتعليم جاءه عبد الله بن أمّ المكتوم، وكان إنسانًا مكفوف البصر، وقال: علّمني مما علّمت، علّمني من دين الله ما علّمت، فأعرض ذلك الصحابي بوجهه عنه، فشكا ابن أمّ مكتوم ذلك الأمر إلى رسول الله ، فنزلت هذه السورة عتابًا لذلك الصحابي الذي عبس في وجه الأعمى عبد الله بن أمّ مكتوم. نحن لماذا نؤيّد هذه الرواية التي تقول أنّ هذه الآيات لم تنزل في النبي وإنّما نزلت في بعض الصحابة؟

الملاحظة الأولى: استلزام تناقض القرآن.

نحن لو قبلنا أنّ هذه الآيات نزلت في النبي المصطفى فهذا يعني أنّ القرآن متناقض، هذا يوجب التناقض بين آيات القرآن، والتناقض بين آيات القرآن دليلٌ على عدم صلاحية القرآن لأن يكون معجزة تثبت نبوة النبي ، إنّما يكون القرآن كتابًا معجزًا - كي يكون دليلًا وشاهدًا على صدق النبوة - إذا كان كتابًا خاليًا من التناقض، أما إذا كان كتابًا مشتملًا على التناقض والتعارض بين آياته فلا يصلح أن يكون شاهدًا ولا برهانًا على صدق النبي ، ولذلك أكّدت الآيات القرآنية على أنّ الكتاب خالٍ من التناقض، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لكن لأنه من الله فليس هناك اختلاف ولا تعارض بين آياته.

لو كانت هذه السورة - سورة عبس وتولى - نازلة في النبي لكان مضمونها معارضًا للآيات التي تحدثت عن خلق النبي: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، هل الرؤوف الرحيم يعبس في وجوه المؤمنين؟! هل الرؤوف الرحيم يصدّ عنهم ويعرض عنهم؟! هل الإعراض والصدود والعبوس والتقطيب يتناسب مع الرحمة؟! يتناسب مع الرأفة؟! يتناسب مع كونه حريصًا على هداية المؤمنين؟! إذن/ لو كانت سورة عبس نازلة في النبي لكان هناك تعارض وتناقض بين هذه الآية وبين الآيات التي تدل على أنّه عين الرأفة، عين الرحمة، عين الحرص، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

الملاحظة الثانية: المسألة مسألة ذنب لا مجرد تخلّق.

ربما يقول قائل: النبي لم يرتكب ذنبًا، وإنّما لم يتعامل بأخلاق فقط، يعني النبي إذا عبس في وجه الأعمى فالعبوس في وجه الأعمى لا يعدّ ذنبًا، وإنّما هو مخالفة للخلق العالي، فما المانع من ذلك؟! النبي مرّة واحدة في حياته لم يكن خلقه عاليًا! النبي مرّة واحدة في حياته كبا قليلًا كبوة واحدة لا تضر بعظم خلقه! ما المانع من ذلك؟!

نقول: المسألة ليست مسألة مخالفة خلق، المسألة مسألة ذنب، لو فعلًا صدر من النبي لكان مذنبًا، لأنها مخالفة لقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، هذه مخالفة للأمر الشرعي، لو أنّ النبي فعلًا صدر منه هذا بأنّ عبس في وجه الأعمى أو أعرض أو قطّب.. جميع هذه الصور تعدّ مخالفة للأمر بخفض الجناح، فإذا كان الرسول مأمورًا من قبل الله بخفض الجناح، يعني باللين، بالعطف، بإظهار التواصل، بالاحتضان، إذا كان الرسول مأمورًا بذلك وهو مع هذا يخالف الأمر، فقد ارتكب ذنبًا ومعصية، لا أنه فقد ترك التخلّق بالخلق العالي، بل يعدّ هذا العمل ذنبًا ومعصية، وبالتالي يكون منافيًا لعصمة النبي المصطفى محمدٍ .

الملاحظة الثالثة: القضية أعظم من محض العبوس.

الآيات توضّح أنّ المسألة ليست أنّه عبس فقط، بل المسألة أعظم من هذا، ومن المشكل جدًا أن يقبل مسلمٌ نزول هذه الآيات في النبي، فإن الآيات تبيّن أنّ الرسول يمشي مع الأغنياء، يركض وراءهم، أين الأغنياء؟ هو وراءهم! أين الفقراء؟ يعرض عنهم! ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى إذا رأيت شخصًا غنيًا فأنت وراءه! ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، يعني لا يهمك أصبح زكيًا أم لم يصبح زكيًا! المهم أنّه غنيٌ وتكسبه! هذا هو المهم عندك!! ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى، هؤلاء المساكين المحرومين الذين يريدون التعلم ﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، يعني تبتعد عنه، تلهي نفسك عنه.

إذن، لو كانت هذه الآيات صادرة في النبي فعلًا، لما كانت المسألة مسألة عبوس فحسب، بل لكانت تقصيرًا واضحًا في هداية الناس، ولكانت منقصة ووصمة وعارًا في شخصية النبي، القائد يفرّق بين أبناء المجتمع! القائد يقبل على الأغنياء ويلهى عن الفقراء! القائد يقبل على الأغنياء لأجل غناهم ولا تهمه تزكيتهم! لو ثبت هذا عن النبي لكان وصمة عارٍ في شخصيته ، وهذا تمامًا يصطدم مع قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ، كيف يزكيهم وهو يمشي خلف الأغنياء ولا يهتم بتزكيتهم؟! هذا تمامًا يتعارض مع الآية.

إذن، على أساس هذه الملاحظات الثلاث قلنا - كما هو المعروف بين الشيعة الإمامية - بأنّ هذه الآيات نزلت في أحد الصحابة الذين كانوا بصحبة النبي المصطفى ، ولم تنزل في حق النبي المصطفى محمدٍ .