الإرادة الإنسانية بين عوامل الضعف والقوة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تتحدث عن عنصر يمتاز به الإنسان على غيره من المخلوقات ألا وهو عنصر الإرادة. الإنسان هو المخلوق الذي يمتلك إرادة التغيير وإرادة التبديل. حديثنا حول هذا العنصر، عنصر الإرادة، في عدة محاور:

  • تعريف الإرادة.
  • هل هناك منافاة بين إرادة الله وإرادة الناس؟
  • عوامل ضعف الإرادة.
  • مناشئ تربية الإرادة.
المحور الأول: تعريف الإرادة.

الفلاسفة وعلماء النفس يتحدثون عن تعريف الإرادة يقولون: الإرادة هي إعمال النفس لقدرتها بأمر البدن بالتحرك. ما معنى هذا المصطلح؟ الإنسان عندما يريد أن يصنع شيئا لا يمكن أن يصنعه دفعه واحدة، إذا أراد الإنسان أن يصنع عملا ما، أو أن يقوم بأمر ما، لا يمكن أن يصنعه أو أن يقوم به دفعة واحدة بل هنالك مقدمات. مثلا: أنا عندما أحضر هذا المأتم أو أحضر هذا المسجد، الحضور في المسجد لا يأتي دفعة واحدة هناك مقدمات لذلك:

المقدمة الأولى: التصور.

أن يتصور الإنسان أنه في المسجد ويخطط لهذا الموضوع، ثم ينتقل للمقدمة الثانية.

المقدمة الثانية: الإذعان.

لا بد من أن يذعن بالفائدة، أي: عندما يتصور الحضور في المسجد سوف يذعن بفوائد هذا الحضور، سواء كانت فائدة أخروية كتحصيل الثواب، أو فائدة اجتماعية كلقاء الإخوة والأصدقاء، أو فائدة علمية ثقافية. إذا تصور الإنسان الحضور في المسجد، يذعن بالفائدة أي يصدق أن هناك فائدة لهذا الحضور.

المقدمة الثالثة: دفع العوائق.

أي أنه يدرس هل هناك عوائق تمنعني من الحضور إلى المسجد أم لا؟ هل لدي سيارة أم لا؟ هل أدل الطريق أم لا؟ هل هذا هو الوقت المناسب أم لا؟ فيدرس العوائق لحضوره وعدم حضوره.

المقدمة الرابعة: حصول الشوق.

إذا تصور، وصدق بالفائدة، ودفع العوائق، حصل عنده الشوق لحضور المأتم أو لحضور المسجد. بعد هذه المقدمات الأربع تأتي مرحلة الإرادة، فالإرادة لا تأتي إلى بعد هذه المقدمات الأربع. وبعد أن تمر هذه المقدمات الأربع يريد الإنسان أن يحضر إلى المسجد. وما معنى أنه يريد؟ يعني أن النفس تأمر البدن بأن يتحرك، يصدر الأمر من الدماغ للبدن بأن يتحرك. هذا الأمر الذي يصدر من الدماغ للبدن وللجسد بأن يتحرك يسمى بالإرادة. فالإرادة هي إعمال النفس قدرتها على تحريك البدن نحو الهدف ونحو العمل الذي يطلب حصوله ويطلب تحققه.

المحور الثاني: هل هناك منافاة بين إرادة الإنسان وإرادة الله؟

هل هناك منافاة بين إرادة المخلوق وإرادة الخالق؟ ربما يقول شخص أن النصوص متباينة، أي أن هناك نصوصا تتحدث عن إرادة الخالق وهناك نصوصا تتحدث عن إرادة الإنسان. مثلا: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، أي أن الله «تبارك وتعالى» إذا أراد شيئا فالعبد لا يستطيع أن يفعل حيال ذلك أي شيء أبدا. مثلا - قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، أي أن كل شيء هو صانعه لا نحن الصانعون. حضوري في المسجد شيء، هذا مخلوق لمن؟ مخلوق لي أم لله؟ الآية تقول لله، صلاتي شيء، هل هي مخلوقة لي أم لله؟ الآية تقول لله. صلاتك شيء إذن هي مخلوقة لله، وحضورك في المأتم شيء إذن هو مخلوق لله، حركتك في الشارع شيء إذن هي مخلوقة لله. فإذا كان كل شيء مخلوقا لله فأين إرادتي؟ أين دور الإرادة؟ فنلاحظ هذا القسم من الآيات فنتصور أن ليس هنالك مجال لإرادة الإنسان.

بينما إذا لاحظنا آيات أخرى تنص على أن إرادة الإنسان ضرورية، كقوله تعال: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، أي أنك أنت المنطلق والأمر بيدك وبإرادتك، وآية أخرى تقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، أي أن هم بدؤوا ذلك وبإرادتهم. إذن، إرادة الإنسان لها دور كبير فكيف نجمع بين هذه الآيات؟ بين الآيات التي تقول: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، ليس لإرادتك دخل، وبين الآيات التي تقول الأمر بإرادتك أنت، ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، فكيف نجمع ما بين هذين الصنفين من الآيات؟

أهل البيت «سلام الله عليهم» جمعوا بين هذين الصنفين من الآيات، كما ورد عن الإمام الصادق : ”لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين“. ما معنى هذه النظرية؟ نشرح ذلك بمثال، السيد الخوئي «قدس سره» في كتابه البيان في تفسير القرآن يشرح هذه النظرية من خلال مثال فيقول: لو فرضنا أن إنسانا مشلول اليد، ولا يستطيع تحريكها نتيجة الشلل واستطاع طبيب أن يحرك هذه اليد بواسطة جهاز كهربائي، إذا وصلنا اليد بالجهاز الكهربائي وبدأ هذا الإنسان المشلول يحركها ويرفعها ويضعها، فماذا نسمي هذه الحركة؟ هل نسميها حركة جبرية أم نسميها حركة اختيارية؟

لا تستطيع أن تقول أن هذه حركة جبرية، ليست جبرية محضة، لماذا؟ لأنه لولا إرادة الإنسان لما تحركت اليد، قد يكون الجهاز موصولا بيد الإنسان لكن الإنسان يمسك يده عن الحركة، إذن ليست جبرية محضة، الإرادة دخيلة، وليست اختيارية محضة، لماذا؟ لأنه لو انقطع التيار الكهربائي لما استطاع الإنسان من تحريك يده. إذن هذه الحركة، حركة المشلول يده بواسطة الجهاز الكهربائي ليست جبرية محضة، لأن الإرادة دخيلة ولا اختيارية محضة، لأن الطاقة الكهربائية دخيلة، فهذه الحركة نسميها أمر بين أمرين، أي حركة المزيج من الإرادة ومن العامل الخارجي، حركة ممزوجة بين عاملين، عامل خارجي وهي الطاقة الكهربائية، وعامل داخلي وهي الإرادة.

نفس الشيء بالنسبة للإنسان، فلو أنك كبرت للصلاة ودخلت فيها، هل صلاتك حركة اختيارية أم جبرية؟ ليست جبرية محضة، لماذا؟ لأن إرادتك دخيلة، لو لا أنك أردت الصلاة ما صليت، وليست اختيارية محضة، لماذا؟ لأن الله «تبارك وتعالى» لو قطع المدد عنك دقيقة واحدة لأصبحت إنسانا عاجزا جالسا في الأرض لا تستطيع أن تحرك أي أنملة من أنامل بدنك. إذن هناك عامل داخلي لتحقيق الصلاة وهو الإرادة، وهناك عامل خارجي لتحقيق الصلاة وهو الطاقة التي يمدها الله إياك في كل وقت وكل آن مثل الطاقة الكهربائية. كيف أن هذا المصباح يعتمد على الطاقة الكهربائية في كل ثانية، لو تنقطع الطاقة الكهربائية لحظة واحدة ينقطع النور، جسم الإنسان كذلك يحتاج إلى طاقة من قبله تعالى في كل آن وفي كل لحظة، متى ما انقطعت الطاقة انقطعت الحركة.

إذن حركة الإنسان لا جبرية محضة ولا اختيارية محضة وإنما هي أمر بين أمرين، فالآية التي تقول: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، يعني أن هذه الصلاة لو لا مدده تعالى وإثابته للوجود، أنت لا تستطيع أن توجد الصلاة. والآية التي تقول: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ تقول: التغيير بيد الله لكن الله ربط تغييره بماذا؟ بإرادتك، ربط تغييره باختيارك، فلولا إرادتك واختيارك لما وقع هذا العمل ولما وقع هذا التغيير. إذن لا منافاة بين إرادة المخلوق وإرادة الخالق.

المحور الثالث: عوامل ضعف الإرادة.

كل إنسان يطمع أن تكون له إرادة فاعلة، أي أنك لو تلقي نظرة على المجتمع، تجد أن العاملين النشطين في المجتمع هم جماعة معدودة على الأصابع. مثلا: من عشرة آلاف إنسان تلقى عشرين إنسانا منهم تراهم فاعلين وعاملين، هذا يعمل في المآتم، وهذا يعمل في المساجد، وهذا يعمل في اللجان الخيرية وهذا يعمل في اللجان الثقافية، وهكذا، فترى من العشرة آلاف شخص، عشرين شخصا أو خمسين شخصا لا أكثر من ذلك.

إذن الإرادة لا يمتلكها كل إنسان، إرادة العمل وإرادة العطاء، إرادة النشاط لا يمتلكها كل إنسان. الإرادة الفاعلة التي تتجسد في خدمات وعطاء اجتماعي في تغيير اجتماعي في أنشطة اجتماعية. الإرادة الفاعلة لا تتوفر لدى كل شخص. كيف يوفر الإنسان لنفسه، وكيف يحقق لنفسه الإرادة الفاعلة والإرادة المنتجة؟ أحد علماء النفس، جميل صليبة في كتابه أصول علم النفس - فراجع - يتحدث عن عوامل ضعف الإرادة، عوامل عدم فاعلية الإرادة، هنالك عدة عوامل إذا قرأناها نعرف ما هي الأسباب لعدم فاعلية الإرادة.

العامل الأول: الروح اليائسة.

بعض الناس لديه روح يائسة، يتشائم من كل شيء، كل شيء عنده محل انتقاد، لديه روح متشائمة وروح يائسة. فمثلا تسأله ما رأيك في العمل المسجدي؟ يقول لك صفر على الشمال، ما رأيك في الأنشطة الاجتماعية؟ يقول لك: صفر على الشمال، ما رأيك في المحاضرات المنبرية؟ يقول لك: صفر على الشمال. كل شيء عنده معيب، وكل شيء عنده ناقص، وكل شيء محل نقد. هذا الشخص يعيش دائما روح التشاؤم وروح اليأس، لا يوجد لديه شيء مثمر، جميع الأشياء هي محل نقد، ومحل لذع وعليها آثار سلبية. الإنسان إذا امتلك روح التشاؤم فلا تتوقع منه أي نشاط، فهذا الإنسان لا يمتلك إرادة فاعلة، لأنه يضم بين جنبيه روحا متشائمة، تنتقد كل شيء وتضع على كل شيء علامة استفهام، ومن دون ان تصنع شيئا ومن دون أن تتقدم خطوة واحدة.

العامل الثاني: كثرة التفسير.

الذكاء شيء مطلوب لكن هناك من الناس من لديه افراط في الذكاء، وكيف ذلك؟ أي أن هناك من الناس من لديه وسوسة، كل شيء يجعل فيه احتمالات. مثلا إذا درست معه موضوعا معينا من باب المثال، نقول له لماذا لا نصنع موقعا للمسجد على الإنترنت، موقعا خاصا بهذا المسجد ينقل خطب الجمعة، ينقل خطب المنبر، ينقل نشاطات هذا المسجد، ينقل جميع النشاطات المتوفرة في هذا المسجد، يكون موقعا ومنارا على مستوى الإنترنت، فيقول: ليس لدينا كوادر، فتجبه: نحن نستطيع أن نوفر لك الكوادر، يقول: ليس لدينا الإمكانات، فتجبه: نحن نستطيع أن نوفر لك هذه الإمكانات، يقول: هنالك ملاحظات، تجبه: هذه الملاحظات ندرسها، يقول: هنالك معارضات معينة، تجبه: هذه المعارضات ندرسها ونحلها. فلا ينتهي أبدا، كلما تضع أمامه مجالا ونافذة وبابا للعمل، يضع أمامه أشواك، هذا الشخص يعيش الوسوسة. أي أن كثرة التفكير صارت عنده حالة وموهبة لخلق احتمالات وهمية سواء كان لها أساس أو لم يكن لها أساس. كثرة التفكير أحيانا لدى البعض تكون منشأ لوضع احتمالات ولوضع افتراضات لا يكون لها موقعا من الواقع ولا يكون لها نصيبا من الواقع.

العامل الثالث: سرعة الانفعال.

بعضهم لديه حب للعمل وعنده رغبة للعمل لكنه سريع الانفعال، سريع الانخراط في العمل، أي أنه لا يدرس العمل دراسة جيدة وافرة، وهذا يضر بالعمل أكثر مما يحسن، ويفسد أكثر مما يصلح، ورد عن الإمام أمير المؤمنين «سلام الله عليه» قال: ”رأي الشيخ أحب إلي من جلد الغلام“، يعني الشاب عادة يملك الطاقة، يريد أن يفرغ هذه الطاقة، لكن الإنسان الكبير لديه تجربة وعنده رأي. إذا دار الأمر بين طاقة الشباب وتجربة الكبير أيهما أهم؟ الإمام علي يقول: ”رأي الشيخ - أي تجربته - أحب إلي من جلد الغلام“، لأنها تعطيني دراسة وافية عن الموضوع والمشروع الذي أريد أن أشرع فيه وأريد أن أدخل فيه، لذلك ورد عن الرسول محمد : ”إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته - أي ادرس نتائجه - فإن يك خيرا فمض فيه وإن يك غيا فانته عنه“.

العامل الرابع: الركود.

معنى الركود يتضح بالمثال: قد تحضر بعض المجالس، وترى أن هذه المجالس مجالس مفيدة، تذكر فيها المسائل الفقهية، تذكر فيها القضايا الاجتماعية، تذكر فيها الفوائد الثقافية. وتحضر بعض المجالس، ترى الشاي والتلفزيون ومشاهدة المباراة الرياضية، ولا يجلس فيها بنصف ساعة فقط بل يجلس فيها بالساعة والساعتين والثلاث ساعات، كلها على الشاي والتلفزيون والمباراة والأحاديث الجانبية. هذه المجالس مجالس الموت، وكيف ذلك؟ لأنها تميت الإرادة الفاعلة لدى الإنسان. طبيعي أن الإنسان يحتاج أن ينفس عن نفسه ويخفف عن نفسه أعباء العمل وأعباء الحياة فيحتاج وقتا للترفيه، يحتاج وقتا للتجديد.

الرسول الأعظم محمد كان ينقل عنه حبر الأمة ابن عباس، فيقول أن الرسول كان يقول في بعض الأوقات: ”حمدونا“، حمدونا بمعنى اذكر لنا نكتة أو طريفة تخلق جوا من النشاط وجوا من التجديد، ولذلك ورد عن الإمام الكاظم - البعض من الناس حين يتصور هذه الرواية يتعجب منها ويقول: كيف أن هذا الفعل يصدر من الإمام ؟، كان أبو الحسن - أي الإمام الكاظم إذا اغتم - أي أصابه غم - ترك النافلة. فيقول البعض: كيف أن الإمام المعصوم يترك النافلة؟ والنافلة هي دأب الإمام وهي شيء من طبيعة الإمام نفسه، فكيف يترك النافلة؟ إنما ذلك من باب التعليم، مثلما جمع الرسول بين الظهر والعصر بمعنى أنه لم يصل النافلة، جمع الرسول بين الظهر والعصر في غير مطر ولا سفر، لماذا؟ لأنه أراد أن لا يحرج أمته. ما هو موقع الخلاف بيننا وبين المذاهب الإسلامية الأخرى في الجمع بين الصلاتين؟

المذاهب الإسلامية الأخرى تقول: التفريق بين الفريضتين هي سنة النبي ، النبي لم يكن يجمع، كان يصلي الظهر في وقت، والعصر في وقت آخر، يصلي المغرب في وقت، ويصلي العشاء في وقت آخر، سنة النبي هي التفريق فلماذا أنتم الإمامية تخالفون السنة وتجمعون بين الفرضين؟ نحن الإمامية نقول: لا، أنتم مشتبهون، سنة النبي هي التفريق بالنافلة وليس التفريق من دون النافلة. كان النبي يصلي الظهر ثم يدخل داره لأجل النافلة، لأن الإسرار بالنافلة أفضل من الإعلان، فلم يكن يصلي النافلة أمام الناس، بل كان يدخل إلى داره ويقيم النافلة، فإذا فرغ من النافلة والتعقيبات خرج وصلى العصر.

إذن النبي في واقع الأمر كان يفرق بين الفريضتين ولكنه كان يفرق بالنافلة، وهذه هي سنة النبي . ابن عباس وابن عمر رووا عن النبي أنه ثلاث مرات في حياته قد جمع بين الفرضين أي من دون النافلة. لماذا ترك النافلة؟ أراد أن لا يحرج أمته، بمعنى أنه أراد أن يقول لأمته أن الجمع بين الفريضتين مرخص فيه، مباح لكم حتى لا تقعوا في حرج. إذن هذه الطريقة الموجودة عند أبناء المذاهب الأخرى وهي التفريق بين الفريضتين بدون النافلة ليست من سنة النبي في شيء.

إذن كما أن رسول الله قد ترك النافلة للتعليم، نفس الأمر قد وقع من الإمام الكاظم ليعلم العبد، ”كان اذا اغتم ترك النافلة“، لماذا؟ لأن النافلة تحتاج إلى اقبال، تحتاج إلى خشوع، وتحتاح إلى اتصال روحي بين العبد وبين ربه، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، فكان الإمام إذا أصابه غم شديد، نتيجة مشكلة عائلية اجتماعية، كان اذا اغتم ترك النافلة لكي يعود إليها بنشاط روحي، حتى يعود إليها برغبة روحية، ولا يجعل الإنسان ذلك عذرا له فيقول: انا طوال سنتي مغتم فماذا أعمل؟ ما مرعلي يوم إلا وأنا مغتم وبما أن الإمام قد ترك النافلة في وقت الغم فأنا طوال سنتي مغموم فأرتاح من هذه النافلة، لا، بل تبقى النافلة مستحبة حتى في حال الغم، إنما أراد الإمام أن يبين طريقة لعلاج الروح، كيف أن الإنسان يمكنه أن يعالج روحه ويجدد نشاطها ويجدد رغبتها. إذن الركود من عوامل عدم فاعلية الإرادة ومن عوامل ضعف الإرادة، أن الإنسان يعتاد على مجالس الموت وعلى شلة الموت، الذين يميتون فيه فاعلية الإرادة وقوة الإرادة.

العامل الخامس: العقل الجمعي المتمثل في الأعراف الاجتماعية.

نلاحظ في مجتمعنا فنجد على مستوى الرجال هناك طاقات جيدة، لدينا شعراء، ولدينا خطباء، ولدينا فضلاء وهكذا غيرهم. تجد على مستوى الرجال أننا نمتلك طاقات جيدة، طاقات وثابة، طاقات فاعلة، لكنك عندما تأتي على المستوى النسائي، لا تجد تفاعلا لمثل هذه الطاقات، لماذا؟ لماذا لا نجد وجودا متحركا لهذه الطاقات؟ لماذا لا تبرز لنا هذه الطاقات نساء شاعرات، نساء أديبات، نساء مفكرات، نساء كاتبات، يعني بأن يتداول المجتمع كتابات لفتيات من المجتمع، أن يتداول المجتمع شعرا لفتيات من المجتمع، أن يعرف المجتمع أن هنالك طاقات عملاقة تتحرك على مستوى المجتمع النسائي. لماذا؟

تأتيك الأعراف الاجتماعية، هذا عيب مثلا بأن يقرأ الناس موضوعا كتبته امرأة، أو أنه من العيب أن يكون هنالك مثلا موقعا على الإنترنت من خلاله المرأة تكتب في هذه الموقع شعرها، فكرها، أدبها، أفكارها، مضامينها، تقف هذه الأعراف الاجتماعية، يقف هذا العقل الجمعي أمام فاعلية الإرادة في تفعيل هذه الطاقات النسائية في سبيل أن تصل إلى المستوى المرموق، الذي وصلت إليه الطاقات الرجالية أو أكثر من ذلك. إذن هذه عدة عوامل تعيق الإرادة عن فاعليتها.

المحور الرابع: مناشئ تربية الإرادة.

ماهي مناشئ تربية الإرادة؟ إذا رغب الإنسان ان تكون له إرادة حديدية وإرادة صلبة، فكيف يخلق عنده إرادة؟ كيف يربي عنده إرادة؟ أمامنا مجالان: مجال التغيير السلوكي، ومجال التغيير الاجتماعي.

المستوى الأول: التغيير السلوكي.

مثلا: الإنسان كثيرا ما يشكو ويقول أنا ضعيف أمام نفسي، أنا لا أمتلك إرادة أمام نفسي، ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ، أنا نفسي تطغى علي كثيرا، أشتهي أن اسمع الأغنية فلا استطيع أن أقاوم شهوتي، أنقاد وانساب وراء شهوتي فاستمع الأغنية، تشتهي نفسي أن أتحدث مع الفتاة الأجنبية ذات الصوت الجميل، من خلال الشات أو من خلال الجوال، أو من خلال أي مجال آخر. أنا لا استطيع أن أقاوم، لا أستطيع أن أقف أمام نفسي، لا أستطيع أن أمتلك إرادة تتحدى غريزتي وتتحدى نزعاتي وتتحدى شهواتي. من أين أخلق هذه الإرادة؟ من أين أمتلك هذه الإرادة الصامدة؟ أنا لا أستطيع أن أقف أمام الصوت الجميل، أو الوجه الجميل، أو الحديث الجميل، فكيف أخلق في نفسي إرادة تتحدى هذه النوازع كلها؟ هناك ثلاثة مناشئ لتربية الإرادة في مجال التغيير السلوكي:

المنشأ الأول: الخوف من الله عز وجل.

الإنسان ينمي عنده حالة الخوف من الله، يقرأ آيات العذاب، يقرأ قصص أهل البيت ، يقرأ أخبار النار، يقرأ الروايات التي تتحدث عن القبر وعذابه وعن البرزخ وشقاءه، عن الحساب، عن الميزان، عن الصراط، عن النيران، يقرأ النصوص التي تتحدث عن العالم الأخروي، وكيف أنه عالم رهيب وعالم مهول وعالم مخيف. الإمام الحسن «سلام الله عليه» وهو إمام مفترض الطاعة، لما احتضر ولما جاءه وقت موته كان يبكي، فيقال: ما يبكيك يا أبا محمد، قال: ”أبكي لأمرين، فراق الأحبة وهول المطلع“، أي أنني حين أتذكر هول يوم القيامة أبكي. إذن الإنسان يحتاج أن يربي في نفسه الخوف من الله، فإذا صار يعيش الخوف من الله، امتلك الإرادة التي تتحدى الشهوة وتتحدى الغريزة، ﴿قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وورد عن الإمام الصادق : ”خف الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك“.

المنشأ الثاني: تربية الحياء من الله.

لابد للإنسان أن يستحي من ربه، ليستحي من ربه ولو قليلا. كيف أن الإنسان يستحي من أبيه وأمه؟ مثلا - ترى إنسانا وتقول له لماذا لا تصارح أباك بأن لديك علاقة غير مشروعة مع فتاة أجنبية؟ فيقول لك: إنني أخجل من ذلك، ماذا سيقول عني؟ لديه خجل من والده، إنسان آخر مثلا لماذا لا يسرق أموال أبيه؟ يقول: أنا أخجل أن أسرق أموال أبي، أبي تعب علي ورباني ورعاني فإن ذلك معيب، فإذا كنت تخجل من أبيك ألا تخجل من المنعم «تبارك وتعالى»؟ الذي أسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة ورعاك ودفع عنك الأخطار ودفع عنك المكاره منذ صغرك إلى حين كبرك.

انظر إلى النبي يوسف «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» عندما أبرزت له زليخا مفاتنها وحركت إغراءاتها وفتحت المجال له أمام المعصية ماذا قال لها؟ ﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، يعني أنني أخجل من ربي، أحسن لي وأخرجني من البئر، دفع عني ظلم الظلمة، أخرجني من السجن، أوصلني إلى السلطان، مع ذلك ومع هذه النعم كلها ومع هذه الفواضل كلها، أنا أتنكر لربي ولا أبالي بنعمه ولا أبالي بحرمة غضبه، أنا أخجل من ربي، ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، الذي يخجل من نعم ربه عليه فلا يندفع أو يرعوي أو يرتدع عن المعصية.

المنشأ الثالث: الاعتياد.

الخير عادة والشر عادة، مثلما تتعود على المعصية تعود على الطاعة. الإنسان إذا عود نفسه اعتاد، ورد عن أمير المؤمنين علي : ”إن لم تكن حليما فتحلم“. يعني أنك إذا كنت غضوبا سريع الانفعال فالنتيجة لابد لك أن تتعود على الحلم، عود نفسك على ضبط الأعصاب وعود نفسك على ضبط المشاعر، تعود على الخير كما اعتدت على الشر. الإنسان مثلا إذا اعتاد على أن لا يصلي صلاة الفجر في وقتها، يوميا ينام ولا يستيقظ لصلاة الفجر، لكنه لو عود نفسه مرة ومرتين وثلاث مرات، تصير في نفسه هذه العادة بشكل لا إرادي بشكل «أوتوماتيكي»، فحين تصير إلى الساعة الكذائية يستيقظ من نومه، لأنه عود نفسه على أن يستيقظ في هذا الوقت ويصلي لربه في هذا الوقت.

إذن هناك مناشئ لتربية الإرادة على مستوى التغيير السلوكي وهناك أيضا مناشئ لتربية الإرادة على مستوى التغيير الاجتماعي. كيف أكون عاملا فاعلا في المجتمع وليس عضوا مشلولا؟ لا أشارك في النشاطات المأتمية لا أشارك في النشاطات المسجدية ولا أشارك في النشاطات الاجتماعية ولا أشارك في النشاطات الخيرية. لماذا أكون عضوا مشلولا؟ فلأكن عضوا فاعلا، فلأكن إنسانا يخدم المجتمع، ورد عن الرسول محمد : ”خير الناس من نفع الناس“، أي من يقدم عطاء للمجتمع بأي شكل وأي لون من ألوان العطاء.

المستوى الثاني: التغيير الاجتماعي.

المنشأ الأول: الوعي.

من غير وعي لا يكون لديك عمل، فخدمة المجتمع تحتاج إلى وعي، لابد أن يمتلك الإنسان وعيا بأوضاع المجتمع، وخبرة بآلام المجتمع، وثقافة عن حركة المجتمع. لابد أن يجالس من يمتلكون الخبرة الاجتماعية، ومن يمتلكون الوعي الاجتماعي، ليستفد منهم وبالتالي يتحرك على خطوات مدروسة لخدمة المجتمع، وللبذل من أجل المجتمع الإنساني.

المنشأ الثاني: الثقة بالنفس.

لا نقصد بذلك الغرور، فهناك فرق بين الغرور والثقة بالنفس. الغرور بمعنى أن لا يبالي الإنسان بخبرات الآخرين، ولا بتجارب الآخرين ولا بثقافة الآخرين، يقول: أنا لا حاجة لي في أحد، هذا إنسان مغرور والغرور مذموم. أما الثقة بالنفس هو الإنسان الذي يقول: أنا قادر على أن أعطي المجتمع شيئا، وقادر على أن أحقق للمجتمع شيئا ولكن بعد تبادل الخبرات وبعد تبادل الثقافات بيني وبين أبناء المجتمع.

ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”أعقل الناس من جمع عقول الناس إليه“، ليس أعقل الناس من يحرز مئة بالمئة في الرياضيات أو مئة بالمئة في الفيزياء، وليس أعقل الناس من لديه قدرة على الاحتيال وسرقة الأموال من الناس بأسلوب أو بآخر، ليس هذا أعقل الناس. ”أعقل الناس من جمع عقول الناس إليه“ أي من استفاد من الخبرات ومن استفاد من الثقافات الأخرى ومن استفاد من التجارب الأخرى.

المنشأ الثالث: الجرأة.

الإنسان الذي لا يمتلك الجرأة لا يمكنه أن ينتج، لكن الإنسان الذي لديه جرأة، جرأة الاقتحام هو الذي يستطيع أن يعمل. عود نفسك الجرأة على اقتحام موارد العمل وموارد العطاء حتى تكون إنسانا عاملا، لذلك ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: ”إذا خفت من شيء فقع فيه فإن انتظارك له أشد من وقوعك فيه“، هناك من الناس من يكون لديه تخوفا من أن تكون هنالك حالة اصطدام أو حالة احتكاك، إذا كنت مقتنع بالفكرة وترى أن الفكرة صحيحة ودرستها دراسة جيدة لماذا تتخوف؟ اقتحم المورد وافرض ما هو صحيح وافرض ماهو حسن، وافرض ماهو نافع للمجتمع. إذن يحتاج الإنسان إلى أن يمتلك الجرأة والإقدام على أن يكون إنسانا فاعلا وإنسانا عاملا، وإنسانا مصدرا للعطاء.

ولولا الجرأة لما سمعنا عن أبطال التاريخ، كيف أن هؤلاء أصبحوا أبطالا؟ دع الأئمة جانبا بل حتى غيرهم، كيف أصبحوا أبطالا لولا جرأتهم وإقدامهم؟ كيف حفظ لنا التاريخ حجر بن عدي البطل العظيم، وميثم التمار، ورشيد الهجري وأمثال هؤلاء؟ إنما أثنى عليهم التاريخ وطأطأ لهم إجلالا وإكبارا لأنهم كانوا يمتلكون الإرادة الحديدية ويمتلكون الجرأة والإقدام على التغيير الاجتماعي لذلك طأطأ لهم التاريخ إجلالا وإكبارا. ومن هؤلاء، هذا الإنسان العظيم الذي لما نزل إلى نهر الفرات وأحس ببرودة الماء، تذكر عطش أخيه الحسين فرمى الماء من يده. تأمل قوة الإرادة. تصور إنسانا شديد العطش ويرى أمامه ماء باردا مع ذلك لا يشرب، لو لا قوة إرادته وصلابة موقفه. ترك الماء وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني
هذا    حسين   وارد   iiالمنون
  وبعده   لا   كنت   أو  iiتكوني
وتشربين      بارد     iiالمعين