الحس الجمالي والفني في المنظور الإسلامي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا هذه الليلة عن تربية وتنمية الحس الجمالي لدى الإنسان، وحديثنا في محاور ثلاثة:

  • في تحديد مفهوم الحس الجمالي لدى الإنسان.
  • وفي اهتمام الإسلام بتنمية الحس الجمالي والفني لدى الإنسان.
  • وفي الحدود الشرعية لتعامل الإنسان مع الفن.
المحور الأول: تحديد مفهوم الحس الجمالي لدى الإنسان.

نحن عندما نقول بأن الإنسان يمتلك حسًا جماليًا، فما معنى الحس الجمالي لدى الإنسان؟ الفلاسفة يقسمون الحسن والقبح إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الحسن والقبح بمعنى الكمال والنقص، وهذا في الأشياء الواقعية، كالعلم والجهل مثلًا، العلم حسن بمعنى أنه كمالٌ للنفس، والجهل قبيحٌ بمعنى أنه نقصٌ في النفس، فالحسن والقبح في الأشياء الواقعية بمعنى الكمال والنقص.

القسم الثاني: الحسن بمعنى ما ينبغي فعله، والقبح بمعنى ما ينبغي صرفه، وهذا مورده القضايا السلوكية، فمثلًا: الصدق من القضايا السلوكية، وهو حسن، بمعنى: ينبغي فعله، ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، والكذب قبيح، بمعنى: ينبغي تركه، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، فالحسن والقبح في القضايا السلوكية بمعنى ما ينبغي فعله وما ينبغي تركه.

القسم الثالث: الحسن والقبح في القضايا الذوقية لا في القضايا الواقعية ولا في القضايا السلوكية، فمثلًا: أنا عندما أقول: البحر شيء حسن، فما معنى حسن البحر؟ النار شيء قبيح، فما معنى قبح النار؟ معنى الحسن هنا: ما تلتذ به النفس، والقبيح هو ما تنفر منه النفس، فالحسن بمعنى الانشراح والالتذاذ، والقبح بمعنى الانقباض والنفور. مثلًا: أقول لك: الوجه الجميل حسن، أي: تنشرح له النفس، وتلتذ به، والوجه الدميم قبيح، أي: تنقبض منه النفس وتنفر منه، فالحسن والقبح في القضايا الذوقية بمعنى الانشراح والانقباض، وهذا الحسن - كما يقولون - أمر نسبي، أي: يختلف باختلاف أذواق البشر. الشاعر اللبناني يقول:

رُبَّ  حسنٍ عند iiزيدٍ
وهم   ضدان   iiفيه
فمن  الصادق iiفيما
ولماذا ليس للحُسْنِ


 
هو قبحٌ عند iiعَمْرِو
وهو  وهمٌ عند iiبكرِ
يدّعيه  ليت  شعري
قياسٌ  لستُ  iiأدري

هو ناظر للحسن والقبح بالمعنى الثالث، أي: الحسن والقبح بمعنى ما تلتذ به الناس، وما تنفر منه النفس. بعد أن عرفنا هذه الأقسام الثلاثة نعرف ما معنى الحس الجمالي عند الإنسان، الحس الجمالي هو التذاذ النفس وانقباضها، التذاذ النفس بالمنظر الجميل وانقباضها من المنظر القبيح، هذا نعبّر عنه بالحس الجمالي عند الإنسان. هذا المحور الأول واضح، وإنما المهم هو المحور الثاني.

المحور الثاني: اهتمام الإسلام بتنمية الحس الجمالي والفني لدى الإنسان.

هنا اختلفت الأقلام - أقلام المفكّرين - في أن الإسلام اهتم بالحس الجمالي عند الإنسان أم لا، هل الإسلام اهتم بتنمية ذوق الإنسان؟ هل الإسلام اهتم بتنمية الإحساس بالجمال والإحساس بالحسن لدى الإنسان؟ أم أن الإسلام ما أعار هذه الجهة اهتمامًا، ولا وضع لها نصيبًا من فكره، أو من تشريعاته، أو من تعاليمه؟ هل الإسلام اهتم بالحس الجمالي أم لم يهتم؟ هنا اتجاهان:

الاتجاه الأول: الإسلام لم يهتم بالفن.

الإسلام ما حارب الحس الجمالي، لكنه لم يهتم به أيضًا، الإسلام لم يعطِ الحس الجمالي نصيبًا من اهتماماته، ونصيبًا من تشريعاته، لماذا؟ أصحاب هذا الاتجاه يقولون: الهدف من وجود الإنسان أن يصل إلى الكمال الروحي، والكمال الروحي هو أن يكبح الإنسان شهواتِه وأذواقَه وميولَه، الإنسان العظيم، الإنسان الكامل، الإنسان البطل، هو الإنسان الذي يسحق شهوته، ويسحق ميوله، ويسحق غرائزه، الهدف من وجود الإنسان أن يصل إلى هذه الدرجة من الكمال، وهو أن يكون إنسانًا ساحقًا، وإنسانًا معرضًا، وإنسانًا قادرًا على قمع شهوته وميوله وغريزته، وبالتالي يكون الإنسان كاملًا.

لذلك، ورد عن الرسول محمد : ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه“، أي: قمع شهوتها، قمع ميولها، قمع غريزتها، هذا هو أفضل الجهاد بحسب تفسيرهم. ما هو الدليل على صحة هذا الاتجاه؟ الاتجاه الذي يقول: أنت خُلِقْتَ لكي تمتلك إرادةً صلبةً، تقمع بها الشهوة، وتقمع بها الغريزة، هذا هو الكمال الروحي الذي خلقت من أجله، وبالتالي فالميول نحو الجمال، والميول نحو الفن، والميول نحو الأحاسيس الجمالية، هذه الميول تجرك إلى الأرض، وإرادتك تجرك إلى السماء، هذه الميول تجرك إلى الحضيض الحيواني، والكمال الروحي يجرك إلى السمو الروحاني، فأين من هذا من هذا؟! إذن، الإسلام ما أعطى اهتمامًا بمجال الأحاسيس الجمالية، لماذا؟ يستدلون على ذلك بدليلين:

الدليل الأول: النصوص القرآنية.

نحن عندما نلاحظ النصوص، نجدها تضرب بالأحاسيس الجمالية ضرب الحائط، كما في قوله تعالى: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، ما معنى الحياة الدنيا؟ بعضهم يفسر الحياة الدنيا بالحياة المقابلة لحياة الآخرة، لكن بعضهم لا، سيدنا الخوئي «قدس سره» يذكر في محاضراته في أصول الفقه، في شرح هذه الآية بمناسبة حديثه حول مفهوم الحصر، يقول: القرآن يقسّم الحياة إلى حياة دنيا وحياة عليا، هو ليس ناظرًا إلى حياة الآخرة، بل حياتك الآن في هذه الدار تنقسم إلى قسمين: حياة دنيا، أي: دانية، وحياة عليا، الحياة العليا هي حياة العظماء، ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، هذه الحياة العليا، والحياة الدنيا هي التي ينشغل فيها الإنسان ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، هذه حياة دنيا، أي: حياة حقيرة، حياة دانية.

الزينة والتفاخر من مظاهر الحس الجمالي، وقد اعتبرها الإسلام من الحياة الدنيا، لا من الحياة العليا. ويقول في آية أخرى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ هذا كله ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، هذه مظاهر للحياة الدنيا. إذن، القرآن لا يهتم بمظاهر الحس الجمالي، بل يعتبرها من الحياة الدنيا، من الحياة الحقيرة، وهذا معناه أنه لم يعطِ للحس الجمالي نصيبًا من الاهتمام.

الدليل الثاني: ضعف حركة الفن في عصر الإسلام.

نحن لا بد أن نقرأ قراءة تاريخية بين عصرين: عصر الجاهلية، وعصر الإسلام. عصر الجاهلية ازدهرت فيه الحركة الفنية لدى الإنسان، كان الشعر من أبرز صور الحركة الفنية، كان العرب في الجاهلية يقيمون سوق عكاظ، وهذه السوق تتضمن أبرز شعراء العرب، زهير بن أبي سلمى، أو امرؤ القيس مثلًا، أو عنترة، أو عمرو بن كلثوم، أصحاب المعلقات السبق، كانت أسواق الجاهلية أسواقًا أدبيةً فنيةً، برز فيها الأدب والشعر، وحلّق إلى ذرواته العالية، حتى كانت القصيدة الواحدة تحرّك مجتمعًا بأسره، وتحرّك قبيلة بأسرها، كما قال الشاعر:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة   قصيدةٌ  قالها عمرو بن iiكلثومِ

الحركة الأدبية ازدهرت في الجاهلية، وكذلك الحركة الفنية، كالتصوير والتمثيل، واختراع التماثيل بأبدع الصور، كانت حركة قوية في الجاهلية، إذن الفن كان مزدهرًا في الجاهلية، ولكن بمجرد أن جاء الإسلام انخمد الفن وانطفأ، في صدر الإسلام - أي: في حياة الرسول محمد - نلاحظ أن الفن تراجع وتضاءل، فلا الشعر يحلّق، ولا الأدب يغني، ولا الفن الآخر يرى له سوقًا، ويرى له أفقًا، خمدت الحركة الفنية في صدر الإسلام، وهذا يعني أن الإسلام لم يعط اهتمامًا، ولم يعط شيئًا من تشريعاته للحس الجمالي، وللحس الفني عند الإنسان.

مناقشة هذا الاتجاه:

بعد أن صغنا الاتجاه الأول وقربناه وعمقناه، نأتي لمناقشته.

مناقشة الدليل الأول: التمسك بالآيات القرآنية.

الدليل الأول هو أن النصوص القرآنية اعتبرت مظاهر الحس الجمالي من الحياة الدنيا، نقول: هذه بعض النصوص، ولكن ماذا تصنع بالنصوص الأخرى؟! كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وقوله: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، ماذا تصنع بهذه الآيات؟! الإمام الرضا .. ذكرت أنا هذه الرواية يوم الوفاة، وهي رواية جميلة جدًا. دخل بعض بني العباس على الإمام الرضا ، قالوا له: إن أمير المؤمنين - يقصد المأمون العباسي - نظر فيمن قام بالأمر، فرأى أن أهل البيت أحق به، ونظر في أهل البيت فرآك أحق بهذا الأمر من غيرك، ولكن الإمام هو من يلبس الخشن من الثياب، ويأكل الجشب من الطعام، ويركب الحمار، ويعود المرضى، ويشهد الجنائز، وأنت تلبس اللباس القهوي المروي! أنت كيف توفق بين اللباس الذي تلبسه وبين الإمامة؟! الإمام لا بد من أن يركب حمارًا، ويكون شغله طوال الوقت هو أن يعود المرضى ويشهد الجنائز! الإمام التفت إليهم، قال لهم: يوسف بن يعقوب ألم يكن نبيًا؟! قالوا: بلى، كان نبيًا. قال: ولكنه لبس أقبية الديباج المزررة بالذهب، وصار وليًا على خزائن فرعون، فكيف صح منه وهو نبي أن يلبس أقبية الديباج ويكون وليًا على الخزائن؟! إذا صحَّ منه وهو نبي صحَّ مني، أي فرق بين الأمرين؟!

نفس القضية بالنسبة للإمام الصادق ، حيث كان يطوف بالكعبة، ابن عباد البصري - أحد المتصوفة - رأى الإمام يمشي، فأمسك بثوبه وجره، قال: يا جعفر، لقد كان جدك أبو الحسن يلبس الثوب المرقّع، والنعل المخصف، وأنت تلبس القهوي المروي؟! قال له: لقد كان جدي في زمان بؤس وفقر، فواسى أهل زمانه، وإذا صلحت أحوال الزمان فأبراره أولى به من فجّاره.

كيف نوفق بين هذه النصوص؟ النصوص التي تقول: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، والنصوص التي تقول: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا؟ كيف نوفق بينهما؟ نوفق بينهما بالوسيلة والغاية، من يتخذ المظاهر المادية غاية فهو مذوموم في قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، ومن يتخذ المظاهر المادية وسيلة فهو ممدوح، هذا الفرق بين النصوص، النصوص التي تذم إنما تذم اتخاذ المظاهر المادية غاية، والنصوص التي تمدح ناظرة لاتخاذ المظاهر الجمالية وسيلةً لتربية الروح، وللوصول إلى الله «تبارك وتعالى».

مناقشة الدليل الثاني: انخماد الحركة الفنية في عصر الإسلام.

الإسلام مر بمرحلتين: مرحلة ثورة، ومرحلة دولة. المرحلة الأولى تقتضي تعبئة المجتمع، تقتضي انتشار الحالة التعبوية بالنسبة للمجتمع؛ لأن المرحلة مرحلة ثورة وحركة، الحالة التعبوية تقتضي أن تصب الطاقات والجهود في القضايا الأولوية الأساسية: العنصر الأول: نفرة الناس إلى الجهاد، ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، العنصر الثاني: التعاون بين الناس ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، والعنصر الثالث: عنصر تعلم أحكام الشريعة ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، إذن عندنا قضايا أولية أساسية: العلم، الجهاد، التعاون الاجتماعي.

الإسلام في مرحلة الثورة عبّأ الأمة على هذه العناصر الثلاثة، على هذه القضايا الأولية، حتى يحقق الهدف من هذه الثورة، من هذه الحركة، ثم إذا وصل إلى مرحلة بناء الدولة، فإن التعاليم والأفكار تأخذ انتظامها واكتمالها كحلقة متكاملة. إذن، الإسلام لم يعط اهتمامًا في وقت المرحلة الأولى، وهي مرحلة الثورة، مرحلة التعبئة، لأن هذه المرحلة كانت تقتضي التركيز على القضايا الأولية والأساسية، لا أن الإسلام ألغى الحركة الأدبية أو عارضها، وقد ورد عن الرسول محمد : ”إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرًا“، الإسلام ما ألغى الحركة الأدبية أو الفنية، ولكن المرحلة الأولى - وهي المرحلة التعبوية - كانت تقتضي التركيز على القضايا الأولية والأساسية.

الاتجاه الثاني: الاتجاه الإنساني.

هذا الاتجاه يقول: الإسلام اهتم اهتمامًا، كما اهتم بغير ذلك من المجالات، اهتم بتربية الحس الجمالي والحس الفني لدى الإنسان، وتوجد عدة أدلة تؤيد هذا الاتجاه:

الدليل الأول: الزينة والحس الجمالي هدفٌ من أهداف التكوين.

نحن عندما نقرأ الآيات القرآنية نجد أن من الأهداف الإلهية في هذا الوجود هو تنمية الحس الجمالي، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ، يعني: هناك هدف من أهداف البروج، وهو الاستمتاع بالنظر إليها، من جملة الأهداف أن الإنسان ينمّي حسه الجمالي من خلال الاستمتاع بهذه البروج.

وفي آية أخرى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وقال في آية أخرى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، إذن هو ناظر لمسألة الزينة، ناظر لمسألة الحس الجمالي عند الإنسان، هناك هدف من أهداف التكوين، وهو تغذية الذوق، تغذية الحس الجمالي لدى الإنسان. أيضًا آيات أخرى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا.

إذن، إذا كانت الزينة والجمال والاستمتاع هدفًا من أهداف التكوين، فهل يمكن أن يناقضه التشريع؟! لا يمكن أن يكون التشريع معاكسًا لهدف من أهداف التكوين، بحيث يلغيه أو يسحقه أو لا يهتم به؛ لأن التشريع - كما يقول علماء الأصول - إنما أنزل لحفظ نظام التكوين، أسرار التشريع على طبق أسرار التكوين، ليس هناك مناقضة ولا معارضة بين عالم التكوين وعالم التشريع. لذلك، تلاحظ قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، الله أصلح الأرض، جعل فيها حرثًا ونسلًا وخيرًا، ففي مقام التشريع أيضًا حافظ على ذلك، ونهى عن إفساد الأرض. إذن، التشريع إنما أنزل لحفظ الخير، لحفظ المصالح التكوينية. لذلك، إذا كان من أهداف التكوين...

«خلل في التسجيل... الجزء المفقود: أدلة الاتجاه الثاني في النقطة الثانية، وبداية النقطة الثالثة»

المحور الثالث: الحدود الشرعية لتعامل الإنسان مع الفن.

المظهر الأول: الغناء والموسيقى.

... يبعث على الطرب، بمجرد أن يسمع الإنسان هذا اللحن يهز رأسه! قضية وجدانية، وتتحرك أصابع رجله أولًا، ثم اليد.. لحن يبعث على الطرب، يشرح النفس فتتصاعد النفس مع اللحن، إلى أن تخرج إلى الحالة الطربية، هذا هو اللحن الغنائي المحرم، فالمسألة مسألة وجدانية، سواء قرئ في القرآن أو في قصيد أو في لطمية، لا فرق في ذلك، حتى اللطميات التي ألحانها مطربة غناء محرم، فإذن لا فرق بين الكلام الذي يُقْرَأ، المهم أن اللحن لحن يبعث على الطرب بحسب وجدان الإنسان.

قسم من الفقهاء، مثل الأستاذ السيد السيستاني، والأستاذ الشيخ التبريزي «دام ظلهما» يقولان: الغناء من مقولة الكلام لا من مقولة الصوت، الغناء هو ترجيعٌ بالباطل، يعني: كلمات الفحش، أو الكلمات التي تثير الشهوات والغرائز الشيطانية، الكلمات التي تثير الإنسان نحو المعصية، وتثير الغرائز الشيطانية لدى الإنسان، الترجيع بهذه الكلمات هو الغناء المحرّم، الغناء من مقولة الكلام لا من مقولة الصوت، ومع ذلك، إذا كان غناء بغير الباطل، كان غناء بالحق، كان غناء بالحكمة، أو كان غناء بمدائح أهل البيت، يحتاطون، يقولون: الأحوط ترك ذلك، ولكنهم لا يفتون بالحرمة إلا في الغناء بالباطل، أي: إذا كان الكلام كلامًا باطلًا، كما شرحنا معنى الكلام الباطل، وهو الذي يثير الشهوات والغرائز الشيطانية.

إذن، يحرم الغناء - وقد فسّرنا معنى الغناء لدى السيد الخوئي ولدى غيره - إلا غناء النساء في الأعراس ليلة الزفاف على رأي السيد الخوئي، السيد الخوئي يقول: يجوز للنساء الغناء في ليلة الزفاف، لا كل ليلة، ليس طوال الأسبوع الذي يسبق ليلة الزفاف! بل ليلة الزفاف فقط، بشرط ألا يكون مصحوبًا بآلات اللهو، يكون غناء بدون استخدام أدوات الطبل والعود وغيرهما، غناء من دون استخدام اللهو، هذا جائز بالنسبة للنساء في ليلة الزفاف، موثقة أبي بصير يستند إليها سيدنا الخوئي «قدس سره»، سئل عن أجر المغنية التي تزف العرائس، قال: ”لا بأس به، ليست بالتي يدخل عليها الرجال“، أي: بشرط ألا يكون اختلاطٌ بين الرجال والنساء، كما في بعض الحفلات في بعض الفنادق مثلًا، إذا أقيم حفل الزفاف في صالة الفندق، ويصبح مكان ومجال لاختلاط النساء بالرجال، ومراقبة الرجال للنساء، هذا يكون حينئذ محرمًا. السيد السيستاني حتى في هذا يستشكل، حتى في غناء النساء ليلة الزفاف مع عدم استخدام أدوات اللهو، مع ذلك يستشكل فيه، استنادًا إلى رواية أيضًا، أنا لا أدخل في البحث الاستدلالي، أريد أن أبيّن حدود الفتوى.

مسألة الموسيقى:

الموسيقى يقسّمها علماؤنا إلى الموسيقى اللهوية، والموسيقى غير اللهوية. كما ذكرنا في مسألة الغناء، الموسيقى اللهوية هي اللحن الذي يبعث على الطرب، إذا كان لا يبعث على الطرب، ككثير من أنواع الموسيقى الكلاسيكية، الإنسان عندما يدخل بعض المطارات، أو بعض المحلات التجارية، يرى موسيقى هادئة جدًا، لا تبعث على الطرب، لا تحدث عند الإنسان نشوة طربية، هذه الموسيقى ليست محرمة؛ لأنها ليست موسيقى لهوية. كذلك الموسيقى المستخدمة لتأجيج الحماس عند الإنسان، وتأجيج الحمية لدى الإنسان، هذه ليست موسيقى لهوية، فلا تكون محرمة، أو بعض أنواع الموسيقى المستخدمة الآن في معالجة المرضى، وفي تهدئة أعصاب المريض. إذن بالنتيجة: الفارق هو أنَّ الموسيقى إذا كانت بلحن مطرب فهي موسيقى لهوية محرمة، وإلا فليست محرمة.

إذن، الإسلام يحارب الفن ويحتقر الفن! لا، الإسلام لا يحتقر الفن، بل الإسلام يقول: يجوز الترجيع إذا كان ترجيعًا حماسيًا لا إذا كان ترجيعًا طربيًا، ويقول لك: يجوز لك عزف الموسيقى واستماعها إذا لم تكن موسيقى لهوية، بل كانت موسيقى غير لهوية، بشرط عدم استخدام أدوات اللهو، يجوز لك تعلّم الموسيقى وعزفها واستماعها إذا لم تكن بأدوات اللهو، أي: الأدوات الموضوعة والمصنوعة للموسيقى اللهوية، يجوز لك العزف، يجوز لك التعلم، يجوز لك الاستماع، وأما الموسيقى اللهوية فلا يجوز تعلمها ولا عزفها ولا استماعها. إذن، هذه هي الحدود الشرعية بين النوعين من الموسيقى، وبين النوعين من الترجيع، كما شرحنا وبيّنّا.

الحالة الاجتماعية الآن هي حالة الانسياب وراء الموسيقى، وصار الإنسان يقول لك: هؤلاء جالسون في النجف أو في قم ويفتون في رأسنا! إلى متى؟! دعنا ننفتح على جمال الموسيقى، وعذوبة هذا الصوت في الغناء، فلننفتح على هذا العالم، لماذا نقيّد أنفسنا بهذه الأغلال؟! أنت اقرأ الروايات لترى المسألة، أنت ودينك، أنت واحتياطك، فلاحظ هذه الرواية المعتبرة مثلًا:

دخل على الإمام الصادق أحدُ أصحابه، وقال: سيدي، ربما دخلت الكنيف - أي: بيت الخلاء - فاستمعت الجواري يغنين، فأطلت الجلوس، ماذا تقول؟ قال: لا تفعل، قلتُ: سيدي، أنا ما قصدت! أنا لم أذهب للكنيف لأجل استماع غناء جواري الجيران، وإنما ذهبتُ لقضاء الحاجة، ولكن في الضمن والعرض حصل كذا! قال: ”ويحك! أما قرأتَ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا؟!“، سمعك مسؤول، وبصرك مسؤولة، ورجلك مسؤولك، وخطواتك مسؤولك، ونظراتك كلها مسؤولة، أنت تُسْأل عن كل حركة. ”ما كان أسوأ حالك لو جاءك الموت وأنت على هذه الحالة، جاءك وأنت على ذنب عظيم. قم وتب إلى ربك واغتسل مما بدا لك“.

إذن، المسألة مسألة أن الإمام يعتبره ذنبًا عظيمًا، لماذا استماع الغناء ذنب عظيم؟ الأحاديث تقول: ”الغناء يُنْبِت في القلب النفاقَ، كما يُنْبِت الماءُ الزرعَ“، الغناء يحوّلك إلى شخصية مزدوجة، المنافق عنده شخصيتان، المنافق يمتلك شخصيتين، كما ورد عن الرسول محمد : ”بئس الرجل رجل يكون له لسانان ووجهان، يطري الناس شاهدًا ويأكلهم غائبًا“، المنافق يمتلك شخصيتين، يمتلك شخصية مزدوجة، والغناء يبعث على الشخصية المزدوجة، يبعث على النفاق؛ لأن الإنسان إذا أتى للصلاة رفع يديه مبتهلًا نادمًا باكيًا على ما اقترف من الذنوب، وإذا سمع صوت الأغنية جرته إلى الغرائز الشيطانية، حدثته بالمعصية، حدثته بالرذيلة، فالإنسان يعيش شخصية ازدواجية، أجواء الصلاة تبعثه نحو الاطمئنان والعروج إلى الله، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وأجواء الغناء تبعثه إلى الرذيلة، وإلى مزاولة المعصية، فيعيش الإنسان شخصية ازدواجية، وهذا هو مظهر النفاق.

وورد عن علي : ”إن البيت الذي يتلى فيه القرآن تحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض، وإن البيت الذي يُعْزَف فيه الغناء تهجره الملائكة، وتحضره الشياطين“. أنت ترى الآن الكثير من بيوتنا يعج فيها - مع الأسف - التلفزيون من أول الصباح إلى آخر الليل بأنواع الموسيقى، بأنواع الغناء، ستار أكاديمي، وسوبر ستار عرب، وغير ذلك.

وهذه المسلسلات، ستار أكاديمي، وسوبر ستار عرب، ونحوها، هذه المسلسلات صُمِّمَت لإفساد المجتمع، صُمِّمَت وبُرْمِجَت لتعليم فتياتنا ولتعليم فتياننا مزاولة الرذيلة، يعلمون الشاب والشابة مزاولة العلاقة الجسدية، ومنها إلى العلاقة الجنسية، هذه كلها مسلسلات صُمِّمَت لهذه الأهداف، صُمِّمَت لترويج الفساد، وبالتالي فمشاهدتها ترويجٌ للفساد، والسماح لأبنائنا وبناتنا بمشاهدتها ترويجٌ للفساد، وترويج الفساد من أعظم الكبائر المحرّمة، ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.

فإذن بالنتيجة: نلاحظ بيوتنا مع الأسف خلت من قراءة القرآن، خلت من ذكر الله، بدلًا من أن يجلس الأب مع أطفاله ليقرأ معهم شيئًا من القرآن، أو يقرأ معهم دعاء كميل، يجلس معهم ليشاهد ستار أكاديمي، أو يشاهد المسلسلات الخليعة، أو يتركهم كما يشاؤون! صوت الموسيقى يدوّي في المنزل، هذا البيت يصبح بعد فترة وعاءً للشهوات، وعاءً للرذائل، وعاءً لمقارفة المعاصي والكبائر، تهجره الملائكة وتحضره الشياطين.

المظهر الثاني من مظاهر الفن: الرسم التشكيلي.

ذكرت في الليالي السابقة، تحدثت عن ذلك، وهنا أيضًا خلاف بين السيد الخوئي وبين تلامذته، السيد الخوئي يقول: يحرم رسم ذوات الأرواح، إذا رسمت شكل إنسان كامل، أو ما يعبّر عن إنسان كامل، فهذا حرام، وأما السيد السيستاني والشيخ التبريزي فليس محرم عندهما، هذا اختلاف في الفتوى في رسم ذوات الأرواح.

إذن بالنتيجة: الرسم التشكيلي من مظاهر الفن أيضًا، وحبذا لو يهتم كل مجتمع من مجتمعات الشيعة بمعرض الحسين، نحن نحتاج إلى معارض الحسين، هذه السنة في البحرين أقيم مرسم الحسين، الفنانون التشكيليون على مستوى البحرين رسموا لوحات فنية عن كربلاء، وعن معركة كربلاء، كان لها الأثر الكبير على كثير من الأجانب، حتى المسيحيين زاروا هذه المعارض، وزاروا هذه المراسم، وتأثروا بها، وتأثروا بلوحاتها. نحن نحتاج إلى أن نستخدم الفن، ونمّي الحس الجمالي الفني في خدمة قضايانا، وخصوصًا القضية الحسينية، قضية الحسين .

أنت إذا تذهب إلى إيران، تجد هناك صورة، هذه الصورة هي صورة لرأس مضرّج بدمائه، إذا تأملت في الصورة، تجد أنها صورة مبكية، صورة محزنة، هذه الصورة من أين أتت؟ هي ليست صورة فوتوغرافية! هذه الصورة رسمها الراهب الذي رأى رأس الحسين ، رأس الحسين عندما انتقل من كربلاء إلى الشام، ومرَّ على القرى المختلفة، مرَّ هذا الرأس الشريف على راهب، راهب كان جالسًا في صومعته، رمق فرأى رأسًا جميلًا على رأس رمح طويل، له بهاء، له جلال.

نزل الراهب من صومعته [...] رؤيا في المنام [...] جليلين جالسين، قال: من هما؟ قال: هذا المسيح عيسى بن مريم [...] نبي الله محمد بن عبد الله ، طبعًا هذا الراهب أقبل ليسلّم على المسيح، فقال له: ابدأ بالسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، فجاء وسلّم على النبي وقبّل يده، ثم خاطبه عيسى بن مريم، خاطب هذا الراهب، قال: إذا أحببت رضاي وأردت شفاعتي، فلذ بهذا الرجل، وتوسّل بهذا الرجل، يعني النبي ، هذا الراهب ما رأى النبي، ولكن شكله الذي رآه في المنام بقي في ذهنه، وفي ذلك اليوم كان ينظر من صومعته، فمر هذا الرأس، وإذا به يتطابق في الصورة مع الصورة التي رآها في المنام، صورة الرأس على رأس الرمح تشابه وتحاكي تمامًا تلك الصورة التي رآها في النوم، والتي كانت هي صورة النبي .