حقوق المرأة في الفقه الإسلامي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ

صدق الله العلي العظيم

ما زال حديثنا حول حقوق المرأة في الفقه الإسلامي، وتعرّضنا في الليلة السابقة لنظرية الفقه الذكوري، وأنَّ الفقيه الذكر صاغ الفقه بما ينسجم مع أهدافه ومطامعه، بحيث أبعد المرأة عن المساواة في الحقوق بينها وبين الرجل، وقلنا بأن نظرية الفقه الذكوري نوقشت بعدة أطروحات، وسبق الحديث حول الأطروحة الأولى، وهي أطروحة السيد الطباطبائي صاحب الميزان «قدس سره».

الأطروحة الثانية: التفريق بين العنصر الشكلي والعنصر الروحي.

الأطروحة الثانية تعتمد على أنَّ الحكم الشرعي له عنصران: عنصر شكلي، وعنصر روحي. العنصر الشكلي هو كيفية صياغة الحكم، ولكن العنصر الروحي هو المنطلق الذي على أساسه شُرِّع الحكم، وعلى أساسه قُنِّنَ الحكم، فالإنسان عندما يقرأ العنصر الشكلي قد يراه حكمًا ظالمًا أو مصادمًا لمنطق العقل، ولكنه إذا قرأ العنصر الروحي يكتشف أن الحكم منسجمٌ مع كرامة الإنسان وحقوقه، فلا يمكن للعقل أن يقرّر أن الحكم ظالمٌ إلا إذا قرأ الحكم بكلا عنصريه: بالعنصر الشكلي، وبالعنصر الروحي.

مثلًا: نحن عندما نقرأ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، العنصر الشكلي هو أنَّ الإنسان متى ما ربح ربحًا فخمس الربح ليس له، وإنما لما قرّرته الآية، لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، الإنسان إذا قرأ العنصر الشكلي يراه حكمًا مجحفًا بالإنسان، الإنسان إذا ربح مئة مليار فإن عشرين مليارًا منها ليست له، وإنما هي للإمام وللسادة الفقراء، قد يراه حكمًا مجحفًا، أن يؤخذ خمس أرباحه وتسلّم إلى غيره.

ولكن إذا قرأ العنصر الروحي لهذا الحكم، وهذا الحكم لماذا شرّع، ولماذا صدر، إنما صدر هذا الحكم لعلاج الطبقية الاجتماعية، حيث إن المجتمع يعيش طبقتين متفاوتين: طبقة رأسمالية تملك الأموال الطائلة، وطبقة كادحة تعمل لتوفر لقمة الخبز، لتوفر لقمة العيش، التي تسد بها رمقها. إذن، هناك تفاوت فاحش بين طبقتين في المجتمع، ومن أجل علاج هذه الطبقية شرّع الإسلام الخمس والزكاة. الحكم إذا قرئ بعنصره الشكلي قد يرى حكمًا مجحفًا، وإذا قرئ بعنصره الروحي لا يُرى حكمًا مجحفًا، ومن هذا المنطلق نقول بأن الأحكام الإسلامية المتعلقة بالمرأة ليست مجحفةً في حق المرأة إذا قرئت بكلا العنصرين: العنصر الشكلي والعنصر الروحي. الأحكام المتعلقة بالمرأة على قسمين:

القسم الأول: ما يُرى متحيزًا للرجل إذا قرأناه بعنصره الشكلي.

مثلًا: عندما نقول: يحرم على المرأة أن تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، ولو كان هذا الخروج لهدف نبيل، كصلة رحم أو عيادة مريض. عندما نقرأ هذا الحكم بالعنصر الشكلي نقول: نعم، هذا حكم متحيّزٌ للذكر، حكم يصبغ على الذكر شخصية دكتاتورية مستبدة، أن خروج المرأة بمزاجه وتحت نظره، ولكن إذا قرأنا الحكم بعنصره الروحي، حينما نحاول أن نسأل عن فلسفة هذا الحكم، أو نسأل عن المنطلق الذي يكمن وراء هذا الحكم.

بعض الفقهاء - كسيدنا الخوئي «قدس سره» - يقرأ المنطلق قراءة حضارية، يقرأ المنطلق بغير ما يظهره العنصر الشكلي لهذا الحكم، يقول: هناك روايات أخرى إذا قرأناها.. مثلًا: ما ورد عن الإمام الصادق : ”أيما امرأة خرجت من بيت زوجها من دون إذنه فلا نفقة لها حتى ترجع“، إذا قرأنا هذه الرواية نفهم أن الخروج الممنوع ليس كل خروج، بل هو الخروج على نحو النشوز، إذا خرجت المرأة وهي ناشزٌ ومعرضةٌ عن زوجها فلا نفقة لها حتى تعود، هذه النصوص إذا ضُمَّ بعضها لبعض تكون ناظرةً لنوع من الخروج لا لكل خروج، الخروج المحرّم نوع من الخروج، وحصة من الخروج، أن تخرج المرأة معرضةً عن زوجها غاضبةً عليه ناشزةً عنه، هذا الخروج هو الذي تحدثت عنه النصوص حيث قالت: ”إذا خرجت من دون إذن زوجها لعنتها ملائكة السماء والأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى تعود إلى بيت زوجها“. طبعًا السيد الخوئي لا يفتي على طبق هذه القراءة، نحن نتكلم على مستوى القراءة لا على مستوى الفتوى.

إذا قرئ الحكم من هذا المنطلق لا يرى حكمًا مجحفًا؛ لأنه إنما يمنع المرأة من خروج يهدّد الحياة الزوجية، من خروج يقضي على تماسك الأسرة، من خروج يقضي على العلاقة الحميمة بين طرفي الأسرة، يقول: أنا أمنع هذا الخروج الخاصة، لا كل خروج، الخروج على نحو الإعراض، على نحو النشوز.

نأتي إلى حكم آخر يرتبط بنفس القضية: المرأة لا تقلَّد منصب القضاء، المرأة لو أصبحت قاضيًا فإن حكمها لا ينفذ على غيرها، المرأة لا تتولى الولاية على الدولة، يمكن أن تكون المرأة عضوًا في البرلمان، أو تصبح وزيرًا أو وكيل وزارة، أو أي منصب آخر، هذا أمر لا مانع منه، وإنما المشكلة في القضاء وفي الولاية على الأمة، هنا يستند الفقهاء إلى ما ورد عن النبي محمد : ”ما أفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة“، أو ”لم يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة“ حسب اختلافات الروايات.

هذا إذا قرأناه بعنصره الشكلي نراه حكمًا جائرًا، حكمًا مجحفًا، لماذا ليس لهذه المرأة أهلية أو كفاءة لأن تتقلد منصب القضاء أو منصب الولاية؟! ما ينقصها عن الرجل؟! لكن إذا قرأنا المنطلق لهذا الحكم، العنصر المعنوي، ذكرنا في الليلة السابقة أنه باتفاق علماء النفس وعلماء الاجتماع، أن الرجل أقوى إرادةً من المرأة، الرجل يملك إرادة القرار الحاسم الحازم أكثر من المرأة، إذن بناء على هذا، هذه المناصب التي تحتاج دائمًا إلى قرار حاسم وفاصل يقرّر مصير الأمة أو مصير المجتمع أو مصير بعض فئات المجتمع، من هنا ربط الإسلام هذا المنصب بالرجل، لا لأجل احتقار المرأة، بل لأجل المحافظة على خطورة المنصب، ومن أجل الاحتياط على أهمية المنصب، ربط هذا المنصب بالرجل.

القسم الثاني: ما لا يتحيّز للرجل حتى بعنصره الشكلي.

حتى إذا قرأت عنصره الشكلي لا تراه متحيزًا للرجل فضلًا عن عنصره الروحي، وذلك لوجهين:

الوجه الأول: انقسام الأحكام إلى ثابتة ومتغيرة.

الأحكام على قسمين: قسم ثابت، وقسم متغير. الحكم الثابت هو الحكم الذي لا يستطيع الإنسان أن يغيّره باختياره وبإرادته، كوجوب الصلاة مثلًا، وحرمة الربا، فإن هذه الأحكام لا يملك للإنسان أن يغيّره باختياره وبإرادته، فهي أحكام ثابتة. وهناك قسم من الأحكام يمكنك أن تغيّره، أنت أيها الإنسان يمكنك أن تغيّر هذا الحكم بإرادتك وباختيارك، نسمّي هذا الصنف من الأحكام بالأحكام المتغيرة.

مثلًا: ما ورد في الحديث الشريف: ”الطلاق بيد من أخذ بالساق“، الطلاق بيد الرجل، هل يمكن نقل الطلاق للمرأة، بحيث يصبح الطلاق بيد المرأة؟ نعم، يمكن، تستطيع المرأة أن تجعل الطلاق بيدها، تجعل العصمة بيدها، وذلك عن طريق الشرط، في عقد الزواج عندما يجرى عقد النكاح بين الرجل والمرأة.

في ضمن العقد تشترط المرأة على الرجل في نفس العقد أنّها وكيلةٌ عنه في تطليق نفسها منه إذا دعت الحاجة إلى الطلاق، إذا صارت المرأة وكيلة عن الزوج في تطليق نفسها منه إذا دعت الحاجة إلى الطلاق، يومًا من الأيام قال لها الزوج: لا تخرجي من البيت، قالت: أريد أن أخرج، قال: لا أسمح لك، قالت: مع السلامة، أنت طالق! أنت تمنعني وأنا وكيلةٌ عنك في التطليق متى ما دعت الحاجة، فهذا الحكم يمكن نقله للمرأة، فإذا لاحظنا أنه يمكن نقله للمرأة فهو حكم متغير. إذن، هذا الحكم ليس متحيزًا للرجل حتى بعنصره الشكلي، ما دام يمكن نقله للمرأة، ويمكن أن يكون بيد المرأة عن طريق الشرط.

حتى مسألة الخروج من البيت، موجود الآن هذا بشكل شائع، في ضمن عقد الزواج تشترط المرأة على الرجل ألا يمنعها من الخروج من البيت، وتشترط عليه أنه إذا دعت الحاجة فهي وكيلةٌ عنه في تطليق نفسها، ويخرج الرجل فارغ اليدين من ذلك العقد نتيجة هذه الشروط.

الوجه الثاني: خضوع بعض الأحكام لولاية الفقيه.

الأحكام على قسمين: حكم قانوني، وحكم يخضع لولاية ولي الأمر، هناك حكم لا يخضع لولاية الفقيه، لا يمكن للفقيه أن يتدخل فيه بولايته، فمثلًا: صلاة المغرب ثلاث ركعات، لا يستطيع أن يأتي الفقيه ويقول: والله أنا أريد أن أريح الأمة ولذلك أجعل صلاة المغرب ركعة واحدة! هذا قسم لا يخضع لولاية الفقيه، وهناك قسم من الأحكام يخضع لولاية ولي الأمر، إما في أصل الحكم، أو في حجم الحكم ومقداره.

مثلًا: ورد في النصوص والروايات أن الإمام أمير المؤمنين فرض الزكاة في الخيل العتاق وفي البرازين، الزكاة واجبة في الأنعام الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، وأما الخيل فلا زكاة فيها، الإمام أمير المؤمنين فرض الزكاة في الخيل والبرازين، لماذا؟ لأنه رأى في زمانه حاجة ماسة إلى أن يزيد سهم الزكاة، إلى أن يزيد نصيب الزكاة، رأى حاجة ماسة لتضعيف حجم الزكاة، ففرض الزكاة في الخيل العتاق أيضًا مضافًا إلى ثبوتها في الأنعام الثلاثة. إذن، الحكم الولايتي تدخل، الإمام أمير المؤمنين ما تدخل بما هو مبلغٌ عن الشرع، بل تدخل بما هو ولي الأمر، وأزاد سهم الزكاة ليغطي الحاجة المادية في المجتمع الإسلامي آنذاك. إذن، هذا الحكم قابل لتدخل ولاية ولي الأمر فيه.

من هذا القبيل مسألة دية المرأة، الرواية تقول: دية المرأة نصف دية الرجل، الرجل يقتل وديته ألف دينار، المرأة تقتل وديتها خمس مئة دينار، دية المرأة نصف دية الرجل، هذا الحكم غير قابل لتدخل ولاية الولي؟! لا، قابل لتدخل ولاية الولي، إذا شخص الولي الفقيه أن مصلحة الأمة الإسلامية أن يزيد دية المرأة، فيجعل دية المرأة مساويةً لدية الرجل، فهذا من صلاحياته. الآن في إيران دية الكتابي مثلًا، إذا قُتِل المسلم واضح، ديته مثلًا ألف دينار، إذا قُتِل كتابي يعيش في الدولة الإسلامية فإن ديته تقارب عشر دية المسلم، إذا كانت دية المسلم ألف دينار فدية الكتابي تقارب التسعين دينارًا، فهي تقارب العشر ولا تصل إليه.

هذا الحكم في إيران غُيِّر، الآن دية الكتابي في إيران مساوية لدية المسلم تمامًا، لا فرق بينهما، تضعيف دية الكتابي إلى مستوى دية المسلم معناه أن هذه الأحكام، هذا الصنف من الأحكام - وهو أحكام الديات - قابلٌ لتدخل الولي الفقيه فيه، من حيث حجمه، ومن حيث مقداره. ولذلك، بعض الفقهاء حتى بالنسبة للحدود، مثلًا: حد الزاني، حد الزاني المحصن، حد شارب الخمر، بعض الفقهاء يرى حتى هذه الحقوق خاضعة لولاية الفقيه، للفقيه صلاحية أن يعطّل الحد إذا شخّص أن المصلحة العامة للأمة الإسلامية تقتضي تعطيل هذا الحد لفترة معينة، للفقيه الزيادة على هذا الحد، إذا أدرك أنه لا يمكن الردع عن الجريمة، ولا يمكن سد باب الجريمة إلا بزيادة الحد وتضعيفه، للفقيه الولاية على ذلك.

إذن فبالنتيجة: ما دامت الأحكام على صنفين: حكم قانوني لا يقبل تدخل الفقيه، وحكم قابل لتدخل الفقيه فيه، إما في أصله، أو في حجمه ومقداره، إذن إذا قلنا دية المرأة نصف دية الرجل، لا نرى هذا الحكم حكمًا مجحفًا ما دام مرنًا وقابلًا، حتى بصياغته الشكلية هو قابلٌ للتغير، وهو قابلٌ للتبدّل. هذه هي الأطروحة الثانية في علاج نظرية الفقه الذكوري التي تحدثنا عنها في الليلة السابقة.

الأطروحة الثالثة: التفريق بين الدين والشريعة.

هذه الأطروحة التي طرحتها بعض الأقلام الإسلامية تقول: لماذا محاولاتنا - نحن كفقهاء - محاولات ترقيعية؟! لماذا لا تكون محاولات شمولية؟! لماذا أطروحاتنا أطروحات ترقيعية، تنظر إلى بعض الأحكام، ولا تكون أطروحات شمولية، تجعل أسسًا تعالج جميع الشبهات والاستفهامات والأسئلة؟! أنت عندما تأتي كفقيه منظّر وتقول: هناك شبهة حول حقوق المرأة، فأنا أعالج هذه الشبهة في حدود بعض حقوق المرأة، كالنظرية الثانية التي طرحناها، وكالأطروحة الأولى التي طرحناها في الليلة السابقة.

هذه أطروحة ترقيعية، أنت ماذا فعلت؟ أنت عالجت حقوق المرأة، ولكن إذا جاءك إشكال آخر: لماذا يحكم الإسلام باسترقاق الأسير؟ لماذا أسر الكافر فمن حق المسلم استرقاقه؟! عالج هذا الحكم! لماذا يقتل المرتد في الإسلام، وإذا كان مرتدًا فطريًا فلا يستتاب، وإنما يقتل بدون استتابة؟! أنت تعالج مسألة حقوق المرأة، تطرح أطروحة تعالج الشبهة في حقوق المرأة، ولكن هناك شبهاتٍ حول حقوق الإنسان في الإسلام، كمسألة قتل المرتد، ومسألة استرقاق الأسير، ومسألة جواز غيبة الإنسان الكافر أو غيبة الإنسان المخالف، كيف تعالج جميع هذه الشبهات التي ترجع إلى سؤال واحد: لماذا لا يساوي الإسلام في الحقوق؟ لماذا حقوق الإنسان في الإسلام متفاوتة بين فرد وآخر؟ لا بد من طرح أطروحة شمولية تعالج هذه الشبهات كلها، لا أطروحة ترقيعية تختص ببعض الأحكام دون بعض. من هذا المنطلق نقول: الأطروحة الثالثة تعتمد على أصلين:

الأصل الأول: ما ذكرناه في الليالي السابقة، من أن المرجعية في العدل والظلم للعقل، العقل هو الذي يحدّد، يقول لك: هذا ظلم فاجتنبه، وهذا عدل فافعله، المرجعية للعقل وليست للشرع، الحسن ما حسّنه العقل، والقبيح ما قبّحه العقل، فالمرجعية للعقل في تحديد الظلم القبيح، وتحديد العدل الحسن.

الأصل الثاني: هذه الأطروحة تفرّق بين الإسلام كدين والإسلام كشريعة، الإسلام تارة يكون دينًا، وتارة يكون شريعةً، القرآن الكريم أحيانًا يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ، هنا نُظِر للإسلام كدين، وأحيانًا يقول: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، هذا معناه أن الإسلام شريعة، فما هو الفرق بين الإسلام كدين والإسلام كشريعة؟ الإسلام الدين هو المفاهيم العامة التي طرحها الإسلام، هناك مفاهيم عامة طرحها في القرآن الكريم، هذه تسمى دين الإسلام. وأما الشريعة فهي الأحكام الفقهية، التشريعات التي تعالج حياة الإنسان، تجب الصلاة، يجب الصوم، يجب في السفر ركعتان، في الحضر أربع ركعات، أحل الله البيع، حرم الربا، هذه تشريعات.

إذن، هناك مفاهيم عامة هي الدين، وهناك أحكام فقهية هي الشريعة، ففرق بين الإسلام كدين، والإسلام كشريعة. نأتي إلى مسألة المرأة: الإسلام عندما تحدث عن المرأة تحدث عنها على كلا الصعيدين: على صعيد الدين، وعلى صعيد الشريعة. على صعيد الدين، اعتبر المرأة كالرجل، إذا راجعت المفاهيم القرآنية تجعلها كلها تعتبر المرأة مساوية للرجل، كما قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، وفي آية ثالثة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، وفي آية رابعة: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ رجلًا أو امرأة ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.

القرآن يضرب المثل للمؤمنين بالمرأة، لا يضرب المثل بالرجل، فيقول: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا رجالًا ونساء ﴿امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، امرأة فرعون مثال للمؤمنين في قوة إرادتها وهي امرأة، ومريم مثال للمؤمنين في عفتها، ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ. عندما يتحدث القرآن على مستوى الدين، فالمرأة كالرجل، ولهذا يقول القرآن: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لهن كما عليهن، وقد يقول قائل: ولكنه قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ! المقصود بهذه الفقرة أن تكاليف الرجال أكثر من تكاليف النساء، كُلِّف الرجال بأكثر مما كُلِّف النساء، فالرجل كُلِّف بالجهاد، ولم تُكَلَّف به المرأة، وكُلِّف بالصلاة في كل يوم، وأسقط عن المرأة الصلاة في حال حيضها، فليس المقصود بهذه الآية تفضيل الرجل على المرأة، بل المقصود أن الرجل حُمِّل درجة من التكاليف والوظائف أكبر وأكثر من المرأة.

إذن، إذا لاحظنا الإسلام كدين نجد أن المفاهيم تنادي بأن المرأة كالرجل، وأما إذا جئنا إلى الإسلام كتشريعات نجده يقول: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فالمرأة لها نصف سهم بينما الرجل له سهم كامل، وفي الشهادة يقول: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. العقل يقول: لا بد من التناسب والانسجام بين الدين وبين الشريعة، لا يمكن أن يكون الدين له معنى، والشريعة لها معنى آخر، هذا يعني التهافت في الفكر الإسلامي، إذا كان الإسلام كدين يقرّر المساواة، وكشريعة يرفض المساواة، إذن هناك تناقض في منظومة الفكر الإسلامي، العقل يقرّر أنه لا بد من وجود انسجام بين الإسلام كدين، وبين الإسلام كشريعة، أي: بين المفاهيم وبين الأحكام الفقهية، حتى لا يقع تناقض وتهافت بين مستويي الإسلام، وبين صعيدي الإسلام، صعيد الدين وصعيد الشريعة، فكيف يرتفع التهافت والتناقض؟

ذكرنا في الأصل الأول أن المرجعية للعقل، هو الذي يقرّر الحسن والقبح، هو الذي يقرّر العدل والظلم، فماذا يقول العقل؟ العقل يقول: جاءت الشريعة الإسلامية والمرأة صفر على الشمال، ليس لها أي حقوق، فالشريعة الإسلامية أعطت أحكامًا نقلت المرأة من كونها لاإنسانًا إلى كونها إنسانًا، نقلت المرأة من كونها كالحيوانات والبهائم في نظر المجتمع الجاهلي إلى كونها إنسانًا له قيمته وله وزنه، جاءت الشريعة الإسلامية وكان الرجل يتزوج مئة امرأة، فقالت الشريعة: ليس للرجل الزواج إلا بأربع نساء فقط. جاءت الشريعة الإسلامية والمرأة لا ميراث لها، البنت لا تورّث في الجاهلية، فقالت: لا، لها نصف سهم من الميراث. جاءت الشريعة الإسلامية والمرأة تُقْتَل ولا دية لها، فقالت: لا، لها دية نصف دية الرجل. جاءت الشريعة والمرأة لا يُقْبَل قولها، قالت: لا، شهادة امرأتين بشهادة رجل.

إذن، هذه التشريعات التي جاء بها الإسلام في تلك الفترة، في ذلك الظرف، وهو القرن الأول والقرن الثاني، لأن الإسلام كان يهدف إلى نقل المرأة من كونها لاإنسانًا إلى كونها إنسانًا، في تلك الفترة كانت هذه التشريعات عدلًا بالنسبة للمرأة، في تلك الفترة كانت هذه التشريعات كرامةً بالنسبة للمرأة، فإذن، هذه التشريعات في تلك الفترة كانت مصداقًا للكرامة، وكانت مصداقًا للعدالة، وكانت مصداقًا للعناية بالمرأة، لأن الإسلام كان يهدف لنقلها من لاإنسان إلى كونها إنسانًا.

ولكن، بمرور الزمن، تغير وضع المرأة، كانت جاهلة وأصبحت مثقفة، كانت ضعيفة الإرادة وأصبحت قوية الإرادة، كانت لا شراكة لها في العجلة الاقتصادية، وأصبحت شريكًا مهمًا للرجل في تنمية الاقتصاد، وفي مسيرة الاقتصاد، وفي بناء الحضارة، تغيرت المرأة، تغير التاريخ، تغيرت الحضارة، فلما تغيرت المرأة الآن العقل يقول: تلك التشريعات التي صدرت كانت تنسجم مع الدين في تلك الفترة، والآن لا تنسجم مع الدين، الشريعة انسجمت مع الدين بالنسبة للمرأة في تلك الفترة، الآن الشريعة لا تنسجم مع الدين - بنظر العقل - في هذه الفترة، إذن لا بد أن تتغير هذه الأحكام بما يراه العقل عدالة، وبما يراه العقل كرامة للمرأة، وبما يراه العقل منسجمًا مع الدين، وهو المفاهيم التي طرحها القرآن الكريم، بما ينسجم مع قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، الأصل والمرجع عندنا هذه الآية، فلا بد من أن تتغير الأحكام إلى مع ما ينسجم مع هذه الآية.

خصوصًا وأن بعض الأحكام أُخِذَت من الروايات، ولم تُؤْخَذ من القرآن الكريم، فمثلًا: دية المرأة نصف دية الرجل، هذا ليس موجودًا في القرآن الكريم، هذا موجود في الروايات الواردة عن أهل بيت النبي محمد ، أو مسألة أن الزوجة لا ترث من العقار لا عينًا ولا قيمة، هذا موجود فقط في فقه أهل البيت، أي: في الروايات الواردة عن أهل البيت ، وليس موجودًا عند غيرهم من المذاهب الإسلامية، ولذلك السيد المرتضى علم الهدى تأمل، قال: يمكن أن يقال بأنَّ المرأة ترث من العقار قيمةً، ولكنها لا ترث منه عينًا.

إذن، بعض الأحكام لم ترد في القرآن، وردت في الروايات، ولأجل ذلك يمكن القول بأن الرواية تُقْبَل في فرض انسجامها مع الدين، وهو الأصل القرآني: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وتُطْرَح إذا اختلفت مع هذا الأصل القرآني. أنت لا يمكن أن تقبل كل رواية ترد عليك، حتى إذا كان مضمونها منافيًا لمنطق العقل، فمثلًا: ورد في بعض الروايات أنه لا بأس بالنظر إلى عورة الكافر؛ لأن عورته كعورة الحمار.

أين هذا من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ؟! هو كافر، ولكن الله كرّمه، فكيف ألغى الشرع حرمته وكرامته حتى في هذه القضايا الجزئية البسيطة، واعتبره حمارًا وبهيمة؟! إذن، ليس كل رواية - وإن كانت صحيحة سندًا - تنسجم مع منطق العقل في تحديد الكرامة، وفي تحديد العدالة، وفي تحديد أهمية وإنسانية الإنسان.

هذه الأطروحة عليها ملاحظات:

الملاحظة الأولى: التبعيض بين النصوص.

هذه الأطروحة تبعِّض بين نصوص القرآن، بعض نصوص القرآن تأخذ بها على شكل الدوام إلى يوم القيامة، وبعض النصوص تعتبرها خاصةً بفترة صدر الإسلام، أو بفترة الصدر الأول. مثلًا: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، الطلاق لا يقع دائمًا إلا في المرة الثالثة، أما في المرة الأولى فهو طلاق رجعي، وكذلك في المرة الثانية، لا يقع الطلاق دائمًا، بحيث تنفصل المرأة من الرجل، ولا ترجع إليه حتى تنكح زوجًا غيره، إلا في المرة الثالثة، فالطلاق مرتان، وبعد ذلك لا يكون طلاقًا، بل يكون بيونةً وانفصالًا، هذه آية نعمل بإطلاقها إلى يوم القيامة. كذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، نعمل بإطلاق الآية إلى يوم القيامة. ومن هذا القبيل قوله تعالى في آية ثالثة: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ، هذا حكم يستمر إلى يوم القيامة.

لكن إذا جئنا إلى قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، نقول: هذا خاص بتلك الفترة! أو عندما نأتي لقوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، نقول: هذا خاص بتلك الفترة وليس عامًا لكل زمان! التبعيض في نصوص القرآن، بأن نأخذ ببعض النصوص على نحو الإطلاق، وندع بعض النصوص ونحصرها في فترة معينة، وفي زمان معين، هذا التبعيض يحتاج إلى مبررات، يحتاج إلى شواهد قطعية، تجعلنا نبعّض في نصوص القرآن، وإلا فهذا كتاب قطعي نزل من السماء على النبي محمد بغرض تنظيم الحياة، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، تأتي وتبعّض بين النصوص، وتقول: هذا نص مستمر وذاك نص غير مستمر! هذا يحتاج إلى دليل قطعي على أن هذا النص غير مستمر، وذاك نص مستمر، وأما مجرد بعض الأطروحات أو بعض النظريات فلا تصلح أن تكون دليلًا قطعيًا بواسطته نبعّض ونفرّق بين النصوص القرآنية.

الملاحظة الثانية: محدودية مرجعية العقل.

هل المرجعية للعقل في المفهوم أم في المصداق؟ مثلًا: العدل يقول: العدل جميل، هنا نرجع إلى العقل في تقرير المفهوم. الظلم قبيح، هنا نرجع للعقل في تقرير المفهوم. هذا لا إشكال فيه، لكن هل نرجع إلى العقل في تقرير المصداق؟ مثلًا: الإسلام يقول: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، حتى لو خصّصنا المسألة بغنيمة الحرب، ربما لو نظرنا للعقل لقال: هذا ظلم! على الأقل 2% أو 1%، إذا أنا عندي ألف ريال فإنني أعطي الإمام والسادة وأتفضل عليهم بخمسين ريال مثلًا! نصف العشر، وأما خُمس ثروتي! افترض أن إنسانًا كان كافرًا، والآن قال: أريد أن أصبح مسلمًا، وكان ملياردير، وجاء ليدخل في الإسلام وعنده مئة مليار، نقول له: أنت إسلامك مقبول، لكن ادفع عشرين مليارًا! خمس ثروتك سلّمها لهذا المعمّم الجالس في المجلس! أنا أتعب على ثروتي، تعبت عليها، شقيت عليها سنين طويلة، حتى كوّنت هذه الثروة، الآن بكل بساطة هذا المعمّم يأخذ منها عشرين مليارًا! ما هذا الظلم؟! إذن، لو رجعنا للعقل في المصداق كما رجعنا إليه في المفهوم، ربما يقول العقل: هذا ظلم أنا لا أقبله، على الأقل خذوا مليونًا أو مليونين، لا عشرين مليارًا. إذن، فالعقل مرجعٌ في المفهوم، الظلم قبيحٌ، العدل جميلٌ، أما هذا ظلم أم ليس بظلم، هذا يحتاج أن يعرف العقل أن هذا من حقه أو ليس من حقه.

لو سئلنا: ما معنى الظلم؟ الظلم هو سلب ذي الحق حقه، فالعقل لا بد من أن يقرّر أن من حق الإنسان أن تكون له تمام الثروة، فإذا أخذنا منه خمس الثروة كان ذلك سلبًا لحقه، فكان ظلمًا. إذن، إذا أوكلنا المصداق إلى العقل، فمعناه أن العقل قادر على أن يشخّص ما هو حق الإنسان وما ليس بحق الإنسان، فإذا سُلِب منه حقه كان ظلمًا، وإذا أعطي حقه كان عدلًا. الرجوع للعقل في المصداق أول الكلام، هذا يحتاج إلى دليل، نحن نرجع للعقل في المفاهيم، أما الرجوع إلى العقل في تحديد المصاديق، بحيث يقول العقل أنَّ شهادة امرأتين بشهادة رجل كان عدلًا في زمن النبي، وأما في زماننا فهو ظلم، المصداق تغير. الرجوع للعقل في تحديد المصاديق إنما يتم إذا كان العقل قادرًا على اكتشاف كل المصالح، وعلى اكتشاف كل المفاسد، وعلى اكتشاف جميع الزوايا.

إذا كان العقل البشري على اكتشاف جميع الملاكات، وجميع المصالح، وجميع المفاسد، واستطاع بإدراكه أن يشخّص أن جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل سبب لمفسدة، حينئذ نعوّل على العقل ونعتبره مرجعًا. أما إذا كان العقل قاصرًا، لا يستطيع العقل إدراك كل الزوايا وكل الملاكات وكل المصالح والمفاسد، إذن لا محالة لا بد من الرجوع إلى التشريعات الثابتة بنص قطعي، أو بنص قامت الحجة على اعتباره في تحديد حقوق المرأة والرجل. ولذلك، ورد في الرواية الشريفة: ”إن دين الله لا يصاب بالعقول“.

أنت ترى في بعض الأقلام الإسلامية، حتى في بعض الكتابات التي كتبها بعض العلماء الشيعة، مع احترامنا لهم، كالشيخ شمس الدين «رحمه الله»، يقول لك بأن أحكام العبادات - الأحكام التعبدية - العقل لا يدرك ملاكاتها، كوجوب الصلاة ثلاثًا مغربًا وأربعًا ظهرًا وركعتين فجرًا، هذه الأحكام - أحكام العبادات - العقل لا يدرك فلسفتها، لذلك هي أحكام باقية إلى يوم القيامة، وأما أحكام المعاملات التي تنظّم علاقة الإنسان بالإنسان، لا علاقة الإنسان بالله، الأحكام التي تنظّم علاقة الإنسان بالله - كالصلاة والصيام - أحكام تعبدية غيبية العقل لا يدركه فلسفتها وملاكها، أما الأحكام التي تنظّم حياة الإنسان بالإنسان - وهي أحكام المعاملات - فالعقل يدرك فلسفتها وملاكها وأسسها، لذلك لا بد أن تكون هذه الأحكام على طبق ما يرى العقل أنه حكمٌ عقلائيٌ، وأنه حكمٌ منسجمٌ مع الكرامة ومع الحقوق الإنسانية.

نحن عندما نعرض هذه المقالة للمرحوم شمس الدين «رحمه الله» نجد أن أحكام المعاملات أيضًا الكثير منها لا نفهم ملاكها، فمثلًا: لماذا تعتد المرأة المطلقة بثلاثة قروء؟ ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، ثلاث حيضات، الحيضة الأولى مع الطهر، والحيضة الثانية مع الطهر، وبمجرد أن تشرع في الحيضة الثالثة تنتهي عدتها، بينما المرأة المتوفى عنها زوجها فتعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لماذا؟ لماذا المطلقة ثلاثة قروء، بينما المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر؟! ما هي فلسفة هذا الأمر؟! ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، أي أن الطلاق يصبح بائنًا في المرة الثالثة، فلماذا لا يصبح بائنًا في المرة الرابعة أو الخامسة؟! هذا حكم لا نفهم فلسفته، لا يدرك العقل مغزاه.

كذلك أيضًا بالنسبة للربا، الربا إما في القرض - أي أن القرض بشرط الفائدة ربا - وإما في البيع، الربا لا يكون في البيع إلا في المكيل والموزون، كيلو حنطة بكيلو ونصف من الحنطة ربا، كيلو بيض بكيلو ونصف ربا، أما في المعدودات فلا ربا، أنا أبيعك عشرين ربية من ربّي مصر بعشر ربيات من ربّي لبان أو سوريا، هذا جائز وليس ربا، لماذا يحرم الربا في المكيل والموزون ولا يحرم في المعدود؟! هذا العقل لا يدرك فلسفته. إذن، لم تبنَ أحكام المعاملات على ضوء ما يدركه العقل دائمًا، بل بعض أحكام المعاملات وكثير منها أحكام لا نفهم فلسفتها، ولا نفهم ملاكها، كما لا نفهم ملاك الأحكام التعبدية.

نتيجة البحث:

وبالتالي، يمكن القول.. نحن لا نريد أن نجعل المسألة حاسمة، بل نريد أن نجعلها مفتوحة مرنة، لا نريد أن نخرج بنتيجة، بل نريد جعل العقول تتحرك، ما زالت المسألة تحتاج إلى بحث، نتركها هكذا، فنقول: يمكن القول بأنَّ العقل مرجعٌ في المفهوم، وليس مرجعًا في تحديد مصداق العدل أو الظلم.

لأجل ذلك، نرى حتى على مستوى التراث الحديثي، لا خصوص القرآن، نجد أن النصوص بكثرة، لا يمكن أن نطرحها كلها، نجد أن النصوص الكثيرة الواردة عن النبي محمد تجعل المرأة ربة بيت، الكثير من النساء لا ترضى أن يقال لها: ربة بيت! بل لا بد من أن يقال عنها: مدرسة، طبيبة، مهندسة! أو الزوج إذا قيل له: ما هي مهنة المدام؟ يخجل أن يقول بأن المدام ربة بيت، وكأن ربة البيت عار أو عيب! ربة البيت لا تعني أنها غسّالة تنظّم الثياب، أو ثلاجة تحتفظ بالطعام والشراب، أو مكنسة تكنس المنزل، ليس معنى ربة البيت أن المرأة جهاز كهربائي يعمل لخدمة المنزل، لا، المرأة لا يجب عليها خدمة المنزل أصلًا، هذا ليس واجبًا شرعيًا على المرأة، إلا إذا كان شرطًا من قِبَل الزوج عليها في ضمن عقد الزواج، إما شرطًا صحيحًا، أو شرطًا ضمنيًا إذا كان هو المتعارف في مجتمع ما.

المقصود بربة بيت أنها تربّي الأجيال، تربّي الأولاد تربيةً صالحةً، تربي الأسرة تربيةً صالحةً. أسماء بنت يزيد الأنصاري وقفت على النبي محمد ، وكان جالسًا مع أصحابه، قالت: يا رسول الله، إنا معاشر النساء حاملات أبنائكم، ومقضى شهواتكم، وحبيسات بيوتكم، وإنَّ الرجل قد فُضِّل علينا بالجُمَع، والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، وأفضل من ذلك الحج في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجًا أو معتمرًا أو مجاهدًا حفظنا لكم أموالكم، وربّينا لكم أولادكم، وغسلنا لكم أثوابكم، أفما لنا من الأجر مثل لكم؟

تصوّر المرأة تقف على النبي وتتكلم بهذا الكلام، هذا معناه أن حياة النبي كانت ديمقراطية، وإلا امرأة تقف على رأس قائد الدولة وتطرح عليه هذه المقولة، هذا معناه أن عصر النبي كان عصرًا ديمقراطيًا، كان عصرًا يفتح الحرية للمعارضة والنقد، هذه تقف على رأس النبي وتتكلم بهذا الكلام، والنبي جالس مع أصحابه. النبي التفت إلى أصحابه، قال: أصحابي، هل سمعتم مسألةً من امرأة أحسن من مسألة هذه المرأة في دينها؟ قالوا: أو تهتدي امرأة لذلك؟! ثم التفت إليها وهي مبتسم، قال: ”يا أسماء، أبلغي أن لكم من الأجر مثل ما للرجال في جهادهم، وأن جهاد المرأة حسن التبعّل“.

المرأة إذا قامت بوظيفتها، تربية الأبناء، تربية الأسرة، وأشاعت الأجواء الحميمة، وأشاعت العلاقات الأسرية الحميمة، فثوابها يعادل ثواب المجاهِد في سبيل الله، يعادل ثواب المتشخّط بدمه في سبيل الله، أجر المرأة وهي تربي أبناءها، وتحافظ على الأسرة بالعلاقات الحميمة، أجر ذلك المجاهد في سبيل الله.

أنا لا أقول: دعوا النساء في البيوت! لا، المجتمع يحتاج إلى المرأة المدرسة، والمرأة الطبيبة، والمرأة... إلخ، يحتاج إلى عمل المرأة، ولكن لو تعارض عمل المرأة مع تربية الأبناء فالمقدّم شرعًا هو تربية الأبناء، تربية النشء، تربية الأسرة، وليس العمل على حساب تربية الأبناء والأسرة. ولذلك، النصوص الشريفة، والتاريخ الإسلامي، أثنى على المرأة التي أثبتت بطولتها وعظمتها وهي ربة بيت، وهي تربي أبناءها.

ضرب المثل بامرأة فرعون، وضرب المثل بمريم بنت عمران، وورد عن النبي محمد : ”خير نساء العالمين أربع: آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد“، وورد عنه : ”أحب من دنياكم ثلاثًا: الطيب، والنساء، وقرة عيني الصلاة“، فجعل المرأة كالصلاة، يحب المرأة كما يحب الصلاة، وهذا تعظيمٌ للمرأة، وإجلالٌ لشأنها، وإجلالٌ لشخصيتها الإنسانية من قِبَل الرسول المصطفى .

ولذلك، الرسول ذكر لنا هذه النساء الخوالد، خديجة بنت خويلد التي بذلت أموالها في سبيل الله، ونزل جبرئيل من الجنة على النبي محمد ، قال: يا رسول الله، بشّر خديجة بأنَّ لها بيتًا في الجنة من قصب - أي: من ذهب مجوفر - لا صخب فيه ولا نصب. وفاطمة الزهراء التي تسمّى أم أبيها من عنايتها وحنانها وعطفها على النبي ، وأمثالها من النساء، كزينب العقيلة، كسيكنة بنت الحسين، كأم البنين الأربعة. فاطمة بنت حزام الكلابية، زوجة الإمام علي ، المرأة العظيمة التي قدّمت أولادها الأربعة في سبيل الدين، وفي سبيل المبادئ.