دعوى تهافت أصول الفكر الإمامي ج1

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ

صدق الله العلي العظيم

هنالك فكرةٌ طرحتها مجموعةٌ من الأقلام التي تحدثت عن الفكر الإمامي، منهم: الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه «صراع الأضداد»، هذه الفكرة هي أنَّ من قرأ منظومة الفكر الإمامي، يجد أنَّ هذا الفكر يعيش تهافتًا وتناقضًا في داخله، فمنظومة الفكر الإمامي منظومةٌ غير متجانسة وغير متشاكلة، تعيش تهافتًا وتضادًا في داخلها وفي عمق بنيتها؛ لأنَّ الفكر الإمامي من جهةٍ يقدّس العقل، ويتبنى العقل، ويعتمد العقل في أسسه وأصوله، ومن جهةٍ أخرى نرى أنَّ الفكر الإمامي يحتضن معتقداتٍ ومرتكزاتٍ لا تستند على أسس عقلية، ولا تعتمد على أصول عقلية. من أجل أن نوضّح بعمق هذه الفكرة نقول: نحن عندما نقوم بعملية استقراء للفكر الإمامي، لنرى موضع العقل وحجمه في هذا الفكر، نجد أن للعقل أهمية قصوى، وموقعًا كبيرًا في الفكر الإمامي، ولذلك عدة مظاهر:

المظهر الأول: أنَّ الفكر الإمامي يرى أنَّ المرجعية للعقل، وليس للشرع.

المرجعية الأولى هي للعقل، وليس للشرع، حتى أفعال الخالق «عز وجل» - وهو الخالق الذي فجّر هذا الوجود - يخضعها الفكر الإمامي للعقل، ويحاسبها على ضوء العقل، فيقول: لو أنَّ الله «تبارك وتعالى» أدخل النبي محمدًا إلى النار، وأدخل إبليس إلى الجنة، فإن هذا العمل قبيحٌ، ولا يتحول إلى عمل حسن إذا صدر من الله، العمل قبيح ولا يتحول إلى حسن لأنه صدر من الله. إذن، الفكر الإمامي يرى المرجعية للعقل، حتى أفعال الله تحاسَب وتخضع لحكم العقل، وهذا ما يعبّر عنه الفكر الإمامي بقوله: الحسن ما حسّنه العقل، والقبيح ما قبّحه العقل، وليس الحسن ما حسّنه الشرع، ولا القبيح ما قبّحه الشرع. الله يفعل الحسن لأن العقل يراه حسنًا، ولا يفعل القبيح لأن العقل يراه قبيحًا، فالمرجعية الأولى للعقل.

والفكر الإمامي على أساس هذه القاعدة اعتبر من أصول الدين أصل العدل؛ لأن الحسن ما حسّنه العقل، والعقل يرى ضرورة العقل، إذن لا بد وأن يكون العدل أصلًا من أصول الدين، بل جميع الأصول، أصل النبوة، أصل الإمامة، أصل المعاد، كل هذه الأصول تبتني على مرجعية العقل، العقل لأنه يرى أن الظلم قبيح، لذلك يجب بعث الأنبياء، لأن عدم بعث الأنبياء ظلمٌ، ويجب نصب الأئمة؛ لأن عدم نصب الإمام ظلمٌ، ويجب وجود يوم يُنْتَصَف فيه للمظلوم ويعاقَب فيه الظالم؛ لأن عدم وجود هذا اليوم ظلمٌ. إذن، كل هذا قرّره العقل، العقل قرّر أن هناك أصلًا اسمه أصل العدل، وفرّع عليه أصلًا آخر، وهو أصل النبوة، وأصل الإمامة، وأصل المعاد، فالمرجعية الأولى للعقل، وهذا ما يقرّره الفكر الإمامي.

المظهر الثاني: العقل من مصادر الاستنباط.

المظهر الثاني لحجم العقل عند الإمامية أنهم يقولون: مصادر استنباط الحكم الشرعي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، فيرون العقل مصدرًا من مصادر التشريع، بحسب ما يقسّمه الفقهاء. الفقهاء يقسّمون مصدرية العقل للاستنباط إلى قسمين: أحكام العقل العملي، ومدركات العقل النظري. ما حكم به العقل العملي حكم به الشرع، مثلًا: العقل العملي يحكم بأنَّ التجرّي على المولى «تبارك وتعالى» قبيحٌ، إذا كان العقل العملي يحكم بذلك، فلا بد للشرع من تحريمه، ما يحكم به العقل يحكم به الشرع. إذا حكم العقل العملي بأن التجري على المولى قبيحٌ، إذن الشرع يحرّم ذلك. إذا حكم العقل العملي بأن الخيانة أمر قبيح، إذن الشرع يقرّر ذلك. هذا ما يسمى «ما حكم به العقل حكم به الشرع».

أو مدركات العقل النظري، مثلًا: العقل النظري يدرك: إذا وجب شيءٌ وجبت مقدمته، مثلًا: الحج واجب، إذن السفر إلى الحج واجب، لأن السفر إلى الحج مقدمة للحج، إذا وجب الشيء وجبت مقدمته، العقل النظري إذا أدرك الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته فالشرع كذلك. إذن بالنتيجة: الفكر الإمامي يجعل هذا الموقع المهم للعقل، يقول: العقل مصدر من مصادر التشريع، سواء في أحكام العقل العملي، أو في مدركات العقل النظري.

المظهر الثالث: التمازج بين الفكر الكلامي والفكر الفلسفي.

المظهر الثالث من مظاهر حجم العقل في الفكر الإمامي هو مسألة المزج بين الفكر الكلامي والفكر الفلسفي. أنت عندما تقرأ فكر الإمامية منذ سبعة قرون أو ثمانية قرون قبل، تجد أن الإمامية مزجوا فكرهم بالفلسفة، مزجوا فكرهم الكلامي بالفلسفة، وتضلعوا في حقل الفلسفة، وأبدعوا في هذا الحقل إبداعًا واضحًا، بل إن رواد الفلسفة في الإسلام هم من الإمامية، روّاد علم الفلسفة في الإسلام هم من الإمامية، فلاسفة الإسلام هم من الإمامية، كابن سينا، ونصير الدين الطوسي، والعلامة الحلي، روّاد الفلسفة هم من علماء الإمامية.

مثلًا: نصير الدين الطوسي الذي كتب كتاب تجريد الاعتقاد، كتاب التجريد شرح فيه العقائد بشكل مبرهن استدلالي، والعلامة الحلي كتب عليه شرحًا، سمّاه شرح تجريد الاعتقاد، والكثير من علماء أهل السنة كتبوا شروحًا على هذا الكتاب: تجريد الاعتقاد، ومنهم القوشجي من علماء إخواننا أهل السنة، حيث كتب كتاب شرح تجريد الاعتقاد، وأثنى على الكتاب ثناء كبيرًا، ولكن الكتاب على فصول، حيث تحدث عن التوحيد وعن العدل وعن النبوة، وأثبتها بالبراهين القاطعة، ثم وصل إلى فصل الإمامة، وأثبت الإمامة من خلال عدة براهين، القوشجي هو من علماء إخواننا أهل السنة، فلما وصل إلى هذا الفصل وهو يشرح الكتاب شرحه، لكنه كتب بعد ذلك بيتين من الشعر:

فاق  النصير  بحسن  تجريدٍ  iiله
يا  خاتمًا  بالسوء  حسنَ  iiكتابهِ
  لكنه     فيه    أساء    الخاتمة
أو ما خشيتَ عليك سوءَ الخاتمة

أي أن نصير الدين الطوسي تفوق على غيره بكتاب التجريد، ولكنه أساء الخاتمة عندما تحدث عن الإمامة، فردَّ عليه أحد علمائنا ببيتين يتناسبان مع كلامه:

فاق  النصير بحسن تجريدٍ له
يا  راميًا  بالسوء حسنَ iiكتابهِ
  وأزاده  حسنًا  بحسن iiالخاتمة
السوء فيك فخلته في الخاتمة

إذن بالنتيجة: نصير الدين الطوسي، ابن سينا، صدر المتأهلين الشيرازي، ما زالت نظرياتهم الفلسفية إلى الآن هي محور البحوث، كنظرية الحركة الجوهرية التي أبدعها صدر المتأهلين الشيرازي، لا زالت محور البحوث، وكذلك على صعيد علمائنا المتأخرين، كالسيد الطباطبائي صاحب الميزان، والشيخ المطهري، والشهيد السيد محمد باقر الصدر «قدس أسرارهم»، أصبحوا روادًا في علم الفلسفة، نتيجة لما أبدعوا من النظريات.

مثلًا: دليل حساب الاحتمالات دليلٌ مذكورٌ في علم الرياضيات، لكن وقع جدلٌ في أن دليل حساب الاحتمالات هل يؤدي إلى اليقين الوجداني كما يؤدي إلى اليقين الرياضي أم لا؟ دليل حساب الاحتمالات يؤدي إلى اليقين الرياضي، وهذا مسلَّم، ولذلك يستخدم دليلًا في علم الرياضيات، ولكن هل يؤدي إلى الدليل الوجداني والقطع مئة بالمئة، فيصح استخدامه في مجالات وعلوم أخرى، أم أنه لا يؤدي إلى اليقين الوجداني؟ هذه مسألة فلسفة مركّزة.

السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر «قدس سره» كتب كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء»، وفي هذا الكتاب أضاف مقدماتٍ وعواملَ إلى دليل حساب الاحتمالات، بحيث يصبح هذا الدليل دليلًا يؤدي إلى القطع واليقين الوجداني، ويصلح أن يكون برهانًا في جميع العلوم والمجالات بلا استثناء، ولذلك قام باستخدامه في علم الكلام، وفي علم الأصول، وفي علم الفقه. إذن، هو قدّم خدمة للإنسانية وللفلسفة الإنسانية، ما سبقه إليها أحدٌ.

إذن، عندما يقرأ الإنسان الفكر الإمامي من خلال أبدعه علماء الإمامية في مجال الفلسفة، وفي مجال العلوم العقلية، يتوصّل إلى أنَّ العقل حجمه كبيرٌ جدًا في الفكر الإمامي، العقل له أهميةٌ بالغةٌ في الفكر الإمامي. إذن، مع هذا الحجم، ومع هذا الموقع المهم للعقل، لماذا نرى الفكر الإمامي يتبنى بعض المعتقدات التي ليس لها أساسٌ عقليٌ؟! كيف نقارن بين هذا الإبداع العقلي عند الإمامية، وبين بنائهم على معتقدات ليس لها أسس عقلية؟! طبعًا هذا موضوعي يطول، وقد أتعرض إلى شيء آخر يرتبط بهذا الموضوع في الليالي القادمة.

مثال: مسألة العصمة المطلقة.

الفكر الإمامي يعتقد أن النبي معصومٌ عصمةً مطلقةً، وأن الإمام معصومٌ عصمةً مطلقةً، ومعصومٌ في تصرفاته، سواء في مجال التشريع، أو في مجال الممارسات الشخصية، أي أن الفكر الإمامي بعبارة مختصرة يرى أن النبي أو الإمام لا يخطئ، ولا يسهو، ولا ينسى، ولا يغفل أبدًا! جميع المذاهب الإسلامية قد تقول: لا يعصي، ولكنه قد ينسى ويسهو ويغفل، إنسان معصوم بمعنى أنه لا يعصي، وأما أنه معصوم عصمةً مطلقة لا يخطئ ولا ينسى ولا يغفل أبدًا، هذا شيء لا يدخل العقل.

افترض أنَّ هذا النبي يريد أن يخرج من المسجد، ألا يخطئ في أن يلبس حذاءه بطريقة مقلوبة؟! أو إذا أراد أن يلبس قميصه، ألا يخطئ فيلبسه بشكل مقلوب مثلًا؟! إلى هذا المقدار النبي لا يخطئ ولا يسهو ولا يغفل ولا ينسى، عصمة مطلقة مستقرة في مجال التشريع أو في مجال الممارسات الشخصية؟! قد يقال بأنَّ هذا يتصادم مع العقل، ويتنافى مع العقل، وذلك من ناحيتين:

الناحية الأولى: بشرية النبي.

النبي بشر، والبشر محدود الإحاطة، ومن كان محدود الإحاطة تسرب إليه النسيان أو الغفلة أو السهو. البشر يمر بمراحل ثلاث: المرحلة الأولى هي مرحلة استقبال المعلومات، والمرحلة الثانية هي مرحلة تحليل المعلومات، والمرحلة الثالثة هي مرحلة تطبيق المعلومات، فهو يمر بمراحل ثلاث: استقبال وتحليل وتطبيق، فهل يمكن للبشر ألا ينسى ولا يخطئ في أي مرحلة من هذه المراحل الثلاث؟! بما أنه بشر، والبشر محدود، إذن فهو معرض الخطأ، وفي معرض الغفلة، وفي معرض السهو، إما في الاستقبال أو في التحليل أو في مجال التطبيق، وأما أنه في جميع المراحل لا يغفل ولا يخطئ فهذا أمر يصطدم مع العقل، فلا يمكن الجمع بين البشرية وبين العصمة المطلقة، فإما أن يكون بشرًا أو يكون معصومًا عصمة مطلقة، وأما أن يكون بشرًا ومعصومًا عصمةً مطلقةً، فهذا أمر يتنافى مع العقل.

الناحية الثانية: البشر في معرض العوامل الخارجية.

البشر في معرض المرض، والمرض يوجب الغفلة أو الخطأ، وفي معرض التعب، والتعب يوجب ذلك، وفي معرض ضغط الظروف المحيطة به، ونتيجة لضغط الظروف أو تراكم الأعمال قد يحصل له نسيان أو غفلة أو خطأ، فبما أن البشر في معرض التأثير للعوامل الداخلية والخارجية، كونه في معرض التأثر بهذه العوامل يعني أنه في معرض الخطأ والنسيان، فكيف يقال بأن هذا معصوم عصمة مطلقة؟! هذا أمر يصطدم مع العقل، فكيف نجمع بين الإبداع العقلي للفكر الإمامي، وبين مثل هذه العقائد التي تتصادم مع العقل وتتنافى معه؟! هذا هو ملخّص الفكرة.

نحن في مقام الإجابة عن هذه الفكرة - وسأتعرض كما ذكرت في بعض الليالي القادمة إلى خصوصيات أخرى ترتبط بهذه الفكرة مع الإجابة عنها - نقرّر أن الفكر الإمامي فكرٌ عقلانيٌ يحذو حذو العقل في جميع معتقداته، وفي جميع مرتكزاته، لا يتبنى معتقدًا إلا وهو مستندٌ إلى برهان عقلي، إلا وهو مستندٌ إلى دليل عقلي، لا يخطئ العقل ولا يبتعد عنه في أي معتقد من معتقداته، وفي أي مرتكز من مرتكزاته، ومنها مسألة العصمة المطلقة، فنحن نرى أن البرهان العقلي قائمٌ على العصمة المطلقة من خلال وجهين:

الوجه الأول: الوجه النقضي.

أنت عندما تقرأ فكر المذاهب الإسلامية الأخرى، ترى أنهم يقولون بالعصمة المطلقة مثل الفكر الإمامي تمامًا، فإن الفكر الإمامي يرى عصمة النبي أو الإمام، بينما المذاهب الأخرى ترى عصمة الأمة، الأمة الإسلامية إذا اتفقت على أمر فهي معصومة فيه عصمةً مطلقةً؛ لما ورد عن النبي : ”لا تجتمع أمتي على خطأ“، أي أنها معصومة، متى ما اجتمعت فليس هناك خطأ ولا غفلة ولا نسيان ولا سهو.

مثلًا: لنفترض أن الصحابة اتفقوا على أن الخليفة الرابع هو علي ، يقولون: هذا الاتفاق صحيح قطعًا؛ لأن الأمة اتفقت عليه، والأمة لا تجتمع على خطأ، والحال أن الأمة مجموعة من البشر، والبشر محدود الإحاطة، ومحدود الإحاطة في معرض الخطأ والسهو والنسيان، لعل اتفاق الأمة على أن الخليفة الرابع هو علي كان عن نسيان أو اشتباه أو خطأ. يقولون: لا يمكن ذلك! لا تجتمع الأمة على خطأ! إذن، العصمة المطلقة صارت أمرًا ممكنًا، غاية ما في الأمر أننا جعلناها في النبي، بينما الآخر جعلها في الأمة، وهكذا أصبحت العصمة المطلقة أمرًا ممكنًا.

الوجه الثاني: الوجه الحلي.

نحن نسأل سؤالًا: هل يمكن للبشر أن يسيطر على الأمور المادية أو لا يمكن؟ هل يمكن لبشر أن يسيطر على حركة الرياح، فيمنعها أو يغيّر اتجاهها مثلًا؟ هل يمكن لبشر أن يصنع لنا كائنًا حيًا من التراب؟ هل يمكن لبشر أن يطوي المسافات في دقيقة واحدة أو لا يمكن؟ هل يمكن لبشر يسيطر على الماديات أو لا يمكن؟ طبعًا نحن لا نقصد السيطرة بواسطة، فإن السيطرة بواسطة أمر ممكن. مثلًا: يمكن لطبيب السيطرة على مرض خطير بواسطة الأدوية والمختبرات، هذه السيطرة على الماديات بالواسطة أمر ممكن، فليس الكلام في السيطرة بواسطة، وإنما الكلام في السيطرة بدون واسطة.

هل يمكن لإنسان أن يسيطر على الأمور المادية بدون واسطة أصلًا، بحيث يسيطر على الرياح بقوة نفسه، لا بواسطة مادية، ويسيطر على المادة فيصنع من التراث كائنًا حيًا، لا بواسطة، بل بقوة نفسه؟ هل يمكن للبشر أن يقوم بذلك أم لا؟ نحن نريد جوابًا، فإذا قال لنا صاحبنا بأن هذا غير ممكن - لا يمكن لبشر أن يسيطر على الأمور المادية بقوة نفسه وبدون واسطة مادية - فهذا مصادمٌ للقرآن الكريم، حيث يقول في حق النبي سليمان «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، هو بأمره يتحرك في الرياح يمينًا وشمالًا، بقوة نفسه وبدون واسطة مادية.

كذلك النبي عيسى «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»، حيث يقول القرآن في حقه: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ولم يقل: الله يخلق، بل قال: أنا أخلق، أنا أسيطر على المادة ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ. كذلك عندما نأتي للنبي محمد ، حيث يقول القرآن في حقه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا. إذن، البشر يمكن أن يسيطر على المادة، فيطوي المسافات، ويتحكم في الرياح، ويصنع من الطين كائنًا حيًا، يمكن للبشر أن يسيطر على ذلك.

إذن، إذا قلتَ: لا يمكن، اصطدمتَ مع القرآن، وإذا قلتَ بأن ذلك ممكن وصلنا إلى النتيجة: إذا أمكن للبشر أن يسيطر على الخارج المادي بقوة نفسه، فمن باب أولى يمكن أن يسيطر على نفسه، من سيطر على خارج نفسه سيطر على نفسه من باب أولى، السيطرة على الخارج أشد من السيطرة على النفس، ومن سيطر على الأشد سيطر على الأقل، من استطاع أن يسيطر على الماديات استطاع أن يسيطر على نفسه التي بين جنبيه بطريق أولى، من سيطر على كل ذلك سيطر على هذا.

القرآن الكريم في سورة يس يقول: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، خلق السماوات والأرض أشد من خلق الإنسان، خلق السماوات والأرض معقد أكثر من خلق الإنسان، الذي يقدر عى خلق السماوات والأرض لا يقدر على خلق الإنسان مرة أخرى؟! ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي: مثل البشر ﴿بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. من سيطر على الأشد سيطر على ما هو أهون من ذلك.

إذا كان هذا الإنسان - وهو عيسى بن مريم - يستطيع السيطرة على الطين، ويحوّله إلى كائن حي، وينفخ فيه فيصبح طيرًا، فإن من سيطر على المادة وصنع منها كائنًا حيًا، ألا يستطيع أن يسيطر على نفسه وأن يضبطها بحيث لا تغفل ولا تنسى ولا تخطئ؟! يسيطر عليها عندما تستقبل المعلومات، ويسيطر عليها عندما تحلّل المعلومات، ويسيطر عليها عندما تطبق المعلومات، من استطاع أن يسيطر على الخارج سيطر على نفسه بطريق أهون، فإن السيطرة على ما تحت اليد أهون من السيطرة على ما هو خارج عن اليد.

عيسى بن مريم سيطر على المادة فحوّلها إلى كائن حي، ولا يستطيع أن يسيطر على أعصابه وعلى نفسه، ويجعل من النفس نفسًا ملتفتةً، لا تخطئ، ولا تغفل، ولا تنسى، لا حين استقبال المعلومة، ولا حين تحليل المعلومة، ولا حين تطبيق المعلومة؟! إذن، المسألة ليست مسألة ينكرها العقل، بل مسألة معقولة، ومسألة ممكنة، فمن سيطر على هذا سيطر على ذاك.

قد يقول قائل: ولكن ذاك بإذن الله! نقول: هذا أيضًا بإذن الله! ولم نقل بأن هذا بغير إذن الله، فكما سيطر عيسى بن مريم بإذن الله، سيطر على نفسه وجعلها معصومة عصمةً مطلقةً بإذن الله. إذن، ليست المسألة مسألة غير ممكنة، ومصادمة مع العقل، ولا يصدّقها العقل، بل إذا صدّق العقل السيطرة على الماديات، صدّق العقل السيطرة على النفس التي هي تحت إرادة الإنسان، وتحت اختيار الإنسان، وتحت قبضة الإنسان، سيطر عليها بطريق أولى، وبطريق أهون.

قد يقال بأنَّ هناك فرقًا بين العصمة في الأمور التبليغية، والعصمة في الأمور الخارجية، ولكننا نقول: النبي معصومٌ عصمةً مطلقةً، فإذا سيطر هنا سيطر هناك، ما هو الفرق؟! إذا سيطر على نفسه في القضايا التبليغية، فهو مسيطرٌ على نفسه في القضايا الشخصية، العصمة سيطرةٌ على النفس نتيجة العلم، لأنه يعلم بعواقب المعاصي، ويعلم بنتائج الطاعات، يسيطر على نفسه سيطرةً تامةً وباختياره، وليس مجبورًا على ذلك، إذ لو كان المعصوم مجبورًا لم يكن له ثواب، ولم يكن له فضل على غيره، فالمعصوم باختياره وبإرادته يسيطر على نفسه سيطرةً تامةً، وهذه السيطرة التامة تمنعه عن الغفلة أو الخطأ أو النسيان أو المعصية. ولذلك، القرآن الكريم يقول: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، أي: سنعطيك علمًا، ونتيجة العلم أنك تسيطر على نفسك فلا تنسى بعد ذلك، نتيجة العلم تحصل لك السيطرة على ذلك كله.

إذن، القول بالعصمة المطلقة ليس قولًا مصادمًا مع العقل، وليس قولًا منافيًا للعقل، وسوف أركّز هذا الموضوع وأشبعه في الليالي الآتية، الوقت لا يسع إلى ذلك. إذن فبالنتيجة: نحن نرى أنَّ أفعال أهل البيت الذين تحدّث عنهم القرآن بقوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، أفعالٌ مطابقةٌ للواقع، ليس فيها خطأ أو سهو أو نسيان، كلها خاضعة للإرادة الإلهية، ”إذا شئنا شاء الله، ولا نشاء إلا أن يشاء الله“، ”فاطمة بضعة مني، يرضى الله لرضاها“ لأنها مسيطرة على نفسها سيطرةً تامةً ”ويغضب لغضبها“.

ولذلك، أفعال أهل البيت ربما تكون مستوحشةً، ربما تكون مستنكرةً في البداية، ولكن بمرور الوقت تتضح أهدافها ومغازيها ومعالمها، ليعرف الإنسان أنهم ما كانوا يخطئون حتى في ممارساتهم وأفعالهم الشخصية. الإمام الحسين عندما عزم على الثورة اُسْتُنْكِر عليه: كيف تقابل جيشًا كاملًا بمئة رجل أو بمئة وعشرين رجلًا أو بسبعين رجلًا؟! ما هذا التصرف؟! جيش أقل عدده ثلاثون ألفًا، هذا أقل الروايات، وأنت تقابل ثلاثين ألفًا بمئة رجل؟! ما هذا التصرف؟! حتى جاء إليه بعض أصحابه يوبّخه، قال له: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ.

أخوه محمد بن الحنفية استغرب من عزمه على الخروج، ومن أخذه النساء معه. أنت ذاهب إلى معركة، وتعلم أن المعركة نتيجتها القتل، المعركة لن تكون في صالحك عسكريًا قطعًا، المعركة تصفية عسكرية معروفة، أنت تعرف أن المعركة محسومة عسكريًا، هذه المعركة تصفية، عملية استشهادية، فلماذا تأخذ النساء معك؟! دع النساء في المدينة، وأنت قم بالعملية الاستشهادية، إصرارك على أخذ النساء لماذا؟! إذن، كانوا يستنكرون ويستغربون إصرار الإمام على أن يخرج، وعلى أن يأخذ النساء معه، وهو القائل: ”شاء الله أن يراني قتيلًا، وأن يرى النساء سبايا“.

هذا التصرف أنا لست مخطئًا فيه ولا غافلًا وناسيًا ولا ساهيًا، بل درسته جيدًا، هذا التصرف صحيح مئة بالمئة، ستعرفون عواقبه بعد ذلك. وفعلًا، أقدم على المعركة، وخاضعها إلى أن اُسْتُشْهِد، فوقفت النساء لتمثيل الوسيلة الإعلامية للمعركة، لولا النساء لانطفأت المعركة وخمدت، المعركة بقيت مستعرةً، بقيت مشتعلةً، لكن لا على يد الحسين، بل بقيت مشتعلةً على صوت زينب، وعلى لسان زينب، وبين شفتي زينب بنت الإمام أمير المؤمنين، لولا زينب لما عرفنا أن الحسين قُتِل، ولما عرفنا عن المعركة شيئًا، هي كانت الوسيلة الإعلامية لحركة الحسين، ولثورة الحسين.

وبقيت هذه المرأة بكل حزم تتحدى الأعاصير، وتتحدى سلاطين زمانها، تتحدى يزيد وابن زياد، وتلقي الخطب التي كانت تحفّز الناس، وتوقظهم، وتحرّك ضمائهم، لكي يتعاطفوا مع الحسين، ومع حركة الحسين . لما قرأ التاريخ دورَ زينب، ولما قرأ التاريخ أثرَ شهادة الحسين على أبطال التاريخ، وعلى الحركات التي كانت تواجه الأمويين والعباسيين، عرف أنَّ الحسين ما كان مخطئًا، وعرف أن زينب ما كانت مخطئة، وعرف أن العمل صدر من أهله، ووقع في محلّه، ووقع في موقعه.

هذه المرأة العظيمة البطلة التي مثّلت أباها أمير المؤمنين، ومثّله أمها فاطمة الزهراء «سلام الله عليهما» في الجرأة، وفي الشجاعة، وفي بلاغة المنطق، وفي كيفية إثارة الجماهير، وتحريكهم نحو قضية الحسين ، ووقفت في كل المواقف. قال لها ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم، وكذّب أحدوثتكم، ونصر أمير المؤمنين عليكم! قالت: ”الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه ، وأذهب عنا الرجس، وطهّرنا تطهيرًا، وإنما يفتضح الفاسق، ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا“، قال: كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ والعتاة المردة من أهل بيتكِ؟ قالت: ”ما رأيتُ إلا جميلًا، هؤلاء قوم كُتِب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم يوم القيامة، فتحاج وتخاصَم، فانظر لمن الفلج يومئذ“.