بين أخلاق الموت وأخلاق الحياة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

صدق الله العلي العظيم

ذكرنا سابقًا أنَّ الأخلاق نزعةٌ فطريةٌ أصيلةٌ عند الإنسان، ولكن هناك ثلاثة أسئلة تتبادر إلى أذهاننا:

  • هل المطلوب أخلاق الموت أم أخلاق الحياة؟
  • ما هو الدافع الواقعي الذي يحرّك الإنسان نحو الخُلُق؟
  • بماذا يتميّز خُلُق المؤمن المتديّن عن غيره من أبناء المجتمع؟
السؤال الأول: هل المطلوب أخلاق الموت أم أخلاق الحياة؟

ربما يستغرب الإنسان هذا السؤال، ويقول: وهل للموت أخلاق يختلف بها عن أخلاق الحياة؟! من أجل أن نجيب عن هذا السؤال نطرح سؤالًا آخر: الخُلُق من أين يكتسب قيمته؟ متى يكون الخلق ذا قيمة؟ مثلًا: التواضع خلق من الأخلاق، فمن أين يكتسب التواضع قيمته؟ من أي شيء يكتسب التواضع أهميته؟ هنا أمامنا نظريتان:

النظرية الأولى: الخلق يكتسب قيمته من خلال قهر النفس وإذلالها.

التواضع متى يصبح خلقًا رفيعًا؟ لأن الإنسان بالتواضع يدرّب نفسه على أن تخضع للآخرين، يعلّم نفسه على أن تحترم الآخرين، فالتواضع يستبطن محاولةً من الإنسان لقهر نفسه، ولإذلال نفسه، وللسيطرة على نفسه، المتواضع هو الذي يسيطر على نفسه فيخضعها للآخرين، ويجعلها تكرّم الآخرين وتحترم الناس. إذن، التواضع اكتسب قيمته من خلال السيطرة على النفس، ومن خلال قهر النفس.

مثال آخر: الحلم من الأخلاق، إنما صار الحلم خلقًا لأن الحليم هو الذي يسيطر على أعصابه، هو الذي يسيطر على انفعالاته، هو الذي يقهر نفسه أن تتناسى الآلام، وتصبح نفسًا ودودًا حنونًا على الآخرين، فالحلم يكتسب قيمته من خلال تطويع النفس. وهكذا غيرهما من الأخلاق، فالخلق يكتسب قيمته لأن الخلق عبارة عن السيطرة على النفس وإذلالها.

النظرية الأخرى: قيمة الخلق في فاعليته الاجتماعية.

ليست أهمية الخلق في قسر النفس، ليست أهمية الخلق في إذلال النفس، بل أهمية الخلق في فاعليته في المجتمع، الخلق إنما يصبح خلقًا لأنه يحوّل الحياة الاجتماعية إلى حياة مترابطة، إلى حياة متآخية، إلى حياة حميمة، ومن هنا يكتسب الخلق أهميته، لا من خلال قسر النفس وإذلالها، فمثلًا: لماذا نعتبر الأمانة خلقًا؟ لا لأن الأمين يضغط على نفسه، ولا لأن الأمين يقسر نفسه، بل لأن الأمين إذا تحلى بخلق الأمانة حوّل العلاقة بينه وبين غيره إلى علاقة ثقة متبادلة، غيره يثق به وهو يثق بغيره، الأمانة أصبحت خلقًا لأنها عنصر يحوّل العلاقة إلى علاقة وثاقة.

كذلك بالنسبة للتواضع، لماذا أصبح التواضع خلقًا؟ لا لأنه قسر للنفس، لا لأنه إذلال للنفس، بل أصبح خلقًا لأن المتواضع يحوّل العلاقة بينه وبين غيره إلى علاقة حميمة، إلى علاقة أخوية، إلى علاقة حب، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.

لماذا أصبح الحلم خلقًا؟ لا لأنه ضغط على النفس وقسر للنفس، بل لأن الحليم يكتسب الآخر، لأن الحليم يجذب الآخر، لأن الحليم يحوّل الآخر إلى أخ ودود، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. إذن، الخلق يكتسب أهميته لا من عامل داخلي، وهو قسر النفس، بل من عامل خارجي، وهو تحويل العلاقة الاجتماعية إلى علاقة أخوية حميمة.

إذن، عندنا نظريتان، وربما يتساءل إنسان ويقول: ما هي الثمرة في هذا البحث؟ لماذا يقول البعض: الخلق هو قسر النفس، والبعض يقول: الخلق عنصر يحوّل الحياة الاجتماعية إلى حياة أخوية؟ ما ثمرة هذا البحث؟ ثمرة هذا البحث تظهر في عدة موارد، أذكر موردًا منها: هل الزهد خلق؟ الزهد في الدنيا، الإعراض عن الدنيا، هل هذا فضيلة وخلق أم لا؟ أصحاب النظرية الأولى يقولون: الزهد في حد ذاته فضيلة وخلق؛ لأنَّ الزاهد يضغط على نفسه، يقسر نفسه، يبعدها عن اللذات، يبعدها عن الشهوات، يبعدها عن التعلق بالدنيا، إذن الزهد فضيلة وخلق عظيم؛ لأنه مظهر لإذلال النفس وللسيطرة على النفس، فإذن هو خلق.

لكن صاحب النظرية الأخرى يقول: ليس الزهد دائمًا فضيلة، بل قد يكون الزهد عيبًا وعارًا، الزهد بمعنى الإعراض عن الدنيا ليس دائمًا فضيلة وليس دائمًا خلقًا، لأن المطلوب من الزهد أن يحوّل العلاقة الاجتماعية إلى علاقة فاضلة، فإذا لم يكن كذلك فليس فضيلة.

جاء الحارث بن زياد إلى الإمام أمير المؤمنين وقال له: إنَّ أخي عاصمًا لبس المسوح وهجر الدنيا، فذهب الإمام عليٌ إلى عاصم بن زياد، قال: ”يا عاص، لقد استهان بك الخبيث - أي: أثّر عليك الشيطان - أتظن أن الذي وهبك النعمة يكره أن يرى أثرها عليك؟!“. الله وهبك النعمة، وهبك الثروة، وهبك المال، كيف يهبك شيئًا وهو يكره أن يرى أثرها عليك؟! ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وقال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، فالتفت عاصم إلى الإمام علي ليحتج عليه، قال: ها أنت سيد في خشونة ملبسك وجشوبة مطعمك! طعامك جشب ولباسك خشن، فلماذا تعترض عليَّ وأنت هكذا؟! كيف تنهاني عن الزهد وأنت زاهد؟! قال له أمير المؤمنين: ”أنا لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يساووا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره“.

الإمام أمير المؤمنين يقول: الزهد ليس فضيلةً مطلقًا، بل فضيلةٌ في إطار خاص، فضيلةٌ في ظرف خاص، وهو: إذا كان الزهد يعالج العلاقة الاجتماعية، أنا أصبح زاهدًا لأن الفقراء إذا رأوا إمامهم معرضًا عن الدنيا تحمّلوا آلام الفقر، تحمّلوا معاناة الحياة، أما إذا رأى الفقراء إمامهم مترفعًا عليهم تبيّغ بهم الفقر، أي: بعث فيهم روح النقمة، وروح الضغينة، وروح الحقد على المجتمع، فأنا من أجل أن أعالج هذه المشكلة الاجتماعية أتلبس بالزهد. إذن، الزهد ليس هدفًا، وإنما هو وسيلةٌ، الزهد ليس فضيلةً في حد ذاته، وإنما هو فضيلةٌ إذا كان عنصرًا فاعلًا في بعث الحياة الاجتماعية المتآخية.

ما هو الصحيح من النظريتين: هل الخلق يكون خلقًا رفيعًا بقسر النفس، أم أن الخلق يكون خلقًا رفيعًا بفاعليته في المجتمع؟

أصحاب النظرية الأولى - ولعلك ترى هذا في كتاب جامع السعادات للشيخ النراقي «عليه الرحمة» - أن الخلق في السيطرة على النفس؛ لأنَّه ورد في الأحاديث الشريفة حثّ الإنسان على قسر نفسه وقهرها، فقد ورد عن الرسول محمد : ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه“، وورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”وإنما هي نفسي أروّضها بالتقوى“، إذن الخلق يعني قسر النفس.

بينما أصحاب النظرية الثانية يقولون: لو كان الخلق هو قسر النفس فهذا خلق الموت وليس خلق الحياة، هناك فرق بين خلق الموت وخلق الحياة، أخلاق الموت هي أن تقسر نفسك، وأن تذلها، وأن تقهرها، بينما أخلاق الحياة هي أن تربّي نفسك على أن تحوّل هذا المجتمع إلى مجتمع سعيد، إلى مجتمع متآخٍ، إلى مجتمع مترابط، إلى مجتمع متحابب، فهناك فرق بين أخلاق الموت وأخلاق الحياة.

أولًا: القرآن والسنة لم يذكرا قسر النفس كهدف، وإنما قسر النفس مجرد وسيلة للكف عن المعاصي، للكف عن الرذائل، وإلا فقسر النفس ليس هدفًا في حد ذاته، بينما نرى القرآن الكريم يطرح العلاقة الاجتماعية الحميمة هدفًا من الأهداف: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، ليكون مجتمعًا مترابطًا متحاببًا. القرآن ركّز على العلاقة الاجتماعية الأخوية كهدف، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، العلاقة الاجتماعية هدفٌ من أهداف الخلق، هدفٌ من أهداف السماء، فإذن ميزان الخلق وقيمة الخلق بأن يساهم في خلق الحياة الاجتماعية المتآخية.

ثانيًا: إذا كان الله «تبارك وتعالى» خلق النفس، وخلق الشهوات، وخلق الغرائز، وخلق الميول، فكيف يكون الهدف هو كسر الشهوات، وكسر الغرائز، وسحق الميول؟! إذن خلقها يكون لغوًا. إذا كان الهدف قسر الميول، وقسر الشهوات، وسحق الغرائز فخلقها يكون لغوًا، السيطرة على الغرائز مجرد وسيلة للكف عن الرذائل، وأما الهدف المنشود من الخلق فهو أن تحوّل هذه الحياة المشحونة بالبغضاء وبالحزازات إلى حياة متآخية.

حتى أكبر عبادة وأهم عبادة - وهي الصلاة - الإسلام يراعي فيها مسألة النفس، فقد ورد عن الرسول محمد : ”للقلوب إقبال وإدبار، فإذا أقبلت فاحملوها على الفرائض والنوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض“، لماذا؟ إذا كان المطلوب هو سحق النفس، إذا كان الهدف هو قسر النفس، إذن على الإنسان أن يصلي وإن كانت نفسه كارهةً للصلاة. هناك فرق بين الصلاة الواجبة والصلاة المستحبة، في الصلاة الواجبة على الإنسان أن يصلي على كل حال؛ لإسقاط العقوبة، وأما الصلاة المستحبة فلو كان الهدف قسر النفس، لكان المطلوب أن تصلي النافلة على كل حال، ولو كانت نفسك كارهة، ولو كانت نفسك لا تتفاعل، ولا تتجاوب، ولا تتناغم مع النافلة أصلًا، لأن المطلوب قسر النفس، فصلِ النافلة على كل حال.

الرسول الأعظم يقول: إذا صليت النافلة حصلت على الثواب، هذا لا إشكال فيه، ولكن إنما شُرِّعت النافلة لتكون لقاءً نفسيًا مع الله «تبارك وتعالى»، لتكون لقاء قلبيًا مع الله «تبارك وتعالى»، فإذا كانت نفسك معرضةً وكارهةً فاقتصر بها على الفرائض، لا يعني هذا أن الإنسان يتراجع عن النافلة، يقول: والله أنا طوال الوقت نفسي كارهة فلا أصلي النافلة! لا، هذا يعني أنك تبعث في نفسك أسباب القرب من الله عز وجل، عالج نفسك، لماذا نفسي ترفض النافلة؟ لماذا نفسي ترفض الصلاة؟ لماذا نفسي ترفض التعبد إلى الله؟ حاول أن تعالج نفسك بحيث تصبح النافلة صلاةً تقرّبك إلى الله، صلاةً تكون لقاءً نفسيًا قلبيًا بينك وبين الله، حاول أن تعالج نفسك لتكون النافلة صلاةً ذات أثر اجتماعي.

الإمام الحسن الزكي يقول: ”ما رأيتُ أعبد من أمي فاطمة، كانت إذا قامت إلى صلاتها لا تنفتل حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها، وما رأيتها دعت لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات، أقول لها: أماه فاطمة، لم لا تدعين لنفسك؟ فتقول: بني حسن، الجار ثم الدار“. نافلة فاطمة صلاةٌ اجتماعيةٌ، نافلة فاطمة ضميرٌ اجتماعيٌ، فاطمة حوّلت النافلة إلى عطاء اجتماعي، فاطمة حوّلت النافلة إلى ضمير اجتماعي، لا تدعو لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات، لتكن نافلتك نافلة فاطمة.

أمير المؤمنين عليٌ يصلي النافلة، فيمر عليه الفقير، فيمد إليه إصبعه وهو راكع، فيأخذ الفقير منه خاتمه ليشتري بثمنه طعامًا له، وبذلك نزلت الآية المباركة: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.

الإمام الحسن الزكي الذي حوّل الخُلُق إلى عنصر فاعل في الحياة الاجتماعية، تجلت في شخصيته أخلاق الحياة لا أخلاق الموت، الإمام الحسن الزكي جاء إليه رجلٌ يسأله الحاجة، طرق الباب، وقال:

لم  يخب  الآن  من  iiرجاك
أنت   جوادٌ   وأنت   iiمعتمدٌ
لولا  الذي  كان من iiأوائلكم

 
ومن حرّك دون بابك الحلقة
أبوك   كان   قاتلَ  iiالسفقة
كانت علينا السماء iiمنطبقة

الإمام الحسن أخرج إليه صرة الدراهم والدنانير من وراء الباب، قال: أنا لا أريد أن أرى ذل السؤال على وجهه.

خذها    فإني   إليك   iiمعتذرٌ
لو كان في سيرنا الغداة عصا
لكن  ريب  الزمان  ذو  iiغيرٍ

 
واعلم  بأني  عليك ذو iiشفقة
كانت   سمانا  عليك  مندفقة
والكف   مني   قليلة   النفقة
السؤال الثاني: ما هو الدافع نحو الخلق؟

نحن نحتاج إلى الأخلاق، نحن نحتاج إلى أن نتحلى بالأخلاق، ولكن ما هو الدافع الذي يدفعنا إلى أن نصبح متخلّقين؟ ما هو الدافع الذي يدفعنا إلى أن نتحلى بالأخلاق الفاضلة؟ ما هو الدافع؟ هنا مدارس ثلاث أتعرض إليها سريعًا:

المدرسة الأولى: المدرسة البرجوماتية.

وهي التي ترى أن الدافع نحو الخلق هو اكتساب السمعة الحسنة، فمثلًا: لماذا أحسن إلى الآخرين بالمال، أو بالخدمة، أو بقضاء الحاجة؟ الدافع نحو الإحسان إلى الآخرين هو أن أكتسب سمعةً حسنةً بين أبناء المجتمع. ولذلك، تلاحظ في الأدبيات والحكم العربية تركيز على هذه المدرسة، كما في قول الشاعر:

فإنما   المرء  حديثٌ  iiبعده   فكن حديثًا حسنًا لمن روى

وقال شاعر آخر:

أيا والي المصر لا iiتظلمن
تواضع  إذا ما رزقت العلا
  فكم جاء مثلك ثم انصرف
فذلك  مما  يزيد  iiالشرف

المدرسة الثانية: المدرسة السماوية.

وهي المدرسة التي اشتركت فيها الأديان كلها: المسيحية واليهودية والإسلام، الدافع نحو الخلق هو طلب الجزاء الأخروي، طلب الثواب من الله عز وجل، لماذا أحسن إلى الآخرين؟ طلبًا للثواب. لماذا أتواضع للآخرين؟ طلبًا للثواب. لماذا أكرم الآخرين؟ طلبًا للثواب. الدافع نحو الخلق هو طلب الثواب، وهناك بعض الآيات القرآنية التي تشير إلى هذه المدرسة - مدرسة الجزاء التي تقول بأن الدافع نحو الخلق هو طلب الجزاء - كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وغيرها من الآيات.

المدرسة الثالثة: المدرسة العرفانية.

هذه المدرسة تطرح دافعًا آخر نحو الخلق والتحلي بالقيم، وهنا أذكر لك أمرين:

الأمر الأول: إذا تأمّل الإنسان، يجد أن المِلك على قسمين: مِلك ظاهري، ومِلك واقعي. الملك الظاهري هو ملكيتي لنفسي، أنا أرى بوجداني أنني أملك نفسي، وأملك تصرفاتي، فنفسي وتصرفاتي تحت إرادتي، تحت مشيئتي، تحت اختياري، إذن أنا أملك نفسي، وأملك تصرفاتي، هذا مجرد ملك ظاهري. الملك الواقعي أن المالك الحقيقي لنفسي وتصرفاتي وأنفاسي وجميع أنحاء الوجود هو الله «تبارك وتعالى»؛ لأنَّني أشعر بوجداني أنني في كل لحظة أحتاج إلى المدد، أحتاج إلى مدد الوجود، أنا أشعر في كل لحظة أنني محتاج حاجة ذاتية إلى المدد، إلى العطاء، نفسي تحتاج إلى وجود، تصرفاتي تحتاج إلى مدد، سلوكي يحتاج إلى مدد، طاقاتي من علم وقدرة وحياة تحتاج إلى مدد، فأنا في كل لحظة أحتاج إلى المدد من المفيض، مفيض الوجود «تبارك وتعالى».

إذن، المالك الحقيقي هو ذاك الذي يمدني بالوجود وبالطاقة في كل لحظة، ﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، هو مصدر الخلق، هو مصدر العطاء. القرآن الكريم يقول: ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، القرآن الكريم يقول: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، إذن لا يوجد شيء ملكي، جميع الكون - ومنه نفسي - هو ملكٌ لله «تبارك وتعالى»، فالملك الواقعي لله.

الأمر الثاني: إذا كنت لا أملك شيئًا، لا أملك نفسي، ولا أملك تصرفاتي، ولا أملك ما عندي، فأنا عندما أحسن إلى الفقير، وعندما أحسن إلى صديقي، فأنا لست متفضلًا عليه، لو قضيت حاجة مؤمن، أو أحسنت إلى الفقير، فإنني لست متفضلًا عليه؛ لأنني لم أملك شيئًا من ملكي حتى أكون متفضلًا، بل ما ملكته هو ملكٌ لله «تبارك وتعالى»، لم أعط شيئًا من عندي، لم أبذل شيئًا من ملكي، بل جميع أنواع الإحسان هي ملك لله، فأنا ما بذلت شيئًا من ملكي حتى أكون متفضلًا، وحتى أكون متعاليًا، بل كل ما بذلته ملك لله، بذلته لمن هو ملكٌ لله، أحسنت إلى الفقير، الإحسان ملك لله، بُذِل لمن هو ملكٌ لله، فإذن سلوكي كله يرجع لله «تبارك وتعالى».

وهذا ما يعبّر عنه العرفاء بالتوحيد، المنطلق في الخلق هو التوحيد، الدافع نحو الخلق هو التوحيد، المحرّك نحو الخلق هو أن تعتقد أنك ملكٌ لله، وإحسانك ملكٌ لله، وكرمك ملكٌ لله، فأنت تبذل ملك الله لمن هو ملكٌ لله عز وجل، وهذا هو الدافع الحقيقي العرفاني نحو الخلق، وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم في عدة آيات، كقوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أي: نحن نصبر لا لأجل اكتساب السمعة كما تراه المدرسة البرجوماتية، ولا لأجل أن نحصل على الجزاء الأخروي كما تراه المدرسة السماوية، بل نحن نصبر لأننا ملكٌ لله عز وجل، فالقرآن يركّز على هذا الدافع العرفاني نحو الخلق.

لاحظ ما ورد في حق الأئمة الأطهار «صلوات الله وسلامه عليهم»: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، هذا الإحسان ملكٌ لله وإلى الله عز وجل، لا نطلب جزاءً، لا نطلب سمعةً.

السؤال الثالث: ما هو الخلق المتدين؟ بماذا يمتاز المتدين عن غيره؟

مع الأسف الشديد، هناك ظاهرةٌ منعكسةٌ في أذهان كثير من الناس، وهي أنَّ المتدين إنسانٌ منعزلٌ عن الحياة، المتدين هو الذي يربّي اللحية، ويحمل السبحة، ولا يخالط إلا جماعة من الناس، ولا يختلط إلا بمجموعة صغيرة من الناس، وهي المجموعة المتدينة، وهي المجموعة التي تجانسه في أنها تذهب معه إلى المسجد، وتزور معه العلماء، وتحضر معه الدروس الدينية، هذا هو المتدين! المتدين متوقعٌ في أفق ضيق، المتدين محصورٌ في جماعة معينة، المتدين إنسانٌ غير منفتح، إنسانٌ غير معطاء، إنسانٌ غير فعّال، المتدين هو الذي إذا رأى إنسانًا فاسقًا، أو إنسانًا عاصيًا، نظر إليه بنظرة شزر، ونظر إليه بنظرة تحقير، ونظرة ضغينة؛ لأنّه فاسقٌ عاصٍ، فلا بد أن ينظر إليه هذه النظرة، ليحسّسه أنه بعيدٌ عنه، وأن أفقه غير أفقه.

هذه الصورة المنعكسة على المتدين، وهي صورة خاطئة، كما ذكرنا في أول المحاضرة: المطلوب أخلاق الحياة، وليس المطلوب أخلاق الموت. أخلاق الحياة هي التي يتسم بها المتدين، المتدين هو الذي يكون شعارًا للحياة، شعارًا للعلاقات الاجتماعية الحميمة، رمزًا للعلاقات الأخوية المتينة، هذا هو المتدين. أهم صفة يجب أن يتصف بها المؤمن المتدين صفة الجذب، أنه شخصية جذّابة، المتدين عنصرٌ جذّابٌ، شخصيةٌ جذّابةٌ، تجذب الآخرين إليه وإلى دينه وإلى مساره، فكيف يكون المتدين إنسانًا جذّابًا؟ من خلال عناصر ثلاثة:

العنصر الأول: الجذب المادي.

المتدين لباسه لباس نظيف، شكله شكل جميل، مظهره مظهر أنيق. المتدين هو الذي يجذب الآخرين ولو من خلال شكله، ولو من خلال أناقة مظهره. الإمام الحسن الزكي يذكر المؤرخون عنه: كان عليه سيماء الأنبياء، وبهاء الملوك. أي: كانت عليه هيبةٌ إلهيةٌ، وكان مظهره أيضًا مظهرًا جذّابًا. الإمام الحسن الزكي كان جذّابًا، كما هو جذّابٌ بسلوكه، فهو جذّابٌ بمظهره. القرآن الكريم يقول: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، إذا أردت أن تلتقي بالناس، فتزيّن، فتجمّل، فليكن مظهرك أنيقًا جذّابًا.

الإمام الصادق كان يطوف حول الكعبة وهو يلبس لباسًا جميلًا، وكان هناك شخص من المتصوفة أراد أن يجرحه، فأمسك بثوبه وجرّه، وقال: يا جعفر، كان جدك علي بن أبي طالب يلبس الثوب المرقّع، والنعل المخصف، وأنت تلبس القهوي المروي؟! التفت إليه الإمام الصادق ، قال: ”لقد كان جدي في زمان بؤسٍ وفقرٍ، فواسى أهل زمانه، وإذا حسنت أحوال الزمان فأبراره أولى به من فجّاره“. إذن، عنصر الجذب المادي عنصر ضروري للشخصية المتدينة.

العنصر الثاني: عنصر الجذب السلوكي.

المتدين هو أكثر الناس علاقات وصداقات، أكثر الناس أصدقاء هو الإنسان المتدين، هو الذي يخلق ويصنع الصداقات والعلاقات أينما ذهب، وأينما وقع، وأينما رحل، يخلق له صداقات وعلاقات، فقد ورد عن الرسول محمد : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا، الموطّؤون أكنافًا، الذي يألفون ويؤلفون“، المؤمن سريعًا ما يأتلف مع غيره، وسريعًا ما يأتلف معه غيرُه، إذ لا يرى غيرُه فيه حقدًا ولا ضغينةً ولا تعاليًا ولا أنفةً، فيألف ويؤلف.

العنصر الثالث: عنصر الانفتاح.

المؤمن المتدين ليس منغلقًا على المسجد والمحراب والسبحة والجماعة المؤمنة فقط، بل المؤمن المتدين هو المنفتح على الآخرين، بمختلف مشاربهم، بمختلف أفكارهم، بمختلف مذاهبهم، بمختلف طرقهم، المؤمن المتدين هو الإنسان المنفتح الذي يجذب الآخرين من خلال انفتاحه، ومن خلال طلاقة وجهه، ومن خلال دماثة خلقه، هذا هو الإنسان المتدين.

نعم، ربما يكون هناك إنسان عاصٍ متجاهرٌ بالمعصية، ولا طريق لعلاجه إلا بالاكفهرار في وجهه؛ لأن الاكفهرار في وجهه يردعه عن المعصية. هنا، إذا كان الاكفهرار طريقًا لردعه عن المعصية فهو مطلوبٌ، وأما إذا كان الاكفهرار في وجه العاصي يُبْعِده عن حظيرة الإيمان أكثر، ويجعله في حالة ردة فعل، فليس الاكفهرار مطلوبًا، بل المطلوب هو الانفتاح، انفتح عليه ولو كان فاسقًا، انفتح عليه ولو كان عاصيًا، ابتسم له، تعامل معه بالخُلُق الرفيع، كي تجذبه إلى الدين، وإلى الالتزام، وإلى مذهبك ودينك، فقد ورد عن الإمام الصادق : ”كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم“، وورد عن النبي محمد : ”إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم“، وورد عنه : ”الدين المعاملة“.

ليس الدين مجرد الصلاة والصوم والخمس والزكاة والسبحة واللحية، هذه كلها مظاهر للتدين، ولكن التدين الحقيقي في حسن المعاملة، وقد ورد عن الإمام زين العابدين : ”لا تغتروا بكثرة صلاتهم، ولا بكثرة صيامهم؛ فإنَّ الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركهما استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة“.

الإمام الحسن الزكي يمثّل لنا الشخصية الجذّابة التي تجذب الآخرين بحلمه، بهدوئه، ببسمته، بتواضعه، بطلاقة وجهه. دخل رجل شامي إلى المدينة، ورأى الإمام الحسن يمشي، قال: من هذا؟ قال: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب. هذا شامي معبّأ ذهنه ضد الإمام علي، وضد أهل البيت، فبمجرد أن عرف أن هذا هو الحسن انهال سبابًا وشتمًا على الإمام أمير المؤمنين ، وقد كان بإمكان الإمام الحسن أن يرد عليه بالمثل، وكان بإمكانه أن يسكت عنه، ولكن لم يتخذ لا الرد بالمثل ولا السكوت، وإنما أقبل عليه يبتسم متواضعًا طلقًا بلسان طلق ذلق وهو يقول: ”يا هذا، أظنك غريبًا، ولعلك اشتبهت فينا، فإن كنتَ جائعًا أشبعناك، وإن كنتَ طريدًا آويناك، وإن كنتَ ظمآن أرويناك، فهلّا حولت رحلك إلينا، ونزلتَ ضيفًا علينا؛ فإن لنا منزلًا رحبًا، وجاهًا عريضًا، ومالًا وفيرًا“، فما تمالك الرجل حتى انكب عليه يقبّله، وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.

هؤلاء هم أهل البيت، هذه هي الشخصية الجذّابة التي تحوّل العدو إلى صديق، والمشحون إلى محب، والحاقد إلى إنسان ودود. الحسن الزكي أقبل إليه رجلٌ يسأله الحاجة، قال: أعطوه ما في الخزانة، قال: سيدي، هلّا انتظرتَ مسألي وعرفتَ حاجتي؟! قال:

نحن   أناس   نوالنا   iiخضلُ
نجود   قبل   السؤال   أنفسنا
لو  علم  البحر  فضل  iiنائلنا

 
يرتع   فيه   الرجاءُ   iiوالأملُ
خوفًا على ماء وجه من يسلُ
لغاظ    جذبًا    وإنه    iiخجلُ