تجلي الوحي والرحمة في شخصية الإمام زين العابدين

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

صدق الله العلي العظيم

من أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا: الإمام زين العابدين وسيد الساجدين ، وحديثنا عن شخصية الإمام زين العابدين في أبرز مظهرين من مظاهر شخصيته، وهما: مظهر الوحي، ومظهر الرحمة.

المظهر الأول: مظهر الوحي.

كيف يكون الوحي مظهرًا من مظاهر شخصية الإمام زين العابدين ؟ من أجل بيان هذا المظهر، أتعرض إلى أمرين:

الأمر الأول: أقسام الوحي.

الوحي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الوحي الإلهامي، والوحي الحسّي، والوحي الملكوتي، وهذه الأقسام الثلاثة مستفادةٌ من قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ.

القسم الأول: الوحي الإلهامي.

﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أي: إلا إلهامًا، وهذا ما ذكره القرآن الكريم في قوله: ﴿وأوحينا إلى أم موسى فأرضعيه.. في اليم، الوحي إلى أم موسى كان إلهامًا لقلبها، كان إلقاءً في قلبها وفي روعها، وهذا هو القسم الأول من الوحي، ومن الممكن أن يحصل لأي بشر، سواء كان من الأنبياء، أو من الأولياء، أو لم يكن لا من الأنبياء ولا من الأولياء.

القسم الثاني: الوحي الحسي.

المقصود بالوحي الحسي: أن يسمع الإنسان صوت السماء بأذنه وبحسه، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، بمعنى أن الله «تبارك وتعالى» يخلق صوتًا في جماد من الجمادات، فيسمعه هذا الإنسان، كما سمع موسى بن عمران «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» صوتَ الوحي من خلال الشجرة، وكما أن الإمام الحسين - كما في بعض الروايات - لما كان قاصدًا إلى كربلاء قال: ”إني سمعتُ هاتفًا يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير من ورائهم“. وهذا القسم هو الذي خوطبت به مريم بنت عمران: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، كلام الملائكة مع مريم كان وحيًا حسيًا، أي: كان هاتفًا سماويًا تلقته مريم بإحساسها وبسمعها.

القسم الثالث: الوحي الملكوتي.

أرقى درجات الوحي هو الاتصال بعالم الملكوت. الإنسان من عالم الملك، ولكنه إذا صار نبيًا صار مؤهّلًا لأن يتلقى الوحي، أي: صار مؤهّلًا لأن يتصل بعالم الملكوت، فهذا النبي محمدٌ ينكشف لبصره عالم الملكوت، فيرى هذا العالم بملائكته، بجنه، بأشباحه، بأرواحه، إذا اتصل بعالم الملكوت رأى جبرئيل على حقيقته، ورأى المعلومات السماوية على حقيقتها وعلى واقعها، الاتصال بعالم الملكوت هو اتصال الإنسان المادي بعالم ما وراء المادة اتصالَ شهودٍ ونظرٍ ومباشرةٍ، هذا الاتصال هو أرقى درجات الوحي، وهو خاصٌ بالأنبياء والرسل، وهذا ما عبّرت عنه الآية المباركة بقولها: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، عن طريق هذا الرسول ينكشف عالم الملكوت، فيتصل النبي بذلك العالم الأقدس، فتنكشف أمامه الحقائق كلها.

إذن، الوحي لا يختص بالأنبياء ولا بالرسل، بل الوحي على درجات وعلى مراتب وعلى أقسام، بعضها يشمل حتى الناس العاديين، وبعضها يشمل حتى الأولياء والأتقياء وإن لم يكونوا من صنف الأنبياء ولا من صنف الرسل، كما كانت مريم بنت عمران «عليها وعلى السيدة الزهراء وآلها أفضل الصلاة والسلام».

الأمر الثاني: كيف يتميز الوحي عن غيره؟

البشر يتكلم بكلمات مختلفة، ولكن متى يكون كلام البشر وحيًا؟ متى يكون كلام البشر كلامًا بشريًا، ومتى يكون كلامه وحيًا؟ القرآن الكريم يقول: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، كيف يتحول كلام الإنسان - وهو إنسان - إلى وحي؟ كيف يتحول كلام البشر إلى وحي؟ الوحي له خاصيتان، وله صفتان إذا انطبقتا على الكلام أصبح الكلام وحيًا.

الخاصية الأولى: الوحي يشتمل ويتضمّن وحدة النفس.

القرآن الكريم نزل على مدة ثلاث وعشرين سنة، فهل تغير نفس القرآن؟! أنت إذا قرأت القرآن من سورة الفاتحة وحتى سورة الناس، هل تجد لغات مختلفة؟ هل تجد أساليب متعددة؟ هل تجد أنفاسًا متنوعة؟ أبدًا، القرآن كله من أول آية إلى آخر آية لغة واحدة، نفس واحد، أسلوب واحد، مستوى واحد. وحدة النفس من أول كلمة وإلى آخر كلمة، ومن أول حرف وإلى آخر حرف، وحدة النفس خلال ثلاث وعشرين سنة تعني أن هذا الكلام وحيٌ من الله؛ لأنه لو كان كلامًا بشريًا لتغير.

البشر في معرض التغير، فإن الإنسان قد يتكلم بكلام قبل عشر سنين، وبعد عشر سنين يتكلم بكلام أقوى وأرقى، وقد يتكلم بكلام أقل وأدنى، فالإنسان في معرض التغير والاختلاف، تختلف أفكاره، تختلف كلماته، تختلف مستويات حديثه، وأما كلام الله فهو نفسٌ واحدٌ لا يتعدد ولا يتغير، طوال ثلاث وعشرين سنة كان نفسًا واحدًا تمامًا، فإذا أردنا أن نعرف أن الكلام وحي فلنقرأ النفس، هل النفس واحد؟

مثلًا: نحن عندما نقرأ شعر المتنبي، المتنبي أنشد هذا الشعر على أربعين سنة، إذا قرأت شعر المتنبي تجده متفاوتًا، بعض شعره أقوى من بعض، بعض شعره أعذب من بعض، لغته تختلف باختلاف السنين، أساليبه تختلف باختلاف مراحل عمره، وأما الوحي فنفسه واحد، ولغته واحدة، ولذلك فإن الصفة الأولى من صفات الوحي هي وحدة النفس، فإذا قرأت نهج البلاغة فماذا تجد؟

الإمام أمير المؤمنين تحدث بنهج البلاغة لمدة ثلاثين سنة، وجُمِعَت كلمات وسمّيت نهج البلاغة. ابن أبي الحديد يقول: وإذا تأملت نهج البلاغة وجدته نفسًا واحدًا، وأسلوبًا واحدًا، كالجسم البسيط، الذي لا تختلف أبعاضه، بل هو كالقرآن الكريم، أوله كوسطه، ووسطه كآخره. هذا يدل على أن نهج البلاغة وحيٌ، فكما أن القرآن وحي، كذلك نهج البلاغة وحي، وكما أن النبي كان يوحى إليه، كان عليٌ يوحى إليه وحيًا إلهاميًا، النبي يوحى إليه وحيًا ملكوتيًا، أرقى درجات الوحي، وعليٌ يوحى إليه وحيًا إلهاميًا، هذا الوحي ينطق على لسانه بنفس واحد.

الخاصية الثانية: الوحي له تأثير روحي.

الوحي بمجرد أن يسمعه الإنسان ينفذ إلى قلبه، من صفات الوحي أن تأثيره السحري تأثير سريع، تأثير نافذ، تأثير فعّال، وهذا ما تحدّث به القرآن عن القرآن: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، القرآن سريع التأثير، ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، القرآن تأثيره السحري بليغٌ في النفوس، فمن صفات الوحي التأثير الروحي.

وهذه الصفة تمامًا تنطبق على كلمات أهل البيت، تنطبق على روايات أهل البيت، تنطبق على خطب نهج البلاغة. إذن، إذا رأيتَ الصفة الثانية وهي تنطبق على نهج البلاغة، أدركتَ أن نهج البلاغة وحيٌ بصفتَي الوحي، فهو من جهة واحد النفس، ومن جهة أخرى ذو تأثير سحري فعّال على النفوس وعلى الأرواح، فصفات الوحي منطبقةٌ عليه.

إذن، إذا عرفنا هذا، نأتي الآن إلى الصحيفة السجادية زبور آل محمد. الصحيفة السجادية عندما نقرؤها ماذا نجد؟ الإمام عندما ناغى وناجى بكلمات الصحيفة السجادية، ما كان ذلك في سنة ولا في يوم، بل كان ذلك خلال أربعين سنة، طوال أربعين سنة كان الإمام يتحدث بهذه الأدعية التي جُمِعَت وتألّفت منها الصحيفة السجادية، فالصحيفة السجادية وحيٌ، مظهرٌ من مظاهر الوحي تجلى على لسان الإمام زين العابدين . الصحيفة السجادية عمرها أربعون سنة، لكنها نفس واحد.

اقرأ الصحيفة السجادية، دعاء أبي حمزة، مناجاة التائبين، مناجاة الراغبين، مناجاة الشاكين، اقرأ الصحيفة السجادية بتمام أدعيتها، تجدها لغةً واحدةً، أسلوبًا واحدًا، نفسًا واحدًا، يفيض رقةً، يفيض عاطفةً، يفيض حنانًا، يفيض رأفةً، يفيض حديثًا مع الروح، حديثًا مع المشاعر، حديثًا مع النفس، حديثًا مع الخواطر، أسلوب واحد، مما يكشف عن أنه مرتبةٌ من مراتب الوحي، ودرجةٌ من درجات الوحي الإلهامي الذي تدفق على لسان الإمام زين العابدين .

ومن جهة أخرى: الصحيفة السجادية لها تأثيرٌ سحريٌ غريبٌ جدًا، كل من سمع الصحيفة السجادية إماميًا كان أو غيره، مسلمًا كان أو غيره، بمجرد أن يسمع هذه الكلمات يشعر أنها تتحدث عنه، عن شخصيته، عن قلبه، عن خواطره، عن نفسه، فينجذب إليها، ويتفاعل معها، بمجرد أن يستمع إليها. إذن، الصفتان اللتان للوحي تنطبقان على الصحيفة السجادية، مما يكشف عن أنَّها وحيٌ أُفْرِغ على لسان الإمام زين العابدين .

من هنا نعرف لماذا يلقَّب أهل البيت بكلمات الله، ”السلام على كلمات الله التامات“، لماذا أهل البيت كلمات الله؟ لأن وحي الله - كلامه - تدفق على لسانهم، جرى بين شفاههم، فهم كلمات الله. عيسى بن مريم عبّر عنه القرآن بأنه كلمة الله، ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ، عيسى كلمة من كلمات الله لأن الوحي جرى على لسانه، وأهل البيت كلمات الله لأن وحيه التنزيلي والإلهامي والملكوتي جرى على ألسنتهم «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

المظهر الثاني: مظهر الرحمة.

من أجل أن نوضح هذا المظهر، أذكر أيضًا أمرين:

الأمر الأول: ما هو الفرق بين الرحمة والعطف؟

هل العطف هو الرحمة، أم أن الرحمة تختلف عن العطف؟ الرحمة تختلف عن العطف. العطف هو أن تشفق على غيرك، وأن تتألم له، هذا يسمى عطفًا، وأما الرحمة فهي أعمق من العطف، الرحمة خلقٌ أعمق وأسمى من العطف، الرحمة هي أن تشعر أنَّ غيرك جزءٌ منك، هذا أرقى من العطف، كعلاقة الأب بولده، فإنها ليست عطفًا، بل هي رحمة، الأب يعتبر ولده جزءًا منه، يعتبر ولده امتدادًا لوجوده، امتدادًا لكيانه، ولذلك يرعى ولده كما يرعى قلبه، وكما يرعى أعضاء بدنه؛ لأنه يشعر أن ولده جزءٌ منه، امتدادٌ لوجوده. إذن، علاقة الأب بالابن علاقة الرحمة، لا علاقة العطف فقط، فعلاقة الرحمة أسمى وأعمق من علاقة العطف.

من هنا، العلماء يفرّقون بين الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية، ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الرحمة الرحيمية هي عبارة عن العطف، الله «تبارك وتعالى» أغدق الوجود على جميع المخلوقات على نحو التفضّل وعلى نحو الجود والعطاء، ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.

وأما الرحمة الرحمانية فهي عناية الله بمن يعلم أنهم منه وإليه، لا أنهم مخلوقات فقط، الرحمة الرحمانية هي عنايته بمن يعلم أنهم منه وإليه، أنهم متعلقون بأنواره «تبارك وتعالى»، وهو ما عبّر عنه القرآن بقوله: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

المحسنون هم الذين انشغلوا بأنوار الله، والذين غرقوا في نور الله، ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ ولكن ﴿يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، أولئك الذين هداهم لنوره، ورآهم مشغولين ومشغوفين بأنواره، يعتني بهم لا لأنهم مخلوقاته، إنما يعتني بهم لأنهم يراهم منه وإليه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، هؤلاء رأى أنهم يحبونه فأحبهم لأنهم منه، لأنهم يحبونه، ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ. إذن، رحمته الرحمانية هي عنايته بمن يراهم أنهم منه، بمن يراهم أنهم أولياؤه، بمن يراهم أنهم مشغولون به عن جميع ما سواه «تبارك وتعالى».

الأمر الثاني: مظهرية أهل البيت للرحمة الإلهية.

أهل البيت هم مظهر الرحمة، هم مظهر الرحمة الرحمانية، الرحمة الرحمانية تجلت في أرواحهم، وتجلت في نفوسهم. أهل البيت يشعرون بأنَّ المؤمنين جزءٌ منهم، وجزءٌ من وجودهم، وهذا ما تؤكّده الروايات الشريفة، هذا الكون بأسره خُلِقَ من فيض نورهم، هذا الكون بأسره خُلِقَ من فيض وجودهم، إذن هناك علاقة وجودية، هناك علاقة كونية بين الإمام وبين جميع هذه الأنفس، ”أنفسكم في النفوس، وآثاركم في الآثار، وأرواحكم في الأرواح“ يعني هناك علاقة وجودية بين هذا الكون وبين أرواحكم «صلوات الله وسلامه عليكم»، ولأجل هذه العلاقة الوجودية يشعرون أن الخلق - وخصوًصا المؤمنين - جزءٌ منهم، جزءٌ من وجودهم، جزءٌ من فيضهم، جزءٌ من فيض نورهم.

لذلك، عنايتهم بالخلق ليست من باب العطف، بل من باب الرحمة، عنايتهم بالخلق كعناية الأب بولده، عنايتهم بالخلق كعناية الإنسان بقلبه، عنايتهم بالخلق كعناية الإنسان بنفسه، يشعرون أن الخلق منهم وإليهم، جزءٌ من وجودهم. لذلك، القرآن الكريم في تعبيره عن النبي محمد عبّر بتعبير دقيق: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أي أن هناك علاقةً وجوديةً بينكم وبينه، ولأنه من أنفسكم، ولأنه يشعر أنكم منه، جزءٌ منه ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

إذن، كما كان الرسول المصطفى رحمةً للعالمين، يشعر أن الخلق عياله، جزء منه، أبناؤه، من فيض وجوده، من فيض نوره، يغدق عليهم عنايته وحنانه، كذلك كان الأئمة من أهل البيت، وكذلك كان الإمام زين العابدين وسيد الساجدين. الإمام زين العابدين يتعامل مع الخلق كمعاملته لأبنائه، أنهم جزء منهم، أنهم جزء من فيض وجوده، ولذلك فإن الإمام زين العابدين مظاهر الرحمة تتجلى في شخصيته حتى مع أعدائه.

لما حدثت واقعة الحرة في المدينة المنورة، وثار أهل المدينة على بني أمية، وقتلوا منهم ما قتلوا، لجأت بنات مروان للإمام زين العابدين ، وعاشوا في بيت الإمام، إلى أن انتهت معركة الحرة، فقالت بنات مروان: ما لقينا من الحفاوة في بيوت آبائنا ما لقيناه من زين العابدين. كان يعاملهم كأنهن بناته؛ لأنه يشعر بالعلقة الوجودية وبين الإنسان بما هو إنسانٌ، كانت له علقةٌ وجوديةٌ مستحكمةٌ في داخله، كان يقول: ”والله لو أنَّ قاتل أبي الحسين ائتمنني على السيف الذي قتل به والدي ما خنتُه فيه“، إلى هذا المقدار، أنا أعامله - مع أنه قاتل والدي - معاملة الرحمة، أعامله معاملة العناية. الإمام زين العابدين كان يتعامل مع الكل معاملة الرحمة.

ابن شهاب الزهري يقول: رأيتُه ذات ليلةٍ وهو يحمل جرابًا، قلتُ له: سيدي، إلى أين؟ قال: إلى سفر أعددتُ له زادًا، قلتُ: أنا أحمله عنك، قال: إني لا أرفع نفسي عن حمل ما ينجّيني في سفري. بعد يوم، رأيتُه في المدينة، قلت: يا زين العابدين، قلتَ بأنك مسافر ولم تسافر؟! قال: ”ليس السفر ما ظننتَ، إنه سفر الآخرة، وزاد سفر الآخرة بذل الندى في الخير، والورع عن محارم الله“. يدور على فقراء المدينة ليلًا، يشعر أنهم إذا جاعوا فهو يجوع، وإذا ظمئوا فهو يظمأ، لا تنام عيناه وفي المدينة من يتوق إلى لقمة الخبز، يدور عليهم برحمته، بعنايته، ليسد جوعتهم، وينعشهم من فقرهم.

الإمام زين العابدين نفس دعائه، نفس صحيفته السجادية هي مظهرٌ من مظاهر رحمته، هي مظهرٌ من مظاهر عنايته بالإنسان، وعنايته بتهذيب وتطهير روح الإنسان، هي من مظاهر عنايته بهذا الإنسان بما هو إنسانٌ. ومن مظاهر رحمته، ومن مظاهر إنسانيته، ومن مظاهر تلك الطاقة الروحية التي كانت تتمثل بين جنبيه: بكاؤه ودموعه على والده الإمام الحسين بن علي، وعلى تلك الثلة المنتجبة الذين صرعوا يوم كربلاء.