نشأة الدين في خطبة الزهراء (ص)

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد عن النبي محمد أنه قال: ”فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها

من أثمن الذخائر الفاطمية التي وردت عن الزهراء خطبتها العظيمة في مسجد رسول الله نقف هنا على مقطعين من مقاطع هذه الخطبة الشريفة:

المقطع الأول:

يتحدث عن منشأ الدين، والبذرة التي دفعت بالإنسان أن يعتنق الدين، قالت : «ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيئته من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، وإظهارا لقدرته، وتنبيها على طاعته، وإعزازا لدعوته»

علماء الاجتماع منذ قرون يبحثون عن منشأ الدين، لماذا الإنسان اعتنق الدين منذ أول وجوده على وجه الكرة الأرضية، وحتى نتعرف على ذلك لابد أن نتعرف على الدين، لنعرف ما الذي دفع بالإنسان إلى أن يؤمن بالدين، أن يمتلك شعورا دينيا، الدين يختلف عن الشريعة.

الشريعة هي: الأحكام والقوانين التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الدين الذي ذكره القرآن بقول: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وقال في آية أخرى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا

الدين هو: ميول الإنسان إلى قوة خلاقة قريبة منه، قرب الأم من طفلها، قرب الأب من ولده، شعور الإنسان بأن هناك قدرة خلاقة هي أقرب إليه من أي شيء آخر، هذا الشعور هو الدين المشترك بين جميع الأديان، جميع الملل وجميع الاتجاهات الدينية والملل السماوية، هذا الشعور الديني من أين تولد لدى الإنسان؟

علماء الاجتماع يذكرون نظريات ثلاث:

النظرية الأولى: الأرواحية

يقولون بأن الإنسان منذ البداية رأى أنه يحلم في النوم، فصار يبحث عن تفسير لهذه الأحلام التي يراها في المنام، فآمن بوجود روح، إذ لولا أن له روح لما كان له أحلام يراها في المنام، فانطلق من رؤية الأحلام إلى الإيمان بوجود روح، ولما آمن بوجود روح، توسع فآمن بوجود روح كلي، هذه الروح الكلية تشمل هذا الوجود كله، وتهيمن عليه، هذه هي النظرية التي دفعت بالإنسان إلى أن يؤمن بالدين.

النظرية الثانية: الطبيعية

المقصود بهذه النظرية أن الإنسان البدائي الذي كان يعيش في الريف، مع الزرع والنبت، هذا الإنسان البدائي رأى ظواهر طبيعية تتغير، رأى حركة الأجرام السماوية، حركة الشمس، حركة القمر، تعاقب الفصول الأربعة، رأى دورة النبات كيف ينطلق من بذرة ويصبح شجرة ثم ثمرة ويعود بذرة مرة أخرى، هذه الظواهر الطبيعية بدأ الإنسان يفكر فيها، هذه الظواهر الطبيعية ما وراءها، ما الذي يجمعها، من خلال هذه الظواهر الطبيعية آمن بوجود روح كلية تحل في هذه الظواهر الطبيعية، وتسيرها وتخضعها لقوانينها.

النظرية الثالثة: العاطفية

الإنسان مجموعة من العواطف، من الميول، أقوى العواطف لدى الإنسان، التي تهيمن على شخصيته، عاطفة الخوف، وعاطفة الطموح، هو في الوقت يخاف، وفي نفس الوقت لديه طموح، عاطفة الخوف أهم شيء يقلقها لدى كل إنسان هو الخوف من الموت، كل إنسان يخاف من الموت، يخاف من النهاية، من المصير، ومن جهة أخرى لديه عاطفة الطموح، عاطفة حب البقاء، حب الخلود، ولكي يجمع الإنسان بين هاتين العاطفتين، عاطفة الخوف من الموت، وعاطفة الطموح للوجود والبقاء، بدأ الإنسان يفكر في وجود دار أخرى، تلك الدار، وذلك المكان، وذلك العالم هو الذي يضمن له البقاء، والاستمرار بعد الموت، فيشبع عاطفته الأخرى، وهي العاطفة إلى الطموح، ولا يقلقه من عاطفته الأولى، وهي عاطفة الخوف من الموت، وفق الإنسان بين منحيين لعاطفته نتيجة إيمانه بالدين، فالذي دفعه إلى الدين هو التوفيق والانسجام بين عواطفه، عاطفة الخوف، وعاطفة الطموح.

هذه النظريات الثلاثة: النظرية الأرواحية، النظرية الطبيعية، النظرية العاطفية، ذكرها جملة من فلاسفة علم الاجتماع لبيان منشأ علاقة الإنسان بالدين، لكن هذه النظريات الثلاث في الفلسفة الإسلامية هي نظريات غير صحيحة لجهتين:

الجهة الأولى:

أن هذه النظريات لا تفسر لنا الشعور الديني، فهي تتحدث عن أمور أخرى، نحن نتحدث عن الشعور الديني، وهو ميول الإنسان لقوة خلاقة فريبة منه، قرب الأم لطفلها، وهذه النظريات لا تفسر لنا هذا القرب، كل النظريات التي تعرضنا لها لا تفسر لنا كيف يؤمن الإنسان بقوة قريبة منه قرب الأم لطفلها، قرب الأب لولده، والشعور الديني لا ينسجم مع هذه النظريات.

الجهة الثانية:

هذه النظريات تتحدث عن تفاصيل، هل الإله مجرد أم مادي، هل الإله يحل في ظواهر الطبيعة أم هو منفصل عنها، هل هناك عالم آخر وراء الموت أم لا، نحن نتحدث في نقطة أعمق من هذه التفاصيل، نقطة وراء هذه التفاصيل، نتحدث عن أول شعور ديني ملكه الإنسان، كيف ملكه، كيف تولد لديه، ما الذي دفع الإنسان إلى أن يؤمن بقوة خلاقة قريبة، ما المنشأ لهذه القوة، هذا هو الحديث عنه.

هذه النظريات لا تشبعنا من هاتين الجهتين لذلك نأتي إلى النظرية التي طرحها الفلاسفة المسلمون، نظرية منشأ الدافع الديني، منشأ الشعور الديني، الفلاسفة المسلمون يقولون: منشأ الشعور الديني هو إيمان الإنسان بأصالة الحركة والتفاعل.

لدينا الفيزياء التقليدية، والفيزياء الحديثة، الفيزياء التقليدية تؤمن بأن فيزياء المادة ذات أبعاد أربعة، طول وعرض وعمق وزمن، تؤمن بأن الأشياء مكونة من أجزاء مستقلة، تؤمن بأن الجسيمات الذرية، أو تحت الذرية، هي مواد أولية انطلق منها عالم المادة، وتكون منها عالم المادة، فعندما تقرأ الفيزياء التقليدية، تشعر بأن الكون مفكك، بمعنى أن الكون أجزاء متناثرة، مستقلة، مظاهر مستقلة.

لكن عندما تأتي إلى الفيزياء الحديثة وتقرأ نظرية الكم، كيف عالجت النظرة إلى الكون، كيف عالجت رؤية الكون، عندما تقرأ هذه النظرية تراها تتحدث لك عن عدة أمور تغير رؤيتك نحو الكون، ونحو الوجود:

أولا: الجسيمات الذرية أو تحت الذرية أو حتى الجسيمات الناشئة عن الاصطدام ببعضها، أشياء مستقلة، ليست أشياء مستقرة، هي ذات استقرار نسبي، وإلا فليست مستقرة، هذه الجسيمات ليست أجزاء أولية انطلق منها عالم المادة كما تذكر الفيزياء التقليدية، هذه مجرد ظواهر ليس إلا.

ثانيا: أن الكون واحد، الفيزياء الحديثة من خلال النظرية الكمومية تقول: الكون كل واحد، يتصل أوله بآخره، لا تستطيع أن تقول بأن هذا أول وهذا آخر، هذا ثابت وهذا متغير، هذا متحرك وهذا غير متحرك، هذا الوجود كله الذي نراه أجزاء وظواهر، كل واحد متصل، ليست الجسيمات الذرية أول، ثم نشأ الكون، لا بل هي مجرد ظاهرة من ظواهر هذا الكون، وهذا الوجود، الكون والوجود كل متصل، لا تستطيع أن تضع إصبعك على شيء وتقول هذا أول، أو تضع إصبعك على شيء وتقول بأن هذا ثابت وهذا متغير، أبدا، كل ما تراه ظواهر ذات استقرار نسبي، وإلا ليست مستقرة حقيقة وواقعا.

ثالثا: هذا الوجود الذي نعيشه حركة متصلة، من ظواهرها، الوعي، المادة، الوعي لا ينفصل عن المادة، كما أن الكون يحتاج إلى الإنسان، الإنسان أيضا يحتاج إلى الكون، يعني أن هناك حالة تمازج بين الإدراك وبين المادة، الإدراك يحتاج إلى المادة، لأنها المثيرة لهذا الإدراك، الإدراك هو مخزون حتى يتحرك، ويتفعل، يحتاج إلى إثارة المادة، والمادة تحتاج إلى هذا الإدراك، لولا الإدراك ما استطعنا أن نجعل لهذا الكون، ولهذا الوجود نظاما، الذي وضع النظام هو إدراكنا، هو رؤيتنا، هناك حالة تمازج بين المادة وبين الإدراك.

إذن بحسب الرؤية الفيزيائية التقليدية، الكون أجزاء، وبحسب الرؤية الفيزيائية الكمومية، الكون كل واحد، حركة متصلة، هذا التحليل الفيزيائي يقودنا إلى نفس نظرية الفلاسفة المسلمين.

الفلاسفة المسلمون قبل عشرات السنين، صدر المتألهين الشيرازي في كتابه «الأسفار الأربعة» طرح نظرية الحركة الجوهرية، قال بأن هذا الكون كله حركة وجودية واحدة متصلة، الذي يجعلك ترى الكون أجزاء، وظواهر، هو مشكلة فيك أنت وليس في الكون، أنت مجزأ وليس الكون، أنت تعيش تجزئة، تعيش حواس خمس، باصرة، سامعة، ذائقة، شامة، لأنك تعيش حواسا خمسا، بعض الأشياء تتلقاها بالسمع، وبعضها بالبصر، وبعضها باللمس، فتشعر بأن الكون ظواهر متعددة، هو ليس ظواهر متعددة، الكون حركة واحدة متصلة، والتجزئة في الإنسان، لأنه يمتلك حواس وإدراكات متنوعة يرى الكون ظواهر وأجزاء مختلفة، وإلا فإن الكون كل واحد، حركة واحدة، متصلة، وجودية ممتدة.

صدر المتألهين يقول: نحن نرى سطح الحركة ولا نرى عمقها، نحن نرى السطح لا نرى الجوهر، لذلك نرى أجزاء وأشياء كثيرة، وأجزاء مستقلة ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ليس لذلك واقع إلا رؤيتك لهذه الأشياء، إذن الكون يعيش حركة جوهرية، وهذه الحركة الجوهرية لهذا الكون، التي لا تستطيع أن تحدد متى بدأت وكيف تنتهي، أين مبدؤها وأين نهايتها، هذه الحركة الجوهرية ليست حركة دفعية، يعني أنها نقلت الكون من العدم إلى الوجود دفعة واحدة، لا بل هذه الحركة تدريجية، يعني أن كل آن يمر علينا وكل لحظة ننتقل كلنا من عدم إلى وجود، كل الكون في كل لحظة هو حركة من العدم إلى الوجود، وليس أن الكون انتقل من العدم دفعة واحدة في يوم من الأيام وصار موجود، لا بل الكون حركة، وحتى تستمر هذه الحركة إذن هناك حركة خلع، وحالة لبس، هناك حالة موت وحالة حياة، هناك حالة تدريجية، انتقال لحظي، آني، من كل عدم إلى كل وجود.

بهذا التفسير فسر صدر المتألهين هذا الوجود، حركة هذا الوجود، أن الحركة تدريجية، كل آن عدم، وفي نفس الآن فيه وجود، في كل آن موت، نفس الآن فيه حياة، لذلك نستطيع أن نفهم الآية بفهم أعمق ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ليس المقصود بالموت، هو موتنا نحن، وحياتنا نحن، نفهم هذه الآية بهذا الفهم السطحي، ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ يعني مثلا إنسان يعيش خمسين سنة ويموت، هذا الموت، والحياة يعني أنه وجد من بطن أمه، أو الحياة التي بعد الموت، لا بل المقصود أنه خلق الوجود بصورة الحركة التدريجية التي هي في كل آن تنتقل من موت إلى حياة، من عدم إلى وجود.

﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً الكون حركة، الفيزياء الحديثة تقول بأن هذا الكون كل، لا تستطيع أن تقول هذا أول وهذا وسط وهذا آخر، الفلسفة الإسلامية تقول بأن هذا الكون حركة جوهرية نرى سطحها ولا ندرك عمقها، وهي حركة بين الموت والحياة.

من هنا نستطيع أن نشير إلى مبدأ إيمان الإنسان بالدين، كيف آمن الإنسان بالدين، كيف آمن الإنسان بقوة خلاقة قريبة من قرب الأم لطفلها، هذا الشعور الديني كيف نشأ وتولد عند الإنسان، هذا الشعور الديني نشأ كما تفسره نظرية الفلاسفة المسلمين، نشأ عن إيمان الإنسان إيمانا وجدانيا بمبدأ الحركة، الإنسان لا يستطيع تفسير هذا تفسيرا عقليا إلا بعد البحث والتأمل، عندما يتأمل يجد أنه يعيش في حالة حركة، الإنسان بوجدانه يشعر أنه ضمن حركة ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ أنت تعيش في حركة ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا حركة دؤوبة، نشيطة ﴿كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ الإنسان يشعر بوجدانه أنه يعيش حركة، وأنه في نظام وإطار الحركة، وأن هذه الحركة تنقله في كل آن من قديم إلى جديد، من موت إلى حياة، لذلك هذا الشعور شعور بالحركة، وبأصالة هذه الحركة جعل الإنسان وصيره أن يؤمن بأن وراء هذه الحركة مدد يرفدها، وأن وراء هذه الحركة رصيد يمدها، وأن وراء هذه الحركة معين يجعلها مستمرة ودؤوبة ونشطة، ذلك المعين هو القدرة الخلاقة، هو الله جل وعلا.

لذلك أشارت السيدة الزهراء في خطبتها العظيمة إلى كيف أن الحركة لم تأت من عدم دفعي، إلى وجود دفعي، قالت: «ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيئته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها إلا تثبيتا لحكمته، وإظهارا لقدرته»

الكون حركة وأنت أيها الإنسان جزء من هذه الحركة، ليس لك وجود مستقل، فأنت ضمن هذه الحركة، وبعبارة دقيقة، أنت ظاهرة من ظواهر هذه الحركة، وبما أن الإنسان مجرد ظاهرة من ظواهر الحركة الوجودية، إذن هناك تمازج بين إدراك الإنسان وبين حركة الوجود، الوعي والإدراك جاء من الحركة، والحركة فسرت بهذا الإدراك، هناك تمازج بين الإنسان وبين الوجود، بين الإدراك وبين الحركة، ليس الإدراك إلا ظاهرة من ظواهر الحركة، وليست المادة والطاقة إلا ظاهرة أخرى من ظواهر الحركة، كلها ظواهر لحركة واحدة متصلة، لذلك ابتدع هذه الأشياء ليثير هذا الإدراك، الإدراك هو ظاهرة من ظواهر الوجود، والمادة أيضا ظاهرة من ظواهر الوجود، وهاتان الظاهرتان ممتزجتان ومتقاربتان، إذن هو جل وعلا أبدع الوجود بصورة الحركة ليتحرك هذا الإدراك «من دون فائدة له في تصويرها إلا تثبيتا لحكمته، وإظهارا لقدرته» ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ يبين أن هناك تمازج بين المادة وهي الآفاق، وبين الإدراك الذي هو أنفسهم ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

المقطع الثاني:

تناولت فيه السيدة الزهراء منشأ التشيع، قالت: «كنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام» «فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ، أو نجم قرن للشيطان، وفغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيد أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون بنا الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون عند القتال»

كثير من الباحثين يطرح هذا السؤال، كيف نشأ التشيع؟ البعض يقول بأن الإسلام وجد بلا مذاهب، التشيع هذه حالة استثنائية صارت في زمن الحسين ، أو صارت في يوم صفين، أو صارت عندما ظهر عبدالله بن أبي سبأ، هذا التشيع حركة استثنائية عرضية، لم يكن هناك تشيع.

هناك مبدآن ساعدا على ولادة التشيع: مبدأ التسليم، ومبدأ التعيين.

مبدأ التسليم:

من الواضح أن النبي محمد قاد حركة تخييرية على كل المستويات، غير مجتمع من أسسه وخلق مجتمعا جديدا، هذه الحركة التغييرية لجميع الأسس، والحقول، والمفاصل، من الطبيعي كل حركة تقابل بمن يرفضها وبمن يؤمن بها، ومن يؤمن بها أيضا له درجات، منهم من يؤمن بها إيمانا متفانيا، منصهرا، ومنهم من يؤمن بها في ضوء مصالحه، وقضاياه، وما يرتكز عليه، النبي خاض حركة تغييرية شاملة ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وقف المشركون أمام الدعوة «أو نجم قرن للشيطان، وفغرت فاغرة من المشركين».

وهناك فئة أخرى آمنت بهذه الدعوة، وآمنت بنبوة النبي وهذه الفئة انقسمت إلى قسمين والنبي موجود على قيد الحياة:

القسم الأول: الذي سلم بما يقول به النبي بدون نقاش، يعني أنه آمن بالحركة إيمانا متفانيا، مطلقا، سلم بأن هذه الحركة امتداد للغيب، للسماء في كل فصولها، وفي كل ظواهرها، وفي كل حقولها، فآمن بالحركة إيمانا مطلقا بدون نقاش، وبدون جدال ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا النبي لا يخطئ، يستحيل أن يخطئ، يستحيل أن يكون لديه تقدير خاطئ، أو قرار خاطئ، سواء في القضايا الفردية أو الاجتماعية أو قضايا الدين، أو الدولة، هذا النبي لا يخطئ.

الفئة الثانية قالت: هو رسول نؤمن بما يأتي به من السماء، لكن في القضايا الإدارية لنا اجتهادنا، قضايا إدارة الدولة، المجتمع، لنا رأينا، ولنا اجتهادنا، يمكن لنا أن نجتهد ونصل إلى رأي يخالف رأيه وقراره، لذلك عورض النبي في صلح الحديبية، لم يعترض المشركون وإنما اعترضت فئة من المسلمين.

في مرض النبي الذي توفي فيه، قال: ”ائتوني بدواة، وكتف، أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا“ فاختلف القوم، وهذا معناه أن هناك فئتين: فئة مسلمة تؤمن بأن كل قرار يصدر منه، حتى لو كان قضية شخصية خاصة، فهو قرار سماوي ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى وفئة تقول: ما لم يقل قال الله، إذن لنا اجتهادنا، ولنا رأينا، من حقنا أن نصدر رأيا آخر مقابل رأيه، فاختلف القوم، منهم من يقول: ائتوه بالكتاب حتى يكتب، ومنهم من يقول: هو مريض، وقال أحدهم: اجلس إن محمدا ليهجر.

إذن هناك فئتان: الفئة التي سلمت منذ أول يوم، ولم تعترض على قرار من قرارات النبي، وآمنت بأن كل ما يصدر منه فهو وحي، كانت تلك الفئة بذرة التشيع، سلمان، أبو ذر، عمار، مقداد، أبو الأسود الدؤلي، ابن عباس، جابر ابن عبدالله، أبو سعيد الخدري، هذه الصفوة، هذه النخبة، آمنت بما قال النبي، وسلمت تسليما مطلقا، والفئة الأخرى ليست من الشيعة.

إذن ولد التشيع ولادة عقائدية، من خلال مبدأ التسليم، والرسول الأعظم على قيد الحياة، وهذا ما أشارت إليه السيدة الزهراء الفئة التي تحتفظ بتاريخ علي «وفغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه» هذه الفئة التي آمنت بهذه التضحيات، وسلمت بهذا التاريخ وأذعنت له، والرسول على قيد الحياة، هي التي مثلت بذرة التشيع.

مبدأ التعيين:

النبي الأعظم بعد أ خاض تلك الحركة التغييرية الشاملة على جميع الصعد والمستويات، جاءه الموت بإنذار، ولم يأته فجأة، ولذلك جميع المسلمين يروي أن النبي في حجة الوداع قال: «إني أوشك أن أدعى فأجيب» يعني أن النبي أنذر بالموت، ولم يأته فجأة «إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» من الطبيعي بأن أي قائد يقود حركة لمدة 23 سنة، ثم ينذره الموت بالمجيء، بأن يخطط لما بعد موته، نحن الآن لا نتحدث عن النبي كإنسان معصوم، رسول، بغض النظر عن أنه معصوم مرسل، مرتبط بالسماء في كل تصرف من تصرفاته، فبناء على أنه قائد بشري فإن مقتضى الحكمة، وفن القيادة، أن يخطط لما بعد رحيله، أن يخطط لمصير الرسالة التي تعب عليها 23 سنة.

كيف خطط؟

أمامه ثلاث خيارات: إما أن يهمل الأمة، وإما أن يوكل الأمة إلى مبدأ الشورى، وإما أن يتصدى لتعيين قيادة تقوم مقامه في إدارة شأن الرسالة.

الخيار الأول: أن النبي أهمل الأمة

هناك عوامل أربعة تمنع الإهمال، حتى لو كان قائد بشري فضلا عن أنه رسول من السماء:

العامل الأول: أن الأمة لم تكن مؤهلة لأن تتخذ القرار الحكيم، مازالت فيها نعرات الجاهلية، لذلك الحاكم في مستدركه يروي عن جابر ابن عبدالله، قال: كسع رجل أنصاري مهاجرا، فقال المهاجرون: يا للمهاجرين! وقال الأنصار: يا للأنصار! وكان هذا في غزوة من غزوات النبي تحركت نعرات الجاهلية، فقال النبي : ”ما بال دعوة الجاهلية“ وقال عبدالله ابن أبي سلول: لقد ظهرت ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منا الأذل.

العامل الثاني: النخبة، الذين نعتبرهم نحن الصحابة، هل كانت مؤهلة؟ في صحيح البخاري: ”أنا فرطكم على الحوض، وإذا بنفر من أصحابي يردون عليه فيمنعون عنه، فأقول: يارب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك“.

العامل الثالث: وجود المنافقين الذين صرح القرآن بهم ﴿إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.

العامل الرابع: أن المجتمع الإسلامي كان صغير، ومحاط بالروم والفرس، من كلا الجهتين.

إذن هذه العوامل الأربع تمنع أن يترك القائد الحكيم أمته مهملة من دون أن يتخذ قرارا في حقها، إذن الخيار الأول منتفي.

الخيار الثاني: أن النبي جعلها شورى.

انطلاقا من قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وهذا الخيار أيضا غير صحيح، لماذا؟

أولا: لأن الأمة التي انتقلت من الجاهلية إلى الإسلام لم تكن تعرف مبدأ الشورى، كانت الحكومة حكومة عشائرية قبلية، العشائر هي التي كانت تحكم الوضع الاجتماعي، لم تكن هناك مجالس للشورى، فلو كان مبدأ الشورى مطروحا لأكد النبي على هذا المبدأ في كل الوقائع وفي كل الميادين، لأن الأمة لم تعش مبدأ الشورى يوما من الأيام، كانت تعيش حكومة قبائلية، فلأجل أن تعيش مبدأ الشورى، تحتاج إلى أن يرسخ فيها المبدأ ويعمم ويروج له في عدة وقائع، وفي عدة مشاهد، مع أن التاريخ كله لم ينقل لنا مرة أن النبي أمر أمته أو أصحابه أن يطبقوا مبدأ الشورى.

ثانيا: لو كان مبدأ الشورى هو المبدأ الذي طرحه رسول الله لوجدنا له في الروايات معالم، مراحل، عندما تؤسس قانون فإنه يحتاج إلى شرح وتوضيح، لو كان رسول الله وضع مبدأ الشورى لحدد لهذا المبدأ معالم ومراحل وبنود وتفاصيل، كيف ولم يرد شيء من ذلك، ولو كان رسول الله طرح مبدأ الشورى لانعكس على أصحابه، بينما لا يوجد أحد من أصحابه اتخذ مبدأ الشورى، الخليفة الأول عين الخليفة الثاني بدون شورى، والخليفة الثاني عينها في ستة، فأين الشورى؟ لذلك الإمام علي احتج.

فإن  كنت بالقربى ملكت iiأمورهم
وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم
  فغيرك    أولى   بالنبي   iiوأقرب
فكيف  بذلك  والمشيرون  iiغيب

لو أن النبي وضع مبدأ الشورى لكان التزم به أصحابه، بينما نجد أن أصحابه لم يلتزموا بمبدأ الشورى، وساروا على مبدأ التعيين، هذا دليل على أن مبدأ الشورى في القضايا المعيشية الخاصة بالإنسان، ولا يرتبط بقضايا الدين وخلافة الأمة وقيادتها.

الخيار الثالث: خيار التعيين

إذا بطل الخيار الأول - خيار اهمال الأمة - والخيار الثاني - مبدأ الشورى - تعين الخيار الثالث ألا وهو مبدأ التعيين، من هنا ولد التشيع، ومن هنا انطلق، التشيع ولد مع فكرة التعيين، التشيع ولد منذ زمان رسول الله لأن هناك فئة تقول: لا يمكن أن تترك الأمة سدى، لابد من تعيين قيادة أعدها رسول الله وتعب عليها بأمر وقرار من السماء ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ هذه القيادة هي التي ركزت عليها الزهراء في خطبتها، الزهراء تريد أن تقول أينكم، الرسول لم يهملكم، ولم يضع لكم مبدأ شورى، عين لكم من هو بعده «قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيد أولياء الله»

هذا التعيين الذي تحقق في يوم حديث الدار، في يوم حديث المنزلة، في يوم خيبر، في يوم الغدير، لم يترك النبي واقعة إلا وأرشد الأمة فيها إلى علي أمير المؤمنين، هذا الإعداد يقول عنه أمير المؤمنين علي : ”وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه، ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ...، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه...، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّه وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ“.

محمد   النبي   أخي،  iiوصهري
وجعفر  الذي  يضحي  iiويمسي
وبنت   محمد  سكني  iiوعرسي
وسبطا    أحمد   ولداي   منها
سبقتكم    إلى   الإسلام   iiطرا
وصليت   الصلاة  وكنت  iiطفلا
وأوجب    لي    ولايته   عليكم
فويل    ثم    ويل    ثم   iiويل






 
وحمزة   سيد   الشهداء  iiعمي
ويطير  مع  الملائكة  ابن أمي
منوط   لحمها   بدمي  iiولحمي
فمن  منكم  له  سهم iiكسهمي
على ما كان من فهمي وعلمي
صغيرا  ما  بلغت  أوان  iiحلمي
رسول   الله   يوم   غدير  iiخم
لمن  يرد  القيامة وهو iiخصمي

”فَيَاللهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الاَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هذِهِ النَّظَائِرِ! لكِنِّي أَسفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا“