تأملات في شخصية الإمام الحسن

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيرا

من شخصيات أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا الإمام الحسن الزكي ، هناك خصائص ثلاث تتجلى في شخصية الإمام الحسن الزكي وتستحق أن نقف منها موقف التأمل والتدبر:

الصفة الأولى: التضحية بالمقام الاجتماعي

الإمام الحسن كان يلقب بكريم أهل البيت، وهنا سؤال يطرح نفسه، لماذا يلقب الحسن بكريم أهل البيت؟ مع أن كل أهل البيت كانوا منابع ومناهل للكرم والعطاء، فلماذا الحسن بالذات يلقب بكريم أهل البيت؟

ربما يتصور الإنسان لأن الحسن كان يعطي أمواله ومنحه بلا تدقيق وبلا محاسبة، فلذلك لقب بكريم أهل البيت، جاءه رجل فطرق بابه، وقال:

لم يخب الآن من رجاك ومن
أنت    جواد   وأنت   iiمعتمد
لولا  الذي  كان  من iiأوائلكم

 
حرك  من  دون بابك iiالحلقة
أبوك  قد  كان  قاتل iiالفسقة
كانت  علينا  الجحيم منطبقة

فأخرج إليه صرة من الدراهم والدنانير، قال:

خذها    فإني   إليك   iiمعتذر
لو كان في سيرنا الغداة عصا
لكن  ريب  الزمان  ذو  iiغير

 
واعلم  بأني  عليك ذو iiشفقة
أمست  سمانا  عليك iiمندفقة
والكف   مني   قليلة   النفقة

لماذا لقب بكريم أهل البيت، هل لأنه كان يعطي أمواله بلا حساب؟

الإمام عندما يعطي أمواله فإنما يعطيها إما لمن يستحقها أو لمن لا يستحقها، فإن كان يعطي الأموال لمن يستحقها، فهذا ليس كرما، بل هو حق من حقوق المساكين والمحتاجين ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وإن كان يعطي أمواله لمن لا يستحقها، فهذا تبذير، والتبذير حرام، فلماذا يوصف بكريم أهل البيت وهل أن شخصيته العظيمة العملاقة تقوم ببضع دراهم ودنانير يعطيها للآخرين، فيلقب بكريم أهل البيت؟

الإمام محمد بن علي بن الحسين لقب بالباقر، لأنه كان يبقر العلم بقرا، هذه صفة تتناسب مع شموخ مقامه، وعلو موقعه، الإمام الحسين لقب بسيد الشهداء، هذه صفة تنسجم مع علو مقامه، أما تلقيب الحسن بكريم أهل البيت لأنه يعطي بعض الدراهم والدنانير لمن يسأله فهذا ليس لقبا ينسجم مع شموخ مقام الإمامة، وعلو موقع الإمامة، ما معنى كريم أهل البيت؟

لبيان ذلك نتعرض لأمرين:

الأمر الأول: مسألة الحاجة إلى المقام الاجتماعي

علماء النفس يقولون: هناك حاجات نفسية ثلاث يحتاجها الإنسان حاجة ماسة وأساسية:

حاجة الإنسان للأمن النفسي: الإنسان إذا لم يحصل على الأمن النفسي فإنه لا يمكنه أن يبدع، ولا أن يبتكر، لأنه لا يعيش الأمن والاستقرار.

حاجة الإنسان إلى الانتماء: الانتماء إما لقبيلة، أو لشركة، أو عائلة، لأن الشعور بالانتماء يعطي الإنسان شعورا بالعزة والحماية.

حاجة الإنسان إلى التقدير الاجتماعي: الإنسان يحتاج إلى أن تقدر جهوده، أعماله، إلى أن يجعل في المقام الاجتماعي اللائق بشأنه، الإنسان إذا لم تعطى ولم تغذى فيه هذه الحاجة، وهي حاجته إلى التقدير الاجتماعي فإنه يصاب بالإحباط والخذلان، وبالتالي فهو لا يشعر بقيمة ذاته وجهوده.

من هنا نقول بأن كل إنسان يحتاج إلى مقام اجتماعي بين أبناء المجتمع، وهذا المقام يعبر عنه بالكرامة، بالحرمة ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا كل إنسان يحتاج إلى مقام اجتماعي، إلى كرامة، إلى حرمة، تصان حرمته، لا يعتدى عليه، لا تخدش كرامته، لا تضيع جهوده.

الأمر الثاني: هل يمكن للإنسان أن يضحي بالمقام الاجتماعي؟

لا يجوز للإنسان أن يعرض موقعه ومقامه الاجتماعي للاعتداء، وللنيل والجرح، في علم الفقه يقولون هناك فرق بين الحق وبين الحكم: الحق يسقط بالإسقاط، والحكم لا يسقط بالإسقاط، أنت بإمكانك أن تسقط حقوقك، لكن ليس بإمكانك أن تسقط الأحكام التي تصونك وتصون كرامتك، مثلا: أنا إنسان دائن، أدين شخصا بأموال معينة، أنا لي حق على هذا المدين، بإمكاني أن أسقط حقي وأقول: أسقطت عنك الدين الذي لي على ذمتك.

ولكن هل يجوز لي أن أقول للآخرين اغتابوني كما ترغبون، هذا حق لي وأنا أسقطته فإنه لا يجوز له ذلك، لا يجوز له تعريض نفسه للغيبة، لأن حرمة الغيبة من الأحكام وليست من الحقوق حتى يستطيع إسقاطه.

الحق يرتبط بمصلحة شخصية، ولذلك يمكن أن يسقطه الإنسان، أنا لي حق على فلان وهو الدين، هذا الحق مصلحة شخصية، وبما أن الحق يرتبط بمصلحة شخصية، لذلك يمكن لي أن أسقطه، بينما الأحكام لا ترتبط بمصالح شخصية، بل ترتبط بمصالح اجتماعية عامة.

مثلا: الإسلام عندما يقول يحرم الغيبة، فهو لم يحرم الغيبة رعاية للشخص المغتاب فقط، لم يحرمها لأجل مصلحة شخصية، وهي مصلحة الشخص المغتاب، وإنما حرم الغيبة لأن خلق الغيبة يربي الإنسان الذي يغتاب الآخرين على النفاق، بئس الأخ أخ يطريك شاهدا، ويأكلك غائبا، فالغيبة تربي الإنسان على النفاق، وعلى أن لا يرى حرمة للآخرين، وعلى أن يعتدي على شخصيات الآخرين، فحرمة الغيبة ليست حقا من الحقوق، لأنها لا ترتبط بمصلحة شخصية، وإنما هي حكم من الأحكام، لأنها منوطة بمصلحة اجتماعية عامة، وهي حفظ أبناء المجتمع عن الصفات الذميمة، كصفة النفاق، وهتك حرمات الآخرين، وتتبع عورات الآخرين، فيجوز لك أن تسقط الحق، ولكن لا يجوز لك أن تسقط الحكم، لذلك لا يجوز للإنسان أن يضحي وبموقعه الاجتماعي، وبكرامته، وحرمته، لأن ذلك حكم وليس حق حتى يسقط بالإسقاط، لذلك ورد في الحديث الشريف: ”إن الله فوض لعبده المؤمن كل شيء، ولم يفوض له إذلال نفسه“.

لو فرضنا أن التضحية بالمقام الاجتماعي يحفظ مصلحة الأمة الإسلامية وترابطها، فهل يجوز لي أن أضحي بمقامي الاجتماعي؟

نعم يجوز، بل يجب، الإمام أمير المؤمنين يقول: ”لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا علي خاصة“ من هنا نفهم موقعية الإمام الحسن الزكي ما ضحى إمام بموقعه الاجتماعي كما ضحى الإمام الحسن الزكي الإمام الحسن الزكي كان يعرف أنه إذا صالح معاوية سيعرض حرمته للهتك، سيعرض موقعه الاجتماعي للجرح، وللخدش، وللنيل والاعتداء وللظلم، ومع ذلك أقدم وضحى بهذا الموقع الاجتماعي في سبيل حفظ مصلحة الأمة، دخل عليه أعداؤه، فقالوا: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، ودخل عليه بعض شيعته وقالوا: السلام عليك يا مذل المؤمنين، وقال له بعض شيعته: ليتك مت يا حسن ولم تبايع معاوية، لقد رجعوا مسرورين بما أحبوا، ورجعنا مرغمين بما كرهنا.

الإمام الحسن تعرض لإهانات، واعتداءات على شخصيته وكرامته لم يتعرض لها أحد من أهل البيت إذن الحسن عندما أقدم على الصلح وضحى بالموقع الاجتماعي، وضحى بالشخصية الاجتماعية، والتضحية بالموقع الاجتماعي ربما تكون أعظم من التضحية بالنفس، فإن الإنسان قد يتحمل أن يقتل نفسه، ولكنه لا يحتمل أن يتعرض للإهانة، ربما يتحمل أن يريق دمه، ولا يتحمل أن يتعرض لاعتداء على شخصيته، وعلى كرامته، لذلك لقب بكريم أهل البيت، وليس لأنه يعطي أموال للآخرين، كل الناس تعطي أموال للآخرين، حاتم الطائي كان المثل الأعلى بين العرب في الكرم والجود، الحسن لقب بكريم أهل البيت لا لأنه يعطي أموال، وينفق أطعمة، الكرم نوع من التضحية، الحسن لقب بكريم أهل البيت لأنه ضحى بأمر لا يضحي به الإنسان العادي، ضحى بشخصيته وموقعه الاجتماعي في سبيل حفظ مصلحة الأمة ووحدتها، وفي سبيل حفظ الأمور العامة للمجتمع الإسلامي، فهو ضحى بأمر عظيم لذلك لقب بكريم أهل البيت.

من هنا نفهم أن تضحية الحسن لا تقل عن تضحية أخيه الحسين، الحسين ضحى بجسده، بحياته، والحسن ضحى بحرمته، وبموقعه الاجتماعي العظيم، وتعرض للاعتداء الواضح، كل ذلك في سبيل مصلحة الأمة، الحسين ضحى بحياته في سبيل إصلاح الأمة «ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح» والحسن ضحى بموقعه الاجتماعي في سبيل مصلحة الأمة «إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية هو لي، تركته لإصلاح أمر الأمة، وحقن دمائها» ”هما إمامان قاما أو قعدا“ فكل منهما ضحى بنوع من التضحية، وضحى بطريق من طرق التضحية.

إذن هذا هو السر في تلقيب، وتوصيف الإمام الحسن الزكي بكريم أهل البيت.

الصفة الثانية: خشية الله تبارك وتعالى

يروي المؤرخون أن الإمام الحسن الزكي كان إذا توضأ للصلاة اصفر لونه، وارتعدت فرائصه، وكان إذا وقف على باب المسجد، وقف وقفة الذليل المستكين، وقال: «إلهي مسكينك ببابك، أسيرك بفنائك يا محسن قد أتاك المسيء، أنت المحسن وأنا المسيء، يا محسن تجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم» لماذا يصفر لون الإمام الحسن وترتعد فرائصه وهو نقي تقي مطهر من الرجس، مصداق واضح للآية المباركة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيرا فهل كان الإمام الحسن الزكي يخاف عذاب النار، أو يخاف محاسبة الملائكة؟

هناك فرق بين الخوف، وبين الخشية، القرآن الكريم فرق بين هاذين المصطلحين، قال في وصف الأولياء الأتقياء ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وقال في وصف العلماء ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ فهناك خوف، وهناك خشية، وفرق بين الخوف والخشية.

الخوف: هو الانفعال الناشئ عن توقع الألم، من يتوقع ألما ينفعل، فهذا الانفعال النفسي الناشئ عن توقع الألم يسمى الخوف، الإنسان الذي يصدر منه الذنب وتصدر منه المعصية، لأنه يتوقع حسابا ويتوقع ألما، ويتوقع عقابا، لذلك يصاب بالقشعريرة، بالانفعال النفسي، هذا يسمى خوف.

الخشية: هي الخضوع الناشئ عن إدراك العظمة، من أدرك عظمة إنسان، فخشع له، كان خشوعه خشية وليس خوفا، الخشية لا تعني توقع ألم، مثلا: عندما تدخل على أحد العلماء العظام، فتصاب بالخضوع والهيبة والإجلال له، هذه خشية وليست خوفا، الخشية خضوع ناشئ عن عظمة، لذلك كانت الخشية من صفات العلماء، لأن العلماء بالله كلما تكاملت علومهم، وارتفعت درجاتهم في معرفة الله تبارك وتعالى، كان إدراكهم لعظمة الله تعالى أكبر، فكان الخضوع الناشئ عن إدراك عظمة الله أكثر سيطرة، وأكثر هيمنة على قلوبهم وعلى مشاعرهم ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ والحسن من أوضح مصاديق العلماء، فكان ما يعتريه، وما يتجسد من خلال عبادته، هو من مظاهر الخشية، وليس من مظاهر الخوف.

الصفة الثالثة: سمو النفس

نحن نعرف أن الإمام الحسن الزكي وغيره من أئمة أهل البيت لا يبالون باعتداء الآخرين، إذا اعتدى عليهم إنسان يبتسمون، ويمرون مر الكرام، ولا ينفعلون ولا تظهر عليهم سمات الغضب أو الانفعال، هل لأنهم لا يشعرون بأن لهم كرامة أو عزة كي لا يتأثروا بجرح الآخرين واعتداء الآخرين لهم، لماذا لا يغضبون لمثل هذه الاعتداءات، ولمثل هذا الجرح؟

ورد عن الإمام الحسن الزكي أن رجلا شاميا رأى الإمام الحسن في مكة المكرمة، قال: من هذا؟ قالوا: هذا الحسن ابن علي ابن أبي طالب، فشتمه وشتم أباه أمير المؤمنين، فلما انتهى من سبابه وشتمه التفت إليه الإمام الحسن وهو يبتسم، قال: يا هذا أظنك غريبا، ولعلك اشتبهت فينا، فإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كنت فقيرا أغنيناك، فهلا حولت رحلك إلينا، ونزلت ضيفا علينا، فإن لنا منزلا رحبا، وجاها عريضا، ومالا وفيرا، فما تمالك الرجل حتى انكب عليه يقبله.

ما معنى هذا التصرف، كيف لإنسان يعتدى على كرامته ثم يبتسم ويضحك، ويقول يا هذا إن كنت طريدا آويناك، أو جائعا أشبعناك؟ هذه الصفة نسميها بسمو الذات.

علم النفس فيه مدارس مختلفة: المدرسة السلوكية، المدرسة التحليلية، علم النفس الإنساني، علم النفس الارتقائي، مدارس متعددة في علم النفس، من مدارس علم النفس: علم النفس الارتقائي، جون بياجيه هو الرائد لهذه المدرسة، علم النفس الارتقائي هو عبارة عن كيف ترتقي النفس بذاتها، وكيف تشعر النفس بقيمة ذاتها من دون مؤثرات، ومن دون عوامل خارجية، ارتقاء النفس بذاتها.

الفلاسفة يقولون: الذاتي لا يتغير، وإنما الذي يتغير هو الأمر العرضي، أما الصفة الذاتية لا تتغير، مثلا: حرارة الماء، وحرارة النار، فإن الفرق بينهما أن حرارة الماء حرارة عرضية مكتسبة من النار، يعني أن الماء يكون بارد ونضعه على النار فيكتسب الحرارة من النار، هذه الحرارة حرارة عرضية، لذلك يمكن أن تزول، وأن تتغير، يمكن أن تتحول درجة الحرارة إلى أدنى درجاتها، لأنها صفة مكتسبة، عرضية، لذلك فهي قابلة للتغير والزوال، أما حرارة النار فهي حرارة ذاتية، لو أخذت موقد من النار، ووضعت فوقه طنا من الثلوج، تبقى حرارة النار كما هي لا تتغير، حرارة النار صفة ذاتية لها، والذاتي لا يتغير، إلا أن تتغير النار وتصبح شيئا آخر، وإلا ما دامت النار نارا فإنها تبقى حارة.

هذا لا يختص بالأمور التكوينية، حتى في المقامات الروحية، في علم الكلام يقولون: هناك فرق بين مولوية الله، ومولوية الآخرين، الإنسان إذا عصى ربه، لماذا يعاقبه الله على ارتكاب المعصية؟ هناك مسلكان في علم الكلام:

المسلك الأول:

أن الله يعاقب الإنسان على المعصية لأنها هتك لحرمة الله، يعني عندما أعصي الله فقد هتكت حرمة الله عز وجل، لذلك فإن العاصي يستحق العقاب لأنه هتك حرمة ربه عز وجل، هذا مسلك موجود في علم الكلام وكثير من علمائنا يقبل هذا المسلك.

المسلك الثاني:

لماذا يعاقب الإنسان على المعصية؟ لا لأنه هتك حرمة الله، إنما عرض نفسه للوعيد ليس إلا، الله تبارك وتعالى صدر منه وعد ووعيد، وعد بالثواب على الطاعة، وتوعد بالعقاب على المعصية، فمن أطاع عرض نفسه للوعد، ومن عصى عرض نفسه للوعيد.

هذا المسلك يختاره جمع من العلماء منهم السيد السيستاني دام ظله، يقول: هل يتصور من مخلوق صغير على كوكب صغير، الإنسان مخلوق صغير على كوكب صغير، وهذا الكوكب نسبته إلى مليارات الكواكب والمجموعات الشمسية نسبة الواحد إلى المليار، فهل يحتمل أن ذنبا يصدر من مخلوق صغير على كوكب صغير أن يوجب هتك حرمة الله عز وجل، وهل حرمة الله الذي يهيمن على هذا الوجود بأسره من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة تنهتك بهذا الذنب من هذا المخلوق الصغير على هذا الكوكب الصغير! لا فهذا الذنب لا يوجب هتكا لحرمته تبارك وتعالى، لأن حرمته ذاتية وليست حرمة عرضية كي تنهتك بذنب هذا المخلوق.

هناك حرمة ذاتية، وحرمة عرضية، الحرمة الذاتية هي حرمة الله، حرمة الله ومولويته ذاتية له لأنها نابعة من خالقيته تبارك وتعالى، مقتضى خالقيته أن له حرمة وله مولوية، فمولويته وحرمته ناشئة عن خالقيته، لذلك فإن حرمته حرمة ذاتية، والذاتي لا يتغير ولا يزول ولا ينهتك ولا ينفصم، آلاف المعاصي لا تهتك حرمته، ولا تقدح مولويته تبارك وتعالى لأنها مولوية ذاتية.

أما المولوية الاعتبارية، لنفرض مثلا رئيس الشركة له حرمة اعتبارية وليست حرمة ذاتية، انتخب فأصبح رئيسا، هذه تسمى مولوية اعتبارية، أو مثلا أنا شيخ البلاد، أو أمير البلاد، هذه الإمارة وهذه الشيخوخة، هذه المولوية كلها مولوية اعتبارية، يعني أن الآخرون أعطوها لي، وليست ذاتية، المولوية الاعتبارية تتأثر بالآخرين، تتأثر بالنيل من قبل الآخرين، أما المولوية الذاتية لله تبارك وتعالى فلا تتأثر بذلك، القرآن الكريم يشير إلى ذلك ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني أن هؤلاء الذين عصوا ظلموا أنفسهم ليس إلا، عرضوا أنفسهم للوعيد، وإلا فلا يؤثرون على مولويتنا أو حرمتنا ﴿وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

إذن هناك فرق بين المولوية الذاتية لله تبارك وتعالى لا تنفصل ولا تتأثر، وهناك مولوية اعتبارية لأمير البلاد، أو لرئيس الشركة، هذه قد تنفصم وقد تتأثر.

هنا نقول أن المقامات على قسمين، سمو النفس قد يكون سموا ذاتيا، وقد يكون سموا مكتسبا، هناك إنسان يشعر بأن قيمة ذاته لم تأتي من قبل المجتمع، وإنما قيمة ذاته من خلال فضائله، ومناقبه، فسموه سمو ذاتي، وهناك إنسان يشعر بأن قيمته ليست من ذاته، قيمته من المجتمع، المجتمع هو الذي أعطاه هذه القيمة، وهذا الموقع، لذلك متى ما جرح أو اعتدي عليه شعر بأن موقعه قد انفصم، وانهتك، لأن موقعه ليس ذاتيا له، وإنما قيمته وسموه أتى من قبل المجتمع، فإذا رفع المجتمع هذا السمو واعتدى عليه، تأثر لأن سموه تعرض للنيل والخدش والنقص، أما الذي يشعر بأن سموه ذاتي من خلال فضائله ومناقبه فهو لا يتأثر باعتداء الآخرين أبدا ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً.

الإمام الحسن الزكي كذلك، فهو يشعر بأن قيمة ذاته لم تأتي من قبل الناس، قيمة ذاته وسمو نفسه من خلال فضائله ومناقبه، خلقه وسلوكه، إذن له سمو ذاتي، والذاتي لا يتأثر باعتداء الآخرين، ولا يتزلزل ولا ينقص بجرح الآخرين، لأنه سمو ذاتي، لذلك لا يبالي باعتداء الآخرين، أما الإنسان الذي يغضب سريعا إذا اعتدي عليه، أو خدشت كرامته، فهو الإنسان الذي يشعر بأن قيمته قد أتت من قبل الآخرين، فإذا اعتدي عليها فقد نقصت، لذلك يثأر لقيمته ولسموه ولموقعه الاجتماعي، هذا معنى سمو الذات، وهذا معنى ارتقاء النفس بذاتها لا بالمؤثرات الخارجية.

جاء رجل إلى الإمام الباقر قال له: أنت البقرة؟ فقال له الإمام: سماني رسول الله الباقر، فقال: أنت ابن الطباخة؟ قال: وما في ذلك عيب، ذاك مهنتها، قال: أنت ابن السوداء البذيئة؟ قال: إن كانت كذلك غفر الله لها، وإن لم تكن كذلك غفر الله لك، هذا النوع من التعامل مع الآخرين، هذا النوع من السيطرة على النفس، لا تفسير له إلا السمو الذاتي، لأنه يشعر بأن قيمته بذاته لا بالآخرين، فلا تتأثر بجرح الآخرين ولا باعتدائهم.

كتب معاوية ابن أبي سفيان إلى الإمام الحسن الزكي : أنا خير منك، لأن الناس أجمعت علي ولم تجمع عليك، فكتب إليه : إن الذين أجمعوا عليك بين مكره ومطيع، فأما المكره فهو معذور في كتاب الله، وأما المطيع فهو عاص لله، وأنا لا أقول أنا خير منك، لأنه لا خير فيك، فلقد برأني الله من الرذائل كما برأك من الفضائل.