الدرس 109

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في وجوه الجواب عن دعوى انحلال العلم الاجمالي بالأصل الطولي:

الجواب الثاني: وهو مبنائي، وهو ما ذهب اليه السيد الشهيد: من ان انحلال العلم الاجمالي بالأصل الطولي إنّما يتصور بناءً على ثبوت طولية في الاصول المتوافقة، والحال لا طولية بين الاصول المتوافقة لا بنحو الورود ولا بنحو الحكومة، اما انتفاء الورود بين الاصول المتوافقة فلأن المأخوذ في موضوع كل أصل هو العلم المناقض لا مطلق العلم، مثلاً: في دليل الاستصحاب في موضوعه عدم العلم الناقض لا عدم مطلق العلم، ففي قوله : «لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقين مثله» ظاهر في ان الغاية الرافعة لموضوع الاستصحاب العلم الناقض لا مطلق العلم، ولو لم يكن ناقضا، وعليه فلا ورود لأصالة الطهارة على الاستصحاب لأن اصالة الطهارة حتّى لو قلنا بأن الشارع نزلها منزلة العلم فهي ليست من العلم الناقض بل من العلم المؤكد فلا تصلح اصالة الطهارة للورود على الاستصحاب لأن المأخوذ في موضوعه عدم العلم الناقض لا مطلق العلم، كذلك لا ورود للاستصحاب على اصالة الطهارة، لأن المأخوذ في دليلها كل شيء لك نظيف حتّى تعلم انه قذر فالرافع لموضوعها العلم بالخلاف وهو العلم بالقذارة لا العلم بالوفاق فحتى لو قلنا ان الشارع نزل الاستصحاب منزلة العلم فالاستصحاب ليس من العلم بالخلاف.

والنتيجة: ان استصحاب الطهارة ليس واردا على اصالتها ولا اصالة الطهارة واردة على الاستصحاب وعدم الورود من كل منهما على الآخر لأن الورود فرع كون احدهما رافعا لموضوع الآخر وظاهر دليلي الاستصحاب واصالة الطهارة ان الرافع لموضوعه هو العلم بالخلاف لا مطلق العلم، فلا طولية بينهما على نحو الورود. كما لا طولية بينهما على نحو الحكومة لأن الحكومة اقوى موارد القرينية لأنّها متقومة بالنظر أي نظر الدليل الحاكم للمحكوم وعليه هل يرى العرف الذي هو المحكم في قرينية شيء على شيء قرينية احد الاصلين على الآخر مع توافقها في المؤدى، فيرى العرف مثلاً قرينية دليل استصحاب الطهارة على دليل اصالة الطهارة، أو قرينية دليل استصحاب عدم التكليف على دليل البراءة من التكليف، أو دليل استصحاب الحل على دليل اصالة الحل، فإن المناط في القرينية النظر ولا يرى العرف ان دليل استصحاب الطهارة ناظر لدليل اصالة الطهارة، وعليه إذا علمنا اجمالا بنجاسة احد المائين وكان في ماء الف اصلان استصحاب الطهارة لإحراز حالته السابقة واصالة الطهارة، بينما في ماء باء لا يوجد الا أصل واحد وهو اصالة الطهارة فحينئذٍ يتعارض أصل الطهارة في ماء الطهارة في ماء باء مع اصلين في ماء الف إذ لا طولية اصلا بين اصالة الطهارة واستصحاب الطهارة، لا على نحو الورود ولا على نحو الحكومة فما بنيت عليه المسالة من انحلال العلم الاجمالي بالأصل الطولي غير تام. وما ذكره متين.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق النائيني بناءً على الطولية بين اصالة الطهارة واستصحابها ان انحلال العلم الاجمالي بالأصل الطولي وهو اصالة الطهارة في ماء الف فرع جريان اصالة الطهارة في ماء الف، واصالة الطهارة في هذا الماء لا يعقل جريانها، لأن لازم وجوده عدمه، وما يلزم من وجوده عدمه محال إذ لازم ذلك علية احد النقيضين للآخر وهو غير معقول.

بيانه: ان جريان اصالة الطهارة في ماء الف فرع سقوط استصحاب الطهارة في هذا الماء بمقتضى الطولية بينهما، وسقوط استصحاب الطهارة في هذا الاناء فرع المعارضة بين استصحاب الطهارة في ماء الف وبين اصالة الطهارة في ماء باء والمعارضة فرع منجزية العلم الاجمالي إذ لولا كون العلم الاجمالي منجزاً لما حصلت المعارضة بين الاصلين فثبت ان جريان اصالة الطهارة في ماء الف فرع منجزية العلم الاجمالي، فلو ترتب على جريان اصالة الطهارة في ماء الف انحلال العلم الاجمالي حكماً أي عدم منجزيته في طرفه فسوف تكون النتيجة ان جريان اصالة الطهارة لا يتم الا بمنجزية العلم الاجمالي مع انه لو جرى لارتفعت منجزية العلم الاجمالي، فلازم جريانه عدمه لأنّه بجريانه ترتفع منجزية العلم الاجمالي، واذا ارتفعت لم يجر لأن جريانه متوقف على منجزية العلم الإجمالي فكيف يكون جريانه رافع لها.

وهذا ناشئ عن مغالطة بيانه ان منجزية العلم الاجمالي لها مرتبتان منجزيته لحرمة المخالفة القطعية ومنجزيته لوجوب الموافقة القطعية وما كان متوقفا عليه غير متوقف فاصالة الطهارة لا تجري الا إذا كان العلم الاجمالي منجزاً لحرمة المخالفة القطعية لأن العلم الاجمالي إذا نجزّ حرمة المخالفة القطعية تعارضت الاصول - أي استصحاب الطهارة في ماء الف مع اصالة الطهارة في ماء باء - وإذا تعارضت وتساقطت جرت اصالة الطهارة في ماء الف، فجريان اصالة الطهارة في ماء الف فرع منجزية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية ولكن في طول جريانه ينحل العلم الاجمالي حكماً ومعنى انحلاله حكما عدم وجوب الموافقة القطعية لا عدم حرمة المخالفة القطعية فبجريانه ترتفع منجزية العلم الإجمالي لا لحرمة المخالفة القطعية كي يلزم من وجوده عدمه، بل ترتفع منجزيته لوجوب الموافقة القطعية، فما توقف على جريان الاصل غير ما توقف جريان الاصل عليه.

الجواب الرابع: ما ذكره سيدنا: وبيانه بذكر أمور ثلاثة:

الأمر الاول: ان التضاد من احكام الخارج لا من احكام الرتب العقلية، سواء كان هذا التضاد بين الاحكام الخارجية التكوينية أو بين الاحكام الاعتبارية وبيان ذلك ان التضاد هو عبارة عن قصور موضوع الخارجي عن استيعاب صفتين في آن واحد فهو من شؤون عالم العين حيث إنَّ الموضوع الموجود خارجاً لا قابلية له لاستيعاب وصفين في ان واحد كان يكون الجسم قابلا للاتصاف بالقيام والقعود في ان واحد وبالتالي فكون أحد الضدين متأخرا رتبة عن الآخر أو غير متأخر رتبة لا دخل له في ثبوت التضاد، لذلك قيل في مسالة الضد في الاصول لا يعتبر في المضادة بين شيئين وحدة الرتبة بل يكفي في المضادة بينهما اجتماعهما في وعاء الزمان وان كانا مختلفين رتبة، فلو فرضنا ان القيام متأخر رتبة عن القعود مع ذلك مجرد ان هذا بحسب الرتب العقلية متأخر عن هذا لا يرفع المضادة بينهما لأن المضادة من احكام عالم العين، لا من احكام عالم الرتب العقلية والمدار في المصادمة وعدمها في عالم العين الاجتماع في الزمان وعدمه، فالتضاد من شؤون عالم العين بلحاظ الاجتماع في الزمان، لا من شؤن عالم الرتب العقلية، وهذا لا يختص بالأوصاف الخارجية بل يشمل الامور الاعتبارية. مثلاً: لو جعل المقنن الوجوب لصلاة الجمعة وجعل الحرمة لصلاة الجمعة عند العلم بوجوبها لا في نفسها فمن الواضح حينئذٍ ان الحرمة متأخرة رتبة عن الوجوب، لأن الوجوب جعل لصلاة الجمعة من حيث هي بينما الحرمة جعلت لها إذا علم بالوجوب المجعول ولكن مع ذلك أي مع ان الحرمة متأخرة رتبة عن الوجوب الا انهما متضادان، مما يكشف عن ان التضاد لا يعتبر فيه وحدة الرتبة بل يكفي فيه الاجتماع في الزمان فالمكلف متى علم بالوجوب كان العمل حراما عليه فصارت الحرمة الفعلية عند العلم بالوجوب مضادة للوجوب الفعلي اما بحسب المبدأ أي المصلحة والمفسدة أي من حيث الباعثية والزاجرية فإذا تبين ذلك وهو ان المضادة من شؤون عالم العين لا عالم الرتب اذن المعارضة بين أصالة الطهارة في ماء الف واصالة الطهارة في ماء باء لا يعتبر فيها وحدة الرتبة، بل حتّى لو كان متفاوتين رتبة بأن كانت اصالة الطهارة في ماء باء هي في رتبة استصحاب الطهارة في ماء الف واستصحاب الطهارة في ماء الف متقدم رتبة على اصالة الطهارة في ماء الف فأصالة الطهارة في ماء الف ليست متحدة رتبة مع اصالة الطهارة في ماء باء، الا ان هذا لا يرفع المضادة بينهما لمجرد انهما مختلفان رتبة، بل المهم هل انهما يجتمعان زمانا أم لا.

الأمر الثاني: مقتضى إطلاق دليل اصالة الطهارة لجريانه في باء انه جاري مع وجود استصحاب الطهارة في ماء ألف أو مع سقوطه، فإن دليل اصالة الطهارة مطلق ومقتضى اطلاقه انه يجري في ماء باء سواء جرى استصحاب الطهارة في ماء ألف أم لا فمقتضى هذا الاطلاق اجتماع اصالة الطهارة في ماء باء مع اصالة الطهارة في ماء ألف وان كان هناك تفاوت في الرتبة.

الأمر الثالث: ان النكتة التي اوجبت المعارضة والتساقط بين اصالة الطهارة في ماء باء واستصحاب الطهارة في ماء الف توجب التساقط في ماء باء واصالتها في ماء الف فكما ان الجمع بين اصالة الطهارة في ماء باء واستصحاب الطهارة في ماء الف غير معقول لأنّه ترخيص في المخالفة القطعية فكذلك الجمع بين اصالة الطهارة في ماء باء واصالة الطهارة في ماء الف.

فتحصل من ذلك:

ان العلم الاجمالي لا ينحل بجريان الاصل الطولي لأنّ غاية الطولية هو تأخر الرتبي عن الاصل العرضي في الطرف الآخر، ولكن هذا لا يرفع المعارضة بينهما.

والحمدُ لله ربِّ العالمين