العبادة في شخصية الإمام الحسن الزكي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا من خلال الآية المباركة في جهتين:

  • في خصائص العبودية.
  • وفي مراحل العبودية.
الجهة الأولى: خصائص العبودية.

الآية المباركة عبّرت بعبادي، ولم تعبّر بالناس، ولم تعبّر بالخلق، لم تقل: وإذا سألك الناس، ولم تقل: وإذا سألك الخلق، قالت: وإذا سألك عبادي، القرآن الكريم يعبّر أحيانًا بالناس، ويعبّر أحيانًا بعبادي، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وأحيانًا يعبر بعبادي: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، إذن هناك فرق بين الإنسان وبين العبد، هناك فرق بين الناس وبين العباد، هناك فرق بين الخلق وبين عباد الله عز وجل، كل مخلوق فهو مملوك لله، وكل مملوك لله فهو عبد، ولكن هل كل عبد عرف أنه عبد؟ وهل كل عبد أبرز العبودية؟ وهل كل عبد ذاق طعم العبودية لله عز وجل؟ جميع المخلوقين عبيد لله؛ لأنهم مملوكون لله، والقرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ أي أننا ملك له ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ولكن هل كل المخلوقين يصح التعبير عنهم بأنهم عباد الله، وأنهم عباد الرحمن، وأنهم عبادي، الذين يعبر عنهم القرآن بعبادي، أم لا؟ لا، ما هو الفرق بين الإنسان والعبد؟ ما هو الفرق بين الناس والعبيد؟

الإنسان المخلوق له قراءتان لهذا الكون: القراءة الأولى هي القراءة الذاتية، أن يقرأ الإنسان هذا الكون قراءة على نحو الكثرة، هناك شمس، هناك قمر، هناك إنسان، هناك حيوان، هناك ذكر، هناك أنثى، هناك أرض، هناك هناك، إذا قرأ الإنسان الكون على نحو الكثرة، هذه تسمى بالقراءة الذاتية، إذا قرأ الإنسان الكون على نحو الكثرة فهو إنسان وليس عبدًا، لكن هناك قراءة أخرى للكون، أن تقرأ الكون قراءة طريقية لا قراءة ذاتية، بمعنى أنك ترى هذا الكون وجودًا واحدًا، أن تقرأه على نحو الوحدة لا على نحو الكثرة، أن تقرأ هذا الكون خيطًا واحدًا، وجودًا واحدًا، ظلًا واحدًا، هذا الكون بجميع ذراته، وبجميع مجراته، ظلٌ واحدٌ للموجود الواحد، وهو الله عز وجل، هذا الكون بجميع مظاهره يرجع إلى حقيقة واحدة، حقيقة الظلية، حقيقة المرآتية، حقيقة الطريقية، حقيقة الإشارية للوجود الأتم، وجود الله تبارك وتعالى، هذا الكون ليس سماء وأرضًا وذكرًا وأنثى، هذا الكون ما هو إلا مرآة وظل، ظل لذلك الوجود الذي قدرة كله، وعلمه كله، وحياة كله، ورحمة كله، فما هذا الكون إلا مرآة ووجه ومعبر عن ذلك الوجود الأتم.

عندما يقرأ الإنسان الكون قراءة طريقية فإنه عبد وليس إنسانًا فقط، إنه يقرأ الله من خلال قراءة مخلوقاته ومظاهره، إذا قرأه بهذه القراءة الطريقية فهو من عباد الله، هو ممن يتصف بالعبودية، كما ورد في الحديث الشريف: ”إن الله اتخذ عبدًا قبل أن يتخذه نبيًا“، إبراهيم عبد منذ ولادته، والخلق كلهم عبيد، فما معنى أن الله اتخذ إبراهيم عبدًا؟ معنى ذلك أنه جعل ممن يقرأ الكون قراءة طريقية، جعله ممن يعرف العبودية، جعله ممن يعرف أنه ظل لله، وليس ذاتًا لها وجود استقلالي عن الله تبارك وتعالى.

إذن، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي كلمة عبادي تشير إلى صنف من الخلق، تشير إلى نخبة من الخلق، وهي نخبة العباد الذين ذاقوا طعم العبودية، هؤلاء ما هي خصائصهم؟ القرآن ماذا يذكر عن خصائص هؤلاء؟ هؤلاء يذكر لهم القرآن عدة خصائص، نذكر منها ثلاث خصائص:

الأولى: البناء النفسي.

بناؤهم النفسي يختلف عن بناء الآخرين، كيانهم النفسي الوجداني يختلف عن كيان الآخرين، هؤلاء يعبّر عنهم القرآن: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، عباده العلماء هم الذين يخشونه، هم الذين يعيشون حالة من الرهبة والقشعريرة والخوف والإنابة والإقبال عليه، هؤلاء يتعلقون به تعلق الرهبة والخوف والإنابة، هؤلاء لهم كيان نفسي يختلف عن الكيان النفسي الذي يتمتع به الآخرون، الآخرون لأنهم يقرؤون الكون قراءة ذاتية، لأنهم يرون الكون على نحو الكثرة، يشعرون أنهم لهم وجود، ولهم استقلال، ولهم شخصية، ولذلك لأنهم يشعرون أن لهم وجودًا واستقلالًا وكيانًا لا يعيشون طعم الخوف، لا يعيشون طعم الرهبة، لا يعيشون طعم الخشية، لا يعيشون طعم الإقبال على الله، أما الذين لا يرون شيئًا إلا وجه الله، لا يرون شيئًا غير الله، لا يرون إلا ظلالًا تعبر عن ذي الظل، تعبر عن الجمال الأتم، تعبر عن الوجود المطلق، إذن هم دائمًا في حالة رهبة وخشية.

الثانية: الكيان الفكري.

كما أن كيانهم النفسي يختلف عن كيان غيرهم، فكرهم أيضًا يختلف عن فكر غيرهم، القرآن يقول: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ من هم عبادي؟ ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، المقاييس الفكرية عند عبادي تختلف عن المقاييس الفكرية عند الناس وعند الخلق، مقاييسهم وموازينهم الفكرية تختلف عن الآخرين، الآخرون عندما تُعْرَض عليهم الأفكار ويُطْلَب منهم تمييز الخطأ من الصواب، ما هو الميزان لديهم؟ الميزان المصلحة، الفكرة التي لها مصلحة أكبر هي الفكرة الأصوب، الرأي الذي له نفع أكبر هو الرأي الأصوب، هؤلاء برجماتيون، هؤلاء هم الناس، هؤلاء هم الخلق، الذين لا يفكرون إلا بموازين المصالح والمنافع المادية.

وأما عبادي فميزانهم يختلف عن ذلك، يميزون الفكرة الخاطئة من الفكرة الصائبة بكل فكرة هي أقرب إلى السماء، الفكرة التي تقترب من الأرض فكرة خاطئة، والفكرة التي تصعد إلى السماء هي الفكرة الصائبة، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، العمل الصالح، الفكرة الطيبة، الكلم الطيب، يرتفع عن الأرض إلى السماء، هؤلاء يقرؤون الأفكار من خلال السماء لا من خلال الأرض، يقرؤون الأفكار من خلال ما يرضي الله لا من خلال ما يترتب عليها من المصالح والمنافع المادية.

الثالثة: الكيان الاجتماعي.

كيف يتعامل الناس مع الناس، وكيف يتعامل عبادي مع الناس؟ عبادي يتعاملون مع الناس لا كما يتعامل الناس مع الناس. الإنسان الذي يرى أن له وجودًا لا يحتاج إلى الآخرين، يرى له وجودًا ماديًا أو وجودًا اجتماعيًا أو وجودًا فكريًا أو وجودًا علميًا، عندما يرى لنفسه وجودًا واستقلالًا فإنه يعيش مع الناس، ويتعامل مع الناس تعامل الزهو والغرور والاستقلالية والاستعلاء، ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، يمشي على الأرض مرحًا، أي: يمشي بروح الزهو والغرور؛ لأنه يرى لنفسه وجودًا.

أما عبادي فإنهم لا يرون لأنفسهم شيئًا، لا يرون أنفسهم إلا ظلًا لله، فلماذا الغرور، ولماذا الفخر، ولماذا الزهو، وهم كالآخرين، ظل لله عز وجل؟! لذلك ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، يمشون بروح التواضع، وبروح السكينة، وبروح الوقار، لأنهم لا يرون لأنفسهم إلا أنهم ظل لله عز وجل، والظل يحاكي ذا الظل، يحاكيه في السكينة والوقار والتواضع، الظل يحاكي ذا الظل.

كيف علاقتهم مع الآخرين؟ كيف يتعامل عبادي مع الآخرين؟ ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، إذا رأوا الجاهلين تأسفوا وتحسروا، هؤلاء الجاهلون بعيدون عن العبودية، بعيدون عن طعم العبودية، فمن أجل أن نقرّبهم إلى حظيرة العبودية، من أجل أن نجذبهم إلى دائرة العبودية، نقول لهم: سلامًا، السلام، إفشاء السلام، إفشاء المحبة، إفشاء البسمة، إفشاء التواضع، إفشاء مظاهر المحبة والسلام يجذب الجاهلين، ويجعلهم عبيدًا لله.

الإمام الحسن الزكي إذا جلس على قارعة الطريق امتنع المارة هيبةً له وإجلالًا. هذا الذي يمشي على الأرض هونًا، هذا الذي يحكي ظل الله عز وجل على الأرض، إذا رآه المارة امتنعوا هيبةً له وإجلالًا. هذا هو نفسه يلحقه رجل شامي، يشتمه ويشتم أباه أمير المؤمنين، والإمام الحسن كأنه لا يستمع إليه، حتى إذا انتهى من سبابه وشتمه التفت إليه، قال: ”يا هذا، أظنك غريبًا، ولعلك اشتبهت فينا، فإن كنت عطشًا أرويناك، وإن كنت جائعًا أشبعناك، وإن كنت طريدًا آويناك، فهلا حولت رحلك إلينا، ونزلت ضيفًا علينا، فإن لنا منزلًا رحبًا، وجاهًا عريضًا، ومالًا وفيرًا“، فما تمالك الرجل حتى انكب عليه يقبّله.

بمناسبة أن الليلة الآتية ليلة ميلاد الإمام الحسن الزكي ، نربط الموضوع بشخصية الإمام الحسن الزكي ، يمر على الفقراء وهم يقطّعون كسر الخبز ليأكلوها، فيقولوا: يا أبا محمد، تغدَّ معنا، فيقول: إن الله لا يحب المتكبرين، ويجلس من جواده، ويجلس جلستهم، ويأكل من طعامهم، ويشاركهم بالبسمة والمحبة والتواضع، ثم يدعوهم إلى منزله، فيضيفهم ضيافة تامة. إذن، عبادي لهم خصائص ثلاث: البناء النفسي، والبناء الفكري، والبناء الاجتماعي، يختلفون في هذه الخصائص الثلاث عن غيرهم من الناس.

الجهة الثانية: مراحل العبودية.

إذا أردت أن أكون عبدًا لله، إذا أردت أن أندرج تحت قول القرآن الكريم: عبادي، إذا أردت أن يعبر الله عني بأنني من عباده، فكيف أكون من عباده؟ هناك مراحل ثلاث للعبودية تتعرض لها الآية المباركة:

المرحلة الأولى: مرحلة العشق ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي.

هم يسألون عني، عبادي يسألون عني، المحب يسأل عن محبوبه، العاشق يسأل عن معشوقه، السؤال أول المراحل، أن تسأل عن ربك، السؤال أول مراحل العبودية، السؤال يعني العشق، يعني الشوق، يعني الرغبة، أول مراحل العبودية السؤال، السؤال على نوعين: سؤال فكري، وسؤال وجداني.

السؤال الفكري هو الطلب، ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، هذا سؤال فكري، ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا، وأما النوع الثاني فهو السؤال الوجداني، بمعنى: ليس هناك استفهام، ليس هناك طلب فكري، وإنما هناك لهفة وشوق وغليان، الغليان الشعوري، الغليان الوجداني الذي يعني أقصى مراتب اللهفة والحسرة والشوق، هذا هو السؤال الوجداني، هؤلاء ظمئوا إلى الله، عطشوا إلى لقاء الله، عشقوا الله عز وجل، جاؤوا النبي لا يسألون: أين مكان الله؟! وكيف الله؟! ومتى الله؟! بل يسألون: كيف نلتقي بمحبوبنا الأتم؟ يسألون عني، يسألون عن لقائي، يسألون كيف يلتقون معي، لأنهم يعيشون لهفة وشوقًا إلى لقائي، وإذا سألك هؤلاء المشتاقون عني، وإذا سألك هؤلاء العاشقون لي، فأنا معهم، أنا مع من يحبني، أنا مع من يعشقني، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ.

إذن، المرحلة الأولى مرحلة العشق، مرحلة السؤال، أسأل يعني أتنفل، أسأل يعني أقرأ القرآن، كيف أعرف أنني أسأل؟ أعرف أنني أسأل إذا جئت برغبة واختيار وصليت صلاة الليل، إذا أنا صليت صلاة الليل برغبة وبشوق فأنا من السائلين، أنا أسأل عن لقاء الله عز وجل، هذه هي المرحلة الأولى.

المرحلة الثانية: مرحلة القرب واللقاء ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ.

ما معنى قريب؟ نحن نختلف مع السيد صاحب الميزان «قدس سره»، القرب على نوعين، على درجتين: قرب الإحاطة، وقرب المحبة والشفقة، فأنا مثلًا قريب من ولدي، بمعنى: مسيطر عليه، مراقب لأفعاله، مشرف على مسيرته، هذا قرب الإحاطة، لكن هذا لا يعني قرب المحبة، قرب المحبة أخص من قربة الإحاطة، قد أكون قريبًا من ولدي كما يقرب السجّان من سجينه، وقد أكون قريبًا من ولدي كما يقرب السيد من عبده، وقد أكون قريبًا من ولدي قربَ الحنان والشفقة والمحبة، فالقرب على قسمين ونوعين.

قرب الإحاطة: جميع ما في الكون ما هو إلا ربط وتدلٍ بالله عز وجل. ما هي علاقة ضوء الشمس بالشمس؟ ضوء الشمس مرتبط بالشمس، ضوء الشمس هو عين الربط وعين التدلي بالشمس، جميع ما في الكون بالنسبة إلى الله هكذا، نسبتنا إلى الله نسبة ضوء الشمس للشمس، نحن ربط وتدلٍ بالوجود المطلق، الوجود الأتم لله تبارك وتعالى، نحن كذلك. إذن، بما أننا ربط بالله عز وجل، فالله قريب منا قرب إحاطة، محيط بنا، مسيطر علينا، متمكن منا، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، نحن أقرب إليك من نفسك ومن روحك، هذا يسمى قرب الإحاطة.

ولكن هناك قرب المحبة، هل هو قريب منا قرب المحبة؟ هل هو قريب منا قرب الرحمة؟ هل هو قريب منا قرب الشفقة؟ قرب المحبة هو الذي يعبّر عنه القرآن الكريم: ﴿وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ، معهم برحمته، معهم بمدده، معهم بعطائه، ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ نحن معه قرب المحبة ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. إذن، قرب المحبة هو الذي يعبّر عنه القرآن بالمعية، ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، المعية هي قرب المحبة، نحن نريد أن نصل إلى قرب المحبة، وإلا قرب الإحاطة حاصل لكل إنسان، نحن نريد أن نكون قريبين منه، ونريد أن يكون قريبًا منه قربَ المحبة.

إذن، فالمرحلة الثانية هي مرحلة القرب. إذا رآك تعالى أقبلت عليه، وسألت عنه سؤال المحب، سؤال العاشق، قرب منك، ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، آواه إليه، قرّبه إليه، فحصل على قرب المحبة، وقرب المعية، كانت رؤية قلبية، كان لقاء قلبيًا، كان لقاء وجدانيًا، كان لقاء المحبة والمودة.

إذن، المرحلة الثانية هي مرحلة القرب واللقاء، التي يعبر عنها الإمام علي : ”ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“، ما هي قيمة الجنة إذا لم تكن قربًا نفسيًا؟! الجنة إذا كانت مجموعة من اللذائذ المادية فلا خير فيها عندي، أنا لا أطلب لذائذ مادية، أنا شخص لا يطلب اللذائذ المادية، الناس، الخلق، هم الذين يركزون على الحور العين، وقصور الجنة، وأنهارها، وخمرها، ولبنها، هؤلاء هم الخلق، هم الناس، أما عباد الرحمن فإنهم لا يركزون على اللذائذ المادية، بل يركزون على اللقاء، بما أنهم يركزون على اللقاء إذن أنا في الدنيا وأن مستغن عن الجنة بلذائذها المادية، أنا أطلب اللقاء الروحي، ولذلك ورد في حديث آخر عنه: ”إن كنت أعبدك خوفًا من نارك فأحقرني بها، وإن كنت أعبدك طعمًا في جنتك فلا تدخلني إياها، إنما أعبدك لك“، ”ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك“.

الإمام الحسن الزكي يمشي للحج من المدينة إلى مكة ماشيًا على قدميه، والنجائب تقاد بين يديه، يقول: ”أستحي أن أركب الناقة وأنا وافد على ربي“، هكذا يمشي على الأرض، يمشي على الأرض هونًا وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، وكان إذا وقف على باب المسجد وقف حزينًا كئيبًا خاشعًا ذليلًا وهو يقول: ”أتدرون أني أقف بين يدي من؟! إني أقف بين يدي جبار الجبابرة وملك الملوك“. الإمام الحسن الزكي هو الذي يعيش المرحلة الثانية من مراحل العبودية، وهي مرحلة لقاء المحبة، ومرحلة قرب الرحمة.

المرحلة الثالثة: مرحلة الإجابة ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.

المرحلة الثالثة مرحلة الخلافة، لا فقط مرحلة الإجابة، ما معنى مرحلة الخلافة؟ نحن الناس، نحن الخلق، نحن الذين ينطبق علينا كلمة الناس وكلمة الخلق، نسعى لماذا؟ نسعى للإجابة المادية، أنا أريد أن يشفى مرضي، أنا أريد أن يرزقني الله أولادًا، أنا أريد أن أصل إلى أعلى وظيفة وأعلى منصب مادي، نحن الناس مشغولون بالقضايا المادية، لذلك نصر على أن يجيب الله دعواتنا في القضايا المادية، وإذا لم يجبنا الله قلنا: تخلف الله عن وعده! أخلف الله وعده! لأنه قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ونحن ندعو ولم يستجب لنا، لم نصل إلى مطامحنا ومطامعنا المادية الدنيوية، نحن ملكيون، أي: من عالم الملك، من عالم المادة، فدعواتنا مادية، وإصرارنا مادي، نصر على أن الله يجيب دعواتنا إجابة مادية.

الله تبارك وتعالى يقول: عبدي كن عبدي، لا تكن من الناس، كن عبدي وأنا أجيبك على دعائك، ولكن لا إجابة ملكية، بل إجابة ملكوتية، أوصلك إلى مقام الخلافة، ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، أوصلك إلى مقام الخلافة، أي: أجعل إجابة الدعوة بيدك، أنت بيدك تجيب الدعوة أو لا تجيبها، أسلّم أمر الإجابة بيدك، ماذا تريد أكثر من هذا؟! أنت لا تحتاج إلى هذا فقط، أنا أريد أن يرزقني الله أولادًا، إذن لا بد أن يرزقني أولادًا! أنا أقول لك: إذا صرت عبدي، وقربت مني، سأوصلك إلى مرحلة بيدك أن تقرّر أن ترزق أولادًا أو لا ترزق أولادًا، ”عبدي أطعني تكن مثلي، أنا أقول للشيء: كن فيكون، وتقول للشيء: كن فيكون“.

أنا أريد أن أوصلك لا إلى الإجابة الملكية، بل أريد أن أوصلك إلى الإجابة الملكوتية، بمعنى أن يكون تحقيق الدعوة بيدك، أنت تعرف المصلحة، هل في صالحك إجابة الدعوة أو ليس في صالحك، فإجابة الدعوة بيدك، أوصلك إلى هذا المقام، مقام الخلافة، الذي هو أعظم من مقام الإجابة المادية، ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ أنا أخلق ﴿مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ أنا أنفخ ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ، الله أذن لي فصرت خليفة عنه، ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ، والخاتم القرشي الهاشمي سيدنا رسول الله يشير بإصبعه إلى السماء ليحقق مقام الخلافة ومقام الإجابة الملكوتية.

فما الكليم وما العصا وما الحجر   فهو    بسبابته    شق   iiالقمر

إذن، المرحلة الثالثة من مراحل العبودية أن أوصلك إلى هذه المرحلة، مرحلة الإجابة الملكوتية، مرحلة الخلافة، بأن يكون بيدك إجابة الدعوة، كما كان عليه محمد وعلي وفاطمة وحسن وحسين، ”ما خلقت سماء مبينة، ولا أرضًا مدحوة، ولا قمرًا منيرًا، ولا شمسًا مضيئة، ولا فُلكًا يسري، ولا بحرًا يجري، إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء، قيل: ومن تحت الكساء؟ قال: هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها“.