القيادة الإنسانية في سيرة أمير المؤمنين

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ

صدق الله العلي العظيم

روى الفخر الرازي في تفسيره الكبير عن أبي ذر الغفاري - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: رأيت بهاتين إلا وعميتا، وسمعت بهاتين وإلا صمتا، رسول الله يقول: "علي قائد البررة، علي قاتل الفجرة، وذلك إن سائلًا أتى مسجد رسول الله ولم يكن عند الرسول ما يعطيه، فأومأ إليه علي بخنصره وهو راكع، فأخذ خاتمًا بخنصره واشترى بثمنه طعامًا له، فلما سمع ذلك رسول الله رفع يديه في محرابه وهو يقول: اللهم إن أخي موسى سألك ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي فأنزلت عليه: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا، وها أنا ذا أسألك: رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرًا من أهلي، عليًا اشدد به أزري، وأشركه في أمري. فما أتم كلامه حتى نزل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محاور ثلاثة:

  • الولاية بمعناها الواقعي والظاهري.
  • المفهوم الاجتماعي للولاية والقيادة.
  • ما تميزت به قيادة الإمام أمير المؤمنين في دولة الإنسان.
المحور الأول: الولاية الواقعية والظاهرية.

الولاية - كما يذكر علماؤنا الأبرار - لها معنيان: ملكوتي واقعي وملكي ظاهري. الولاية للنبي محمد ، عندما نقول بأن النبي له الولاية، فما هو المقصود بولاية النبي؟ ولاية النبي لها معنيان: الولاية بالمعنى الواقعي، والولاية بالمعنى الظاهري. الولاية بالمعنى الواقعي هي عبارة عن أن النبي يملك سلطنة التأثير على النفوس، النبي قادر على أن يبث في النفوس شعاع الهداية، قادر على أن يبث في النفوس نور الهداية، النبي له قدرة، له سلطنة على أن يبعث نور الهداية في نفوس المؤمنين، وفي نفوس المسلمين، له السلطنة، له الولاية على ذلك.

ولا غرابة في هذا كما ذكرنا عدة مرات، إبليس - لعنه الله - له الولاية على النفوس، فكيف لا يكون للنبي ولاية على النفوس؟! القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، إبليس له ولاية، يستطيع أن يبث وساوسه، ويستطيع أن يبث سمومه وأفكاره الشيطانية في نفوس الآخرين، كما أن إبليس له ولاية التأثير على النفوس بالوسوسة وتزيين العمل الفاسد، النبي له عمل معاكس، أي أن له ولاية بالمعنى المعاكس، له ولاية التأثير على النفوس بأن يبث فيها نور الهداية، بأن يبث فيها شعاع الهداية، معاكس لعمل إبليس تمامًا.

وهذا ما تشير إليه مجموعة من الآيات القرآنية، كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هذا التعبير يشير إلى أن هناك رابطًا تكوينيًا بين نفس النبي وبين الأنفس الأخرى، هناك ربط تكويني، وهذا الربط التكويني يجعل للنبي قدرة على أن يبث نور الهداية والصلاح في نفوس المسلمين والمؤمنين. وتقول آية أخرى: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، كيف يغنينا رسول الله؟ يغنينا رسول الله غنى تكوينيًا واقعيًا من خلال بثه نور الهداية وشعاع الهداية في نفوس المسلمين والمؤمنين، الذين يراهم أهلًا ومستحقين لبث نور الهداية، هذا هو غنى رسول الله محمد .

سلطنة رسول الله على النفوس، وتأثيره في النفوس، كما نطقت به الآية القرآنية: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، هذه السلطنة ليست على نحو العلية التامة كما يقول علماؤنا، وإلا لصار الإنسان مجبورًا على الهداية، هي على نحو الاقتضاء لا على نحو العلية التامة، الرسول يبث نور الهداية في نفس الإنسان المسلم، وأما تحول هذا النور إلى هداية فعلية، استجابة هذا المسلم لهذا النور، هذا أمر بإذن الله تبارك وتعالى.

ولذلك نحن نجمع بين الآيات القرآنية، هناك آيات تنفي الهداية عن النبي، وهناك آيات تثبت الهداية للنبي، فمثلًا: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وفي آية أخرى يقول: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، كيف نجمع بين الآيتين؟ نقول: يهدي على نحو الاقتضاء، أي أن له السلطنة والولاية أن يبث نور الهداية في أنفس المؤمنين، ولكن تحول هذه الهداية إلى هداية فعلية واستجابة سلوكية، هذا منوط بإرادة الشخص، ومنوط بتوفيق الله، ومنوط بمدد الله، وهذا ما نفاه عنه القرآن الكريم.

إذن، الولاية بالمعنى الواقعي الملكوتي هي السلطنة على بث نور الهداية في نفوس المؤمنين، والولاية بالمعنى الظاهري هي بمعنى أن النبي ولي أمر المسلمين، والولاية بالمعنى الظاهري متفرعة على الولاية بالمعنى الواقعي، فلأن له الولاية الواقعية أعطي الولاية الظاهرية، أصبح ولي أمر المسلمين، بمعنى أن حكمه نافذ، إذا صدر منه حكم نفذ، سواء وافق مصالح المسلمين - بحسب تشخيصهم - أو لم يوافق، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، فإذا صدر حكم من النبي المصطفى نفذ هذا الحكم على كل نفس، على كل مؤمن، على كل شيء، سواء هذا الحكم متعلقًا بالأنفس أو بالأعراض أو بالأموال.

إذن، النبي له ولايتان: ولاية واقعية، وولاية ظاهرية. هاتان الولايتان ثبتتا للإمام أمير المؤمنين ، وذلك أولًا بسياق الآية، القرينة السياقية للآية، ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وهو الإمام أمير المؤمنين، أي أن الولاية التي ثبتت للنبي ثبتت لهذا الإنسان الذي اتصف بالإيمان والصلاة والزكاة وهو راكع، قرينة السياق - كما يقول العلماء - تدل على أن الولاية واحدة، الولاية التي ثبتت للنبي بكلا قسميها، الولاية الواقعية والولاية الظاهرية، ثبتت للإمام أمير المؤمنين ، بكلا هذين المعنيين، وبكلا هذه القسمين. ولما أشار إليه النبي يوم الغدير عندما قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ بكلا القسمين: ولاية واقعية وولاية ظاهرية، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ”من كنت مولاه - بكلا القسمين أيضًا - فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار“.

المحور الثاني: القيادة في الفكر العلوي.

الولاية بالمعنى الاجتماعي وبالمفهوم الاجتماعي هي بمعنى القيادة، قيادة الأمة، قيادة المجتمع الإسلامي، نحن الآن نريد أن نتحدث عن القيادة، وذلك من خلال مفهومين: القيادة في نظر علماء الاجتماع، والقيادة في نظر الإمام أمير المؤمنين ، لنقارن بين المفهومين، بين مفهوم القيادة بنظر علماء الاجتماع، ومفهوم القيادة في الفكر العلوي، فكر الإمام أمير المؤمنين .

المطلب الأول: القيادة في نظر علماء الاجتماع.

هناك سؤالان نطرحهما: ما هو مفهوم القيادة؟ وما هي عناصر القيادة؟

السؤال الأول: ما هو مفهوم القيادة؟

القيادة يعرفها علماء الاجتماع بأنها القدرة على التأثير في سلوك الآخرين، وقد مر عليك هذا المصطلح: هناك فرق بين المدير والقائد، هناك فرق بين الرئيس والقائد، ليس كل رئيس قائدًا، ليس كل مدير قائدًا، هناك فرق بين الإدارة والرئاسة والقيادة، الرئيس من حصل على منصب الرئاسة، انتخب، صار رئيس شركة أو دائرة معينة، المدير هو من يضع البرنامج وخطة العمل، المدير منظِّر يضع برنامجًا وخطة لعمل الشركة، ولكن القائد هو الذي يمتلك القدرة على التأثير، ليس كل من كان رئيسًا فهو يمتلك القدرة على التأثير، ليس كل من وضع برنامجًا فهو قادر على تنفيذه وتفعيله، القيادة هي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين، هي القدرة على التأثير في نفوس الآخرين، هي القدرة على التأثير في استجابة الآخرين، فالقيادة تتميز عن الإدارة، وتتميز عن الرئاسة.

السؤال الثاني: ما هي عناصر القيادة؟

راجع مجلة عالم المعرفة، العدد 176، راجع كتاب السلوك التنظيمي للدكتور عبد الله نجم، يشرح مفهوم القيادة في نظر علماء الاجتماع. عناصر القيادة ثلاثة:

العنصر الأول: القاعدة.

قائد بدون قاعدة قاعد فاشل، لا يمكن أن يكون الإنسان قائدًا حتى يكون له قاعدة شعبية، حتى يكون له أتباع يثقون بكفاءته، يعتقدون بأنه قادر على تلبية متطلباتهم، وقادر على إيصالهم لطموحاتهم وما يريدون، إذن القائد بدون قاعدة ليس بقائد.

العنصر الثاني: القوة.

قائد بدون قوة قائد فاشل، من أين يكتسب القوة؟ القوة إما قوة مركزية أو قوة شخصية، القوة المركزية هي القوة التي يكتسبها الإنسان من منصبه، صار رئيسًا فاكتسب القوة، صار مديرًا فاكتسب القوة، هذه قوة مركزية، يكتسبها الإنسان من مركزه، المهم هو القوة الأخرى، وهي القوة الشخصية، هو شخصية قوية، هو وإن لم يكن له مركز، وإن لم يكن له منصب، وإن لم يكن له موقع، لكنه شخصية قوية، المهم في القيادة قوة الشخصية، أن يكون له شخصية قوية، كيف يصبح الإنسان له شخصية قوية بحيث يستطيع التأثير في سلوك الآخرين وفي تصرفاتهم؟

هناك عوامل ثلاثة لقوة الشخصية، هذه يذكرها حتى علم البرمجة العصبية ويؤكد عليها. العامل الأول هو وفرة المعلومات، فالقائد هو الذي يمتلك معلومات وافرة، وثقافة واسعة، لأن طبيعة المجتمع البشري تنجذب إلى الشخص صاحب التجربة الطويلة، صاحب الخبرة الواسعة، تنجذب إليه طبائع المجتمعات البشرية، ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ. العامل الثاني هو قوة الأسلوب، القائد عنده أسلوب، عنده مهارة في الأداء، عنده مهارة في الإقناع، وفي إيصاله أفكاره إلى أذهان الآخرين، المهارة في الأداء وقوة البيان والقدرة على الإقناع عامل مهم في قوة شخصية القيادة. العامل الثالث هي الكارزمية، والشخصية الكارزمية هي الشخصية الجذابة، هناك أشخاص يمتلكون عنصر الجذب، إما يمتلك جمال الشكل، والجمال عنصر جذب، أو يمتلك سمات روحية، طول في القامة مثلًا، أو مفتول عضلات مثلًا، أو أن أجزاء جسمه أو أجزاء وجهه متناسقة، الكارزمية هي أن يمتلك خصائص جذابة من خلال شكله ومن خلال سمته وهديه، وهذا أيضًا عامل من عوامل قوة الشخصية.

العنصر الثالث: الموقف.

هنا يذكر علم البرمجة العصبية أن هناك نظريات، نحن لا ندخل في التفاصيل، نشير إليها إشارة سريعة، هناك نظريات في القيادة، ثلاث نظريات: نظرية تقول بأن القيادة موهبة من الله عز وجل، وهذه تسمى نظرية السمات. هناك نظرية أخرى تقول بأن القيادة اكتساب، الإنسان يخالط القادة، يخالط من يمتلكون منصب القيادة، يكتسب منهم روح القيادة، يصبح قائدًا، هذه النظرية السلوكية، وهناك نظرية ثالثة يتبناها علم البرمجة العصبية، وهي أن القيادة موقف، الإنسان يكتسب قيادته من الموقف، ما هي مواقفه في الأحداث؟ ما هي مواقفه في الأزمات؟ ما هي مواقفه في حالات الصراع وفي حالات التشنج؟ الموقف هو الذي يبيّن من هو القائد ومن ليس بقائد، القيادة موقف.

وهذا لا يعني أن الإنسان يستطيع أن يصبح قائدًا مباشرة، هناك إنسان يصلح لموقف في ظرف، ولا يصلح لموقف في ظرف آخر، الظروف الاجتماعية تتغير، ولكل ظرف متغير موقف يناسبه، فليس كل إنسان صالحًا لأن يكون قائدًا دائمًا، بمعنى أن تكون مواقفه دائمًا منسجمة مع الظروف المتغيرة، القيادة موقف، ولذلك القائد المحنّك الذي يبقى على مدى طويل يثبت براعته في مجال القيادة هو القائد الذي يقف موقفًا ينسجم في كل ظرف مع معطيات ذلك الظرف، إذا قدر على أن يقف في كل ظرف موقفًا ينسجم مع طبيعة ذلك الظرف فهو القائد المحنّك، والقائد القادر على أن يبقى في سماء القيادة على مدى طويل.

المطلب الثاني: القياد في الفكر العلوي.

الإمام أمير المؤمنين ماذا يقول عن القيادة؟ الإمام أمير المؤمنين كيف يتحدث عن القيادة؟ الإمام أمير المؤمنين يرى أن القيادة هي الصفة التي تنبع من إنسانية الإنسان، أي أن القائد هو إنسان قبل أن يكون قائدًا، القيادة هي التي تكون منطلقاتها إنسانية، أصولها إنسانية، نابعة من صميم إنسانية الإنسان، القائد الإنساني هو القائد الذي تكون منطلقاته إنسانية، لا منطلقات برجوماتية، ولا منطلقات مصلحية، منطلقاته إنسانية، فهو القائد الواقعي، القائد بالمعنى الصحيح للقائد. الإمام أمير المؤمنين ذكر خمس خصائص للقائد، حتى يكون قائدًا إنسانيًا هناك خمس خصائص لا بد أن يتسم بها، خصوصًا إذا كان قائدًا دينيًا، مرجعًا، عالمًا، إمامَ منطقة، هناك خمس خصائص يتسم بها كي يكون مؤهلًا للقيادة في نظر الإمام أمير المؤمنين .

السمة الأولى: أن المنصب وسيلة وليس غاية.

ليس القائد هو الذي يضحي بكل شيء في سبيل أن يتشبث بالمنصب، وأن يتشبث بالموقع، وإنما القائد هو الذي يضحي بكل شيء في سبيل أن يؤثر في نفوس الآخرين، وأن يؤثر في سلوك الآخرين، حتى لو خسر موقعه ومنصبه، إذا كان هدفه وهمه أن يؤثر في سلوك الآخرين، وأن يضحي بكل شيء في سبيل التأثير في سلوك الآخرين، فقد امتلك الخصوصية الأولى من سمات القائد.

جاؤوا إلى الإمام أمير المؤمنين عندما استلم الخلافة، قالوا: يا أبا الحسن، هلّا قدمتَ أشراف قريش ووجهاء العرب وأنفقت عليهم إلى أن يثبت سلطانك ثم اصنع ما تشاء؟ قال: ”أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟! والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم؟! والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“. علي ضحى بكل شيء في سبيل أن يبقى عليًا على مدى التاريخ، ضحى بالمنصب، ضحى بالموقع، في سبيل أن يؤثر في سلوك الأجيال المتعاقبة إلى يوم القيامة.

السمة الثانية: الحس الاجتماعي.

القائد ليس إنسانًا أنانيًا متقوقعًا في ذاته لا يفكر إلا بطنه وجيبه وفرجه وراحته وسلامة سائر أموره، القائد ليس إنسانًا أنانيًا، بل هو إنسان تجاوز ذاته، يمتلك ضميرًا حيًا، يشعر بآلام مجتمعه، ويتحسس مأساة مجتمعه، يعيش عيشة تنسجم مع طبيعة مجتمعه، وهذا ما كان عليه الإمام أمير المؤمنين . يقول هارون بن عنترة: دخلت عليه في الكوفة، فرأيته جالسًا على حصير، وعليه قطيفة خلقة، فقلت: يا أبا الحسن، لماذا تفعل بنفسك هكذان وقد جعل الله لك ولأهل بيتك نصيبًا من بيت المال؟ قال: ”يا بن عنترة، والله ما أرزؤكم شيئًا - لا آخذ من أموالكم شيئًا - وإنها لقطيفتي التي جئت بها من المدينة. يا بن عنترة، لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، أو يقودني شجعي، إلى تخير الأطعمة، ولعل باليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع، ولا طمع له بالقرص. أأبيت مبطانًا وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى؟! أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟!“.

وحسبك داءً أن تبيت ببطنةٍ   وحولك  أكباد تحن إلى القدِّ

السمة الثالثة: الشفافية.

القائد صريح مع أتباعه، صريح مع من يتبعه، ليس للقائد أسرار وراء أتباعه ووراء قاعدته الشعبية التي تلوذ به. الكونغرس الأمريكي عام 1970 أصدر قانونًا اسمه «الحكومة تحت أشعة الشمس»، بمعنى أن القانون يحظر على أي مجموعة فيدرالية أن تعقد أي اجتماع من دون علم من الشعب، من دون اطلاع من الجماهير. الإمام أمير المؤمنين أسّس مبدأ الشفافية من قبل 1300 سنة، قبل أن ينطق هؤلاء بهذا المبدأ، الإمام أمير المؤمنين وقف في الكوفة، قال: ”أيها الناس، إن لكم عليَّ ألا أحتجز دونكم سرًا إلا في حرب، وألا أطوي دونكم على أمر إلا في حكم، وألا أؤخر لكم حقًا عن محله، وألا أقف به دون مقطعه، وأنكم عندي في الحق سواء، وأن لي عليكم الطاعة وإخلاص النية“.

السمة الرابعة: المحاسبة.

الإمام علي ليس جالسًا في بيته ولا يدري عن المجتمع شيئًا، ولا يدري عن أتباعه ووكلائه ماذا يصنعون وماذا يفعلون، مبدأ المحاسبة كان مبدأ يتسم به الإمام أمير المؤمنين . كتب إلى عثمان بن حنيث واليه على البصرة: ”بلغني أن بعضًا من فتية أهل البصرة دعوك إلى مأدبة، فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتُنْقَل إليك الجفان، وما ظننتك أن تجيب إلى مأدبة قومٍ عائلهم مجفو - أي أن فقيرهم لا وجود له - وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما استيقنت بطيب وجهه فنل منه“. يحاسب ولاته، يحاسب وكلاءه، يحاسب من يمثلونه في كل عمل، وفي كل فعل.

كتب إلى أحد ولاته، قال له: ”بلغني أنك تجرد الأرض“ أي أنك لست مكتفيًا بأكل ما فوق الأرض، بل تريد أكل ما هو تحت الأرض! ”بلغني أنك تجرد الأرض، فتأخذ ما تحت قدميك، وتأكل ما بين يديك، فإذا وصل إليك كتابي فارفع إليَّ حسابك“، أعطني حسابًا عن الصادر والوارد، ماذا تصنع بهذه الأموال؟ ”فارفع إليَّ حسابك، واعلم أن حساب الله يوم القيامة أعظم من محاسبة الخلق“.

السمة الأخيرة: القرار الجمعي.

القائد ليس ديكتاتورًا مستبدًا برأيه، بل القائد له مجلس شورى، له مستشارون، له من يلوذ ويستفيد من آرائهم ومشورتهم، الإمام علي كتب في عهده إلى مالك الأشتر: ”انظر إلى من كان للأشرار قبلك وزيرًا، فلا يكونن لك بطانة“، الذي كان معروفًا بالأشرار لا يكن لك حاشية، ”فلا يكونن لك بطانة؛ فإنه شركهم في الإثم، أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأكثر مجالسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما يصلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به أمر الناس قبلك“، وكان يقول: ”أعقل الناس من جمع عقول الناس إليه“، من استفاد من تجارب الآخرين، من استفاد من طاقات الآخرين، هو أعقل الناس. هكذا كان الإمام أمير المؤمنين ، وهكذا كانت القيادة في فكر الإمام علي .

المحور الثالث: الفكر الحقوقي للإمام أمير المؤمنين.

الإمام علي أقام دولة الإنسان، الإمام علي طبّق نظام حقوق الإنسان، الإمام علي كانت كل منطلقاته نابعة من احترام كرامة الإنسان، ومن تعظيم الإنسان بما هو إنسان، بقطع النظر عن لونه، وبقطع النظر عن طريقه، وبقطع النظر عن لغته، وبقطع النظر عن قوميته، الإنسان بما هو إنسان هو محط الكرامة لدى الإمام أمير المؤمنين . ماذا تميز به الفكر الحقوقي للإمام علي ؟

أنت الآن إذا أردت أن تعرف أي أيدلوجية، أي فكر، إذا أردت أن تعرف أن هذا الفكر حقوقي أو ليس حقوقيًا، أي: يعنى بحقوق الإنسان أو لا يعنى بحقوق الإنسان، انظر إلى مجال الاقتصاد، الاقتصاد هو العصب الذي ترتكز عليه المجتمعات البشرية، منذ أول يوم في التاريخ إلى يوم القيامة، إذا أردت أن تعرف هل هناك فكر حقوقي أم لا فانظر إلى هذا الفكر ماذا يقول في مجال الاقتصاد، في مجال الاقتصاد يتبين الفكر الحقوقي من غيره؛ لأن الاقتصاد هو عصب الحياة الاجتماعية. الأيدلوجية الرأسمالية، الماركسية، انظر ماذا تقول في مجال الاقتصاد، لتعرف أنها أيدلوجية حقوقية تعنى بحقوق الإنسان أم لا، وانظر إلى علي كيف تحدث في مجال الاقتصاد. هذا لو أردنا الدخول فيه لاستغرق ذلك ليالي، خصوصًا في عهده لمالك الأشتر، ولكنني أشير إلى قانونين سريعين تعرض لهما الإمام أمير المؤمنين في عهده لمالك الأشتر قبل 1300 سنة، وسبق كلمات الحقوقيين والمنظّرين في هذا المجال.

القانون الأول: الموازنة بين الإنتاج والتوزيع.

نحن عندنا خلاف بين الرؤية الرأسمالية والرؤية الإسلامية، النظام الرأسمالي يقول: الإنتاج وتنمية الثروة هدف في حد ذاته، من أهداف النظام الرأسمالي أن يمتلك المجتمع ثروة ضخمة، من أهداف النظام الرأسمالي أن تتوفر لدى المجتمع وسائل الإنتاج، وسائل التنمية، هذا هدف في حد ذاته. الرؤية الإسلامية المستفادة من علي تقول: لا، الإنتاج وسيلة وليس غاية، الإنتاج وسيلة لتزويع الثروة توزيعًا عادلًا، المهم هو توزيع الثروة توزيعًا عادلًا، بما أن الإنتاج وسيلة إذن الإمام أمير المؤمنين يقول: لا بد من الموازنة بين مستوى الإنتاج ومستوى التوزيع، ألا يطغى أحدهما على الآخر.

مثلًا: نحن عندنا في الفقه كما ورد عن النبي محمد : ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“، أنت تأتي إلى أرض في الصحراء، تحييها بزراعة أو ببناء، تملكها. ذهب إنسان في الصحراء، وأحيا مئة ألف متر، هل يملكها؟! هذا عنده قدرة، فأحيا مليار متر مثلًا، فهل يملكها؟! هل يملك الشرق الأوسط كله عن طريق الإحياء؟! لا؛ إذ لو أخذنا بإطلاق هذا الحديث... إحياء الأرض وسيلة من وسائل الإنتاج، لكن لو ملك الأرض حتى لو بلغت مليون متر صار الإنتاج على حساب التوزيع، صار الإنتاج أكثر من توزيع الثروة توزيعًا عادلًا، وهذا يؤدي إلى تكدّس الثروة لدى طبقة معينة من طبقات المجتمع دون الطبقة الأخرى، وهذا ما أكّد القرآن الكريم على منعه: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ.

إذن، نحن نقول بأن من أحيا أرضًا مواتًا فهي له، لكن في حدود ألا يحصل طغيان في جانب الإنتاج على جانب توزيع الثروة توزيعًا عادلًا؛ لأن الإنتاج وسيلة لتوزيع الثروة، وليس هدفًا في حد ذاته. الإمام أمير المؤمنين كتب إلى مالك الأشتر: ”هذا ما عهد به عبد الله علي أمير المؤمنين إلى واليه مالك بن حارث الأشتر حين ولّاه مصرًا: جباية خراجها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها، وجهاد عدوها“، لا يكن الإنتاج على حساب التوزيع ولا التوزيع على حساب الإنتاج. جباية الخراج توزيع، ولكن عمارة البلاد واستصلاح الأهل إنتاج، أهلها هم الأولى بعمارة بلادهم، هم الأولى بتنمية ثرواتهم، فهناك موازنة، في الوقت الذي يجبى خراجها بنفس المستوى تعمر بلادها، بنفس المستوى يستصلح أهلُها، بمعنى أن أهلها هم الذين ينمّون ثروتها، وبنفس المستوى تحمى حقوق العمال، تدافع الدولة عن حقوق العمال، عن حقوق أصحاب رؤوس الأموال، ”وجهاد عدوها“ إشارة إلى حماية حقوق العمّال وأصحاب رؤوس الأموال. هناك موازنة في نظر الإمام أمير المؤمنين .

القانون الآخر: اعتبار التداول شعبة من شعب الإنتاج.

في المصطلح الاقتصادي يوجد فرق بين الإنتاج والتداول، هناك إنتاج وهناك تداول. الإنتاج هو تطوير المادة أو الطبيعة بشكل يلبي حاجة المستهلِك، هذا يسمى إنتاجًا، كمن يصنع جهاز فيديو أو جهاز جوال مثلًا. أما التداول فقد يكون تداولًا عموديًا، كنقل المعدن أو النفط من تحت الأرض إلى فوقها، وقد يكون تداولًا أفقيًا، كنقل السلعة من المصنع إلى المستهلِك، التاجر يأخذ السلعة من أوروبا ويوصلها إلى السوق، إلى يد المستهلِك، هذا تداول. هل التداول شعبة من شعب الإنتاج، وقسم من أقسام الإنتاج؟ وبعبارة واضحة: هل التاجر حقوقه كحقوق الصانع؟ الصانع منتج، والتاجر مداوِل، فهل حقوق التاجر كحقوق الصانع المنتج أم لا؟

الإمام أمير المؤمنين يقول: التاجر أيضًا منتج، التداول أيضًا قسم من أقسام الإنتاج. يكتب إلى مالك الأشتر: ”واستوصِ بالتجار وذوي الصناعات“، كلاهما في رتبة واحدة، ”واستوصِ بالتجار وذوي الصناعات، وأوصِ بهم خيرًا؛ فإنهم مواد المنافع“، مادة من مواد الإنتاج، حتى التاجر مادة من مواد الإنتاج، ”مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلّابها من المباعد والمطارح“، هذا التاجر الذي يتحمل كل هذه المؤونة في إيصال السلعة بيد المستهلِك، هذه المؤونة نوع من الإنتاج، فلذلك حقوقه حقوق المنتِج.

الإمام أمير المؤمنين منار حقوق الإنسان، ودولته منار دولة الإنسان. دخل ضرار على معاوية بن أبي سفيان، قال: يا ضرار، صف لي عليًا. قال: أعفني من ذلك، قال: لا أعفيك، صف لي عليًا. بدأ ضرار في وصف الإمام أمير المؤمنين، يصف الإنسان، الإمام علي كإنسان، لا الإمام علي كإمام ومعصوم ومعجزة، هذا معلوم، هذا كله مسلَّم، ولكن الإمام عليًا أيضًا كإنسان كان أبرز بني الإنسان، وكان أعظم بني الإنسان في مجالاته الإنسانية.

قال ضرار في وصفه: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، تتفجر الحكمة من جوانبه، وينطق العلم من نواحيه. كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلّب كفيه على ما مضى، يعظّم أهل الدين، ويتحبّب إلى المساكين، لا يطمع القوي في ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله. كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويدنينا منه إذا أتيناه، وكان مع قربه منا ودنوه إلينا لا نكلمه هيبةً له، فإذا تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، ولقد رأيته ليلة من لياليه، وقد مثل في محرابه، قابضًا على شيبته، وهو يقول: إليكِ يا دنيا، غرّي غيري، لقد بنتكِ ثلاثًا لا رجعة لي بعدها، إليك تشوقتي، أم إليَّ تطلعتي؟! لقد بنتكِ ثلاثًا لا رجعة لي بعدها، فعمركِ قصير، وخطركِ كبير، وعيشكِ حقيرٌ. آهٍ من قلة الزاد، وطول الطريق، ووحشة السفر.

هكذا الإمام أمير المؤمنين، هكذا فكر علي، هكذا فكر علي الذي تحول إلى منار يهدي الأجيال، وانظر إلى فكر بني أمية كيف تحول إلى أي شيء، وإلى أي مجال، وإلى أي حقل. محمد بن مجدوب السوري زار قبر معاوية بن أبي سفيان في الشام، وزار قبر الإمام علي، وأرشد إلى اختلاف الفكرين، قال:

أين  القصور أبا يزيد iiولهوها
أنحرتَ  عزتها  وزبرجها iiعلى
هذا ضريحك لو نظرت iiلبؤسهِ
كتلٌ  من الترب المهين iiبخربةٍ
قم وارمق النجف الأغر iiبنظرةٍ
تلك  العظام  أعزَّ  ربك iiقدرَها




 
والصافنات  وزهوها  iiوالسؤددُ
أعتاب  دنيا  سحرها  لا  iiينفدُ
لأسال مدمعك المصيرُ الأسودُ
سكر  الذباب  بها  فراح يعربدُ
يرتد   طرفك  وهو  باكٍ  أرمدُ
فتكاد  لولا  خوف  ربك  iiتُعْبَدُ