لندن - الليلة 5 -

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محورين:

المحور الأول: بيان الحقيقة المحمدية.

نحن عندما نقرأ الآية المباركة يتبادر إلى أذهاننا سؤال: كيف يكون النبي رحمة لكل العالمين؟ من المعقول أن يكون النبي رحمةً للمسلمين أو للمؤمنين، كما في قوله عز وجل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، أو قوله جل وعلا: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. إذن، النبي رحمةٌ للمؤمنين، هذا شيء معقول، أما أنه كيف يكون رحمة لكل العالمين، من جماد وحيوان ونبات وإنسان مؤمن أو غير مؤمن، كيف يكون النبي رحمة لكل هذه العوالم بأجمعها؟ هذا ما يعبّر عنه بالحقيقة المحمدية، ومن أجل أن نتعرف على هذا المصطلح نذكر هنا أمرين:

الأمر الأول: مرور الوجود بالإجمال والتفصيل.

كل موجود في هذا الكون يمر بمرحلتين: مرحلة وجود إجمالي، ومرحلة وجود تفصيلي، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، أي أن كل شيء كان مختزنًا ثم صار مفصّلًا، كان مجملًا ثم صار مفصلًا، فكل موجود يمر بمرحلتين: مرحلة وجود إجمالي، ومرحلة وجود تفصيلي.

هذه الشجرة المثمرة مرت بالمرحلتين: كانت هذه الشجرة المثمرة مختصرةً في بذرة صغيرة، ثم أصبحت شجرةً ذات أغصان وفروع وثمار، هذه الشجرة مرت بإجمال ثم تفصيل. الإنسان نفسه، هذا الإنسان العملاق، هذا الإنسان العبقري، هذا الإنسان الذي له إنجازات وإبداعات وابتكارات، هذا الإنسان أيضًا مر بمرحلتين: كان هذا الإنسان وجودًا مختصرًا ضمن نطفة صغيرة، تلك النطفة هي إنسان، تلك النطفة هي وجود مختصر، وجود مختزل بجميع مضامين الإنسان، موجودة في تلك النطفة، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. إذن، الإنسان مر بمرحلتين: وجود مختصر إجمالي ضمن النطفة، ووجود تفصيلي عندما تمدد وكبر، ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا. القرآن الكريم مر بمرحلتين: وجود إجمالي ووجود تفصيلي، القرآن يخبر عن نفسه عندما يقول: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ، أولًا مر بمرحلة إحكام ثم مر برحلة تفصيل.

إذن، كل شيء مر بوجودين: إجمالي، وتفصيلي. هذا الكون كله أيضًا بجميع ذراته، بجميع مجراته، بجميع نجومه، بجميع كواكبه، هذا الكون كان مختصرًا، ثم أصبح مفصّلًا. القرآن الكريم يتحدث عن ذلك، يقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، كان مختصرًا ثم صار مفصلًا، ويعود مرة أخرى ليتحول إلى وجود مختصر: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، هذا الكون يعود مرة أخرى لكي يختصر ويتحول إلى وجود إجمالي بعد أن كان وجودًا تفصيليًا.

إذن، الوجود كله مر بمرحلتين: مرحلة وجود إجمالي، ومرحلة وجود تفصيلي. الفلاسفة يعبّرون عن هذين الوجودين بالفيض الأقدس والفيض المقدّس. بيان ذلك: ورد في الحديث القدسي: ”كنت كنزًا مخفيًا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف“، يقول العلماء: التجلي لله عز وجل ثلاث درجات: تجلي الله لنفسه، تجلي الذات للذات، هذا يسمى بالمرتبة الأحدية، ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، أحد تشير إلى المرتبة الأحدية، وهي عبارة عن تجلي الذات المقدسة لنفسها، وهذا كنز مخفي، غيب الغيوب، لم يصل إليه مخلوق إطلاقًا.

ثم تأتي الدرجة الثانية: تجلي الله من خلال أسمائه وصفاته، وهذا ما يسمّى بالحضرة الواحدية، ويسمّى بالفيض الأقدس، تجلي الله بأسمائه وصفاته هو عبارة عن هذا الوجود كله الذي نعيشه لكن بشكل مختصر، بشكل مجمل، ثم جاءت الدرجة الثالثة ألا وهي التجلي الفعلي، بمعنى ظهور نور الله من خلال المخلوقات، خلق المخلوقات فكان ظهوره بظهور المخلوقات، ”كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف“، وهذا ما عبّرت عنه الآية المباركة: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ظهر نوره بخلقه للسماوات والأرض، هذا التجلي الفعلي هو المسمى بالفيض المقدّس. إذن، الوجود أيضًا مر بمرحلتين: فيض أقدس، وهو وجود إجمالي، وفيض مقدس، وهو الوجود التفصيلي الذي تحول إلى سماء وأرض وكواكب وذرات ومجرات، إلى غير ذلك.

الأمر الثاني: أين دور النبي محمد ؟

النبي الذي نعبّر عنه بأنه رحمةٌ للعالمين، النبي الذي نعبّر عنه بأنه صاحب الحقيقة المحمدية، النبي الأعظم حقيقته أنه أول نور بزغ في هذا الوجود، فهو أول تجلٍ لله عز وجل، وأول ظهوره لله عز وجل، فهو قبل كل فيض، وقبل كل ظهور، وقبل كل تجلٍ، إذن فهو الواسطة في الفيض كله، فيضًا أقدسًا أو فيضًا مقدسًا، الواسطة في الفيض كله محمد . لأجل ذلك، كان محمد رحمةً للعالمين، لأنه الواسطة في فيض العالمين، لأنه الواسطة في وجود العالمين، بالفيض الأقدس أو المقدس الواسطة هو النبي .

وهذا ما عبّرت عنه الروايات الشريفة بعالم الأنوار، فورد عن الإمام الباقر : ”ألم تعلموا أن محمدًا وعليًا «صلوات الله عليهما وآلهما» كانا نورًا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق الخلق بألفي عام“، ”خلقكم الله أنوارًا فجعلكم بعرشه محدقين، حتى من علينا بكم“، ونحن نقرأ في زيارة الحسين : ”أشهد أنك كنت نورًا في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهرة، لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها“، فالنبي هو واسطة الفيض، وهو النور الأول، إذن فهو رحمةٌ للعالمين.

المحور الثاني: الدولة المهدوية وشبهة العنف.

ورد عن النبي : ”أولنا محمد، أوسطنا محمد، آخرنا محمد“، مبدأ النور والدعوة الإسلامية هو النبي ، من شيّد المدرسة الفكرية لهذا الدين - وهو الإمام الباقر - وقع في الوسط، من يختم هذه الدعوة المحمدية ليقيم دولة العدل، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا هو القائم محمد بن الحسن «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، ثم إذا تأملنا في هذا الحديث رأينا أن هذا الحديث يفيد أنهم نور واحد، وأنهم خط واحد، وأن جميعهم مظاهر للرحمة، ومعادن اللطف، ومعادن الكرامة، فهم من أولهم إلى آخرهم مظاهر اللطف، معادن الرحمة، معادن الرأفة، معادن العطف.

من هنا، يقع التساؤل: إذا كان المهدي «عجل الله فرجه» مصداقًا لرحمة العالمين كما كان جده رسول الله ، حيث إنهم نور واحد ورحمة واحدة، فلماذا نرى الروايات التي تتحدث عن دولة المهدي وعن ظهور المهدي تتحدث عن أن المهدي إنسان يتعامل بالعنف، بالقتل، بالاستئصال، باقتلاع جذور الناس من كل مكان؟ هل هذا ينسجم مع كون المهدي رحمةً للعالمين؟! لنقرأ هذه الروايات الواردة في شأن دولته .

الرواية الأولى: يروي زرارة عن أبي جعفر ، قلتُ له: أيسير بسيرة محمد؟ قال: ”هيهات هيهات يا زرارة! ما يسير بسيرته. قلت: جعلت فداك، لم؟ قال: لأن رسول الله سار في أمته باللين، كان يتألف الناس، والقائم يسير بالقتل، بذلك أُمِر بالكتاب الذي معه، أن يسير بالقتل ولا يستتيب أحدًا، ويلٌ لمن ناواه“.

الرواية الثانية: عن العلاء عن محمد قال: سمعتُ أبا جعفر يقول: ”لو علم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم ألا يروه؛ مما يقتل من الناس. أما إنه لا يبدأ إلا بقريش، فلا يأخذ منها إلا السيف، ولا يعطيها إلا السيف، حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد؛ لو كان من آل محمد لرحم“.

الرواية الثالثة: عن أبي بصير عن أبي عبد الله أنه قال: ”إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف، ما يأخذ منها إلا السيف، وما يستعجلون بخروج القائم؟! والله ما لباسه إلا الغليظ، وما طعامه إلا الجشب، وما هو إلا السيف والموت تحت ظل السيف“.

فهنا التساؤل يأتي: إذا قرأنا هذه الروايات، استنتجنا منها أن دولته دولة عنف، دولة استئصال، وحينئذ تأتينا هذه الأسئلة الثلاثة:

أولًا: هل يتناسب وينسجم هذا المنهج - منهج القتل والاستئصال - مع كونه مصداقًا لما كان عليه جده المصطفى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؟

ثانيًا: الله وعد المسلمين - بل وعد الإنسانية - بذلك اليوم، ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، فهل من المعقول أن ما وعد الله به المؤمنين هو دولة عنف ودولة استئصال؟! النبي وعد المؤمنين بخروجه، وقال: ”لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يلي الأمر رجلٌ من أهل بيتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا“، فهل اليوم الموعود هو هذا اليوم؟!

وثالثًا: كيف نخاطب الأمم، ونريد منهم أن يؤمنوا بالقضية المهدوية، وهي قضية تتضمن العنف والقتل والدمار والاستئصال، فكيف تتحول القضية المهدوية إلى ثقافة أممية وهي تبتني على منهج القتل والعنف؟! هذه الأسئلة لا بد من الإجابة عليها، وهنا عدة وجوه.

الوجه الأول: عقلائية مبدأ الاستئصال.

إن مبدأ الاستئصال ليس دائمًا منهجًا مرفوضًا، منهج الاستئصال قد يكون مبدأ عقلائيًا وعلاجًا عقلائيًا في بعض الظروف، نحن عندما نرجع إلى علم الاجتماع، علماء الاجتماع يقولون: إذا طغت فئةٌ عدوانيةٌ على مجتمع ما، فئة تكفيرية، فئة إرهابية، إذا طغت على مجتمع ما، فلا علاج لها إلا الاستئصال، الاستئصال لأي فئة عدوانية أو إرهابية مبدأ عقلائيٌ، يقره علم الاجتماع، وليس مبدأ مرفوضًا. جميع المنظمات الحقوقية تؤمن بأنه إذا كان هناك فكر إرهابي لا يمكن علاجه إلا بالاستئصال فالاستئصال علاجٌ عقلائيٌ، بتجفيف منابعه المادية والعسكرية.

والقرآن الكريم يؤكد على هذا المبدأ عندما يقول: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ، إذن دفع الله الناس بعضهم ببعض هذا هو مبدأ الاستئصال، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ كما في آية أخرى، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ. الاستئصال قد يكون مبدأ عقلائيًا، وهذا ما أشارت إليه الروايات الشريفة التي تتحدث عن منهج المهدي «عجل الله فرجه الشريف» من استئصال براثن الظلم والجور والفساد.

الوجه الثاني: ضعف السند.

هذه الروايات بعضها ضعيفٌ سندًا، في طرقها الحسن بن علي بن أبي حمزة، وهو مضعّف، في طريقها أبو الجارود، وهو مضعّف، في طرقها أبو سنينة، وهو مضعّف، فليست كل هذه الروايات صحيحةً سندًا كي تكون مستندًا لمعرفة منهج المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف» إذا خرج.

الوجه الثالث: المعارضة بروايات أخرى.

هذه الروايات أيضًا معارضة بروايات أخرى، تتحدث عن أن سيرة المهدي «عجل الله فرجه» إذا خرج بسيرة جده رسول الله ، كصحيحة محمد بن مسلم: سألت أبا جعفر عن القائم «عجل الله فرجه» إذا خرج وقام، بأي سيرة يسير في الناس؟ فقال: ”بسيرة ما سار به رسول الله ، حتى يظهر الإسلام“، قلت: وما كانت سيرة رسول الله؟ قال: ”أبطل ما كان في الجاهلية، واستقبل الناس بالعدل، وكذلك القائم إذا قام يُبْطِل ما كان في أيدي الناس، ويستقبل بهم العدل“.

وهناك روايات أخرى تتحدث عن منهجه ، ففي كتاب عقد الدرر عن الإمام علي : ”إن المهدي يأخذ البيعة من أصحابه على ألا يسبوا مسلمًا“ حتى السب يمنعه ”ولا يقتلوا محرمًا، ولا يهتكوا حريمًا، ولا يهدموا منزلًا، ولا يضربوا أحدًا إلا بحقه“، فإذن هذا منهج عدالة، ومنهج تطبيق قانون، وليس منهج عنف واستئصال ودمار كما يراد تصويره.

الوجه الرابع: العنف ليس هو المنهج العام.

هذه الروايات التي تتحدث عن أن المهدي يستخدم السيف مع قريش والعرب، يأخذ منهم السيف ولا يعطيهم إلا السيف، هذه الروايات مطلقة، وهناك روايات تشرح لنا من هي الفئة المقصودة بالسيف، لا يتعامل الإمام المهدي مع كل الفئات بهذه اللغة، لا يتعامل الإمام المهدي مع جميع المجتمعات بهذا المنهج، هناك فئة معينة مقصودة يتعامل معها المهدي بهذه المعاملة، وهي الفئة التي ترفض خروجه، وترفض إمامته، وترفض الاعتراف به، وهي الفئة التي ستقاتله إذا خرج، فسيكون حربه معها حربَ دفاع، وليس حربَ هجوم، حربَ تخليص واستنقاذ للمجتمع منها، وليس حربَ استئصال.

لاحظوا هذه الرواية: ”يُقْبِل المهدي على الطائفة المنحرفة“، يكتب صاحب البحار: وهم النواصب. الفئة التي تقاتله هم النواصب، الفئة التي ترفضه وتقاومه هم فئة النواصب، فئة معينة محدودة، ”يُقْبِل المهدي على الطائفة المنحرفة، فيعظهم ويؤخرهم إلى ثلاثة أيام، فلا يزدادون إلا طغيانًا وكفرًا، فيأمر المهدي بقتلهم“.

وإلا فأئمتنا أئمة الهدى «صلوات الله وسلامه عليهم» لغتهم لغة الحوار، لغتهم لغة المنطق العلمي، لغتهم لغة التدرج في التعامل وفي المنهج، لا أنها لغة استئصال أو دمار أو عنف كما يراد تصوير المهدي بهذه اللغة أو بهذا المنهج. وهكذا كان أجداده الطاهرون، أبوه وجده محمد المصطفى الذي ما بدأ القتال مع قريش حتى قاتلوه، وعندما وقعوا في يده قالوا: ما ترون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. أمير المؤمنين علي بعد معركة الجمل، حينما وقع مناوئوه بيده أكرمهم وجلّلهم واحتفى بهم إظهارًا منه أنه مصداقٌ لحبيبه رسول الله في رحمته، وهكذا كل الأئمة الطاهرين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

الإمام الحسين بن علي الذي بكى يوم عاشوراء على أعدائه، وقالوا: ما يبكيك يا أبا عبد الله وأنت سيد شباب أهل الجنة؟ قال: ”والله ما بكيت لنفسي، أبكي على هؤلاء القوم يدخلون النار بسبب قتلي“، أنتم تعرفون أن القتال كان يُفْتَرَض أن يقع في اليوم التاسع من محرم، أخّره الحسين إلى يوم العاشر بالموعظة، جلس مع عمر بن سعد ليلة العاشر ساعات طويلة ينصحه ويعظه ويذكّره بتاريخه، ويحاول أن يثنيه عن الجريمة، ويحاول أن يثنيه عن المجزرة، إلا أنه أصرَّ على ممارسة هذه الجريمة، حتى قال له الحر بن يزيد الرياحي: أعازم أنت على قتال هؤلاء؟ قال: نعم، قتالًا أهونه أن تطير الرؤوس وتُقْطَع الأيدي.