برنامج بيانات الثورة الحسينية - شرح خطبة الإمام الحسين وهو صريع على الأرض

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين

هذه الخطبة الحسينية الشريفة - التي لفظها الحسين وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة - هي تعبيرٌ عن عمق العلاقة الروحية بين الحسين وبين ربه عز وجل، وتتألف هذه الكلمات المباركة من عدة فقرات:

الفقرة الأولى: فقرة الثناء والتمجيد.

قال فيها الحسين : ”اللهم متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيًا عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادرًا على ما تشاء“، الصفات الإلهية على قسمين: صفات الذات وصفات الفعل، فصفات الذات هي التي لا يمكن سلبها عن ذاته عز وجل، فلا يقال: الله عالم بكذا وليس بعالم بكذا؛ لأن العلم عين ذاته، بينما إذا جئنا لصفة الخلق، فإنها من صفات الفعل، لذلك يصح سلبها عنه، فيقال: خلق الخير ولم يخلق الشر. الفقرة الأولى تتحدث عن صفات الذات: إنه تبارك وتعالى عالي المكان عظيم الجبروت غني عن الخلائق، هذه الصفات ثابتة لذاته ولا يمكن سلبها عنها بأي لحاظ وبأي جهة، وإنما تعرض الإمام لهذه الصفات في معرض كلامه ليشير بذلك إلى عدة أهداف:

أولًا: لأن الدعاء عادةً ما يُبْدَأ بتمجيد الله تبارك وتعالى، فتمجيده مفتاحٌ للدعاء، لذلك بدأ الإمام جريًا على هذه السنة الشريفة - سنة جده رسول الله - وهي ابتداء الدعاء بالتمجيد، والثناء على الله بذكر صفاته الذاتية التي لا تُسْلَب عنه ولا تنقطع عنه أبدًا.

وثانيًا: أراد أن يشير الإمام إلى مناسبة الحدث، فالإمام كان مضمخًا بدمائه، وكان يعيش حرارة الشهادة، وكان يعيش ذروة اللقاء إلى الله، فكان يريد أن يقول: إن حركتي هذه لأنها حركة عبادية، وحركة متصلة بالله، حتى أنه استشهد بهذه الأبيات:

تركت الخلق طرًا في هواك   وأيتمت  العيال  لكي iiأراك

إذن، بما أن حركة الاستشهاد هي حركة عبادية، والعبادة تتقوم بتمجيد الله والثناء عليه، لذلك بدأ بتمجيد الله ليربط بين حركته الاستشهادية وعباديتها ومقربيتها إلى الله «تبارك وتعالى».

وثالثًا: يريد أن يشير إلى أن الله غني عن الخلائق، عظيم الجبروت، لا يتأثر ولا ينخدش دينه ولا شرعه بالهزيمة العسكرية. كثير من الناس إذا هُزِم المسلمون هزيمة عسكرية، أو أصيب المسلمون ببلاء فادح، يصيبهم اليأس، وأن الله تعرض دينه للانكسار، أو تعرض مجده للانهيار! القرآن الكريم دائمًا يكرّر أن الهزيمة العسكرية أن الله «تبارك وتعالى» تعرض للخدشة، أو أن دينه تعرض للانكسار أو الانهيار، ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ.

إذن، الحسين هنا يبدأ هذه الكلمات وهو مخضب بدمائه بتمجيد الله، وأن الله غني عظيم الجبروت متعالي المكان، أي أن مجده تعالى ودينه تعالى لا يتأثر بهذه المظلومية العسكرية المادية التي حدثت للحسين ولذرية أهل بيته، بل الدين منتصر، والله عالي المكان وعظيم الجبروت على كل حال، وما هذه المظلوميات المادية إلا محطات ابتلاء يمكن تعويضها وتداركها بفرص أخرى وظروف أخرى.

الفقرة الثانية: فقرة التودد وإبراز المحبة.

ذكرنا أن صفات الله على قسمين: صفات الذات وصفات الفعل، وصفات الفعل أيضًا على نوعين: الصفات الفعلية التي هي فعلٌ امتنانيٌ تفضليٌ يبتدئ من الله وإن لم يكن من العبد أية مبادرة، وهناك صفات انفعالية، بمعنى أنها عوضٌ للعبد عن مبادراته، وجزاء للعبد عن إنجازاته، فأشار الحسين إلى الصفات الفعلية التي هي عطاء وتفضل وامتنان من الله عز وجل بقوله: ”قريب الرحمة، صادق الوعد، سابق النعمة، حسن البلاء“.

هذه الكلمات كلها مرتبطة بالقرآن الكريم، أنت قريب الرحمة لأنك قلت في كتابك: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وأنا الحسين محسن في حركتي وإصلاحي وجهادي، فرحمتك قريبةٌ مني. إنك قلت في كتابك: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، إنك وعدت بأن للمجاهدين وللشهداء الجنة، وأنت صادق الوعد، وأنا الحسين من المجاهدين الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيلك، فأنت أنتظر صدق وعدك يا صادق الوعد. وأنت سابق النعمة لأنك قلت في كتابك: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا، وقلت تباركت وتعاليت: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، فمقتضى نعمتك وعطائك أن تنعم علينا بالنصر المعنوي، وإن لم نحصل على النصر المادي العسكري.

وأنت حسن البلاء؛ لأنك قلت في كتابك: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، بلاؤك حسن لأن بلاءك ظاهره النقص لكن باطنه الربح، وباطنه الحصول على المثوبة العظيمة، فأنت حسن البلاء، ولذلك نحن مطمئنون لهذا البلاء الذي ابتليتنا به في أرض كربلاء؛ لأننا واثقون بأنك لا تبتلينا إلا بما هو صالحٌ لنا.

رضيت  بما  قسم  الله لي
كما أحسن الله فيما مضى
  وأوكلت  أمري  إلى iiخالقي
كذلك   يحسن  فيما  iiبقي

ثم ذهب إلى القسم الثاني والنوع الثاني من صفات الفعل، ألا وهي الصفات الانفعالية، أي: ما يصدر منه تعالى جزاءً للعبد، وإقرارًا وإمضاءً لإنجازات العبد، قال: ”أنت قريب إذا دعيت“، وذلك اقتناصًا من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، ”محيط بما خلقت“ وذلك اقتناصًا من قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، ”قابل التوبة لمن تاب إليك“ اقتناصًا من قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، ”قادر على ما أردت“ اقتناصًا من قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ”ومدرك ما طلبت“ اقتناصًا من قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، ”شكور إذا شكرت“ اقتناصًا من قوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، ”ذكور إذا ذكرت“ اقتناصًا من قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ.

هذه الصفات التي أبرزها الحسين وهو يتمتم بشفتيه، وهو مخضّبٌ بدمائه، وهو يعيش آهاته، آهات الشهادة، آهات اللقاء، لقاء معشوقه الأكبر، ألا وهو الله «تبارك وتعالى»، هي إبرازٌ لمحبته ومودته للباري «تبارك وتعالى»، من خلال استعراضه لهذه الصفات الانفعالية، التي تعكس مدى عناية الباري بعبده، إذا أنجر العبد كافأه ربه، وإذا بادر العبد أقبل عليه ربه، وإذا أحسن العبد كان ربه أكثر إحسانًا إليه.

الفقرة الثالثة: فقرة الرجاء.

قال: إلهي، بعد هذا الثناء والتمجيد ”أدعوك محتاجًا، وأرغب إليك فقيرًا، وأفزع إليك خائفًا، وأبكي إليك مكروبًا، وأستعين بك ضعيفًا، وأتوكل عليك كافيًا“، الحسين يشير في هذه الفقرة المباركة إلى مرتبة عالية من مراتب الوصول إلى الله «تبارك وتعالى»، الوصول إلى الله له ثلاث مراتب: مرتبة التوكل، ومرتبة الرضا، ومرتبة التسليم. مرتبة التوكل هي عبارة عن وثوق الإنسان بأن ربه لا يكتب له إلا ما هو صالح له، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.

والمرتبة الثانية: مرتبة الرضا، أن يرضى الإنسان بقضاء الله وقدره، فيعتبر المصائب نعمًا، ويعتبر النوائب مثوبةً وأجرًا، فلا يضيق صدره، ولا يشمئز قلبه من النوائب والمصائب، فهو نفس مطمئنة، وذلك ورد في الرواية عن الصادق في تفسير هذه الآية: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً قال: هي جدي الحسين ، الذي كان بمرتبة الرضا بالله «تبارك وتعالى».

والمرتبة الثالثة: مرتبة التسليم، وهي مرتبة الفناء، ألا يرى الإنسان لنفسه أي إنية، وأن يكون في تمام أوضاعه وأوقاته وأحاوله مرتبطًا بالله، جميع أموره فانية في الله، متعلقة بالله، لا يرى لنفسه استقلالية ولا موضوعية، إلا التعلق المحض، والارتباط الصرف بالله عز وجل، وهذه المرتبة - مرتبة التسليم، مرتبة الفناء المحض - هي التي عبر عنها الإمام أمير المؤمنين في قوله: ”ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“، والحسين هنا يعبّر عن هذه المرتبة عندما يسلّم في تمام أموره وأوضاعه لربه عز وجل، فيقول: ”أدعوك محتاجًا، وأرغب إليك فقيرًا، وأفزع إليك خائفًا، وأبكي إليك مكروبًا، وأستعين بك ضعيفًا، وأتوكل عليك كافيًا“.

الفقرة الأخيرة: فقرة الاستغاثة.

”اللهم احكم بيننا وبين قومنا؛ فإنهم غرّونا وخذلونا“، قد يقول الإنسان: كيف يُغَرُّ الحسين؟! الحسين أولًا معصوم، ويعلم بمصيره وبما يحصل إليه، فلماذا يقول بأنه غُرِّر به؟! وثانيًا: الحسين هو الذي أصرَّ على مصير الشهادة، وهو الذي أصرَّ على مسيرة الموت، فلماذا يقول بأنه غُرِّر به؟!

إن المقصود بالتغرير هنا التغرير القصدي، أي أنهم قصدوا تغريرنا، غرونا بمعنى: قصدوا تغريرنا، لكننا لا نغر، نظير قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، أي أنهم قصدوا خداع الله «تبارك وتعالى»، وإن كان لا يقع ذلك الخداع، فإنهم غرونا، أي: قصدوا تغريرنا بإظهار البيعة لنا، لكنهم ارتكبوا عدة جرائم: أولًا: جريمة التغرير، وثانيًا: جريمة الخذلان؛ فإنهم نكثوا البيعة، وثالثًا: جريمة الغدر، وهي التمهيد لبني أمية من أجل قتالنا، ”لعن الله أمةً أسّست وأبرمت لقتالك يا مولاي“، ”وقتلونا“ وارتكبوا الجريمة القصوى، ألا وهي جريمة القتل.

”ونحن عترة نبيك، ووُلْد حبيبك“، فرق بين العترة والولد، العترة هم مظهر الإنسان، الإنسان مظهره بقبيلته، الإنسان مظهره بذريته التي تحمل اسمه وعنوانه، فيعبّر عن ذريته التي تحمل اسمه أنها عترته، ”إني مختلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي“ لأنهم يحملون اسمي، ويشكّلون امتدادًا لوجودي، ”ووُلْد حبيبك“ أي: السلالة الوحيدة، نحن مضافًا إلى أننا عترته ومظهر اسمه ومظهر وجوده، مضافًا لذلك فنحن سلالته الوحيدة، ونحن ذريته الوحيدة، فهو يمتد فينا .

”ووُلد حبيبك محمد الذي اصطفيته بالرسالة“ أي: جعلته وعاءً للرسالة، فهو وعاءٌ لتلقي الرسالة من السماء، ووعاء لتبليغ الرسالة إلى الأرض، ووعاء لتطبيق الرسالة على الأرض، تلقيًا وتبليغًا وتطبيقًا، فهو مصطفى بالرسالة من تمام الجهات، ”وائتمنته على الوحي“ الوحي أمانة الله في الأرض، فتحتاج هذه الأمانة إلى حفظ، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ، أمانة الوحي حملها النبي.

يا ربنا، نحن امتدادٌ لرسولك، كما كان رسولك وعاءً للرسالة، فأنا الحسين ابنه وعاءٌ للرسالة، كان الرسول وعاءً لتبليغ الرسالة، وأنا وعاءٌ لتطبيق الرسالة، كان الرسول أمينًا على الوحي، وأنا أيضًا أمين على تطبيق الوحي، ولذلك قال النبي : ”حسين مني وأنا من حسين“ أي أنه امتدادٌ له في الاصطفاء بالرسالة، وفي الائتمان على الوحي.

”فاجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا يا أرحم الراحمين“، ما كان الحسين يريد من الفرج والمخرج الفرج العسكري، وهو يعلم بمصيره، وهو الموت، وما كان الحسين يريد بالفرج والمخرج الفرج الأخروي، وهو الثواب؛ لأنه يعلم بأن ذلك محرزٌ له، وهو سيد شباب أهل الجنة، وإنما أراد من قوله: ”اللهم احكم بيننا وبين قومنا“، وقوله: ”واجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا“، الفرج بالنصر المعنوي، وهو أن تكون لثورته المباركة انتصارٌ معنويٌ يهز الإرادة، ويوقظ ضمير الأمة الإسلامية، وهذا ما حصل للحسين .