الأدوار التي مرت بها الشعائر الحسينية

تحرير المحاضرات

المقدم: مرحبًا بكم أحبتنا المشاهدين مرة أخرى في هذه الحلقة من برنامجكم «أبعاد الثورة الحسينية»، ومعنا في الأستوديو ضيف البرنامج سماحة السيد منير الخباز الأستاذ في الحوزة العلمية، فأهلًا وسهلًا بسماحة السيد. سماحة السيد، الأدوار كثيرة، والمراحل كثيرة التي مرت بها حركة وثورة وقيام سيد الشهداء ، الأدوار التي مرت بها الشعائر خاصةً، برأيكم ما هي؟

سماحة السيد: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين والطاهرين. عظّم الله أجورنا وأجوركم أيها المؤمنون، وعظّم الله الأجر لمولانا صاحب العصر والزمان أرواحنا له الفداء، بهذه الأيام الأليمة، أيام الفاجعة الكبرى، فاجعة استشهاد الإمام الحسين بأرض كربلاء. عندما نتحدث عن الأدوار التي مرّت بها الشعائر الحسينية ننتقل إلى المراحل التي مرّت بها الشعائر، هناك مراحل ثلاث وأدوار ثلاثة: دور التخطيط لهذه الشعائر، ودور الترويج لهذه الشعائر، ودور الترسيخ لهذه الشعائر.

المرحلة الأولى: مرحلة التخطيط.

من الذي خطّط لهذه الشعائر؟ أوّل من خطّط لهذه الشعائر الإمام الحسين . كل إنسان قيادي زعيم عندما يفتتح مشروعًا معينًا، بمقتضى الحكمة، وبمقتضى العقلية القيادية، لا بد أن يبتكر وسائل لاستمرار مشروعه، لا يكفي أن يبتكر المشروع، ولا يكفي أن يخترع المشروع، لا بد منضمًا إلى المشروع أن يخترع وسائل تضمن استمرار هذا المشروع وبقاء هذا المشروع، فبدأ بمرحلة التخطيط للثورة، وللوسائل التي تضمن استمرار الثورة وبقائها، فالوسائل التي تضمن بقاء حرارة الثورة ووهج الثورة هي الشعائر.

الحسين خطّط لهذه الشعائر لكي تضمن بقاء ثورته، عندما سئل الحسين: ما وجه خروج النساء معه؟ أنت ستُقْتَل لا محالة، فما وجه إخراجك النساء؟ قال: ”شاء الله أن يراني قتيلًا، وأن يراهن سبايا“، وهنا بدأت شرارة الشعائر، السبي، صوت المرأة أول شعيرة حسينية خطّط لها الحسين . تعرفون أن صوت المرأة مما يملك من رخامة ومما يملك من ترنيم معين مؤثر في النفوس، ومؤثر في القلوب، ولذلك لا تستغني وسيلة إعلامية في عصرنا الحاضر عن صوت المرأة، صوت المرأة صوتٌ مؤثرٌ في النفوس، فإذا انضم لهذا الصوت لون الحزن، ولون الأسى، ولون البكاء، بكاء المرأة يخترق القلوب، بكاء المرأة يخترق النفوس، يؤثر، يجذب، يسيطر.

لذلك، الحسين بمقتضى عقليته القيادية وتخطيطه المستقبلي ضمَّ إلى ثورته صوت المرأة، لأنه يعلم أن صوت سكينة وصوت زينب وصوت رقية في الشام وفي الطريق وفي الكوفة وفي كربلاء سيكون أول شعيرة تنهض بهذه الثورة، أول شعيرة ستضمن بقاء حرارة هذه الثورة، ووهج هذه الثورة. هذه المرحلة الأولى، مرحلة التخطيط.

المرحلة الثانية: مرحلة الترويج.

جاء دور الأئمة بعد الحسين لترويج هذه الشعائر، فمثلًا: الإمام الباقر في رواية معتبرة يقول الإمام الصادق: ”أمرني أبي أن أستأجر عشر جوار يندبنه بمنى أيام منى“، أيام منى أيام الحج، أيام توافد الحجاج من مختلف المجتمعات، ومختلف الأجناس والأعراق، هؤلاء يحتاجون إلى أن يسمعوا وسيلة إعلامية تظهر لهم مشاريع أهل البيت، تظهر لهم قيم أهل البيت، تظهر لهم تراث أهل البيت، استأجر الإمام الصادق عشر جوارٍ يندبن الأئمة ويندبن الحسين وآل الحسين أيام منى في الطرقات وفي الشوارع من أجل إيصال صرخة الحسين، وامتداد صوت الحسين. هذه المرحلة الثانية، مرحلة ترويج هذه الشعائر، كما صنع الإمام الرضا والإمام الصادق «عليهما السلام» في استقبال الشعراء وتشجيعهم على إنشاد الشعر في الحسين .

المرحلة الثالثة: مرحلة الترسيخ.

هذه القرون المتمادية منذ يوم الحسين إلى يومنا هذا، الشعائر مرت بأدوار وبمراحل إلى أن أصبحت الشعيرة ركيزة من ركائز المذهب الإمامي، المذهب الإمامي يرتكز على ثلاث ركائز رئيسية: العقيدة، وهي الاعتقاد بالأئمة المعصومين، التراث الحديثي، وهو الاعتقاد بهذا المخزون الحديثي الوارد عن الأئمة المعصومين ، الركيزة الثالثة هي الشعيرة، المذهب الإمامي كما تميّز عن المذاهب الإسلامية الأخرى بعقيدة الإمامة والعصمة، وتميز عنها بالتراث الحديثي لأهل البيت، تميز عن المذاهب الإسلامية الأخرى بالشعيرة، فالشعيرة الحسينية بمرور الأيام أصبحت ركيزةً من ركائز المذهب، لا ينفصل المذهب الإمامي عن هذه الركائز الثلاث، أصلًا لا يعرف الشيعي بأنه شيعي إلا إذا كان ممارسًا للشعائر الحسينية بلونٍ أو بآخر وبطريق أو بآخر.

المقدم: هذا يقودنا إلى سؤال: ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد بشكل عام، هل له تأثير، أو هل له مدخلية في كيفية أداء هذه الشعائر؟

سماحة السيد: هذا لا إشكال فيه. الشعائر على قسمين: شعائر ثابتة، وشعائر متغيرة. الشعائر الثابتة هي التي وردت النصوص بها، البكاء، الندبة، القصة، اللطم. أحد أصحاب الإمام الصادق يفد عليه، فيسأله الإمام الصادق: كيف رأيت الناس عند قبر جدي الحسين؟ يريد أن يعرف الواقع الذي يحدث في زمانه، قال: رأيتهم بين قاصٍ يقص «أي: يقص قصة كربلاء» وبين نادب يندب «يقرأ الشعر ندبةً» وبين باكٍ يبكي، فقال: الحمد لله الذي جعل من شيعتنا من يفد علينا ويندبنا.

البكاء واللطم والندبة شعائر ثابتة، وردت بها النصوص. عندنا قسم آخر: شعائر متغيرة، بمعنى أن كل مجتمع يختار طريقة في أداء الشعائر تنسجم مع ثقافته، تنسجم مع أعرافه وتقاليده؛ لأن الشعيرة مأخوذة من الشعار، والشعار وسيلة إعلامية، فبما أن الشعيرة وسيلة إعلامية لإيصال فكرة معينة، ولإيصال هدف معين، لأجل ذلك اختلاف الثقافة الإعلامية لدى المجتمعات فرضت اختلاف الشعائر. لاحظوا مثلًا في الهند، شيعة الحسين، شيعة أهل البيت في الهند يمشون على الجمر، هذه شعيرة عندهم، يجعلون الجمر في مواطن معينة ويمشون على الجمر.

المقدم: وهناك من يعترض على هذه الممارسة.

سماحة السيد: وهذه الشعائر ليست موجودة في مجتمعنا العربي، ليست موجودة في العراق أو في الخليج أو في إيران، اختيار الشعب الهندي لهذه الشعيرة منسجم مع طبيعة ثقافته، منسجم مع طبيعة أعرافه وعقليته. أصل المبدأ أننا نحتاج إلى إعلام يظهر لنا حرارة الثورة الحسينية، وحرارة المأساة الحسينية، اختلاف الأسلوب في هذه الوسيلة الإعلامية ينتج وينسجم مع اختلاف الثقافات الإعلامية في هذه المجتمعات.

المقدم: سماحة السيد، المنهج الصحيح في فهم الشعائر، الكثير يقول أن مسألة المشاركة في هذه الشعائر فيها تكفير للذنوب، وهناك من يعتبرها أنها حالة مخالفة لثقافة العصر الذي نعيشه، هذه الإشكالية كيف نحلها؟

سماحة السيد: الشعيرة الصحيحة لا بد أن ترتكز على ثلاثة عناصر:

العنصر الأول: أن تكون مظهرًا للجزع.

ورد عن الإمام الصادق : ”كل البكاء والجزع مكروه، ما خلا البكاء والجزع على الحسين “، فالعنصر الأول أن تكون الشعيرة مظهرًا للجزع، بمعنى أن العرف العقلائي إذا رأى هذه الشعيرة استنطق منها الحزن والأسى.

العنصر الثاني: ألا يترتب عليها محذور شرعي.

لو فرضنا مثلًا أننا قمنا بشعيرة توجب اختلاط النساء بالرجال، أو ظهور عورة المرأة إلى الخارج، هذه شعيرة محرمة، لا بد أن تكون هناك فواصل شرعية تضمن نقاء الشعيرة، وتضمن نظافة الشعيرة من جميع المحاذير الشرعية. أو مثلًا: أن الإنسان يستخدم الشعيرة بنحوٍ يضرب نفسه إلى حد الجناية على النفس، أي: إلى حد إتلاف عضوٍ من أعضائه، طبعًا هذا أيضًا لا يجوز شرعًا؛ لأن إتلاف عضو من الأعضاء مصداقٌ للتهلكة، الله تعالى يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، ومصداقٌ للجناية على النفس، والجناية على النفس ظلمٌ قبيحٌ محرّمٌ.

العنصر الثالث: ألا تكون الممارسة موجبةً لوهن الدين أو لوهن المذهب.

هناك بعض الممارسات لو رآها المنصفون من العقلاء، نحن لا نتكلم عن المغرضين أو الذين يحملون في قلوبهم حساسية معينة تجاه أهل البيت أو تجاه شعائر أهل البيت، لا، نحن ننظر إلى المنصفين. هذه الممارسة إذا رآها المنصفون من العقلاء استبشعوها، ورأوا أن المذهب لا ينسجم مستواه وقيمته مع هذه الشعيرة. مثلًا: لعله، أنا لا أثبّت ذلك، لعله توجد في بعض المجتمعات مثلًا من باب التصوير المسرحي، أن يخرج فرسٌ باسم فرس الحسين ، هذا الدور إذا اقتصر على تصوير قصة كربلاء فهو دورٌ مهمٌ، ودور إعلامي مهم، ولكن إذا حوّلنا فرس الحسين إلى شعيرة، بمعنى: أصبح هذا الفرس فرسًا يُتَبَرَّك به، أصبح هذا الفرس فرسًا يُنْذَر له النذور، أصبح هذا الفرس فرسًا يُتَقَرَّب له بالقرابين.

المقدم: قد تكون هذه دوافع ذاتية من بعض الناس الذين يشعرون أن هذا الفرس ولأنه اختص في هذه المسرحية التي تتكلم عن سيد الشهداء، فهو اندفاع ذاتي.

سماحة السيد: نعم، قد يكون اندفاعًا ذاتيًا، ولكن هذا الاستغراق والاسترسال وراء الدوافع الذاتية، مع عدم ملاحظة تأثير هذه الشعيرة على سمعة المذهب، وعلى صورة المذهب، وعلى صورة أهل البيت، هذا غير صحيح، لا بد أن نلاحظ ألا تكون هذه الشعيرة موجبةً لتضعيف المذهب، وتحقيره في نظر المنصفين من العقلاء. إذن، عندنا ركائز ثلاثة: أن تكون الشعيرة مظهرًا للجزع، ألا يترتب عليها محذور شرعي، ألا تكون موجبةً لهتك صورة المذهب ووهن أهمية مذهب أهل البيت في نظر المصنفين من العقلاء.

المقدم: سماحة السيد، الثورة الحسينية لها أهدافٌ خاصةٌ، ومن أجل هذه الأهداف قامت هذه الثورة. الشعائر برمتها كيف أثرها في هذه الثورة؟

سماحة السيد: أنا أريد أن أنتقل إلى نقطة أخرى، وهي أن الشعيرة - أي شعيرة من الشعائر الحسينية التي نمارسها - كشعيرة البكاء، شعيرة اللطم، شعيرة الحضور في مآتم الحسين، أي شعيرة من هذه الشعائر فإنها تختصر ألوان كربلاء. كربلاء لها ألوان ثلاثة، كل من يقرأ كربلاء قراءة تأمل وقراءة دقة يجد أن كربلاء ملوّنة بألوان ثلاثة: دمعة مظلومية، وصرخة احتجاج، وقرابين فداء. كل شعيرة يمارسها الحسيني المتفاعل مع الحسين فإنها مظهرٌ للألوان التي تجسّدت في كربلاء، كربلاء ضمّت الألوان الثلاثة التي ذكرناها، والتي يجدها كل قارئ وباحث.

اللون الأول: دمعة المظلومية.

الحسين مثلًا وقف على ولده علي الأكبر وقال: على الدنيا بعدك العفا. وقف على أخيه أبي الفضل، قال: الآن انكسر ظهري. هذه دمعة الثورة تلوّنت بها كربلاء. هذه الدمعة تستبطن تسجيل جريمة من جرائم الظالمين والطغاة.

اللون الثاني: صرخة الاحتجاج.

الحسين في مواقفه المبدئية يقف على أرض كربلاء ويقول: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك“. هذا لون آخر من ألوان كربلاء، صرخة احتجاج.

اللون الثالث: قرابين الفداء.

الدماء الوفيرة التي قدّمها أهل البيت كقرابين، السيدة زينب تقف على جسم الحسين، ترفعه وتقول: ”اللهم تقبل منا هذا القربان“، هذا قربان فُدِيَت به المبادئ، وهو الحسين . تجاوزت الحالة الشخصية ككونها أختًا إلى كونها إنسانة غارقة في السماء ومتعبدة بمبادئ السماء، تقدّم القرابين في سبيل إحياء مبادئ السماء على الأرض.

إذن، هذه الألوان الثلاثة اختصرت في الشعائر الحسينية. مثلًا: شعيرة اللطم تختزل هذه الألوان الثلاثة، الإنسان عندما يلطم يجسّد أولًا دمعة المظلومية، أن اللطم تكريسٌ لحالة التفاعل مع المأساة، كأنني تفاعلت مع المأساة وتفاعلت مع الفاجعة إلى حد أخرجني الشعور الوجداني إلى اللطم، إلى هذه التفاعلات الجسدية.

المقدم: ليس كما يفهمها البعض أنها تكفير للذنب وأنها إخراج حالة الغل.

سماحة السيد: لا، ليست المسألة تكفيرًا للذنب، إنما هي إبرازٌ للحزن والأسى، أنه برز حتى على جوارحي، وبرز حتى على أحاسيسي، وبرز على جميع كياني، بحيث صرت ألطم تفاعلًا مع هذا الحزن، هذا اللون الأول يتجسد في اللطم. اللون الثاني: صرخة الاحتجاج، طبعًا لكل مجتمع طريقة من طرق الاحتجاج، لاحظوا مثلًا: إخوتنا الفلسطينيون عندما يرفعون جنائز شهدائهم، يصفّقون، التصفيق وراء الجنائز ليس متعارفًا عندنا نحن مثلًا في العراق أو في إيران أو في الخليج، لكنهم يرون أن التصفيق وسيلةٌ من وسائل الاحتجاج، احتجاج على هذه الجريمة. اللطم نحن نمارسها كوسيلة من وسائل الاحتجاج على أكبر جريمة اصطنعها الطغاة والظالمون، وهي تصفية وإبادة عترة النبي .

اللون الثالث الذي تستبطنه شعيرة اللطم: قربان الفداء. الإنسان عندما يلطم، ماذا يقول؟ وهو يلطم كأنه يقول: صدري فداءٌ لصدر الحسين، بهذه اللطمة يقول: صدري فداء لصدر الحسين، لو كان الحسين موجودًا لكان صدري تحت الخيول فداءً لصدره ووقايةً لصدره. إذن، اللطم هو من جهة تفاعل مع المأساة، هو من جهة صرخة احتجاج، هو من جهة قربان فداء، فألوان كربلاء الثلاثة التي جسّدها الحسين تجسّدت أيضًا في الشعائر الحسينية، ولذلك نقول بأنَّ الشعائر الحسينية هي امتدادٌ أصلًا لصور كربلاء، ولألوان كربلاء.

المقدم: سماحة السيد، هل نستطيع أن نقول أن هذه الشعائر هي غاية وهدف، أم هي وسيلة من وسائل ربط الأمة بقيم الثورة الحسينية؟

سماحة السيد: الشعائر وسيلة وليست غاية، وحتى نوضّح هذا الموضوع نحتاج أن نركّز عليه جيّدًا، فنقول: الشعائر الحسينية لها أبعاد ثلاثة: البعد الروحي، والبعد الحركي، والبعد الإصلاحي.

البعد الأول: البعد الروحي.

الشعيرة الحسينية في حد ذاتها عبادة، في حد ذاتها هي عبادة؛ لأننا أُمِرْنا في القرآن الكريم: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أمرنا بمحبة أهل البيت محبةً حسيةً، أي: محبة بارزة واضحة، إذ لا فائدة في المحبة القلبية التي لا تنعكس على سلوك ولا على حركة ولا على عمل. المأمور به الإنسان المسلم هو إظهار المودة وإظهار المحبة. البكاء الذي يمارسه الإنسان المسلم، لا أقول الشيعي، نحن لا نتحدث مع خصوص الشيعة، نحن نتحدث مع كل مسلم يحب الحسين .

الإنسان المسلم عندما يمارس البكاء، فهو يمارس عبادةً؛ لأنه في حالة البكاء يترجم حبه للحسين، ويترجم قربه النفسي من الحسين بهذه الحالة من البكاء، فهو بهذا يحقّق هدفًا قرآنيًا، وبهذا يحقّق حالةً من القرب والانجذاب نحو النبي وأهل النبي، النبي يحمل الحسين على كتفه ويقول: ”اللهم إني أحبه فأحب من يحبه“، ”حسين مني وأنا من حسين“، ”حسين سبط من الأسباط“، هذا القرب النفسي الذي بين النبي وبين الحسين، أنا أيضًا أحققه بيني وبين الحسين من خلال البكاء، فالبكاء عبادة في حد ذاتها؛ لأنها تجسيد لمحبة أهل البيت.

المقدم: البكاء حالة نفسية، هناك من يربط أن مسألة البكاء ترتبط بقدم موت الشخص، أن الشخص الفلاني مات قبل ألف وكذا سنة، وكيف يكون البكاء؟ هذا الأمر واقعًا الكثير يسأل، كيف نفسر هذه الحالة؟

سماحة السيد: هذه النظرة، أن البكاء على الحسين بكاء على مذبوح، أو بكاء على مقتول، هذه النظرة تحجيمٌ لقيمة البكاء، بل هي إلغاءٌ لقيمة البكاء، البكاء على الحسين ليس بكاءً على قيمة شخص مذبوح، كثير ممن ذبحوا في فلسطين وفي لبنان وفي العراق، البكاء على الحسين ليس مجرد حالة انفعالية، بل هي فعل وليست انفعالًا، البكاء على الحسين فعل هادف وليس مجرد انفعال عاطفي واستغراقي، البكاء على الحسين تجسيدٌ لعبادة، وهي محبة أهل البيت، التي هي عبادة في حد نفسها.

المقدم: وقد يكون فقدان شخص كمثل سيد الشهداء الحسين في ذلك الظرف، وباحتياج الأمة لسيد الشهداء، ووجود يزيد في ذلك الموقع، هذا الأمر قد يدفع حتى الشخص العادي في بعض الأحيان، قد يشعر بالمرارة والألم.

سماحة السيد: نعم، فهو يبكي على خسارة الأمة، يبكي على الأمة التي خسرت هذا الثقل، هذا النهر العظيم، هذا البحر الفيّاض بالمعارف والقيم، الإنسان يبكي على خسارة الأمة، أنها انحطت وتخلفت إلى الحضيض، بحيث ضحت بهذا العملاق العظيم، ألا وهو الحسين ، هذا البعد الروحي للشعيرة.

البعد الآخر: البعد الحركي.

كيف تكون الشعيرة حركةً من حركات كربلاء؟ هنا نحتاج إلى فلسفة هذا الموضوع، أن ننظر إليه بنظرة فلسفية معمّقة، هناك وجهان للبعد الحركي للشعيرة: الوجه الأول هو الإثارة الوجدانية، والوجه الثاني هو الطقوس الحسّيّة.

الوجه الأول: الإثارة الوجدانية.

نحن عندما نقرأ النفس الإنسانية، النفس الإنسانية تجمع قوى، الفلاسفة يقولون: النفس لديها مجموعة من القوى، من قواها: العقل الذي يدرك ويحلل، ومن قواها: القلب الذي يختزن، يختزن الفرح، يختزن الحزن، يختزن الشك، يختزن التصديق، فعندنا عقل يدرك، وعندنا قلب يتفاعل. أي فكرة ما لم تجمع هاتين القوتين لا تكون فكرة راسخة، أي معتقد لا يرسخ ولا يصل إلى حد السلوك إلا إذا تفاعلت معه جميع قوى النفس، قوى العقل وقوى القلب، العقل يدرك والقلب يذعن ويتفاعل.

الآن مثلًا حتى العبادة، بإمكان الإنسان أن يعبد الله بالتأمل والتفكير، يجلس ويفكر في الله ومخلوقاته ووحدانيته وعظمته، ولكن القرآن الكريم يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، ليس المطلوب أن يتفاعل عقلك مع العبادة، بل المطلوب أن يتفاعل قلبك أيضًا مع العبادة، الإمام أمير المؤمنين نظر إلى شخص يصلي وهو يعبث بشعره ولحيته، قال: ”لو خشع قلبه لخضعت جوارحه“. إذن، كما أن المطلوب في العبادة حتى تترسخ وتتحول إلى سلوك وممارسة، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لا بد أن يتفاعل معها العقل والقلب.

نفس القضية بالنسبة للشعائر الحسينية، لاحظوا الحسين يوم عاشوراء استخدم منطق العقل ومنطق القلب أيضًا، استخدم منطق العقل عندما شرح أهداف ثورته، ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح“، واستخدم منطق الإثارة العاطفية، منطق الإثارة الوجدانية، يأتي بطفله الرضيع، ويقف به أمام الطفل، ويقول: ”إن كان ذنبٌ للكبار فما ذنب الصغار؟!“، هذه إثارة وجدانية، هذا ليس منطقًا عقليًا، هذا منطق عاطفي، منطق وجداني.

كما أن الحسين مزج يوم كربلاء بين قوة العقل وقوة القلب في التفاعل مع ثورته، نحن نريد من الشعائر الحسينية أن تمزج بين هذين البعدين، بين هاتين القوتين، قوة العقل وقوة القلب، فالبكاء عقل وقلب، واللطم عقل وقلب، ومأتم أهل البيت أيضًا عقل وقلب. هذا هو الوجه الأول.

الوجه الثاني: الطقوس الحسية.

الإنسان كما تعرفون مخلوق إحساسي، بمعنى أنه محاطٌ بجسد، محاط بحواس خمس، محاط بأفق حسي معين من زمان ومكان، فهو يتحرك في هذه الأبعاد الحسية الضيقة. الأفكار التجريدية لا يتفاعل معها الإنسان ما لم تتحول إلى طقوس حسية. الله تبارك وتعالى كان يمكن أن يكلّف البشر بأن يعتقدوا بالتوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد من دون أن تكون لهم طقوس، لكن الله شاءت حكمته، هذا الإنسان بما أنه مخلوق إحساسي، لا يمكن أن يتفاعل مع مبادئ السماء إلا إذا تحولت هذه الأفكار التجريدية إلى طقوس حسية، فأمره بالطواف حول الكعبة، أمره برمي الجمار في منى، ليتخلص من الشيطان، أمره بأن يصوم عن المفطرات العشرة، هذه طقوس حسية يمارسها حتى تتحول الأفكار التجريدية إلى سلوك.

المقدم: حتى قال: ومن يعظم شعائر الله.

سماحة السيد: أحسنتم، ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. إذن، نفس هذه الفلسفة كامنة في الشعائر الحسينية، لا يكفي أن أعتنق مبادئ الحسين، وأن أقتنع بأن الحسين ثائر، وله أهداف عظيمة، هذه القناعة وهذا الاعتقاد لا يحوّلني إنسانًا ثائرًا، ولا يحوّلني إنسانًا حسينيًا، ولا يحوّلني إنسانًا يسير على مبادئ الحسين، إلا إذا تحولت هذه القناعات والأفكار التجريدية إلى طقوس حسية أمارسها ليتفاعل إحساسي مع مبادئ الحسين ، من بكاء، من لطم... إلخ.

البعد الثالث: البعد الإصلاحي.

لاحظوا أن أول نداء افتتح به الحسين ثورته.. تعرفون أن كل ثائر يسبق ثورته بنداء، يشرح فيه ثورته، أول نداء أطلقه الحسين عندما تحدث مع أخيه محمد بن الحنفية، وقال: ”إنما خرجت لطلب الإصلاح“، هناك مشروع إصلاح، هناك عملية إصلاح، كربلاء هي مشروع إصلاح، إذا كانت كربلاء مشروع إصلاح فلا بد من أجل أن تكون الشعائر الحسينية امتدادًا لكربلاء، لا بد أن تحمل قيمًا إصلاحية، الشعائر الحسينية لا بد أن تستبطن قيمًا إصلاحية للمجتمع، حتى تكون امتدادًا لكربلاء.

المقدم: سماحة السيد، ربما يقال: إذا كانت هذه الشعيرة هي وسيلة، فلماذا لا تستبدل هذه الوسيلة بوسائل أخرى تناسب عصرنا الذي نعيش فيه؟ هذا تساؤل قد يطرأ في أذهان الكثير.

سماحة السيد: هناك إجابتان:

الإجابة الأولى: ذكرنا أن الشعائر الحسينية لها بعد روحي، ولها بعد حركي، ولها بعد إصلاحي، فمن حيث البعد الروحي هذه شعائر ورد النص بها، نقصد الشعائر الثابتة، كالبكاء والندبة والمأتم، الشعائر الثابتة ورد النص بها على أساس أنها عبادة في حد ذاتها، كما ورد عن الإمام الباقر: ”من ذُكِرْنا عنده فسال من عينه مقدار جناح ذبابة غفر الله له ذنوبه“، إذن من ناحية البعد الروحي إذا نظرنا للشعائر الثابتة شعائر ورد النص بها، فهذه لا يمكن استبدالها، الإنسان يمارسها كعبادة، مضافًا إلى ما ذكرناه سابقًا من أنها تختصر ألوان كربلاء بأجمعها.

الإجابة الثانية: نعم، نحن ندعو لتطوير الشعائر وتجديدها، لا بمعنى إلغاء الشعائر الثابتة، الشعائر الثابتة تبقى، تبقى الشعائر الثابتة، من البكاء، من اللطم، من الندبة، من المأتم، هذه الشعائر الثابتة تبقى؛ لأن النص ورد بها، ولكن الشعائر الأخرى بإمكاننا تطويرها، بإمكاننا إضافة عناصر حيوية إليها، تنسجم مع حضارة العصر، تنسجم مع أهمية الإعلام في هذا العصر، ولذلك نحن نقول: نحن نحتاج فعلًا في هذا الزمان إلى ثلاثة عناصر: منبر الحسين، ومسرح الحسين، ووقف الحسين .

الأمر الأول: منبر الحسين.

المنبر - كما تعرفون - كرسي يصعده خطيب المنبر الحسيني، ويتحدث فيه عن كربلاء، عن فكر أهل البيت، عن فجائع والمصائب التي حلت بأهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، ولكننا نحتاج في عصرنا هذا مضافًا إلى منبر الحسين، مضافًا إلى المنبر التقليدي، الشكل التقليدي، نحن نحتاج إلى منبر يتناسب مع عظمة مشروع الحسين، بدون الاستغناء عن المنبر التقليدي، نحن نحتاج إلى وسائل إعلام أخرى، فمثلًا: نحن نحتاج إلى قناة خاصة بالحسين، الحسين مشروعه يحتاج إلى قناة تختص به، قناة كربلاء، قناة الحسين، هذه القناة التي تعبر القارات، هذه القناة التي تخترق قلوب الملايين من البشر، قناةٌ تتحدث عن الحسين، فكر الحسين، مبادئ الحسين، عطاء الحسين، هذا أمرٌ نحتاج إليه، عصرنا بما فيه من هذا الكمّ الهائل من الطاقات والقدرات، لا بد أن تكون وسائلنا الإعلامية في إيصال صوت الحسين منسجمة مع هذا الكم الهائل من هذه الطاقات والقدرات.

الأمر الثاني: مسرح الحسين.

نحن الآن نمارس.. كما في العراق، في كربلاء، تذكرون قبل ثلاثين سنة، والآن رجعت هذه الصور، تصوير معركة كربلاء، ولكنها بشكل ضيّق، في حدود العراق، أو بشكل بدائي، أو بشكل تقليدي. المسلمون يمتلكون طاقاتٍ في مجال المسرح وفي مجال التمثيل، طاقات هائلة، مثلًا: مصطفى العقّاد أخرج لنا فيلم الرسالة، أخرج لنا فيلم عمر المختار، هذان الفيلمان مضى عليهما أكثر من عشرين سنة، وما زالا إلى الآن حيين مؤثرين في النفوس، نحن مع ما نمتلك من إمكانات مادية هائلة، ومع ما نمتلك من قدرات ذهنية، ومع ما نمتلك من مواهب وطاقات في أبنائنا وأجيالنا، هل نحن عاجزون أن نخرج فيلم الحسين؟! فيلم يشابه هذين الفيلمين، أو ما هو أهم من ذلك وأكثر فاعليةً وتأثيرًا من ذلك، بحيث ينسجم مع مستوى الزمن. نحن لسنا عاجزين، الإمكانات موجودة عندنا، فنحن نحتاج فعلًا إلى مسرح الحسين.

المقدم: الكثير من الأصدقاء مثلًا عندما نذهب إلى مشاهدة فعالية من هذه الفعاليات التي تقام في عشرة محرم في كربلاء، الكثير من الأصدقاء لا توجد لديه حالة، ولكن عندما يصل إلى المكان الحالة تتغير، يعيش قبل هذا المشهد على أساس أنها صور متحركة لا أكثر، ولكن عندما يصل الحالة تتغير، البكاء.. كيف تفسرون هذه المسألة؟

سماحة السيد: الحسين بنفسه مارس دورًا مسرحيًا، الحسين بنفسه عندما جاء إلى ابن أخيه القاسم حمل صدره على صدره ورجلاه تخطان في الأرض، عندما جاء إلى ولده الأكبر نام إلى جنبه وقال: يا بني هاشم، احملوا أخاكم. عندما جاء إلى أخيه أبي الفضل العباس أجلسه وجعل رأسه... هذه أدوار مسرحية، صحيح مارسها الحسين بدوافع أخرى، ولكنها في نفس الوقت لا تخرج عن كونها أدوارًا مسرحية. نحن نحتاج إلى هذه الأدوار المسرحية التي تقرّب صوت الحسين وصرخة الحسين وصدى الحسين إلى النفوس وإلى القلوب. حركة عمر المختار لولا أنها مُثِّلَت بهذا الفيلم لانقرضت واندرست، نحن نحتاج في ذلك إلى مسرح الحسين، المسرح الذي يضم طاقاتٍ، ويضم قدراتٍ فنيةً ومسرحيةً تنسجم مع مستوى عصرنا وحضارتنا، بحيث تمثّل فعلًا صوت الحسين وصرخة الحسين.

الأمر الثالث: وقف الحسين.

لو تنظرون إلى الأموال الهائلة التي تُبْذَل أيام عاشوراء، في مجتمعات المسلمين عامة، في الهند، في باكستان، في إيران، في العراق، في الخليج، في الغرب، في الشرق... إلخ، مئات الملايين تُبْذَل أيام عاشوراء، هذه الأموال قسمٌ منها نحتاج إليه أيام عاشوراء؛ لإقامة المآتم، لإقامة المواكب، لإقامة الشعائر الحسينية، ولكن قسمًا كبيرًا منها يذهب سدى، يذهب هباء منثورًا؛ لأننا لا نمتلك إدارة مالية جيدة، بحيث هذه الأموال تستغلها استغلالًا جيدًا.

المقدم: سماحة السيد، طرحكم لهذه المسألة بهذه الدقة، واقعًا تحتاج إلى وقفة.

سماحة السيد: نحن نحتاج إلى تفكير اقتصادي، وهو إنشاء وقف الحسين ، هذه الأموال تُضَخُّ في مشروع اسمه وقف الحسين، هذا الوقف له فروع ممتدة في أفريقيا، في الغرب، في أوروبا، في أمريكا، عندما يكون لوقف الحسين فروع ممتدة في شتى بلدان الأرض، ويستغل الوقف يوم عاشوراء كمناسبةٍ لإظهار صوت الحسين، يوزّع هدايا على المسيحيين واليهود والشيعة والسنة وجميع أبناء الملل، هدايا باسم الحسين، هدايا تتحمّل صوت الحسين وصرخة الحسين.

الوقف - وقف الحسين - عندما يمتلك هذه الأموال الهائلة، ويمتلك هذه الفروع المتشعبة، وعندما يقوم عليه أناس متخصصون يمتلكون عقلية اقتصادية وإدارية جيدة، حينئذ خلال خمس سنوات، نحن نحتاج إلى أن نجعل لنا خطة خمسية، أو خطة عشرية، خطة خمسية حسنيية، كيف نطور شعائر الحسين على مدى خمس سنوات؟ عندما نؤسّس وقف الحسين، ونستقصي النتائج، ماذا فعل لنا وقف الحسين؟ ثق، بعد خمس سنوات سيصل الحسين إلى قلوب العالم بأسره، سيعرفون أن الحسين إلى صف عمالقة العالم الذين قادوا الحضارة الإنسانية إلى المبادئ الشامخة، وإلى المبادئ السامية والعالية.

المقدم: وإلا تأثّر الكثير من القادة بسيد الشهداء الإنسان، بغض النظر عن أنه ينتمي إلى الدين الإسلامي وإلى المذهب.

سماحة السيد: نعم، غاندي الذي قال: علّمني الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر، وصل إليه صوت الحسين لأنه يعيش في الهند، والهند فيها مسلمون، والمسلمون يحتفلون بذكرى عاشوراء، وأخذ عنوان المظلومية الذي جعلناه لونًا من ألوان كربلاء، هذا جسّده غاندي، فلنوصل الصوت إلى غاندي وأمثال غاندي من جميع عمالقة العالم وأفذاذ العالم من خلال تطوير الشعائر الحسينية مع المحافظة على الشعائر الثابتة التي ورد النص بها عن أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم».

المقدم: سماحة السيد، هناك بعض الأفكار تقول: حالة البكاء التي يعيشها الإنسان في أيام محرم بالذات، لماذا لا تُسْتَبْدَل؟ هذه الحالة لماذا لا تُسْتَبْدَل بالتعريف بالجانب الفكري والقيمي للثورة الحسينية؟

سماحة السيد: ذكرتُ في الإجابات السابقة أننا لا يمكن أن نفصل البعد العقلي عن البعد العاطفي، الشعيرة الحسينية امتزاجٌ بين قوتي العقل والعاطفة، لأن مبادئ الحسين لا يمكن أن تتحول إلى سلوك ما لم يتفاعل معها الوجدان، فالبكاء فعلٌ هادفٌ، وهو تحويل هذه المبادئ الفكرية إلى سلوك من خلال التفاعل الحراري، بالإضافة إلى أنها شعائر ثابتة، ورد عن الإمام الصادق : ”إن لجدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا“، هذه الحرارة هي قناعات ومبادئ، وهي أيضًا سلوك يتحول إلى تأثير فاعل حيٍّ في المجتمع الإسلامي.

المقدم: هذا التمازج الرائع الذي وضحتموه سماحة السيد حول العقل والقلب، في بعض الأحيان يعيش الإنسان جوًّا خاصًّا، من خلال بعض الأمور الخاصة مثلًا في البيت، من خلال وضع كلمة لسيد الشهداء، أو حتى هذه القطعة السوداء قد تثير في بعض الأحيان بعض الشجن، هذه الحالة إلى من ترجعونها بالذات؟

سماحة السيد: هذه الأمور أسّسها وابتكرها أهل البيت، هذه الألوان المتعددة، الإمام الرضا يجلس أيام عاشوراء، يلبس الثياب السوداء، ويستقطب الشعراء - كدعبل الخزاعي وغيره - لإنشاد الشعر في رثاء الحسين، لون السواد له أثرٌ، علماء النفس يقولون: اللون أحيانًا له أثرٌ على النفس، لون السواد يكون وسيلةً لعبور الحزن إلى النفس، ونفوذ الأسى إلى النفس. لون السواد، الدمعة الساخنة، الآهة، الحسرة، الصرخة.

المقدم: البعض يجعلها قابضة للنفس، هذا اللون، بينما في قضية سيد الشهداء الأمر يختلف.

سماحة السيد: هذه ألوان حيوية وليست ألوانًا قابضةً، هي ألوان كاتمة، بمعنى أنها تثير نوعًا من الأسى ونوعًا من الحزن، ولكن هذا الأسى والحزن عندما يشعر الإنسان أنه أسى وحزنٌ يتضمّن ظلامةً، يتضمّن صرخةً، يتضمّن احتجاجًا، فسوف يكون هذا اللون مبدأً من مبادئ الاحتجاج، وليس وسيلةً للكظم وللتشاؤم وللانقباض والتراجع.

المقدم: سماحة السيد، قد أجبتم على الكثير من الأسئلة، وضمنًا بعض الأمور التي تأتي. تغيير المواكب الحسينية، من ناحية اللطم والمسيرات الحسينية، هناك من يدعو إلى مسيرات جماهيرية للتعريف بهذه الثورة، أي: استبدال هذه الحالة وتغييرها إلى مسيرات جماهيرية تجوب الشوراع للتعريف بهذه الثورة، يقتصرون على هذه المسألة بالذات.

سماحة السيد: نحن ندعو إلى المسيرات الجماعية منضمًا إلى المواكب، فالمواكب تؤكد البُعد العاطفي، والمسيرات تؤكد البُعد الإعلامي، كلاهما يخدم بُعدًا من أبعاد ثورة الحسين وحركة الحسين، المسيرة الجماهيرية التي تخرج في لندن في يوم عاشوراء من كل سنة، تؤكد البعد الإعلامي لحركة الحسين، ومواكب اللطم في كربلاء تؤكد البعد العاطفي لحركة الحسين ، نحن ندعو إلى التطوير مع المحافظة على الشعائر التقليدية التي ورد النصُّ بها، والتي تُعْتَبر عبادةً في حد ذاتها.

المقدم: سماحة السيد، برأيكم ما هي العوامل التي أثّرت في انتشار هذه الشعائر، برغم حالة التضييق التي كانت تعيشها بعض البلدان، كالعراق في زمن النظام السابق؟ حالة تضييق شديدة، بالرغم من هذا خرجت الناس، ولكن هذه المسألة نضعها في كلام، أنه هناك عوامل أدت إلى هذا التحرك.

سماحة السيد: العامل هو الحسين، الحسين هو العامل، هو العامل الحراري، هو العامل المؤثر، الحسين لا يمكن أن يُخْنَق، الحسين صوتٌ لا يمكن أن يُخْنَق، الحسين حرفٌ لا يمكن أن تختصره الشفتان، الحسين صوتٌ لا يمكن أن يتقوقع بين الشفتين، الحسين صوتٌ متفجّرٌ، صوتٌ ثائرٌ، صوتٌ يغلي، دم الحسين نفسه تحرك على الأرض، وهو دم صدر من جسد ميت، لكنه دم صار يغلي، وصار يتحرك على الأرض.

في زيارة الحسين : ”أشهد أن دمك سكن في الخلد“، كيف سكن دمه في الخلد؟ الملائكة كانت تلتقط هذه الدماء الطاهرة، أنتم تعرفون في الرواية أن الحسين صبغ شيبته بدمه، ورفع قطرات دمه من السماء فما نزلت منها قطرة، الملائكة التقطت هذه الدماء، وجعلتها أوسمة حمراء خالدة للحسين ولشهداء الحسين يوم القيامة. دم الحسين لأنه دم قارع الظلم، وسجّل الإرادة المحمدية الصامدة، لذلك لا يمكن اختصاره، ولا يمكن قبره، ولا يمكن خنقه، وما صنعه صدّام صنعه المتوكل قبله، وما صنعه صدّام صنعه الأمويون قبله، وبقي الحسين صوتًا يتأجّج، صوتًا يتفجّر.

أنا كنت في العراق، وعشت في العراق أيام صدام حسين، ولكن عندما تأتي زيارة عاشوراء، وعندما تأتي زيارة عرفة، وعندما تأتي زيارة النصف من شعبان، مع كل عوامل القهر والإبادة تمتلئ كربلاء بالملايين، صوت الحسين يخترق القلوب مهما صنع الظالمون.

المقدم: أحسنتم سماحة السيد، شكرًا جزيلًا على إعطائكم هذا الوقت لتبيين هذه المسائل. أحبتنا المشاهدين، لا يسعنا إلا أن نتقدم في هذه الحلقة بالشكر الجزيل إلى سماحة السيد منير الخباز، الأستاذ في الحوزة العلمية، كما نشكركم أحبتنا المشاهدين على حسن المتابعة، هذا مقداد الخفّاجي يحييكم، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.