الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جـ1

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عدة محاور:

المحور الأول: حق الإنسان والمجتمع في مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ربما يقال بأنَّ نهي الإنسان عن المنكر نوع سلطنةٍ على الآخرين، وهذه السلطنة تتنافى مع الحرية الشخصية للإنسان، فالإنسان له حق الحرية الشخصية، التي هي حق طبيعي، وحق وضعي، تكفلت به القوانين الدولية، وحق إسلامي، كما في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فإذا كان الإنسان حرًا، ومن حقه أن يعيش الحرية الشخصية، فلماذا نرفض عليه أن يتناهى عن المنكرات، وأن يأتمر بالمعروف؟ لماذا نضع لأنفسنا سلطنة وولاية عليه تتنافى مع حريته الشخصية في اختيار الطريق الذي يريده والذي يرغبه؟

هذه الشبهة نحن نجيب عليها، نقول: هذا الإنسان من حقه أن يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، النهي عن المنكر من حق المأمور ومن حق المنهي، فضلًا عن كونه من حق الناهي ومن حق الآمر، لماذا؟ الإنسان خُلِق ووُجِد في هذا الكون من أجل بناء الحياة، الحياة بمختلف صورها ومجالاتها، القرآن الكريم يقول: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، القرآن الكريم يقول: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، الإنسان خُلِق مكرّمًا، أي: مزودًا بالأدوات التي يقدر من خلالها أن يبني الحياة، وأن يبني المجتمع، وأن يبني الحضارة.

ولأجل أن هذه هي كرامة الإنسان - أنه زُوِّد بالأدوات والآليات التي يبني بها الحياة ويبني بها المجتمع - لذلك عطف الله على هذه الجملة قوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، الإنسان خُلِق من أجل أن يبني الحياة، والحياة لها صور، الحياة المادية، وهي المحافظة على الوجود، لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، والحياة الاجتماعية أيضًا مطلوب من الإنسان أن يبنيها، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ أي: يقضي على الموارد الاقتصادية، ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، الله يحب أن تنتعش الحياة الاقتصادية، كما يحب أن تنتعش الحياة البشرية.

ومن صور الحياة أيضًا: الحياة الروحية، أن يكون الإنسان يعيش إيمانًا واستقرارًا داخليًا واطمئنانًا وارتباطًا بربه، هذا الاطمئنان ينعكس على سلوكه وعلى تصرفاته وعلى تعامله مع الآخرين، ومن أجل المحافظة على هذه الحياة الروحية قال تبارك وتعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الإنسان خُلِق من أجل أن يبني الحياة بصورها المختلفة المادية والاقتصادية والروحية، فلو أن إنسانًا رفض الحياة هل من حقه أن يرفض الحياة؟ لو أن إنسانًا أراد أن ينتحر فهل من حقه أن يقضي على نصيبه من الحياة، أم أن المجتمع البشري وظيفته أن يحول بينه وبين الانتحار، وبين أن يقضي على نصيبه من الحياة؟ من حق هذا الإنسان أن يُمْنَع من الانتحار، أن يُمْنَع من إهدار نصيبه من الحياة.

أيضًا لو قال مجتمع: أنا لا أريد اقتصادًا، ولا أريد خدماتٍ، ولا أريد كهرباء، ولا أريد تعليمًا، ولا أريد صحة، هل يعطى هذا المجتمع حريته، فيبقى بلا خدمات وبلا مرافق وبلا اقتصاد؟! لا، التعليم بحسب القوانين الدولية، تعليم الإنسان إجباري، محو الأمية إجباري، بناء الحياة الاقتصادية أمر إجباري، لماذا؟ من حق المجتمع أن تُفْرَض عليه الحياة الاقتصادية وإن رفضها، ليس من حقه أن يرفض الحياة الاقتصادية والحياة المرفهة، كذلك لو أنَّ إنسانًا رفض الحياة الروحية، أراد أن يبعث بالمعاصي والرذائل كيفما يشاء، وهذا ما يجعل منه مصدر خطر وضرر على سائر أبناء المجتمع.

هذا الإنسان ليس من حقه أن يقول: أنا حر وأبقى حرًا أتعامل مع المعاصي والرذائل كيفما أريد، بل من حقه أن ينهى عن المنكر، وأن يؤمر بالمعروف، لأن نهيه عن المنكر وأمره بالمعروف صيانة لحقه في الحياة الروحية، حفظًا للحياة الروحية التي من حق المجتمع أن يحيا بها، كما أن الإنسان ليس من حقه أن ينتحر بحجة أنه حر، وليس من حقه أن يرفض التعليم والمرافق الصحية بحجة أنه حر، أيضًا ليس من حقه أن يرفض رسالة النهي عن المنكر والأمر بالمعروف بحجة أنه حر؛ لأن كل هذه الأدوات هي صيانة لحق الفرد ولحق المجتمع في أن يعيش نكهة الحياة، وطعم الحياة، الحياة المادية، والحياة الاقتصادية، والحياة الاجتماعية، والحياة الروحية.

لأجل ذلك، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلسفته وأهميته تكمن في أنه يصون بذرة الحياة بجميع صورها وأشكالها، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُرْدَع الظالم ويُنْتَصَف للمظلوم، بالنهي عن المنكر توزّع الحقوق على مواردها ومواطنها، بالنهي عن المنكر يُمْنَع اعتداء شخص على شخص آخر، وهذا ما ورد عن النبي محمد : ”إن بالأمر بالمعروف تقام الفرائض، وتأمن المذاهب“، أي أن المجتمع يعيش حياة آمنة، ”وتُحَلُّ المكاسب، وتُمْنَع المظالم، وتُعْمَر الأرض، ويُنْتَصَف للمظلوم من الظالم، ولا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعَت منهم البركات، وسُلِّطَ بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء“.

وورد عنه : ”لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو يسلطن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم“، مجرد الدعاء لا يقضي على المنكرات، مجرد الدعاء لا يحفظ الحياة، مجرد الدعاء لا يبني حضارة، نحتاج مع الدعاء إلى العمل وإلى القيام بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.

المحور الثاني: ارتباط الإيمان بمسؤولية النهي عن المنكر.

هناك كثير من الناس يعيش النزعة الفردية، كأنما الإيمان حكرٌ عليه، كأنما التدين حكرٌ عليه، يقول: أنا مسؤول عن نفسي، مسؤول عن دربي، مسؤول عن إصلاح أوضاعي وشؤوني، عليَّ أن أكون إنسانًا مؤمنًا متدينًا، أما الآخرون فلا شغل لي بهم، موسى بدينه وعيسى بدينه، أنا لا ربط لي بالآخرين! هذا يعيش أنانية الإيمان، هذا يعيش روح احتكار الإيمان، ربما يستدل على نظرته بقوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، لكن هذه النزعة والنظرة نظرة سقيمة، نظرة قاصرة.

القرآن الكريم يؤكد على أن الإيمان متقومٌ بالمسؤولية الاجتماعية، الإيمان متقومٌ بالنظرة الاجتماعية للإيمان، القرآن الكريم يقول: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا العنصر الأول عنصر روحي، عنصر الإيمان، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ عنصر سلوكي، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ العنصر الاجتماعي، العنصر الاجتماعي أن تنقل الإيمان من قلبك إلى الآخرين، هذا عنصر مقوّمٌ للإيمان، وإلا فالإنسان في خسر. القرآن الكريم يقول: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ليس أنفسكم فقط ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ، وقال القرآن الكريم: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ.

الإيمان متضمن للعنصر الاجتماعي، لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنًا حقيقيًا حتى يرى غيره كنفسه، فكما يهتم بإصلاح نفسه يهتم بإصلاح غيره، يهتم بوضع غيره، كما ورد عن النبي : ”من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم“، الإيمان متضمن ومتقوم بالنظرة الاجتماعية، أصلًا لا يجتمع الإيمان مع الأنانية، مع أن ينظر الإنسان لنفسه أنه هو الصالح، وغيره غير مهم.

وهذه الآية: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ناظرة إلى العقاب، أي أن الإنسان لا يعاقَب بوزر غيره، لا تضركم ذنوب الآخرين، أنتم تسألون يوم القيامة عن أنفسكم، لا تحاسبون على أعمال غيركم، هي ناظرة إلى العقاب في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وليست ناظرة إلى المسؤولية الاجتماعية في الحياة الدينيا.

الإنسان مسؤول في هذه الحياة عن إصلاح مجتمعه، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ورد عن النبي محمد : ”لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يحب لغيره ما يحب لنفسه“، ليس فقط يدعو غيره للإيمان، ليس فقط يأمر غيره بالمعروف وينهاه عن المنكر، بل المطلوب منه درجة أكبر من النهي عن المنكر، وهو أن يعتبر غيره نفسه، أن يحب لغيره ما يحب لنفسه، أن يتفاعل مع إصلاح غيره لسانًا وفكرًا وقلبًا ومحبةً أيضًا، وبالتالي هذا مصداقٌ حقيقيٌ للآية المباركة: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يتقاطر النور منه إلى غيره.

المحور الثالث: أهمية التخطيط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأمر بالمعروف علاجٌ وليس مواجهة، وهذا العلاج يحتاج إلى تخطيط، فاعل المنكر إنسان مريض، والإنسان المريض لا يتعامَل معه بالعنف أو الشدة، بل يتعامَل به بأفضل الوسائل التي تنقذه من مرضه، وتعالج له الوباء الذي ألّم به، والداء الذي أقام في جسمه، فاعل المنكر مريض، فكيف نعالجه من مرضه؟ نحتاج إلى عدة خطوات.

الخطوة الأولى: دراسة المرض. لماذا فعل المنكر؟ ما هي الدوافع والعوامل التي قادته إلى فعل المنكر؟ الخطوة الثانية: البحث عن الأساليب الناجعة والمفيدة والمؤثرة في نقله من الرذيلة إلى عالم الفضيلة. والخطوة الثالثة هي الاستعانة بمن يؤثر في نقل هذا الإنسان من عالم الحضيض إلى عالم الذرى وكمال الإيمان، لا يعتبر الإنسان بأنه.. أنا لا أستطيع أن أؤثر في الآخرين، أنا أنهاهم فلا يستجيبون لنهيي! لكنك لو درست الأساليب المؤثرة لكنت قادرًا على التأثير فيهم، لا يكفي أن تعتذر عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنني لا أؤثر في الآخرين، هذا ليس كافيًا في العذر، عليك أن تدرس الأساليب المؤثرة، عليك أن تدرس كيف تستعين بمن يؤثر في الآخرين وينقلهم من حالة الانحطاط إلى حالة الهداية.

إذن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علاجٌ، والعلاج يقتضي الدراسة، يقتضي الاستعانة بالآخرين، يقتضي أن نعيش العقلية التخطيطية الجماعية من أجل محو المنكرات المنتشرة في مجتمعاتنا، أما أن نتعامل مع المنكرات بالنظرة الفردية، أنا أنهى شخصًا عن المنكر، فإذا لم يستجب لي إذن فقد سقطت المسؤولية عن عاتقي! حينئذ لن تنتهي المنكرات ولن تنعدم، بل ستبقى مستمرة ومتطورة ومتجددة، لا يمكن القضاء على المنكرات إلا إذا نظرنا إليها نظرة علاجية شمولية، بدراسة دوافعها، والتفكير في الأساليب الناجعة، والاستعانة باختلاف الطاقات الذين يكونون قادرين على القضاء على هذه المنكرات.

ورد عن النبي محمد أنه قال: ”من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده“، وليس المقصود باليد أن يستعمل القوة، اليد كناية عن القدرة، كما في قوله تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي: قدرته فوق قدراتهم، فليبذل المؤمن قدرته وطاقته في سبيل علاج المرضى من المنكرات والآفات.