الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جـ2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

صدق الله العلي العظيم

من هذه الآية المباركة استفاد علماؤنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ كفائيٌ، بمعنى أنه إذا قامت به مجموعة من الأمة سقط الوجوب عن الباقين، لكن هذا لا يعني أن نراقب الآخرين كيف يتصرفون ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ونحن خالون وفارغون من المسؤولية، الوجوب الكفائي لا يعني الفراغ من المسؤولية، صحيح أن الصلاة واجب عيني، واجب على كل فرد، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو واجب كفائي، أي: واجب على طبيعي المكلف، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولكن إنما يسقط عن الباقين إذا قام به البعض، بمعنى أن البعض الذي تصدى لمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استطاع أن يقضي على المنكر.

وأما إذا لم يقض على المنكر وما زال المنكر قائمًا، إذن فالمسؤولية لا تنتهي من أعناقنا، ما زلنا مطوقين بهذه المسؤولية، لأن البعض الذي تصدى لهذه المسؤولية لم يستطع القضاء على المنكر، ونحن نمتلك القدرات ونمتلك الأساليب الأخرى للقضاء على المنكر، في مثل هذه الصورة لا يقال قام به البعض، تصدى له البعض، لكنه لم يوفق لإقامة المعروف ولمحو المنكر، فلا تسقط المسؤولية عنا ما دمنا قادرين على محو المنكر، وما دمنا قادرين على تفعيل المعروف.

إذن، ليس المقصود بالوجوب الكفائي أن نجلس وأن نترك المجال للآخرين، بل علينا أن نراقب وعلينا أن نتطلع وعلينا أن نسأل ونفحص، هل أن الآخرين الذين تصدوا لمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استطاعوا التأثير في هذا المجال وفي هذه الساحة أم لا، حتى نكون مسؤولين عن ذلك. نظير تجهيز الميت، لو مات ميت مسلم يجب على المسلمين تجهيزه وتغسيله وتكفينه ودفنه، وهذا واجب كفائي، ولكن هذا لا يعني أننا إذا سمعنا سقطت عنا المسؤولية، حتى لو عرفنا بعد ذلك أن الذين قاموا بتجهيزه لم يوفقوا لتجهيزه، وما زال الميت لم يجهّز بالتجهيز المطلوب، إذن حينئذ تتجدد المسؤولية علينا في حفظ كرامة هذا الميت، وإن كان الأمر واجبًا كفائيًا. لا بد هنا أن نشير في مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى عدة أمور:

الأمر الأول: شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ذكر فقهاؤنا «رضوان الله تعالى عليهم» أن لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروطًا خمسة:

الشرط الأول: معرفة المعروف والمنكر.

فاقد الشيء لا يعطيه، لو أردت أن أنهى غيري عن المنكر لا بد أن أكون عارفًا بأن هذا الفعل منكر، حتى أنهى الآخرين عنه، وإلا لو فعلت وتصديت بجهلٍ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان فساد عملي أكثر من صلاحه، فإن الجاهل يضر بالأمة إذا تعامل بمقتضى جهله أكثر مما يصلحها، وأكثر مما يجني من الفوائد والمصالح.

الشرط الثاني: احتمال التأثير.

لو قطعت بأنني لا أؤثر شيئًا، لو قطعت بأن نهيي أو أمري لا أثر له أبدًا، فهنا لا يجب عليَّ النهي عن المنكر، لا يعني أنه لا يجوز، يجوز، بل هو راجح، الوعظ راجح، النصيحة راجحة، ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، هو أمر راجح على كل حال، لكنه ليس واجبًا لأنني أقطع بعدم التأثير، ولكن متى ما احتملت التأثير احتمالًا عرفيًا وجب عليَّ القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ربما يقول قائل: كيف يحصل احتمال التأثير؟ احتمال اتأثير بأن تدرس الوسائل المختلفة، أنا لا أؤثر في حق الآخرين، ولكنني لو استعنت بفلان المؤثر لكان ذلك مؤثرًا، هنا لا تسقط المسؤولية عني، ما دام احتمال التأثير قائمًا ولو بالاستعانة بالآخرين، ولو بالاستعانة بأصدقاء فاعل المنكر، بأبيه، بأمه، بأسرته، هذا الأسلوب الذي أمارسه لا يؤثر، لكن هناك أسلوبًا آخر يؤثر فيه، أستعمل الأسلوب الآخر، لا تسقط عني مسؤولية الأمر بالمعروف بمجرد أنني لا أؤثر بأحد الأساليب، بل لا بد أن أدرس الأساليب المختلفة، ولا بد أن أن أدرس الوسائل المختلفة، فإذا عرفت أن لا مجال للتأثير، حينئذ يمكن أن يسقط عني النهي عن المنكر.

الإمام الهادي دخل على المتوكل العباسي في ظلمة الليل، والمتوكل العباسي في مجلس الشراب، مشغول بالخمر والقيان والجواري والراقصات، أدخل الإمام الهادي عليه قهرًا وقسرًا في مجلس الشراب، فطلب من الإمام، قال: اشرب معنا، قال: ما خالط لحمي ودمي، قال: إذن أنشدنا شيئًا من الشعر، هذا مجلس اللهو، مجلس الغناء، مجلس الرقص، الإمام الهادي قال: إنني قليل الرواية للشعر، أصر عليه، هنا رأى الإمام الهادي أن الظرف مناسب لمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقرأ تلك الأبيات المؤثرة:

باتوا  على  قلل الأجبال iiتحرسهم
واستنزلوا  بعد  عزٍّ  من معاقلهم
ناداهم   صارخٌ  من  بعد  iiدفنهم
أين  الوجوه  التي  كانت  iiمنعمةً
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم



 
غلب  الرجال  فلم  تنفعهم  القللُ
وأسكنوا  حفرًا  يا  بئس  ما iiنزلوا
أين   الأسرة   والتيجان   iiوالحللُ
من  دونها تضرب الأستار iiوالكللُ
تلك  الوجوه  عليها  الدود  iiيقتتلُ

إذن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اختيار الأسلوب المناسب في الظرف المناسب في الوقت المناسب بالشكل المناسب، لا يجوز لنا أن نعتذر عن هذه المسؤولية بأننا غير قادرين في هذا الوقت، ما دمنا قادرين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأسلوب مناسب في وقت مناسب بشكل مناسب، فإن المسؤولية لا تسقط عنا، ”لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو يسلطن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم“.

الشرط الثالث: أن يكون فاعل المنكر مصرًا على المنكر.

أما لو كان مرتدعًا، أو كانت علامات التوبة والإنابة باديةً عليه، فحينئذ لا يجب علينا نهيه عن المنكر، إذ ربما يعدُّ ذلك إيذاءً له أو هتكًا لكرامته، والإسلام كما يراعي القضاء على المنكرات يراعي كرامة الآخرين، ويراعي مكانة الآخرين أيضًا، فلا بد أن نجمع وأن نوفق بين الموازين، بين ميزان القضاء على المنكر، وبين ميزان حفظ كرامة الآخرين.

الشرط الرابع: أن يكون المنكر منجّزًا في حق الفاعل.

لو فرضنا أنه يختلف معي في الرؤية، أنا أقلّد شخصًا يرى حرمة حلق اللحية، وهو يقلّد شخصًا يرى حلية حلق اللحية، فهو بنظره لا يمارس منكرًا، حينئذ لا معنى لأن أنهاه عن المنكر وهو لا يمارس منكرًا بنظره؛ لأنه يرى حلية حلق اللحية اجتهادًا أو تقليدًا، وهكذا غيرها من الأمثلة.

الشرط الخامس: عدم استلزام الضرر.

يشترط ألا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر على النفس أو على العرض أو على المال، على الآمر أو على غيره من المسلمين، سواء علم بالضرر أو احتمل الضرر، المهم أن يحتمل الضرر احتمالًا يصدق معه عنوان الخوف. أنا إذا أدركت أن النهي عن المنكر يضرني، أو يضر أحدًا من المؤمنين في النفس، في العرض، في المال، فحينئذ لا يجب عليَّ النهي عن المنكر، ولكن في بعض الموارد قد تكون الفائدة المترتبة على النهي عن المنكر أكبر بكثير من الضرر المترتب على النهي عن المنكر، لو انتشر والعياذ بالله الزنا في مجتمع، أو انتشر شرب الخمر في مجتمع، أو انتشرت نوادي القمار في مجتمع، وكان النهي عن المنكر هنا مضرًا، يترتب ضرر على بدني، أضرب، أو أخسر بعض أموالي، ولكن إذا قمت بمسؤولية النهي عن المنكر قضيت على هذه الظاهرة الخطيرة، أو قضيت على خمسين بالمئة منها، هنا يجب النهي عن المنكر، وإن ترتب عليه الضرر، باعتبار أن المصلحة المترتبة عليه أهم بدرجات من الضرر المترتب على القيام بالنهي عن المنكر.

الأمر الثاني: درجات النهي عن المنكر.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له درجات وله مراتب:

المرتبة الأولى: الإنكار بالقلب.

بمعنى أن يُظْهِر الإنسان على قسمات وجهه لمن فعل المنكر أنه غاضبٌ منه، معرضٌ عنه، لأنه فعل المنكر، هذه المرتبة قد تجب إذا كانت مؤثرة، إذا كان صدودي عن أخي الذي يفعل المنكر، أو ولدي الذي يفعل المنكر، مؤثرًا في إصلاح سلوكه، فالنهي عن المنكر حينئذ بهذه الطريقة واجب، أما لو كان بالعكس، لو كان صدودي وإعراضي موجبًا لنفوره من الدين، وإعراضه عن حظيرة الإيمان، فحينئذ لا يكون النهي عن المنكر بهذه الطريقة واجبًا، بل ليس راجحًا.

المرتبة الثانية: الإنكار باللسان.

النصح، الموعظة، تفهيمه أن ما يفعله من المنكرات التي تترتب عليها العواقب الوخيمة.

المرتبة الثالثة: الإنكار باليد.

هنا عبّر بعض أساتذتنا - دام ظله - في منهاج الصالحين، ما قال الإنكار باليد، بل قال: إعمال القدرة، أي: ليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة عنف، وسيلة إضرار بالآخرين، المقصود باليد إعمال القدرة، أن الإنسان يُعْمِل قدرته، لو كان هناك منكر لا ينقضي إلا بأن أبذل مالًا لأجل القضاء عليه، فحينئذ أبذل مالًا لأجل القضاء عليه، لو كان هناك منكر لا ينقضي إلا بأن أستخدم القوة بواسطة اليد، أو بواسطة الاستنجاد بجهة قوية، أستخدم ذلك، المهم إعمال القدرة، أن أعمل قدرتي وطاقتي بأي وسيلة ممكنة في سبيل محو المنكر، وإذا كان النهي عن المنكر مؤثرًا بالأسلوب اللطيف، وبالأسلوب الهادئ، وبالأسلوب الليّن، فيتعيّن عليَّ أن أختار هذا الأسلوب إذا كان هو المؤثر في النهي والارتداع عن المنكر.

ربما يصل النهي عن المنكر إلى استخدام الضرب، إلى الجرح، إلى القضاء على أموال الآخرين، إتلاف أموالهم، حينئذ يحتاج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى إجازة الحاكم الشرعي الذي بولايته يجيز للأمة ولنخبة من المجتمع أن تمارس القوة في سبيل محو المنكر والقضاء عليه، وصيانة حياة المجتمع من العبث، ومن الفساد، ومن التدهور.

الأمر الثالث: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة.

يتأكد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة للأهل، القرآن الكريم يقول: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، أنت مسؤول يوم القيامة عن إصلاح أهلك، أنت قد تعذّب بالنار يوم القيامة، مع أنك إنسان صالح متدين، قد تعذّب بالنار لأنك لم تأمر بالمعروف ولم تنهَ عن المنكر في وسط بيتك، والأهم من ذلك كله: يقول علماء التربية: التربية على قسمين: تربية صريحة، وتربية مضمرة.

التربية الصريحة: أن أخاطب أولادي: صلوا، صوموا، افعلوا الواجبات، اتركوا المحرمات، كونوا مهذبين، كونوا مؤدبين، هذه تربية صريحة، وهناك تربية مضمرة، وهو أن أكون أنا متعظًا في نفسي، أن أكون أن مؤتمرًا بالمعروف، أن أكون أنا منتهيًا عن المنكر، ورد في تفسير هذه الآية: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، قيل: ما الموعظة الحسنة؟ قال: ”أن يتعظ الإنسان فيعظ غيره“. الإنسان يعظ غيره إذا كان في نفسه متعظًا، إذا كان في نفسه مؤتمرًا، قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.

يا  أيها  الرجل  المعلم iiغيره
تصف الدواء وأنت أحوج للدوا
  هلّا  لنفسك  كان  ذا iiالتعليمُ
وتعالج  المرضى وأنت iiسقيمُ

الموعظة الحسنة أن يكون الإنسان متعظًا، إذا كان الأب محافظًا على الصلوات، قارئًا للقرآن، متنفلًا، مواظبًا على الأدعية، صدوقًا نزيهًا، فإنه يعكس تربيته ويعكس صلاحه على أسرته، من دون حاجة إلى أن يخاطبهم بلسانه، كما ورد عن الإمام الصادق : ”كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم“، التربية المضمرة أقوى تأثيرًا في إصلاح الآخرين من التربية الصريحة.

إذن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلةٌ مهمةٌ لحفظ المجتمع من التدهور، ولحفظ المجتمع من الفساد، ورد عن النبي محمد التأكيد على هذه المسؤولية الخطيرة، حينما قال: كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر؟! قيل: أو يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: كيف بأمركم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف؟! قيل: يا رسول الله، أيكون ذلك؟ قال: ”نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا“. لا يتم القضاء على كل ذلك إلا بأن نقوم بهذه الوسيلة، جعلنا الله وإياكم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين.