جهاد النفس جـ 3

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى

صدق الله العلي العظيم

كيف يمتلك الإنسان إرادة النهي نهي النفس؟ كيف يكون للإنسان قدرة أن يسيطر على نفسه وعلى مشاعره وعلى عواطفه وعلى ميوله، وأن يكون مواجهًا للنفس الأمارة، ناهيًا لها، آمرًا لها، موجّهًا لسيرها ولحركاتها؟ كيف يمتلك الإنسان هذه القدرة وهي قدرة السيطرة على نفسه؟ الإنسان يمتلك هذه القدرة إذا سار على خطة نقد الذات، لا يمكن للإنسان أن يتغير إلا إذا نقد ذاته، القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، تغيير النفس هو ما يعبّر عنه بنقد الذات، الذي هو درب التغيير، وطريق التغيير.

كل مؤسسة وكل شركة لا يمكن أن تنتج ولا يمكن أن تتقدم إلا إذا كان عندها برنامج لنقد الذات، أن تدرس مشاريعها، سلبياتها وإيجابياتها، وما هي مواطن الضعف ومام هي مواطن القوة، إذا قامت الشركة أو المؤسسة بدراسة مشاريعها، وبدراسة منتجاتها، وبدراسة جميع مشاريعها السابقة، نقدت ذاتها، استطاعت أن تتقدم، واستطاعت أن تتغير.

الإنسان ما لم ينقد ذاته، ما لم تكن عنده خطة مبرمجة لنقد الذات ولقراءة الذات فإنه لن يتغير من السيئ إلى الحسن، من الطلاح إلى الصلاح، لا يمكنه أن يتغير إلا إذا نقد ذاته، فكيف يتم نقد الذات؟ هناك عدة مراحل يسير عليها الإنسان من أجل نقد الذات، وهي ما يعبّر عنه علماء العرفان بالمراقبة والمحاسبة والمعاتبة والمحاربة، هناك مراحل أربع لا بد أن يمر بها الإنسان في خطة نقد الذات.

الخطوة الأولى: المراقبة.

أن يكون الإنسان رقيبًا على ذاته، رقيبًا على تصرفاته، رقيبًا على حركاته، وهذا لا يتم إلا إذا استشعر الرقابة الإلهية، إذا استشعر أن هناك من يراقبه، ”وكنت أنت الرقيب علي من ورائهم، والشاهد لما خفي عنهم“، إذا استشعر الإنسان الرقابة الإلهية بدأ يراقب ذاته، بدأ يراقب تصرفاته، ورد عن الإمام الصادق : ”خف الله كأنك تراك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت ترى أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك“.

استشعار الرقابة الإلهية، استشعار الحضور الإلهي، هو الذي يجعل للإنسان رقابة على تصرفاته، ما هي أعمالي خلال اليوم الماضي؟ ما هي الأعمال الصالحة والأعمال الفاسدة؟ ماذا أنتجت؟ ماذا قدمت؟ ماذا خطوت؟ مراقبة الإنسان لسائر أفعاله، وكتابتها وتسجيلها، هي الخطوة الأولى من خطوات نقد الذات.

الخطوة الثانية: خطوة المحاسبة.

المحاسبة يراد بها الموازنة، لكيلا تنجرف النفس إلى الأعمال الفاسدة، فتطغى على الأعمال الصالحة، لكي تكون النفس متوازنة منضبطة تحتاج إلى عملية المحاسبة، ورد عن النبي محمد : ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا“، اغتنم هذه الفرصة، فرصة الدقائق والثواني التي تعيشها في هذه الحياة الدنيا، اغتنم فرصة الزمن الذي يمر سريعًا عليك، اغتنم هذه الفرصة في محاسبة النفس، ”الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما“، ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”كل يوم يمر على ابن آدم يخاطبه: أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فاعمل فيَّ خيرًا، وقل فيَّ خيرًا، أشهد لك بذلك يوم القيامة“.

إذن، ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا“، هناك عملية موازنة بين الأعمال الصالحة والأعمال الفاسدة، أيهما أكثر؟ أيهما نتائجه أكثر؟ ورد عن الإمام الكاظم : ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم“، كل يوم قبل أن أنام بخمس دقائق أحاسب نفسي، أقرأ جدول أعمالي، أقرأ ذاتي، لماذا فعلت السيئات؟ لماذا ارتكبت المعاصي؟ ما هي الأسباب وما هي الدوافع التي دفعتني لارتكاب هذه المعاصي؟ هل تستحق هذه الدوافع أن أعرّض نفسي للعقوبة الإلهية، وأن أعرّض نفسي لعملية الانحراف أم لا؟ ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى منها، وإن عمل سيئة استغفر الله وتاب إليه“.

الخطوة الثالثة: المعاتبة.

نحن نحتاج إلى أن نوبّخ أنفسنا، نحن نحتاج إلى أن نكثر الترقيع والتلويم والتوبيخ لأنفسنا على ما تصنعه من المعاصي، وعلى ما ترتكبه من الخطايا، نقف مع كل خطأ، مع كل ذنب، بروح التقريع والتأنيب والحسرة واللومة والندامة على ما نصنع، وقراءة دعاء كميل، وقراءة دعاء أبي حمزة الثمالي، وقراءة أدعية المناجاة الخمسة عشرة، هذه الأدعية تساعدنا على تلويم أنفسنا، على تقريع أنفسنا، على تأنيب أنفسنا، هذه عملية المعاتبة، معاتبة النفس على أخطائها.

عملية المعاتبة تنبع من تهويل الذنب، وإعطائه حجمه الواقعي، فقد ورد عن النبي محمد : ”أشد الذنوب ما استهان به صاحبه“، الإنسان عندما يخفّف الذنب، يستصغر الذنب، يقول: هذا ذنب صغير لا يؤثر على حياتي، لا يؤثر على مسيرتي، هذه بداية الانحراف، بداية الانزلاق نحو الهاوية، أما عندما يعطي الذنب حجمه الواقعي، يعطي الذنب هوله الواقعي، يلقّن النفس مدى عظمة هذا الذنب، مدى ما يترتب على هذا الذنب من النتائج الوخيمة، حينئذ يعد هذا بداية لتقريع النفس وتلويم النفس وتأنيب النفس.

ورد عن النبي محمد : ”المنافق لديه الذنب كذبابة تمر على أنفسه، فيطيرها بيده، والمؤمن لديه الذنب كالجبل القائم على صدره“، المؤمن يرى الذنب بحجمه الواقعي، الذنب قطعة من النار، هل يستطيع الإنسان أن يضع إصبعه على عود الكبريت وهو مشتعل؟! لا يمكن لهذا الإنسان الضعيف أن يضع جلده الرقيق على عود الكبريت وهو مشتعل؛ لأنه يتألم، لأنه يتوجع، هذا ابن آدم ضعيف، ”تنتنه العرقة، تقتله الشرقة، تؤلمه البقة“، البقة تؤلم جسم الإنسان، فكيف بأن يضع إصبعه على حديد أو حجر محمي من النار؟! ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، حجارة حارة، الحجر من الأجسام الرديئة التوصل للحرارة، لكنها إذا سكنتها الحرارة أصبحت حرارتها أشد من حرارة النار.

هذا الجلد الرقيق لا يستطيع أن يقاوم أن يضع إصبعه على حديد من النار، فكيف يمكن له أن يشرب أو يأكل قطعة ملتهبة من النار؟! الذنب قطعة ملتهبة من النار، هناك نظرية عند علماء العرفان تسمى بنظرية تجسّم الأعمال، أعمالنا هي جزاؤنا، القرآن يقول: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، عملكم هو جزاؤكم، إذن ذنوبي وانحرافاتي ومعاصيَّ وأخطائي هي النار، أنا أرسم ناري بيدي، أنا أبني جهنم بيدي، أنا أبني الحميم بيدي، الذنوب التي أصنعها هي الحديد، هي الحجارة الحارة، هي الجحيم الذي [...] في جميع أرجاء جسمي، ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ. إذن، تلقين النفس بحجم الذنب الواقعي، وأنه قطعة من النار، هذه هي مرحلة المعاتبة.

الخطوة الأخيرة: المحاربة.

النفس قوية، النفس طاغية، النفس إذا فُتِح لها المجال تطغى على الإنسان، تسيطر على جميع تصورات وتصرفات الإنسان، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، النفس طاغية بطبعها.

الإنسان يلاحظ نفسه، إذا فتح لها المجال أن تأكل أي طعام فإنها تأكل كل شيء، كلما اشتهت تأكل، كلما اشتهت تشرب، إذا فتح لها المجال للأكل والشرب تشرب وتأكل كل ما تشتهي، ثم يتضخم هذا الجسم، ويتورم هذا الجسم، إلى أن يصبح مصدر أمراض على الإنسان، فكما أن الإنسان يحارب نفسه في شهوة الأكل، وفي شهوة الشرب، كي يحافظ على سلامة جسمه، وعلى صحة بدنه، وعلى عافية خلاياه، فكذلك الإنسان يحتاج أن يحارب نفسه في شهواتها للمعصية، في شهواتها للأخطاء، في شهواتها للرذائل، النفس بطبيعتها الطغيان والسيطرة على الإنسان نفسه.

النفس راغبة إذا رغّبتها   وإذا  تردُّ إلى قليل iiتقنعُ

إذن، نفسك بيدك، حاول أن تحاربها، حاول أن تواجهها، حتى تردعها، حتى توصلها إلى حد التوازن. كيف يحارب الإنسان نفسه؟ كيف يواجهها؟ كما ورد عن النبي محمد : ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه“، هناك عدة عوامل من خلالها يستطيع الإنسان أن يحارب نفسه: العامل الفكري، والعامل النفسي، والعامل الروحي.

العامل الأول: العامل الفكري.

أما العامل الفكري فهو العلم، القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، الخشية تختلف عن الخوف، الخشية والخوف رهبة، كلاهما انفعال نفساني، كلاهما رهبةٌ، لكن الرهبة الناشئة عن احتمال الخطر تسمى خوفًا، والرهبة الناشئة عن عظمة المقابِل تسمى خشية، ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، الخشية من الله هي الرهبة الناشئة عن إدراك عظمته تبارك وتعالى، وهذا يختلف عن الخوف، الله مدح المؤمنين بالخوف، ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، لكنه مدح العلماء بالخشية، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ لأن الخشية هي الرهبة الناشئة عن إدراك العظمة، وإنما يدرك الإنسان عظمة الله إذا علم ما هو الله.

العلم المراد به في الآية هو العلم الرباني، الإمام أمير المؤمنين يقول: ”الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق“، العلم الرباني العلم الذي يعرّفك بالله، علم العقائد، علم العرفان، الذي يعرّفك بالله، بصفاته، بأسمائه، بعظمته، بصنعه، بلطفه، برحمته، بجميله، العلم الذي يعرّفك بربك هو العلم الذي يقود إلى الخشية، وهذا العلم يمكن استفادته من الصحيفة السجادية، من الأدعية الواردة عن أمير المؤمنين وعن سائر الأئمة الطاهرين «صلوات الله عليهم أجمعين».

العامل الثاني: العامل النفسي.

الإنسان يحتاج إلى أن يعرف مصيره، إلى أن يعرف حجمه، كما ورد عن النبي : ”رحم الله عبدًا عرف من أين وفي أين وإلى أين“، معرفة المصير، الموت، القبر، الحساب، ورد عن النبي: ”أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرّق الجماعات“، على الإنسان أن يتذكر موته، على الإنسان أن يتذكر قبره، على الإنسان أن يتذكر آخرته.

الإمام زين العابدين يعرّفنا كيف نتعرف على مصيرنا: ”وما لي لا أبكي ولا أدري إلى أين مصيري، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، وما لي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عريان ذليلًا حاملًا ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني ومرة عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة وذلة“. إذن، تذكر هذه المواقف يحسّس الإنسان بضعفه، يحسّس الإنسان بحجمه، يحسّس الإنسان بمصيره، يربطه بربه عز وجل.

العامل الأخير: تربية الحب مع الله عز وجل.

فإن حب الله يعيق الإنسان عن المعصية، كما أن حب الدنيا رأس كل خطيئة. جعلنا الله من المجاهدين لأنفسنا، ومن المحاربين لأنفسنا، وجعلنا الله من المقتدين بأئمتنا، الأئمة الطاهرين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.