ولادة الإمام المهدي (عج) جـ2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ

صدق الله العلي العظيم

تحدثنا سابقًا عن المحور الأول من المحاور حول عصر الإمام المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، وكان ذلك المحور حول ضرورة الظهور. المحور الثاني: حول ضرورة الغيبة. غيبة الإمام المنتظر هذه الفترة الطويلة منذ وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري وحتى يوم ظهوره، هذه الغيبة يفرضها العقل والنقل، فلا مجال لإنكارها، ولا مجال للتشكيك فيها.

المحور الأول: فلسفة الغيبة.

نأتي أولًا لما يدركه العقل حول مسألة الغيبة، وهنا نذكر أمورًا ثلاثة:

الأمر الأول: ضرورة التناسب بين المقدمات والغاية.

مقتضى الحكمة الإلهية أن تكون المقدّمات بحجم الغرض، أن تكون المقدمات بمستوى الغاية، لا يمكن أن تكون الغاية أكبر من المقدمات، ولا يمكن أن تكون المقدمات أكبر من الغاية، وأكبر من الغرض، فإن هذا خلاف الحكمة. لاحظوا مثلًا: هناك فرق بين معجزة النبي عيسى ومعجزة النبي محمد ؛ لأن الغاية من بعثة عيسى لم تكن جعل رسالة خالدة وخاتمة، كان الغرض من بعث عيسى ومن نبوته رسالة مؤقتة، ونبوة مؤقتة، ولأن الغرض من بعثته رسالة مؤقتة أعطي معجزة مؤقتة، كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.

أما النبي فلأن الغاية والغرض من بعثته هو الرسالة الخالدة، هو الرسالة الدائمة، ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، بما أن الغرض من رسالته هو الرسالة الخالدة، لذلك أعطي معجزة خالدة تنسجم مع الغرض، المقدمة تنسجم مع الغرض، أعطي القرآن الكريم، الذي قال فيه تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. إذن، المقدمة بمستوى الغاية، وبمستوى الغرض.

الأمر الثاني: علاقة العدالة الواقعية بالشهادة الحسية.

الله «تبارك وتعالى» عندما بعث نبيه محمدًا أو عيسى بن مريم، بعثه لإقامة العدالة، ولكن بعثه لإقامة العدالة الظاهرية، القرآن الكريم يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، الغرض هو إقامة القسط، لكن إقامة العدالة الظاهرية. بما أن الغرض هو إقامة العدالة الظاهرية، لذلك الله «تبارك وتعالى» من أجل تحقيق هذا الغرض أعطى عيسى بن مريم، وأعطى النبي محمدًا ، الشهادة الظاهرية على الأمة، لكي تكون مقدمةً لإقامة العدالة الظاهرية. عيسى بن مريم يقول لربه: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، كنت شهيدًا لأجل إقامة العدالة الظاهرية.

القرآن الكريم يخاطب نبيه محمدًا : ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، الرسول كان يقيم العدالة الظاهرية، فكان يحتاج للشهادة الظاهرية، إذن الشهادة الظاهرية مقدمة للعدالة الظاهرية، ولكن الغرض من خروج الإمام القائم «عجل الله تعالى فرجه الشريف» ليس هو إقامة العدالة الظاهرية، بل إقامة العدالة الواقعية، الغرض من خروجه تحقيق ما لم تحققه الرسل والأنبياء، تحقيق العدالة الواقعية على الأرض كلها، كما ذكر النبي محمد : ”يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا“.

وإقامة العدالة الواقعية ليس يعني نفي الظلم، ألا يكون هناك ظلم، وألا يكون هناك طغيان، بل معنى العدالة الواقعية هو أن الناس يتحولون إلى أناس عادلين، المناهج التربوية التي يضعها الإمام المنتظر في دولته في المدارس وفي الجامعات وفي البيوت وفي وسائل الإعلام، جميع المناهج التربوية مناهج متقنة لا تربي إلا إنسانًا عادلًا، ولا تخرّج ولا تصنع إلا إنسانًا عادلًا، لذلك هو يصنع الأمة أمةً عادلةً، هو يحوّل الأمة كلها إلى أمة عادلة، يقيم العدالة الواقعية بتمام معانيها، وهذا ما لم يقمه نبي ولا رسول.

فلأن الغرض من ظهوره العدالة الواقعية، إذن هو يحتاج إلى الشهادة الواقعية، الغرض يناسبه مقدمةٌ بحجمه وبمستواه، هناك حاجة إلى الشهادة الواقعية، أن تكون له شهادة واقعية على جميع ما فعلته الأمم، وعلى جميع ما ارتكبته الحضارات، وعلى جميع ما صنعته الدول، وهذه الشهادة الواقعية تتوقف على الشهادة الحسية، بأي يعيش الإمام المنتظر الطويل من ولادة أبيه، من وفاة أبيه الإمام العسكري ، إلى يوم خروجه.

هذا العمر الطويل، جرّب فيه مختلف الحضارات، عاصر فيه مختلف المظالم، عاصر فيه مختلف الدول، عاصر فيه مختلف المجتمعات، هذه المعاصرة جعلته شاهدًا على جميع ما صنعته الحضارات، وعلى جميع ما صنعته الدول، وعلى جميع ما صنعه الظالمون، يشهد عليهم شهادةً حسيةً، شهادةً واقعيةً؛ لأنه عاصرهم بنفسه، لأنه زاولهم بنفسه، وعندما يخرج كعيسى بن مريم يشهد شهادةً حسيةً، شهادةً واقعيةً، يريد أن يقيم العدالة الواقعية على الأمة كلها؛ لأنه يشهد بما جرى من المظالم وبما جرت من المحن وبما جرت من النوائب شهادةً حسيةً واقعيةً.

الأمر الثالث: رجوع ضرورة الشهادة الحسية إلى حاجة الأمة لا الإمام.

هذا لا يحتاج إليه الإمام نفسه، الإمام كالنبي ، لا يحتاج إلى ذلك، هو في نفسه عالمٌ بخفايا الأمور كلها، بلا حاجة إلى أن يعيش هذا العمر الطويل، لكن الأمة هي التي تحتاج إلى ذلك، لا أن الإمام هو الذي يحتاج إلى ذلك، الأمة إنما تقتنع بالشهادة الحسية، إنما تقتنع بالشهادة الملموسة، طبيعة الإنسان، الإنسان مخلوق إحساسي يتأثر بالحواس، عندما تكون الشهادة شهادة غيبية لا يتفاعل معها، لكن عندما تكون الشهادة شهادة حسية يتفاعل معها.

لاحظوا الإنسان حتى يوم القيامة يصر على إنكار ذنوبه، إنكار معاصيه، لا يقتنع ولا يقر بذنوبه حتى تكون هناك شهادة حسية، ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ. الإنسان بطبيعته ينجذب إلى الشهادة الحسية، ولأن الله يريد من الإمام المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف» إقناع الأمة كلها بعدالته، أعطاه الله مرتبة الشهادة الحسية، حتى تقتنع الأمة بعدالته، وحتى تقتنع الأمة بدولته، ولذلك أعطاه هذا العمر الطويل حتى يقوم بالشهادة الحسية، وتكون تلك الشهادة الحسية مقدمةً لإقامة العدالة الواقعية التي أناطها الله بدولته المباركة.

أما الوجه النقلي فهو ما ورد عن النبي محمد في عدة روايات، منها: حديث الثقلين: ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، وقد أنبأني اللطيف الخبير بأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض“، هذا الحديث يقول عنه ابن حجر في الصواعق المحرقة: حديث صحيح لا ريب فيه لا شبهة تعتريه، رواه أكثر من نيف وثلاثين صحابيًا.

حديث الثقلين ينص على أن القرآن معاصرٌ للعترة، لا يمر زمنٌ فيه القرآن إلا وفيه رجلٌ من عترة النبي المصطفى ، ففي كل زمان قرآنٌ وإمامٌ، في كل زمان كتاب صامت، وهو القرآن، وكتاب ناطق، وهو الإمام المعاصر للقرآن، وفي زماننا هذا وما قبله وما بعده، كما أن هناك قرآنًا، فهناك إمام يصون هذا القرآن عن التحريف والتغيير، كما أن هناك قرآنًا، فهناك إمامٌ حاملٌ لأعباء هذا القرآن. إذن، هذا الحديث النبوي دليلٌ واضحٌ على غيبة الإمام المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف».

المحور الثاني: معنى الانتظار.

ورد عن النبي محمد : ”أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج“، فما معنى هذا الحديث؟ الانتظار له مدلول عقائدي، له مدلول روحي، له مدلول عملي.

المدول الأول: المدول العقائدي.

نحن نعتقد بأن الغرض والغاية والهدف من إنزال الرسالة من السماء إلى الأرض هو إقامة العدالة، والعدالة لم تتحقق إلى يومنا هذا، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، إلى الآن لم تتحقق العدالة التامة، إذن إذا كنا نؤمن بأن الله عادل، وإذا كنا نؤمن بأن الله لا يفعل قبيحًا، ولا يفعل لغوًا، فلا بد أن نؤمن بأن هناك يومًا لا بد أن يأتي يحقق الله فيه هدفه من بعثة الأنبياء وإنزال الكتب، ألا وهو إقامة العدالة التامة على الأرض، وإلا فلسنا بمؤمنين.

إذن، الانتظار معناه أن نؤمن بأن هناك يومًا لتحقيق العدالة، أن هناك يومًا يحقّق الله فيه وعده، والإيمان بأن هناك يومًا يحقق فيه الله وعده، ويحقق فيه الله عدالته، ويتنزه به عن فعل اللغو والقبيح، هذا الإيمان من أفضل أعمال المؤمن، إذن ”أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج“ لأن الانتظار يعني قضية عقائدية ضرورية، وهي قضية تحقيق الله لوعده الذي وعد به في الكتاب، وما يحكم به العقل من ضرورة تحقيق العدالة التامة، وإلا لكان بعثة الأنبياء وإنزال الكتب أمرًا لغوًا، واللغو لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى.

المدلول الثاني: المدلول الروحي التربوي.

عندما يؤمن الإنسان بأنَّ هناك إمامًا يمده ببركاته، يمده بفيضه، يمده بعطائه، غير عندما يعتقد الإنسان أن لا شيء هناك، وأن الإمام سيولد آخر الزمان، إذا اعتقد الإنسان أن الإمام سيولد آخر الزمان فسوف لن يكون عنده تفاعل روحي مع ذلك الإمام، سوف لن يكون عنده تناغم نفسي مع ذلك الإمام، أما إذا اعتقد الإنسان أن الإمام حاضر، يراه، يشهده، يتصل به، وهو مصدر البركات، مصدر الفيوضات، مصدر العطاء، يمدنا بهدايته، يمدنا بدعائه، يمدنا ببركاته، يسدّد مراجعنا، يسدّد قادتنا، يسدّد مسيرتنا، يحفظ القرآن عن التحريف، يحفظ الأمة الإسلامية عن الذل والهوان، إذا اعتقدنا أن هناك إمامًا ينشر بركاته وينشر خيراته، صار لنا تفاعل روحي مع ذلك الإمام، صار لنا تناغم نفسي مع ذللك الإمام.

من هنا جاء دعاء الندبة، دعاء الندبة يؤكد على التفاعل الروحي بين الإنسان وبين صاحب العصر، دعاء العهد يؤكد على التفاعل النفسي بين الإمام وبين صاحب العصر، هذه الأدعية هي من مصاديق الانتظار، ”أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج“ انتظاره بمعنى الاعتقاد بحضوره، والتفاعل معه، والإيمان بمدده وخيره ودعائه، والارتباط الروحي بشخصيته المباركة ، وهذا ما ينعكس على إيمان الإنسان وسلوكه.

المدلول الثالث: المدلول العملي والسلوكي.

انتظار الضيف هو إعداد المأدبة له، أنا أنتظر الضيف، يعني أعد المكان لاستقباله، لا يمكن أن يكون انتظار الضيف بلا إعداد، إذن انتظار الأمة لخروج صاحب العصر والزمان «عجل الله تعالى فرجه الشريف» لا يعني أن الأمة جالسة، وتتشاءم، ولا تقوم بأي عمل وأية حركة، انتظار الإمام يعني إعداد الأرضية لظهور الإمام «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، الإمام إذا ظهر يحتاج إلى أرضية يستند إليها، والانتظار له إعداد تلك الأرضية له.

وهذا ما نادى به القرآن الكريم: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وقال القرآن الكريم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. إذن، حركة الإصلاح، حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حركة تثقيف الأمة وإيقاظها، حركة تسليح الأمة بالعقائد، بالأخلاق، بالثقافة الإسلامية، حركة إرشاد الأمة ووعظها من قِبَل العلماء والخطباء والمبلّغين، كل هذه الحركة هي إعدادٌ لظهور الإمام المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، تعبيد للأرضية لخروج الإمام المنتظر .

إذن، هذا هو معنى الانتظار في مدلولاته الثلاثة، ”أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج“ له مدلول عقائدي: تحقيق وعد الله، له مدلول تربوي: التفاعل الروحي مع غيبة الإمام، له مدلول سلوكي: وهو إعداد الأمة نخبةً صالحةً لخروج الإمام ولنصرة الإمام «عجل الله تعالى فرجه الشريف».