الدرس 145

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنّ المحقق العراقي «قده» أفاد: بأنّ المرأة إذا علمت بأنّ إمّا الدم الفعلي حيضاً أو الدم الاستقبالي، فإنَّ هناك إلزاماً معلوماً بالفعل، وهو انه: إن كان الدم الفعلي حيضاً فيحرم التمكين، وإن كان الحيض استقباليا فيلزم حفظ القدرة على امتثال التكليف من الآن. وهذا العلم الإجمالي منجز. وأورد عليه السيد الشهيد بإيرادات، سبق الكلام في الإيراد الأول.

الايراد الثاني: أنّ غاية الأمر أنّ المتنجز على المرأة هو حرمة التمكين بالفعل أو وجوب حفظ القدرة فيتنجز عليها الآن كلاهما، فيحرم عليها التمكين، ويجب عليها حفظ القدرة. ولكن هذا لا يستلزم أنّه إذا جاء الوقت المعين أي بعد عشرين يوما فطرقها الدم يكون حرمة التمكين متنجزة بالعلم الاجمالي السابق، إذ غاية ما نجّزه العلم الاجمالي السابق في ظرفه هو حرمة التمكين ووجوب حفظ القدرة، وأمّا بعد مجيء ظرف لاحق يتنجز عليها ايضاً حرمة التمكين؟! فهذا مما لايفيده تنجز العلم الاجمالي السابق وهو خلاف المقصود بالاستدلال؛ إلّا أن يدّعي المحقق العراقي الملازمة الارتكازية بين تنجز وجوب حفظ القدرة وتنجز التكليف في ظرفه. فإذا كان يدّعي أنّه متى تنجز وجوب حفظ القدرة على المكلف فقط تنجّز عليه التكليف في ظرفه، بأنّ التفكيك بينهما في المنجزية مستهجن، فحينئذٍ يتم الاستدلال، وهو أنه: إذا علم اجمالا إما يحرم التمكين، أو يحب حفظ القدرة فتتنجز كلاهما في حقه بالعلم الإجمالي، والمفروض ان تنجز وجوب حفظ القدرة يستلزم ارتكازا وجوب حفظ التكليف في ظرفه لأنه تابع له، ومتفرع عليه. إذاً فإذا جاء وقت التكليف في ظرفه وأبتليت المرأة بالدم تنجز عليها حرمة التمكين للعلم الاجمالي السابق لكن لا بالمباشرة بل بواسطة تنجز اللازم ألا وهو وجوب حفظ القدرة، من باب أنّ تنجز اللازم تنجز للملزوم.

الإيراد الثالث: أنّ كلام المحقق العراقي إنما يتم إذا لم تكن القدرة دخيلةً في الملاك، وهذا مما لا كلام فيه، مثلا: إذا عرفنا أنّ الاستطاعة الماديّة دخيلة في ملاك وجوب الحج، بحيث لا ملاك فيه من دون الاستطاعة المادية. وبنينا على أن وجوب الحج كما هو المشهور منوط بدخول أشهر الحج فلا يجب الحج قبل أشهره على نحو الواجب المعلّق، فحينئذٍ إذا استطاع المكلف ماديّاً قبل اشهر الحج، والمفروض ان الاستطاعة دخيلة في الملاك بحيث لا ملاك مع عدم الاستطاعة. فهنا هل يجب عليه حفظ الاستطاعة مع مجيء اشهر الحج؟ مع أن حفظها تحقيق للموضوع لا أنّ حفظها تحقيق للملاك، إذ المفروض لا يكون وجوب الحج ذا ملاك إلاّ إذا كان المكلّف مستطيعا ماديّاً في أشهر الحج، فمن حفِظَ الاستطاعة فقد حقق موضوع الملاك لا أنّه حفظ الملاك، بخلاف ما إذا قلنا أنّ الاستطاعة غير دخيلة في الملاك. فالحج ذو ملاك استطاع ماديّاً أم لم يتسطع، غاية ما في الباب أنّ الاستطاعة دخيلة في الملاك، وإلا فالحج ذو ملاك استطاع أم لم يستطع، إذاً فإن قلنا بالثاني: أي أنّ الاستطاعة ليست دخيلة في الملاك، فالحج ذو ملاك استطاع أم لم يستطع، هنا نقول: يجب عليه حفظ الاستطاعة إلى حين أشهر الحج، لأنّ حفظها حفظ لملاك ملزم في ظرفه حتى يتمكن من استيفاء هذا الملاك، ولو لم يحفظها لكان تفويتا لملاك ملزم في ظرفه، أما إذا قلنا أصلاً لا يكون ملاك إلّا مع وجود الاستطاعة في أشهر الحج، فأننا لا يجب علّي حفظ الاستطاعة، لأنّ حفظها إيجاد للموضوع، أي ايجاد للاتصاف بالملاك ولا يجب على العبد ان يخلق اتصاف العمل بالملاك.

فكلام المحقق العراقي من أنّ لدينا علما اجماليا إمّا بحرمة التمكين أو وجوب حفظ القدرة، إنما يتم إذا لم تكن القدرة دخيلة في الملاك وإلا في يجب حفظها. ولكن هذا الذي اورده السيد الصدر ملتفت اليه المحقق العراقي، فهو «قده» في كلامه في المقدمات المفوّتة صرّح: بأنّ محل البحث في المقدمة المفوّتة فرض عدم دخل القدرة في الملاك، وإلّا لا يجب حفظ القدرة ولا يكون تركها تفويتا لملاك ملزم في ظرفه.

بقي تنبيهان في المسألة:

التنبيه الأول: ذكر السيد الشهيد كما نقل عنه المقرر في «الحاشية»: أنه قال: ما ذكرناه من منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات إنّما يتم مع إحراز بقاء العلم إلى مجيء الظرف اللّاحق، فمن علم أنّه نذر إما صوم اليوم أو صوم غد، وهو محرز لبقاء علمه الإجمالي إلى يوم غد، فإن العلم الإجمالي حينئذ منجز، أما الشخص الذي يعلم بزوال علمه يوم غد، أو يحتمل ذلك، فإنني نذرت ولكنني احتمل أنني سجلت نذوري في الدفتر وسأحصل على الدفتر غداً وعلمي حينئذٍ سيزول، فإذا علم أو احتمل فقد يقال: بأنّ هناك تفصيلاً: فإنّه إن علم بزوال علمه الاجمالي يوم غد فحينئذٍ لا يكون جريان الأصل الترخيصي فيما بيده فعلا ممنوعا، لأنّ المانع من جريان الأصل في ما بيده بمعنى أنّ يجري البراءة مثلا عن وجوب الوفاء بالنذر اليوم ليس ترخيصا في المخالفة القطعية. فإنه إذا أجرى الترخيص في وجوب الوفاء بالنذر اليوم، وأجرى الترخيص في وجوب الوفاء بالنذر غداً فإجراءه غداً مع إجراءه اليوم ليس ترخيصا في المخالفة القطعية، لانّه يعلم بزوال علمه الإجمالي، فلا يكون ترخيصا في مخالفة قطعية لعلم إجمالي ما دام يعلم بزوال علمه الإجمالي.

وأما إذا كان يحتمل الزوال: فتارة نقول: بأنّ المخّصص لجريان الأصل الترخيص في المخالفة القطعية. وتارة نقول: بأنّ المخصص لجريان الأصل هو ارتكاز المناقضة. فإن كان المقّيد لجريان الأصل هو أن لا يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية فدليل البراءة مطلق ولكنه مقيّدٌ لبّاً بأنّ لا يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، فإذا شك، هل يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية لأنّ علمه باقٍ؟ أو لا يستلزم لان علمه سيتبدل؟، فمع الشك في المقيِّد لا يصح التمسك بالإطلاق، لأنه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية لموضوعه، فإنّ موضوعه: الأصل الذي لا يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية. وأما إذا قلنا بأنّ المقيِّد استلزام المناقضة. - فنحن نفصّل بناءً على ما ذكرناه من كلامه سابقاً -، فتارة نقول: إنّ المقيِّد لدليل البراءة إحراز المناقضة بين الغرض اللّزومي والغرض الترخيصي، فالمقيَّد هو الاحراز، إذا مع الشك فلم تحرز المناقضة، فيصح التمسك بإطلاق دليل الأصل.

وأما إذا كان المسّوغ أن يُحِرز عدم المناقضة، أن لا يجري الأصل حتى يحرز عدم المناقضة، فمع شكّه في أن العلم سيتبدل أم لا؟ فلا يصح التمسك بإطلاق دليل الأصل أنّ المبرر له أن يحرز عدم المناقضة وهو لم يحرز.

ولكن هذا الكلام منه «قده»: مبنّيٌ على ما ذكرناه سابقا: من أنّ مفاد دليل الأصل بالنسبة للأمور التدريجية، الترخيص فعلا؟! غاية ما في الباب أنّ المرخص فيه الطرف المستقبلي؟، أو أنَّ مفاد دليل الأصل: الترخيص في ظرف المستقبل، لا الترخيص فعلا.

فإذا قلنا: بأنّ مفاد دليل الأصل الترخيص في المستقبل أي أنّ دليل المستقبل لا فعلية له الآن، إنّما يكون له فعلية في المستقبل في ظرف الأداء، في ظرف الامتثال، إذا حينئذٍ يتم كلامه: أنه قد يقال: إذا علم بتبدل العلم الإجمالي، أو شك في التبدل على بعض المباني فإنّ العلم الاجمالي غير منجز، إذ يمكن جريان الأصل حينئذٍ فيما بيده ولا يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية.

أما إذا قلنا كما هو الصحيح: بأنّ موضوع الأصل هو الشك، والشك حاصل فعلاً، وإن كان مورد الترخيص هو الطرف الاستقبالي، فالعلم الاجمالي على كل حال منجز، غذ المدار على العلم، والمفروض أنّ لديه علما بالفعل، إمّا أنّه يجب عليه الصوم اليوم أو يجب عليه الصوم غدا، فمع وجود علم إجمالي بالفعل والمفروض أن دليل الأصل يدور مدار الشك بالفعل، إذا بالفعل أقول: جريان البراءة عن صوم اليوم معارضٌ الآن بجريان البراءة عن صوم غدٍ، لأنّ جريانهما الآن يُعدُّ ترخصياً في المخالفة القطعية، أو بعبارة أدق: إن جريانهما الآن ترخيص قطعي في المخالفة.

إذاً: إنما يتم كلام السيد «قده» بناءً على أنّ مفاد دليل الأصل الترخيصي: الترخيص في الجريان والامتثال، لا أنّ مفاده الترخيص في الفعل والملخَّص فيه استقبالي.

التنبيه الثاني: ما ذكرناه سابقا: من منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات مبني على مسلك المعروف من أن المنجزية عبارة عن: حكم العقل باستحقاق العقوبة على فرض المخالفة، فإنّ هذه قضية تعلقية وإن لم تكن الأطراف فعلية.

وكذلك على مبنانا: من أن المنجزية هي عبارة عن اللا بدية، وأثرها حكم العقل باستحقاق العقوبة على فرض المخالفة. باعتبار أنّ اللا بدية معللة إمّا بقبح الظلم أو بلزوم دفع الضرر المحتمل، فإنّ العقل إنما يحكم بلا بدية تطبيق التكليف لأنّ عدم تطبيقه ظلم للمولى والظلم قبيح، أو لأنّ عدم تطبيقه إيقاع للنفس في الضرر المحتمل، فبما أنّ اللا بدية معللة بهذين الأمرين فلا فرق في ذلك بين كون الأطراف فعلية أو تدريجية، فمن علم إجمالا إما بوجوب صوم اليوم أو غداً، فيقول: إذا علمت بوجوب الوفاء بالنذر وبعد وصول وجوب الوفاء بالنذر، يحكم العقل: لابد لك من تطبيق هذا النذر المعلوم بالإجمالي، فإن عدم تطبيقه في ظرفه ظلم، للمولى أو إيقاع للنفس في الضرر المحتمل ولا فرق في هذا الحكم العقلي أن يكون الطرفان دفعيين أو تدريجيين. نعم، لو قيل إن المنجزية تدور مدار المحركية بالفعل فلا تعقل المحركية قبل مجيء زمان الواجب، إذ لا يُعقل حكم العقل بالمحركية الفعلية قبل زمان الأداء، فعلى هذا المبنى لا يتصور منجزية في الأطراف التدريجية وإنما تختص المنجزية في الأطراف الدفعية.

هذا تمام الكلام في «بحث منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات»، وقد اتضح أنّ الصحيح هو: المنجزية. كما بيّنا.

والحمد لله ربّ العالمين.