حديث الثقلين جزء 1

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الرسول محمد : ”إني مخلِّفٌ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“

نحاول في الليالي المقبلة إن شاء الله أن نتعرض لمضامين ومداليل حديث الثقلين بتفاصيلها. حديث الثقلين طرح على الرأي العام مصدرين من مصادر التشريع الإسلامي: المصدر الأول هو القرآن الكريم، والمصدر الثاني العترة من أهل بيت النبوة .

حديثنا الليلة عن المصدر الأول، ألا وهو القرآن الكريم. القرآن الكريم عندما نرجع إليه كمصدر وكدستور يجمع قوانين الإسلام، ويجمع سائر المفاهيم التي طرحتها وابتكرتها الشريعة الإسلامية، عندما نرجع إليه بهذا العنوان نحاول أن نقف على نقطة، وهي كيفية التعامل مع القرآن الكريم. بما أننا مسلمون، والقرآن هو دستورنا ومصدر تشريعنا، فكيف نتعامل مع هذا الدستور؟ كيف نتعامل مع هذا القانون من أجل الإجابة عن هذا السؤال نتحدث في ثلاثة محاور.

المحور الأول: انقسام القرآن إلى محكم ومتشابه.

القرآن الكريم كلامه يحتوي على نوعين، كما ذكرت الآية المباركة: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، إذن هناك نوعان: محكم ومتشابه، فما هو معنى المحكم وما هو معنى المتشابه؟

القسم الأول: المحكم.

المحكم أيضًا يشتمل على نوعين: ظاهر ونص، ما هو معنى الظاهر والنص؟ بعض الكلام عندما يُطْرَح لا يحتمل معنى آخر غير معناه الذي هو ظاهرٌ فيه، فمثلًا: أنا عندما أقول: شربت الماء، هذه العبارة نص في شرب الماء، ليس لها معنى آخر ولا مدلول آخر، هذا الكلام محكم، نصٌ في معناه، لا يحتمل وجهًا آخر.

هناك نوع آخر من الكلام ليس نصًا لكنه ظاهر، فمثلًا: أقول: شربت عصير البرتقال، الظاهر من هذا الكلام أنه عُصِر البرتقال في كأس وأنا شربته، هذا هو الظاهر من الكلام، نعم يحتمل الكلام معنى آخر، وهو أنني جئت إلى البرتقالة وجذبت ماءها بفمي، هذا احتمال يحتمل، لكنه ضعيف، إذا طُرِح هذا الاحتمال على العقلاء وعلى الناس والمتكلمين يقولون: هذا احتمال بعيد، الاحتمال الراجح الأكيد هو أنك شربت عصير البرتقال بمعنى أنه عصر في كأش وشربته. هذا أيضًا يقال له محكم، هذا الكلام وإن احتمل معنى آخر لكن الاحتمال الآخر احتمال بعيد عن ساحة العرف وعن ساحة العقلاء، فلا يعتنى به.

إذن، المحكم هو ما كان ظاهرًا في معناه، سواء كان نصًا لا يحتمل معنى آخر، أو كان ظاهرًا يحتمل معنى آخر لكن احتمالًا ضعيفًا لا يعتنى به، كلا النوعين يقال له محكم. مثاله من القرآن: قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، هذا نص ليس ذا احتمالات، ما هو معنى جاء؟ ما هو معنى نصر الله؟ ما هو معنى الفتح؟ الآية واضحة، نص في معناها، لا تحتمل معنى آخر، هذا يسمى نصًا، يسمى محكمًا.

آيات أخرى أيضًا تحتمل ولكن احتمالًا ضعيفًا، فمثلًا: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، كل الناس تفهم من هذا الكلام أن الله أراد أن يضرب مثلًا بحيوان صغير في حجمه ولكنه عظيم في فتكه وأذاه، ويأتيك مفسر آخر ويقول: البعوضة بمعنى الإمام علي، وفوقها يعني الرسول محمد. هذا احتمال خلاف الظاهر، ظاهر الآية أن الله يريد بالبعوضة هذا الحيوان المؤذي، وما فوقها سائر الحيوانات، هذا هو الظاهر من الآية، أما أن تأتي وتتكلف وتقول: المراد بالبعوضة الإمام علي، والمراد بما فوقها الرسول ، هذا احتمال خلاف الظاهر، لا يعتنى به.

القسم الثاني: المتشابه.

في مقابل المحكم عندنا متشابه، معناه مجمل، تقول: رأيت عينًا، ما معنى العين؟ هل رأيت العين الباصرة، أم رأيت العين النابعة؟ عين كلام مجمل، يحتمل أن يراد به الباصرة، ويحتمل أن يراد به النابعة، هذا كلام مجمل متشابه، متأرجح بين معنيين في عرض واحد، وفي رتبة واحدة، ولا ترجيح لهذا المعنى على هذا المعنى. مثاله في القرآن موجود: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، هل الله جسم معين تنظر إليه عيون البشر وأحداق المؤمنين؟! هذا كلام متشابه، ما لم يُرْجَع فيه إلى أهل بيت النبوة ، ما لم يرجع فيه إلى تفاسيرهم ورواياتهم يبقى الكلام متشابهًا غير معين المعنى، فعندما نرجع إليهم يقولون: إلى ربها ناظرة بمعنى: إلى رحمة ربها ناظرة، إلى لطف ربها ناظرة، إلى أيادي الله وتفضله ومنننه ناظرة.

فهناك محكم، وهناك متشابه، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ لماذا يتبعون ما تشابه؟ ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ حتى يثيروا خلافات وفرقة بين المسلمين، ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ مع أنه ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي: أهل بيت النبوة .

المحور الثاني: كيفية التعامل مع ظواهر القرآن.

إذا فهمنا أن القرآن فيه محكم ومتشابه، فكيف نتعامل مع القرآن؟ نحن لا نتعامل مع المتشابه، القسم المتشابه من القرآن لا نتعامل معه إلا بالرجوع إلى أهل البيت ، إذا لم نرجع إلى أهل البيت الخبيرين بمضامين القرآن، والعارفين بمداليل القرآن، المتشابه لا نتعامل معه إطلاقًا، يبقى تعاملنا محصورًا مع المحكم من آيات القرآن، مع الظاهر من آيات القرآن. كيف نتعامل مع الظاهر من آيات القرآن؟ بالنسبة إلى الظاهر من آيات القرآن التعامل معها وقع بين حدين: بين إفراط وتفريط.

الحد الأول: التفريط.

هناك نزعة قديمة موجودة، فرقة من فرق الشيعة يقال له الإخباريون، هذه الفرقة ترى القرآن بعيدًا عن متناول أفهام البشر وأذهانهم، أنت لا يحق لك أصلًا أن تفهم من القرآن شيئًا، أن تأخذ من القرآن شيئًا، أبدًا، لا بالنسبة لآياته المحكمات، ولا بالنسبة لآياته المتشابهات. يقولون: القرآن شامخ المعاني، جليل المضامين، عظيم في معانيه وفي مضامينه، أنت لا تستطيع أن تفهمه، ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ لا تفهمها أنت، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ لا تفهمها، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ لا تفهمها، جميع آيات القرآن لا يحق لك أن تدعي فهم شيء منها أبدًا، القرآن ألغاز ومجملات، القرآن ليست فيه آية واضحة ظاهرة المعنى حتى يؤخذ بها، هذه نزعة قديمة موجودة، فما هو الدليل على هذه النزعة؟

يقولون: الدليل هو الروايات، ومن تلك الروايات: ما روي من أن أبا حنيفة - إمام الفقه الحنفي - دخل على الإمام الصادق ، توجه إليه الإمام الصادق، قال: يا أبا حنيفة، أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم، قال: بم تفتيهم؟ قال: أفتيهم بكتاب الله وسنة نبيه، قال: أتعرف كتاب الله، وتعرف الناسخ من المنسوخ، وتعرف المحكم من المتشابه، وتعرف المجمل من المبيّن؟ قال: نعم، قال: ”ويحك! لقد ادعيت علمًا، وما ورّثك الله من كتابه حرفًا“.

رواية أخرى: قتادة كان من فقهاء البصرة، دخل على الإمام الباقر ، قال له: يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: هكذا يزعمون، قال له: أتفسّر القرآن؟ قال: يقولون، قال: ”إن كنت تفسّر القرآن من عندك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت تفسّر القرآن من عند الرجال فقد هلكت وأهلكت، إنما يعرف القرآن من خوطب به“ وأشار إلى نفسه .

من هذه الروايات أن نفهم أن الذي يفهم القرآن، ويطلع على حقائق القرآن الواقعية هم أهل البيت ، ولا يحق لأحد من البشر أن يدعي أنه يفهم آية من القرآن. هذه النزعة القديمة التي كانت موجودة، ومن الواضح أن هذه النزعة غير مقبولة، القرآن دستورنا، القرآن هو المصدر التشريعي، القرآن هو مرجع المسلمين في كل واقعة وحدث، إذا كان القرآن لا يستفاد منه، ولا أحد يفهمه، ولا أحد يدرك معناه، فما هي فائدة القرآن؟! ما هي الفائدة المرجوة من القرآن؟! ما هي الثمرة المترتبة على القرآن؟! إذا كان القرآن بعيدًا عن أذهان البشر وبعيدًا عن أفهامهم، فعلى من نزل القرآن؟! على اثني عشر معصومًا وانتهى، وأما بقية البشر فلم ينزل عليهم القرآن؟!

القرآن نزل لهداية البشر أجمعين، القرآن نزل من السماء على المسلمين، والمسلمون فهموا منه معناه، ولذلك المسلمون خمّسوا وزكوا وجاهدوا وحجوا وصلوا، كل هذه الأعمال قاموا بها لأنهم فهموا آيات القرآن، لأنهم فهموا مضامين القرآن، ما كان فهم القرآن محصورًا في النبي وفي الإمام علي «عليهما وآلهما سلام الله»، القرآن نزل لهداية البشر أجمعين، فالمفروض أن يكون متناولًا لسائر أذهان البشر، ولسائر أفهام البشر، لا أن يكون القرآن مجموعة ألغاز، ومجموعة مجملات، ومجموعة معميات، دون أن يفهم أحد منها شيئًا. القرآن في متناول سائر الناس، ويفهمه سائر الناس.

ولذلك عندنا روايات وأحاديث نفهم منها أن القرآن كان بأيدي أفهام الجميع، الآن مثلًا أبان بن تغلب دخل على الإمام الصادق ، سأله عن طريق الوضوء، فأجابه الإمام ثم لما وصل الإمام إلى مرحلة المسح قال: فيمسح بعض الرأس ببلة كفه اليمنى، هنا أوقفه أبان بن تغلب، لا لأنه لا يعرف أنه إمام معصوم، بل يعرف أنه إمام معصوم مفترض الطاعة وقوله حجة، ولكن يريد أن يفهم الناس أن الإمام يوضّح سائر المفاهيم الإسلامية بلا إلغاز وبلا إجمال، قال: من أين علمت هذا؟ أنت تقول بأن المسح على بعض الرأس لا على كله، من أين عرفت هذا؟ قال: من كتاب الله، قال: من أين من كتاب الله؟ قال: من قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فإن الباء تفيد التبعيض.

الإمام الصادق يعلّم أيان كيف يستفيد من القرآن، كيف يستدل بالقرآن، كيف يفهم القرآن، فلو كان القرآن لغزًا محصورًا في الإمام الصادق لما حاول الإمام أن يفهم أبان وغيره أنه يمكن له أن يستفيد من القرآن وأن يفهم القرآن.

رواية أخرى: أحدهم دخل على الإمام، سأله، قال له: رجل على إصبعه مرارة، أي أن إصبعه فيه جرح، وقد وضع على الجرح جبيرة، كيف يمسح؟ قال: يمسح على المرارة، أي: على الجبيرة، قال: من أين علمت هذا؟ قال: من قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. أنت ترفع هذه المرارة، وتؤذي الجرح، وقد يكون المسح على الجرح مؤذيًا لك، ويسبب لك طول البرء أو مرضًا آخر، هذا حرج عليك، فالإمام أيضًا يعلم هذا السائل كيف يستفيد من القرآن وكيف يفهم القرآن.

أما الروايات التي ذكرها - دخول أبي حنيفة على الإمام الصادق، أو دخول قتادة على الإمام الباقر - فهذه كلها ناظرة إلى الأخذ بمتشابه القرآن، الإنسان لا يجوز له أن يتبع متشابه القرآن بدون الرجوع إلى أهل البيت ، أما الأخذ بظواهر القرآن، الأخذ بمحكمات القرآن، الأخذ بما هو مفهوم من آيات القرآن، فهذا لا مانع منه، ولا مانع من الرجوع إليه، بل لذلك جُعِل القرآن، ولذلك أنزل القرآن، أنزل القرآن ليستفيد الناس منه، وليفهموا آياته.

الحد الثاني: الإفراط.

هذه النزعة القديمة في مقابلها إفراطٌ، في مقابلها نزعة تولّدت عندنا الآن في العصر الحاضر، هناك نزعة يقال لها التدبر في القرآن، التدبر في القرآن أخذت مسار التطرف والإبعاد عن واقع التدبر، يقولون: أنت كل آية تستطيع فهمها، وكل شيء تستطيع أن تتكلم فيه، تمسك القرآن وتجعله بين يديك، تفتحه، معنى الآية كذا ومعنى الآية كذا ومعنى الآية.. أنت أيها العامي الصرفي الذي ليس عندك حصيلة بلاغية ولا كلامية ولا فلسفية ولا فقهية، ليس عندي أي شيء، ليست عندك مادة علمية، مع ذلك تستطيع أن تفتح القرآن وتفسر القرآن بحسب ما تراه!

هذا ليس التدبر في القرآن، التدبر في القرآن ليس هكذا، لا ينبغي أن نفر من شيء ونقع فيما هو أخطر منه! تارة نقول القرآن كله ألغاز، ونفر من هذه النزعة ونقول: القرآن مفهوم كله! لا، لا هذا ولا ذاك، هذا ليس هو التدبر في القرآن، وإلا لشملتنا الأحاديث الكثيرة المروية عن الرسول : ”من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار“، وحديث آخر: ”من فسّر القرآن برأيه فإن أصاب فقد أخطأ“، ”من فسّر القرآن سقط أبعد من السماء إلى الأرض“. ليس من حقك أن تفتح القرآن وتقول معنى الآية كذا وتفسير الآية كذا، ولكن التدبر له مرحلتان: التدبر السطحي الظاهري، والتدبر التأملي، تدبر العمق، تدبر النضج.

التدبر الظاهري ما هو معناه؟ عندما يقول القرآن: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، القرآن يحثنا، ينشدنا، ينادينا، أن نتدبر آياته، أن نتمعن في آياته، ما هو معنى التدبر في القرآن؟ التدبر له مرحلتان: مرحلة ظاهرية، أنا آتي للآية، إذا كانت الآية فيها ترغيب للجنة، وترغيب للنعيم، وترغيب إلى فضل الله ورحمته، أحاول أن أشعر نفسي بالفرحة والغبطة والانجذاب إلى الله والأمل الوطيد الوثيق بالله عز وجل، معنى التدبر أن أعيش مع أجواء القرآن، أن أعيش مع آفاق القرآن، ما دامت الآية تتحدث عن النعيم وعن نعم الله فلأعش وقتًا بسيطًا مع نعم الله، أحاول أن أشعر نفسي بالرغبة والخضوع والإنابة والترقب والتطلع لرحمة الله ولنعيمه، وإذا جئت لآية فيها توعيد وتهديد بنار جهنم وبالعذاب الأليم وبالأغلال وبالسلاسل وبما أشبه ذلك، أحاول أن أعيش جو القرآن، أشعر نفسي بالرهبة، بالخوف، بالرعشة، بأنني خاضع تائب نائب مقفل وراجع عن جميع ذنوبي وعن جميع المعاصي التي اقترفتها.

أحاول أن أعيش مع أجواء القرآن، هذا التدبر الظاهري، ولا يحق لي أن أقول: تفسير الآية كذا وتفسير الآية، بدون أن أرجع إلى تفسير ولا إلى أهل البيت ولا إلى أحد قط، لا يحق لي هذا، أكثر ما هناك: التدبر في القرآن معناه أن أعيش مع أجواء القرآن، آية ترغّب فأعيش رغبة، آية توعّد فأعيش وعدًا ورهبةً، آية تنشدني بالتقوى والإيمان، فأعد نفسي لقبول التقوى والإيمان، هذا معنى التدبر الظاهري السطحي.

أما إذا أردت مرحلة أعظم من هذا، تدبر أعمق، تدبر أنضج، لا يوجد مانع، اجلس، اطرح القرآن بين يديك، أحضر التفاسير، تفسير الميزان، تفسير مجمع البيان، تفسير الكاشف، تفسير الصافي، تفسير البرهان، هذه التفاسير المعروفة، اطرحها بين يديك، وحاول أن ترجع في كل آية إلى تفسيرها الموجود، وإلى الرواية الواردة عن الرسول، أو عن الإمام أمير المؤمنين، أو عن أهل البيت ، حينذاك تقف على حقيقة الآية، وتقف على مضمون الآية الواقعي، لا مانع من ذلك.

إذن، التدبر في القرآن له مرحلتان، وليس معنى التدبر في القرآن أن أجمع مجموعة شباب، وأنا ليست عندي أي حصيلة علمية، وتلك الآية معناها كذا، وتلك الآية تفسيرها كذا! لا، من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. إذن، لا إفراط ولا تفريط، لا أننا نقول بأن القرآن مجموعة ألغاز لا يفهمه أحد، ولا أننا نقول: القرآن واضح وضوحًا تامًا، مثل كلام الناس العادي، يفهمه كل الناس، وأنا أستطيع أن أفسر القرآن برأيي.. لا، وإنما أنا أسير حسب المرحلتين من التدبر: تدبر ظاهري، بمعنى أن أعيش مع أجواء القرآن، وتدبر باطني بنضج وعمق، بمعنى أن أرجع إلى التفسير وإلى الروايات المنقولة.

المحور الثالث: واجبنا نحو القرآن الكريم.

إذا فهمنا هذا، فما هو واجبنا نحو القرآن الكريم؟ ما هو واجبنا في كيفية التعامل مع القرآن الكريم؟ نحن كمسلمين وكشيعة كيف نرجع إلى القرآن الكريم وكيف نتعامل معه؟ التعامل مع القرآن من جهتين:

الجهة الأولى: جهة قراءة القرآن.

واقعًا نحن مهملون لهذا الجانب، قراءة القرآن هذه القراءة العادية، نحن مهملون لها، إذا صارت فاتحة شخص متوفى فأنا آخذ جزءًا من القرآن وأقرأ بعض الآيات ورحم الله من قرأ الفاتحة! هذه كل علاقتي بالقرآن، أنا المسلم المتعبد السائر على طريق القرآن، السائر على درب القرآن، كل علاقتي بالقرآن في الفواتح فقط! مصدر تشريعي، دستوري، مجموعة قوانين شريعتي، كل علاقتي به أن أقرأ بعضًا منه في بعض الفواتح والمجالس؟! هذا التقصير عينه، هذا الإهمال عينه، القرآن يجب أن يكون محل قراءتي ومحل نظري دائمًا وأبدًا، يجب أن أهتم بالقرآن اهتمامًا كبيرًا.

ارجع للروايات الكثيرة الواردة في قراءة القرآن، ومن جملة تلك الروايات ما ورد عن الإمام الصادق : ”من قرأ عشر آيات من القرآن لم يُكْتَب من الغافلين، ومن قرأ عشرين آية كُتِب من الذاكرين، ومن قرأ ثلاثين آية كُتِب من القانتين، ومن قرأ أربعين آية كُتِب من الخاشعين“ وهكذا الإمام يترقى ويترقى بحسب المراتب التي يهبها الله لعباده قرّاء القرآن. قد تقول: كيف أقرأ القرآن؟! أنا تاجر مشغول، أو مشغول بالدراسة أو بالعمل، أنا أخرج من الصباح إلى العمل، وأرجع في وقت متأخر، أريد أن أتغدى وأصلي وأنام، في الليل أمر على بعض الأصدقاء، أرجع إلى البيت تعبان، متى أقرأ القرآن؟! ثم أنام، ويرجع الروتين مرة أخرى، حيث جلس للعمل مبكرًا، فتى أقرأ القرآن؟! ليست عندي فرصة ولا وقت لقراءة القرآن!

الله أكبر! كل هذا الوقت الطويل، 24 ساعة، لا توجد في هذه الأربعة والعشرين ساعة عشر دقائق تقرأ فيها القرآن؟! أنت عندك وقت لأن تجلس مع الأصدقاء، عندك وقت لأن تطالع التلفزيون والأفلام الأجنبية والعربية، وأن تطالع البرامج، تستمع للراديو، أفلام الفيديو، الوقت موجود، لكن عشر دقائق أقرأ فيها بعض آيات القرآن لا أقدر، ليس عندي وقت، ليس عندي فرصة! هذا واجبنا نحو القرآن؟! هذا واجبنا نحو دستورنا؟! الإمام الصادق يركز على هذه النقطة، يقول: ”ما يمنع التاجر المشغول منكم بسوقه إذا رجع إلى بيته أن يقرأ بعض آيات من القرآن؛ فإنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارقَ، فكلما قرأ آية رقى درجة“.

درجات الجنة بآيات القرآن، أنت تاجر لا تشغلك تجارتك عن قراءة القرآن بمقدار عشر دقائق، وكذلك من يدرس لا تشغله دراسته عن ذلك، إذا كنت لا تريد أن تفتح المصحف الشريف وتنظر فيه فعلى الأقل اقرأه عن ظهر غيب، قبل أن تنام اقرأ آيات عن ظهر غيب، عندما تستيقظ اقرأ آيات عن ظهر غيب، على الأقل افتتح حياتك بذكر القرآن، اختتم وقتك بذكر القرآن، اجعل القرآن بداية ونهاية، فاتحة وخاتمة، اطرح البركة في بيتك، في فمك، في بدنك، في لباسك، بذكر القرآن الكريم.

”ثلاثة يشكون إلى الله يوم القيامة: مسجد مهجور، ومصحف معطّل، وعالم ضاع بين جهّال“، من جملة الذين يشكون إلى الله المصحف المعطل في الرفوف وفي الصناديق، دون أن يقرأ، دون أن يفتح، دون أن يذكر، هذا المصحف يشكو إلى الله يوم القيامة. ومن جملة الأحاديث الواردة عن أمير المؤمنين : ”إن البيت الذي يُقْرَأ فيه القرآن تحضره الملائكة، تهجره الشياطين، يضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض، وإن البيت الذي يهجر فيه القرآن تهجره الملائكة، تحضره الشياطين“، فإذن البيت الذي يُقْرَأ فيه القرآن بيت بركة، والمكان الذي يُقْرَأ فيه القرآن مكان بركة وخير، فلا نهمل واجبنا المتحتم علينا، قراءة القرآن، الاهتمام بقراءة القرآن.

الجهة الثانية: التدبر في القرآن.

ليس المطلوب فقط قراءة ساذجة سطحية عادية دون أن نفهم مضمونًا من مضامين القرآن، أو مثلًا بعضهم يتفاخر بأنه يحفظ القرآن كله عن ظهر غيب، أو ذلك الصغير ابن سبع أو ثمان سنين يحفظ القرآن! ليست المسألة مسألة حفظ قرآن وقراءة قرآن مجردة عن التدبر ومجردة عن التأمل والتعمق في آيات القرآن. قراءة القرآن مع التدبر والتأمل في آياته، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. ولذلك، ورد عن ابن عباس: كان الرسول يقرئنا عشر آيات عشر آيات، فلا نقرأ عشر الآيات الثانية حتى نفهم ما في العشر الأولى من العلم والعمل.

نحن لا ننتقل إلى مرحلة ثانية إلا بعد أن نفهم الآيات الأولى من العلم والعمل، فالقراءة الساذجة السطحية بدون التأمل في آياته وبدون التدبر في مضامينه لا يجدي ذلك أبدًا، عليك أيها المسلم القرآني أن تحمل ثقافةً قرآنيةً، أن تحمل نضجًا قرآنيًا، أن تستند إلى القرآن.

إذا أردت أن تتكلم عن مفهوم من المفاهيم الإسلامية، أنا مثلًا أريد أن أتكلم عن رأي الإسلام في الغناء، المفروض أن أطرح آيات من القرآن، حتى الآخرين يفهمون أني إنسان قرآني، يرجع إلى القرآن ويدرك آيات القرآن، عندما أريد أن أتحدث عن رأي الإسلام في الربا أرجع إلى آيات القرآن، عندما أريد أن أتحدث عن رأي الإسلام في حجاب المرأة أستدل بآيات من القرآن، أستشهد بآيات من القرآن، فعليَّ في كل جهة وفي كل مفهوم وفي كل مجال أن أستشهد عليه بآيات من القرآن، حتى أعيش مع القرآن في سائر المفاهيم التي أعتنقها، وفي سائر المفاهيم التي أطرحها على الغير، وفي سائر المبادئ التي أحضتنها وأسير عليها.

ومع ذلك، لا يعني ذلك الاستغناء عن أهل البيت ، والتعويل في القرآن على أفهامنا الخاصة، أو الصحابة فقط! أنا مستعد أن أرجع في تفسير القرآن إلى قول ابن عباس، وقول ابن عمر، وقتادة، ولا أرجع لجعفر بن محمد الصادق!! ما هي ميزة قتادة وابن عباس على الإمام الصادق؟! أنا أحصر رجوعي في فهم آيات القرآن إلى أحاديث أبي هريرة وقتادة مثلًا والحسن البصري وما أشبه ذلك، أما الإمام الصادق ماذا قال، الإمام الباقر ماذا قال، الإمام علي ماذا قال.. لا أريد!!

لا، كما أني أرجع إلى أقوال الصحابة، وما فهموا من آيات القرآن، وما فهموا من مضامين القرآن، كذلك أرجع إلى روايات أهل البيت ؛ فإنهم الذين استوعبوا تفسير القرآن استيعابًا جيدًا عن جدهم رسول الله ، وتناقلوه أبًا عن جد، تفسير القرآن بتفسيره الواقعي الحقيقي، فالمفروض الرجوع إليهم كمصدر من مصادر تفسير القرآن.

ولذلك، حديث الثقلين أكّد على هذه النقطة: ”كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما“ كلاهما معًا ”لن تضلوا بعدي أبدًا“، ترجع إلى القرآن كمرجع أساسي، وترجع لأهل البيت كمفسّر للقرآن ومصدر فهم وإدراك واطلاع على آيات القرآن، فهم أولى بأن يُرْجَع إليهم في تفسير القرآن؛ لأنهم هم الذين حافظوا على القرآن، وهم الذين ساروا مع القرآن، وهم الذين بذلوا وضحوا دون القرآن.

من الذي تحمّل المتاعب في سبيل القرآن غير علي ؟! من الذي تحمّل المتاعب والمشاق غير الحسن والحسين؟! من الذي بذل نفسه وشبابه وأولاده وأطفاله، أبادهم عن آخرهم في سبيل القرآن؟! من غير الإمام الحسين ؟! هؤلاء هم الذين عاشوا مع القرآن، عاشوا مع القرآن كما يريد القرآن، هؤلاء هم الذين عناهم القرآن: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ، هؤلاء هم الذين عناهم القرآن: ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ، هؤلاء هم الذين عناهم القرآن: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، هم الذين ساروا مع القرآن، وساروا مع مفاهيم القرآن.

ولذلك، قال بكل كلمة، وبكل انطلاقة، وبكل ذلاقة لسان: ”إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذوني“، أبدًا، أنا مسلم قرآني، أضحي بكل ما عندي في سبيل بقاء القرآن، في سبيل الاحتفاظ بعظمة القرآن ومكانة القرآن بين المسلمين.