حديث الثقلين جزء 2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الرسول محمد : ”إني مخلِّفٌ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“

حديثنا هذه الليلة عن حديث الثقلين في ثلاثة محاور:

المحور الأول: سند حديث الثقلين.

الحديث في حديث الثقلين من جهتين: من جهة سنده، ومن جهة دلالته. أما من جهة السند: فلا ريب في صدور حديث الثقلين عن الرسول ؛ باعتبار أن حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة في صدورها عن الرسول ، ودار التقريب بين المذاهب الإسلامية - التي أنشئت في مصر قبل 16 سنة - عنيت بحديث الثقلين، وكتبت رسالة مفصّلة حول سند حديث الثقلين، من جملة ما تعرضت له هذه الرسالة: ذكرت أن هذا حديث الثقلين حديث متواتر، وأنه ذكره أرباب الحديث في مسانيدهم وصحاحهم، مثل صحيح مسلم، ومسند أحمد، وسنن الدارمي، وسنن أبي داوود، وابن ماجة، وفي كتاب حلية الأولياء لأبي جعفر، وكنز العمال، وما أشبه ذلك من كتب الحديث من الصحاح والمسانيد من الشيعة ومن غير الشيعة، ذكرت حديث الثقلين.

كذلك المفسرون، المفسرون من غير الشيعة ذكروا حديث الثقلين، ذكره الثعلبي، والرازي، وابن كثير، والخازن، كلهم ذكروا حديث الثقلين في تفاسيرهم. إضافةً إلى ذلك، ابن حجر في صواعقه المحرقة - من علماء العامة - ذكر بأن لحديث الثقلين طرقًا كثيرةً، وردت هذه الطرق عن نيف وعشرين صحابيًا، وذكرت هذه الرسالة بأن حديث الثقلين رُوِي بمختلف صور وصيغ بلغت 39 من طرق أهل السنة، و82 من طرق أهل الشيعة.

وذكر ابن الحجر في صواعقه المحرقة أن الرسول كرّر حديث الثقلين في عدة مواطن، وفي عدة مواضع، ليس فقط في موطن واحد أو موضع واحد. ذكر حديث الثقلين في حجة الوداع يوم عرفة، وذكر حديث الثقلين في غدير خم، وذكر حديث الثقلين في مرضه الذي توفي فيه وعندما اجتمع أصحابه معه في مجلسه، وذكر حديث الثقلين أيضًا عندما وقف على باب بيت فاطمة. حديث الثقلين ذكره الرسول وكرّره في عدة مواضع اهتمامًا بشأنهما - بشأن الثقلين - ألا وهما الكتاب العزيز والعترة الطاهرة «سلام الله عليهم».

المحور الثاني: دلالة حديث الثقلين على العصمة.

من خلال المحور الأول فهمنا أن حديث الثقلين لا ريب في صدوره، ولا إشكال في صحته، بل الكل من المسلمين - شيعة وغيرهم - يقطع ويجزم بأن حديث الثقلين حديث صحيح لا إشكال فيه. تبقى القضية في جهة دلالة حديث الثقلين، ما هو مضمون حديث الثقلين؟ ما هي المداليل التي تعرض لها الرسول وطرحها في فقرات حديث الثقلين؟ نحن نتعرض في هذه الليلة لفائدة من فوائد هذا الحديث، وهي الدلالة على عصمة أهل بيت النبوة «سلام الله عليهم». حديث الثقلين من الأدلة التي نستدل بها على عصمة أهل البيت، وذلك من خلال كلمتين:

الكلمة الأولى: فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.

شيء طبيعي أن القرآن الكريم كتابٌ عُصِم من الخطأ والزلل والعثرات، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، كتاب منزه عن جميع أنواع التحريف، وأنواع النقص، وأنواع الزيادة، كتاب منزه عن كل ذلك، إذا كان القرآن الكريم معصومًا عن الخطأ والزلل، ومنزهًا عن ساحة النقص والتحريف والزيادة، فإن العترة لا تفترق على القرآن، ”فإنهما لن يفترقا“، العترة لا تفترق عن القرآن أبدًا، لا يومًا ولا لحظة ولا ثانية، ”لن“ عند النحاة تفيد التأديب، هذا الأمر مؤدب، لن يفترقا دائمًا وأبدًا، لا تفترق العترة عن القرآن الكريم، فمعنى ذلك أن العترة لا يصدر منها خطأ لا عمدًا ولا سهوًا ولا غفلة، وإلا لو كان يصدر منها خطأ بمجرد صدور الخطأ منها تفترق عن القرآن الكريم، لأن القرآن لا يصدر منه خطأ، فإذا كانت العترة تخطئ وتصيب وتصدر منها الزلات والعثرات، إذن تفترق عن القرآن الكريم أحيانًا.

الرسول الذي لا ينطق عن الهوى يقول: ”لن يفترقا“، فإذا كانت العترة لا تفترق عن القرآن الكريم فكيف نتصور أن العترة يمكن صدور الذنب منها، أو يمكن صدور الخطأ منها، حتى ولو سهوًا وغفلةً؟! معنى ”لن يفترقا“ أنهما يسيران على خط واحد، يسيران على نهج واحد، يسيران على مبدأ واحد، فكما أن الكتاب معصومٌ عن الخطأ والزلل، كذلك العترة النبوية معصومة عن الخطأ والزلل، هذا معنى ”لن يفترقا“.

الكلمة الثانية: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي.

التمسك بأهل البيت عاصمٌ من الضلالة، أنت الإنسان كسائر أبناء البشر، لك نوازع، لك شهوات، لك غرائز، معرض للانحراف، معرض للميول، معرض لأن تنحرف عن الجادة المستقيمة، فما الذي يعصمك من الضلال والانحراف؟ التمسك بأهل البيت يعصمك عن الضلالة والانحراف كما صرّح الرسول في حديث الثقلين، إذا كان أهل البيت مثلك يخطئون ويصيبون، فمن الذي يعصمهم من الانحراف؟! وما ميزتهم عليك؟! أنت تضل وتصيب، يمكن أن تتعرض للضلالة والانحراف، والذي يعصمك من الضلالة هو التمسك بأهل البيت، إذا كان أهل البيت مثلك في القضية، أيضًا هم يمكن أن يضلوا وينحرفوا، إذن من الذي يعصمهم من الضلالة والانحراف؟!

لا بد وأن يكون أهل البيت معصومين حتى يعصموك من الضلالة، فاقد الشيء لا يعطيه، إذا هم أنفسهم ليسوا معصومين فكيف يعصمون غيرهم من الضلالة والانحراف؟! إذا هم أنفسهم فاقدون للعصمة، فاقدون لهذا النور، فاقدون لهذا اللطف، فكيف يعصمون غيرهم؟! وكيف يمكن التمسك بهم عاصمًا عن الضلالة والانحراف والزلات والعثرات؟! لا بد وأن نفترض أنهم معصومون، حتى يكونوا المثل الأعلى والمرجع الأخير والجادة المستقيمة، التي من سار عليها وتمسّك بها عُصِم من الضلالة والانحراف. إذن، هذه الكلمة الثانية تدلنا بوضوح على أنهم معصومون، ولولا ذلك لما كان التمسك بهم عاصمًا من الضلال والانحراف.

المحور الثالث: حقيقة العصمة.

أنت تقول: السلام على الأئمة المعصومين، فلان معصوم، فما هي العصمة؟ نريد أن نتعقل هذا الشيء، هذا الأمر، حتى نستطيع بعد ذلك نقول بأنه ثابت لأهل البيت أو غير ثابت، العصمة ما هو معناها؟ الواقع كتب العقائد ما تعرّضت لمعنى العصمة تعرّضًا تفصيليًا، تعرّضًا واضحًا، بحيث يرجع إليه كل إنسان ويدرك معنى العصمة على واقعه، والتعبير الموجود عند متقدمي علمائنا: العصمة هي اللطف الخفي! ما هو اللطف الخفي؟! ما هو معناه؟! ما هو واقعه؟! كيف يستطيع الذهن أن يتصوره ويحيط بكنهه؟! العصمة نستطيع أن نقرّبها بذكر عدة أمور:

الأمر الأول: العوامل المؤثرة في البُعْد عن المعصية.

أبناء البشر يتفاوتون في القرب من المعصية والبعد عنها، وهذا التفاوت سببه نتيجة عوامل تعرض على أبناء البشر، إما تقرّبهم من المعاصي وإما تبعّدهم عنها، هذه العوامل إما عوامل بيئية، أو عوامل تربوية، أو عوامل تكوينية.

القسم الأول: العوامل البيئية.

أنا أعيش في وسط ملتزم، في وسط مؤمن، في مجتمع محافظ، إذا أنا أعيش في مجتمع محافظ فإنني أكون أبعد عن المعصية من الذي يعيش في أمريكا أو في أوروبا، أو في منطقة مملوءة بالفساد، ومملوءة بالإغراءات، ومملوءة بعوامل الإثارة، طبعًا أنا سوف أكون أبعد عن المعصية من ذلك الإنسان؛ باعتبار المجتمع والوسط الذي أعيش فيه، فالبيئة والمجتمع لها مدخلية كبيرة جدًا في إبعاد الإنسان عن المعصية، وفي تقريبه إليها.

أو حتى أنا الذي أعيش في مجتمع ملتزم، نفس الأفراد الذين يعيشون في مجتمع ملتزم يتفاوتون، هذا الذي يعيش في مجتمع ملتزم تارةً يكون إنسانًا عاديًا، كل سنة يحضر المأتم الحسيني عشرة أيام في المحرم وانتهت القضية، هذا أكثر ربط بينه وبين الدين، أو يوم الجمعة يصلي في المسجد مع الشيخ وانتهت القضية، هذا أكثر الربط بينه وبين الدين.

وهناك فرد آخر التزامه أو ميوله، إقباله على الدين، أكثر من هذا الفرد، أو انظر إلى الفارق بين رجل الدين وبين غيره. أنت بما أنك لست برجل دين، معرض للدخول في الأسواق، معرض للدخول في الدوائر، في المحلات، الأماكن التي قد تعرّضك للمعصية، قد تعرّضك للإغراءات، قد تعرّضك لعوامل الإثارة، بينما رجل الدين الذي جوه محصور في المسجد، في الحسينية، في المطالعة، في الإرشاد، في المحاضرات، يكون أبعد عن عوامل الإثارة والإغراء من غيره. إذن، العوامل البيئية لها أثر في الإبعاد عن المعصية وفي التقريب منها.

القسم الثاني: العوامل التربوية.

أنا تارة أعيش بين أبوين ملتزمين، دائمًا يلحان عليَّ بالصلاة أوقات الصلوات، يراقباني، أصلي أو لا أصلي، يلحان علي بالصلاة، يفرضانها عليَّ، يضربانني على أداء الصلاة، الصيام، الحج، الخمس، سائر الواجبات وأداء الحقوق، يراقباني في التلفزيون الذي أطالعه، في الأفلام التي أشاهدها، في الأصدقاء الذين ألتقي بهم، في الناس الذين أعاشرهم. إذا كانت هناك مراقبة، وإذا كان هناك أبوان مربيان فإنهما يكونان مساعدين على الإبعاد عن المعصية والتقريب من الطاعة.

بينما الإنسان لو عاش بين أبوين لا يهتمان بهذه القضايا، آمن الولد، كفر، أطاع، عصى، طالع أفلامًا خلاعية أو لم يطالع، استمع غناء أو لم يستمع، مشى مع منحرفين أو لم يمشِ.. ليس موضع اهتمامهما، وإن كانا هما ملتزمين، لكن هذا ليس موضع اهتمامهما، فإذا فقد التربية الصالحة صار أقرب للمعصية من غيره، هذه عوامل تربوية.

القسم الثالث: العوامل التكوينية.

طبيعة البشر، ترى بعض الناس بطبعه لين، بطبعه طيب، بطبعه هادئ، هو طبعه هكذا، طبيعته، سجيته الطيب واللين والهدوء والاستماع للنصيحة والاستماع للموعظة، وبعضهم طبيعته الغليان والهيجان، ليس مستعدًا لقبول النصيحة بمرة واحدة، أو بقرع واحد، هو طبيعته التكوينية هكذا، سجيته أنه تكرر عليه مرة ومرتين وعشر مرات حتى يقبل النصيحة، فالطبائع البشرية والسجايا تختلف من فرد إلى آخر، هذه أيضًا عوامل تكوينية مساعدة على القرب من الطاعة والبعد عن المعصية.

الأمر الثاني: علاقة العصمة بهذه العوامل.

إذا فهمنا أن هناك عوامل بيئية وتربوية وتكوينية تساعد الإنسان على القرب من الطاعة والبعد عن المعصية، الأئمة كيف كانوا مع هذه العوامل؟ الواقع أن الأئمة اجتمعت معهم كل هذه العوامل.

البيئة التي يعيش فيها الإمام كيف هي؟ الرسول محمد عاش في أي بيئة؟ في كنف أبي طالب وعبد المطلب، الإمام أمير المؤمنين عاش في أي بيئة؟ في كنف الرسول ، الحسن والحسين عاشا في أي بيئة؟ في كنف الإمام علي، بيئة ملتزمة لا تعرف إلا ذكر الله، ولا تعرف إلى الصلاة والعبادة، ولا تعرف إلا الجهاد والتضحية، ولا تعرف إلا العلم والمعرفة، ولا تعرف إلا العصمة والنزاهة، إذا كانت البيئة هكذا ماذا تراه يتخرج الذي يعيش في هذه البيئة، أو الذي يكون في هذه البيئة، أو الذي يتولد في هذه البيئة؟! فالعامل البيئي يساعد الإمام على البعد من المعصية والقرب من الطاعة.

أيضًا العامل التربوي، إذا كان يعيش في كنف إمام معصوم، هو المربي الحقيقي لسائر الأمة، هو المربي الحقيقي لسائر الأجيال، هو المربي الحقيقي لسائر الأمم، إذا كان يعيش في كنفه، ماذا عساه سيكون؟! وماذا عساه سيتخرج؟!

العوامل التكوينية أيضًا ساعدتهم على ذلك. هذه العوامل التكوينية هي التي نسمّيها العصمة، أو كما يعبرون عنها: اللطف الخفي، فما معنى اللطف الخفي؟ نقرّب ذلك بمثال: أنت عندما يؤتى لك بكأس عصير بارد، وأنت عطشان، ويوضَع الكأس بين يديك، فأنت تقبل بكل شوق وبكل رغبة لشرب هذا الكأس، إذا أمسكت بالكأس تريد أن تشرب، فجأة وقعت في الكأس حشرة ضارة، الآن إذا وقعت في الكأس حشرة ضارة فما هو موقفك؟

أنت بتمام اختيارك تستطيع أن تشرب العصير والحشرة فيه، تستطيع أن ترفع الحشرة وتشرب الكأس، تستطيع أن تترك الكأس ولا تشربه، فأنت بتمام اختيارك تستطيع أن تشرب الكأس وتستطيع ألا تشرب الكأس، ما الذي يدفعك إلى أن تعرض عن شربه؟ الذي يدفعك هو أنك ترى الضرر أمامك، الحشرة الضارة تراها أمامك بعينيك، فلذلك تعرض عن الشرب، لأنك رأيت الضرر بعينيك، ولأنك عرفت النتائج الوخيمة المترتبة على الشرب وأحسست بها أعرضت عن الشرب.

نفس القضية في الإمام المعصوم، الإمام المعصوم ليس مجبورًا على الطاعة، العصمة ليس معناها الجبر على الطاعة، لو كان معنى العصمة الجبر على الطاعة لما كان للإمام المعصوم فخر على غيره، بل الفخر لي أنا الإنسان العادي، لأنني أنا الإنسان العادي أعالج شهوتي، وأصارع غرائزي الشيطانية، وأنتصر عليها، وأؤمن، وألتزم، وأعبد الله، فإذا كان الإمام مجبورًا على الطاعة، مجبورًا على أن يطيع الله، مجبورًا على أن يبتعد عن المعصية، ليس له فخر ولا فضل على سائر البشر.

الإمام المعصوم كسائر البشر تمامًا، مخيّر تمام التخيير في أنه يعصي أو يطيع، مختار تمامًا، غاية ما في الأمر أن الإمام المعصوم عندما يقف أمام المعصية.. أنت قد تغلبك شهوتك، عقلك موجود، يقول لك: هذا زنا، له نتائج وخيمة، له أضرار بالغة، له آثار سيئة، لكن الشهوة تحبّب لك الأمر، والنفس تحبّب لك الأمر، ترغّبك فيه، تغلب على عقلك، تأسره، تدفعك إلى المعصية. الإمام المعصوم عنده قوة نورية خاصة مودعة في عقله، مودعة في تفكيره، هذه القوة النورية الخاصة توضّح له المعصية بجميع أضرارها، كأنه يراها كما يرى أصابعه الخمس تمامًا.

الإمام المعصوم عندما يقف أمام معصية الزنا، أنت عقلك يقول لك: لها أضرار، الإمام المعصوم كأنه يرى الأضرار بعينيه، كأنه يحس الأضرار بيديه، كأنه يلمس الأضرار بأصابعه، يرى الأضرار أمامه كما يرى أصابعه الخمسة. هذا النوع من القوة النورية الخاصة المودعة في عقل الإنسان وفي تفكيره هي التي نسمّيها العصمة، وهي التي يقال عنها: اللطف الخفي، لكن هذه لا تجبره على الطاعة أبدًا، يستطيع مع ذلك مع أنه يرى الأضرار أمامه، مع أنه يرى النتائج الوخيمة أمامه، يستطيع أن يباشر المعصية ويقترف المعصية، كما أنك تستطيع أن تشرب كأس العصير مع أنك ترى الضرر أمامك مجسّدًا وحسّيًّا.

إذن فالإمام قادرٌ على فعل المعصية وقادر على فعل الطاعة، لولا أن الله أعطاه قوة في تفكيره وعقله تحبّب له الطاعة وتبغّض أمامه المعصية. وهذا طبعًا لا ريب فيه، كمستويات الذكاء، لو قال قائل: لماذا أعطى هؤلاء العصمة ولم يعطنا نحن؟! أهؤلاء أحسن منا؟! فليعطنا العصمة كما أعطاهم!

نظام الكون محتاج إلى هذا، نظام الوجود يستلزم وجود فقير وغني، لكي يحتاج الفقير إلى الغني، نظام الوجود يستلزم وجود إمام ومأموم، نظام الوجود يستلزم وجود معصوم وغير معصوم، كما أن نظام الوجود يستلزم وجود ذكي وغبي، ذاك لماذا صار ذكيًا وأنا صرت غبيًا؟! لماذا ذاك أعطاه الله قوة عقلية متفتحة وأنا لا؟! نظام الوجود يترتب على ذلك، كما أن الله أعطى فلانًا الذكاء وأعطى فلانًا النبوغ وأعطى فلانًا العبقرية وأعطى فلانًا التأخر العقلي، كذلك أعطى هذا العصمة، وأعطى ذاك عدم العصمة، فإذن العصمة لا تمنع الإمام من اقتراف المعصية، والعصمة لا تجبر الإمام على الطاعة، بل هي نورٌ خاصٌ ولطفٌ خفيٌ، يساعد الإمام على الابتعاد عن المعصية والقرب من الطاعة.

الأمر الثالث: قصة النبي يوسف نموذجًا للعصمة.

ما ذكرناه نجده في المعصومين، سواء كانوا أنبياء أو أئمة. نحن عندما نراجع قصة النبي يوسف «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» نجد فيها بعض الدلائل على أن العصمة لا تمنع من اقتراف المعصية، مثلًا: قول النبي يوسف: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، أنا إنسان كسائر البشر، صحيح نبي معصوم أعطيت قوة العصمة، لكن ما أبرئ العصمة، أي: لا أدعي بأن نفسي فوق الأنفس، ﴿إِنَّ النَّفْسَ النفس البشرية بطبيعتها ﴿لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ.

آية أخرى تقول: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، طبعًا المفسرون من الشيعة بعضهم يقول: همت به فعلًا، هي همت به، لكن هم بها يعني هم بأن يضربها، كما يقال: هممت بفلان، أي: هممت بأن أضربه، فهمت به يعني أرادت منه المعصية، لكن هم بها يعني أراد أن يضربها، وبعضهم يقول: لا، أبدًا، دع اللفظ على ظاهره، همت به هي فعلًا همت به، وهم بها يعني اختلج في مشاعره، لا نقول بأنه وصل إلى مرحلة عملية، نحن لا ندعي أنه وصل إلى مرحلة عملية، أن يوسف وصل إلى المرحلة العملية وقام وسعى خطوات في سبيل المعصية، لا، نقول: فقط اختلج في مشاعره، هذا الاختلاج في المشاعر لا ينافي العصمة، ولا ينافي نور العصمة، ولا ينافي اللطف الخفي، فاللفظ يمكن حمله على ظاهره، ومع ذلك نقول: هذا ما هو إلا اختلاج في المشاعر لا ينافي العصمة، ولم يترتب عليه أثر، لا أن يوسف اندفع نحو المعصية، ولا أنه سعى خطوات نحو ذلك.

وإلا عوامل الإغراء وعوامل الإثارة فعلًا تتجسّد في قضية يوسف «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» تجسدًا كبيرًا. أولًا: يوسف شاب في حيوية الشباب، وقت تفجر الغريزة، فوق المراهقة، فوق حيوية الغريزة، وامرأة العزيز كانت فاتنة، ومولعة بجمال يوسف، ومولعة بحسن يوسف، والقضية كان جو إغراء فعلًا، كان جو إثارة، باعتبار أن عزيز مصر كان كثير المشاغل بالملك والسلطنة، وكثير البعد عن البيت، فكانت خلوات كثيرة تجمع يوسف وامرأة العزيز، هذه الخلوات حبّبت إلى امرأة العزيز هذه المعصية، وإن لم تحبب ليوسف، لكن حببت لامرأة العزيز ذلك.

وبدأ الجو المغري، الجو المثير، عندما اندفعت نحو المعصية، ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، لاحظ كيف هو الرد الإيماني، الرد القوي من يوسف، ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أي: جعلني إنسانًا وفيًا، وأنا جالس في بيت إنسان، أذهب وأزني بزوجته أو أخونه في زوجته؟! لا، الله أعطاني الوفاء، وأعطاني الالتزام، ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، لا يقع الظلم لا منكِ، لأنك زوجتك، تظلمين نفسك بالمعصية وتظلمين زوجك بالخيانة، ولا يقع الظلم مني؛ لأني في بيته، ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.

كل هذا الكلام لم يفد فيها، كانت تعيش جو إثارة تام، اندفعت نحوه، ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، لاحظ كيف شهد القرآن ليوسف بالإيمان التام، وبالالتزام الناضج، وبالتثبت، مع أنه يعيش مرحلة الشباب، ويعيش حيوية الغريزة وحرارتها، مع ذلك وصفه القرآن بالإيمان التام.

دروس من قصة النبي يوسف :

نحن من قصة النبي يوسف، ومن حديثنا حول العصمة، ننطلق إلى نقطتين:

النقطة الأولى: رؤية الإسلام للحديث عن الجوانب العاطفية.

الدين الإسلامي لا ينكر الحديث عن الجوانب العاطفية، لا كما تصوّره بعض التقاليد الاجتماعية، على أن الدين يرفض الحديث عن الجوانب العاطفية، جوانب العشق، جوانب الغرام، وجوانب الحب، الدين يرفض عن ذلك، ويعتبر الحديث عن ذلك ليس من الدين في شيء.

لا، الدين لا ينكر الحديث عن الجوانب العاطفية، ولكن بشرط أن يكون الحديث عن ذلك ذا هدف رسالي، هناك هدف رسالي مترتب على هذا الحديث، هناك هدف رسالة وغرض شرعي مترتب على هذا الحديث، أما مجرد حديث عشق وغرام وحب، بدون أي هدف رسالي، بدون أي هدف اجتماعي، بدون أي هدف آخر، فهذا شيء لا يمت إلى الإسلام بصلة، الإسلام لا ينكر الحديث عن الجوانب العاطفية إذا كان الحديث متصلًا بأهداف الإسلامية السامية الرسالية. ولذلك، القرآن تحدث عن قصة يوسف، وتحدثت الكتب السماوية عن قصة يوسف، وعن غيرها من هذه القصص، وعرضتها بواقعها.

الحديث عن الجوانب العاطفية إذا كان يُبْرِز الجانب المأساوي المترتب على ذلك، مثلًا: أنت تطرح قصة، فلان عشق فلانة، صار بينهما كذا، حلّ عليهما كذا، والنتيجة أن فلانة وضعت منه لقيطًا، وصار اللقيط مرميًا في الشارع، وسقط شرفها وشرفه، فأنت بعد أن تتحدث عن القصة الغرامية تعقبها بالنتائج الوخيمة، تعقبها بالواقع المأساوي الذي ترتب عليها، تكون حين ذلك القصة مفيدة ومنتجة ومنجعة، فالحديث عن ذلك حديثٌ من تمام الإسلام، ولا ينكره الإسلام ولا يرفضه.

ولذلك نستطيع أن نفتح نافذة جديدة على الأدب الإسلامي، الأدب الإسلامي ينبغي أن تُفْتَح فيه هذه الصفحة، صفحة الحديث عن الجوانب العاطفية في الإنسان، لماذا؟ لكي يصوَّر للناس ولسائر أبناء البشرية أن الإسلام ممتدٌّ إلى جميع الجوانب، حتى الجوانب الطرية الشيقة في نفس الإنسان وفي عواطفه، الإسلام ممتد إلى جميع الجوانب، فنستطيع أن نفتح صفحة في الأدب الإسلامي هي الحديث عن الجوانب العاطفية، لكن حديث مشبع بالعطاء الاجتماعي، بالعطاء الرسالي، حديث مشبع بالأهداف الرسالية المترتبة على ذلك، ليس حديثًا أجوف، مجرد عرض قصة بدون ثمرة وبدون فائدة، وينبغي أن توضَع أصولٌ وقوانين وقواعد تحكم الكاتب والشاعر والناثر عندما يريد أن يعرض أي قصة من هذه الجوانب، ويتعرض للأهداف الاجتماعية المترتبة على ذلك.

وتعال لترى ماذا يوجد في مقابل الإسلام، تعال لترى وسائل الإعلام التي يلجأ إليها الشباب والشابات في سبيل فهمهم للجوانب العاطفية وللقصص العاطفية، تعال إلى التلفزيون، أكثر الأفلام المعروضة في التلفزيونية أفلام غرام وعشق، فلم يتعرض إلى قضية اجتماعية، فلم يتعرض إلى مشكلة اجتماعية يعيشها الناس؟! أبدًا، أكثر الأفلام المصرية وغيرها منصبة ومترتبة على الحديث عن هذه الجوانب، ويا ليت هناك عطاء، ويا ليت هناك فائدة!

أنت الآن الذي كنت تطالع التلفزيون من عشر سنين إلى الآن، طالعت كم فلمًا؟ 500 فلم؟ هذه الخمسمائة التي طالعتها ماذا أنتجت منها؟! أرنا العطاء الذي أنتجته من مطالعة الأفلام، خمسمائة فلم تعرض للجوانب العاطفية، من فلم كويتي، أو مصري، أو ما أشبه ذلك، أو غربي أجنبي، هذه الأفلام التي طالعتها وكلها كانت تتحدث عن العشق والغرام، ماذا أنتجت منها؟! ما هي الفائدة التي ترتب عليها؟! ماذا أعطتك من أهداف؟! ماذا أعطتك من تفتح على الأمور والمشاكل الاجتماعية؟! ماذا طرحت من علاج لمشاكل العشق والغرام؟! ماذا طرحت؟! ماذا أدّت؟! أصلًا هذا الذي وضع القصة وكتبها، هذا ما هي قيمتها؟! ماذا يعرف من الأهداف الرسالية حتى يضمّن كتابته للقصة الأهدافَ الرسالية، والأهدافَ الاجتماعية المترتبة على القصة؟! ما هي قيمة كل ذلك؟!

هؤلاء الذين أخرجوا الأفلام ووضعوها وكتبوها وسهروا الليالي، يعرض قصة فلم غرام، ما هي نتيجة القصة؟! إما أن ينتصر هذا ويأخذ محبوبته، أو ينتحر، أو محبوبته تنتحر، وكأن هذا هو العلاج الوحيد لجميع مشاكل الحب والغرام! إما أن يجدها، أو ينتحر، أو هي تنتحر، وانتهت القضية!! هذا هو الحل الاجتماعي الممتاز!! هل هذا حل؟! هذا الذي كتب القصة لا يملك خلفية اجتماعية، ولا يملك أطروحات ثقافية جديدة، ولا يملك علم نفس يساير مفاهيم البشر، ويساير سائر العصور، حتى يطرح حلًّا منجعًا، حتى يطرح علاجًا مفيدًا، حتى يطرح علاجًا معقولًا، أبدًا. ونحن لا زلنا نكرّس اهتمامنا على الأفلام التلفزيونية.

تعال إلى غير التلفزيون: المجالات، أول ما يفتح المجلة على بريد القرّاء، مثلًا: المرسل فلان بن فلان، حدثت بيني وبين الفتاة كذا وكذا مشكلة وحب وغرام، والنتيجة أن أباها مانع، أمها مانعت، صارت بيني وبينهم مقابلة، قالت كذا، قلت كذا، أنا أرجو الحل منكم! هذا جنابه الذي يجيب على بريد القرّاء، كأن هذا من العلماء المحققين العارفين بهذه الأمور، هذا يجيب، يقول: والله هذه مشكلتك صعبة، لا بد أن تقنع والدها، أو تقنع أمها بالقضية، حتى لا تحدث مشاكل...! هذا حل؟! هذا علاج للمشكلة؟! ماذا أعطى هذا العلاج؟! ماذا أثمر هذا العلاج؟!

رسائل القرّاء وبريد القرّاء يأتي بعض الشباب والشابات يقرؤها تفصيلًا من أول رسالة إلى آخر رسالة، حتى يعرف هذه المشاكل ويعرف حلولها، ما هي الحلول؟ من الذي يضع هذه الحلول؟! قد يكون الواضع لهذه الحلول هو نفسه متورطًا بمثل هذه المشاكل، هو نفسه يعيش عُقُد نفسية ومشاكل غرامية، ومتورط بحبائلها، ومع ذلك يجيب على رسائل القرّاء! وفي بعض المجالات من يجيب على رسائل القرّاء امرأة، من عاطفتها ومن غرائزها تجيب على رسائل القرّاء! ما هي الثمرة من هذا؟!

تعال إلى الأغاني والأناشيد: بغض النظر عن حرمة استماع الغناء أو عدم حرمته، الغناء إلى ماذا يتعرض؟! ما هي الفقرات الغنائية التي تُطْرَح؟! ما هي مضامينها وما هي مداليلها؟! كل الفقرات الغنائية التي يُسْتَمَع إليها تتحدث عن الغرام والحب والعشق بدون أي عطاء اجتماعي، بدون أي هدف رسالي، بدون أي علاج للمشكلة، ما هي الثمرة؟! مجرد تهييج للمشاعر؟! مجرد عامل إثارة وإغراء وتحميس للشباب والشابات على مقارفة المعاصي وإقامة العلاقات غير المشروعة؟!

وتعال إلى الشعر: مع الأسف، الشعر منذ القدم، ليس الآن فقط في العصر الحاضر، منذ عصر امرؤ القيس إلى الآن الشعر يسير نحو غير هدفه الذي هو له، هدف الشعر أن يكون إعلانًا، هدف الشعر أن يكون صوتًا للأمة، صوتًا للناس، هدف الشعر أن يكون مبلغًا ومصدر عطاء اجتماعي ومصدر عطاء تربوي، هذا هدف الشعر، ليس هدف الشعر غزلًا، خمريات أبي نواس، وحجازيات الشريف الرضي، وغزليات فلان، وشاعر المرأة نزار قبّاني، وهذا الشاب والشابة يقرأ شعر الغزل، وشعر الغرام، ماذا أثمرت من هذه القراءة؟! نحن لا نقول ممنوع، لا نقول حرام، لكن ينبغي أن يترتب على ذلك عطاء، ينبغي أن يترتب على ذلك هدف، ينبغي أن يترتب على ذلك نتيجة، ما هي الثمرة؟!

أنت الآن كرّست اهتمامك بقراءة هذا الشعر، اقرأ الشعر الذي يتحدث عن القضايا الاجتماعية والقضايا السياسية النافعة، اقرأ الشعر الذي يتحدث عن منابع الإسلام الصافية، عن أهداف الإسلام الرسالية الحقيقية، لا تكرّس اهتمامك كله بهذا النوع من الشعر الذي لا يجديك ولا ينفعك.

النقطة الثانية: طرح الثقافة الجنسية.

الإسلام ليس بعيدًا عن طرح الثقافة الجنسية، القرآن والأحاديث تحدثت عن سائر أعضاء بدن الإنسان بأسمائها، والثقافة الجنسية موجودة في الشرع الشريف، أنت عندما تراجع الرسائل العملية وكتب الأحكام الشرعية، أحكام الحيض مثلًا، يعرّفك الحيض، يعرّفك اختلاف العادات، عادة وقتية وعددية ومضطربة، يعرّفك كيف تتعامل المرأة مع صدور هذا الدم، كيف تتعامل المرأة مع العادة الشهرية. تعال إلى الاستحاضة: استحاضة قليلة، متوسطة، كثيرة، يعلّمك الكتاب أو الرسالة العملية كيفية استبراء المرأة لرحمها لتعرف أنه استحاضة قليلة أو متوسطة أو كثيرة، ليترتب على ذلك صلواتها وواجباتها وأغسالها. النفاس وأحكامه، من أول يوم في الولادة إلى عاشر يوم، هذا كله يتعرض له الإسلام، وتتعرض له الرسائل العملية.

تأتي إلى الأحاديث: تجد أحاديث آداب المباشرة، مباشرة الزوجة، الأدعية التي تُقْرأ عند ذلك، ما بعد المباشرة، آداب الغسل، السنن المترتبة على ما يصدر من الإنسان من بول ومن مني ومن مذي ومن وذي، كل هذا مطروح في الرسائل العملية، ومطروح في الكتب التي تتحدث عن الفتاوى وعن الأحكام الشرعية، فالثقافة الجنسية موجودة بشتى صورها في الإسلام وفي الشريعة الإسلامية.

نعم، نحن نفتقر إلى جانب، ليس عندنا علماء محققون كتبوا كتبًا خاصة بالثقافة الجنسية، ومن المفروض أن يحصل هذا، كتب خاصة نرجع إليها تتحدث عن الثقافة الجنسية في نظر الشرع الشريف، في نظر الإسلام، نحن مفتقرون إلى هذا، حتى لا يلجأ شبابنا إلى أن يقرأ كتب صبري قباني وأمثاله من الكتب التي تعرض الثقافة الجنسية وكأنها مصدر إغراء ومصدر إثارة، ويعيش الإنسان مع الكتاب كأنه يعيش جوًا جنسيًا تامًا. المفروض أن تُكْتَب كتبٌ تتحدث عن الثقافة الجنسية في نظر الإسلام، ترجع إليها الشباب والشابات، وفي هذه الفترة التي نفتقر فيها إلى هذه الكتب، كتب الأحاديث وكتب الروايات التي تتحدث عن الزواج وآدابه موجودة، وكتب الأحكام الشرعية التي تتحدث عن الأمور التي ذكرناها موجودة، فيمكن الرجوع إليها للاستفادة من هذا الجانب.

وإلا الإسلام بعيدٌ عن طرح عوامل الإثارة، يطرح الثقافة الجنسية لكن لا كعامل إثارة، لا كجو إغراء، يحمّس الشاب والشابة على اقتراف المعصية، الإسلام حاول بكل جهده أن يبعدنا عن عوامل الإثارة، ولذلك ترى أحكامًا شرعيةً كثيرةً تترتب على الشهوة والريبة، لا يجوز لك النظر إلى المرأة إذا كان بشهوة وريبة، لا يجوز لك استماع صوت المرأة إذا كان بشهوة وريبة، لا يجوز لك الجلوس مع المرأة إذا كان بشهوة وريبة، الشهوة والريبة يؤكد عليها الشرع الشريف، ويرتّب عليها أحكامًا كثيرة؛ لكي يبعدنا عن عوامل الإثارة.

لماذا نرمي بأنفسنا في عوامل إثارة؟! الفتاة إذا تعرف أنها إذا دخلت السوق فإنها تصبح عامل إثارة، فلا يجوز لها دخول السوق، إذا كانت تعرف نفسها، أن دخولها السوق يسبب عوامل إثارة، بل حتى خروجها إلى المسجد، خروجها إلى الحسينية، إذا كان يسبّب عوامل إثارة، وهي تخرج بالزي الذي يثير العواطف، أو الذي يثير الغرائز، فهذا حرام عليها شرعًا.

إذا أرادت أن تأتي مثلًا إلى الحسينية فعليها أن تأتي بحجابها الكامل التام، بالمشية الهادئة، لا أن تأتي وشعرها بارز، أو نصف شعرها بارز إلى الأعين، أو بتلك المشية المغرية، أو تتحدث مع ذلك الشاب ومع ذلك الواقف ومع ذلك القاعد، فهذا ليس مجيئًا للاستماع والاستفادة، المجيء للاستماع والاستفادة أن تحافظ على حجابها، وأن تحافظ على الهدوء التام، حتى لا تكون عامل إثارة وعامل إغراء. الشرع الشريف يبعدنا عن مواطن الشبهة، وعن مواطن الفتنة والإثارة، بكل ما يستطيع.

ولذلك، ترى الأئمة يركزون على هذا الجانب، ويركزون على هذه الجهة، ويحافظون على نسائهم وذراريهم ومتعلقيهم بكل ما يستطيعون؛ لكيلا يكون هناك عامل إثارة وعامل إغراء. وتروي كتب التاريخ أن زينب بطلة كربلاء كانت إذا أرادت أن تزور قبر جدها رسول الله، كيف تزور قبر جدها؟ في نصف الليل، الإمام يؤخرها إلى نصف الليل، مع أن زيارة الرسول مستحبة، ولكن الإمام يؤخرها إلى نصف الليل، وإذا جاء نصف الليل خرج معها والحسن والحسين عن يمينها وعن شمالها، فإذا دخلت المسجد أطفأ القناديل، يا أبا الحسن لماذا تطفئ القناديل؟ قال: إن المساجد لا يخلو من المصلين المتعبدين، وأنا أريد أن تبقى زينب بعيدة عن نظر الرجال، تبقى بعيدة عن مرامي الرجال، ”ألا ترى الرجل ولا الرجل يراها“. وفعلًا، غرس هذا المفهوم في نفس الحسن والحسين، وأودع عندهم العقيلة زينب ، جعلها وديعة عندهم، يحافظون على خدرها، ويحافظون على عفافها.