حديث الثقلين جزء 3

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الرسول محمد : ”إني مخلِّفٌ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“

تحدثنا في الليلة السابقة عن الفائدة الأولى المستفادة من حديث الثقلين، وذكرنا بأن تلك الفائدة المحرزة من حديث الثقلين هي عصمة أهل البيت «سلام الله عليهم»، وبيّنّا في الليلة السابقة معنى العصمة، وحقيقة العصمة، نريد الليلة أن نتحدث عن الدليل القرآني الذي يدل على عصمة أهل البيت «سلام الله عليهم»، ومن هنا يكون حديثنا في ثلاثة محاور:

المحور الأول: دلالة آية التطهير على عصمة أهل البيت.

نحن عندما نطالَب الدليل، ما هو الدليل على عصمة أهل البيت؟ نقول: الدليل على عصمة أهل البيت من الكتاب آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، هذا من القرآن، ومن السنة: حديث الثقلين، الذي تحدثنا عنه في الليلة السابقة. الآية القرآنية - آية التطهير - استفادة العصمة منها تكون من فقرتين: الفقرة الأولى: كلمة أهل البيت، والفقرة الثانية: كلمة الإرادة.

الفقرة الأولى: كلمة أهل البيت.

ما هو المقصود بكلمة أهل البيت؟ من هم أهل البيت؟ طبعًا من القديم كان هناك رأيان: رأي يقول - وهو رأي الشيعة - بأن أهل البيت هم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، والرأي الآخر يقول: أهل البيت هم نساء النبي. هذا الرأي الثاني الذي يقول بأن المقصود بلفظ أهل البيت نساء الرسول، هذا الرأي من أول من قال به؟ من أسّس هذا الرأي؟ أول من أسّس هذا الرأي اثنان من التابعين: عكرمة، ومقاتل. عكرمة كان مولى لابن عبّاس، أول من صرّح بهذا الرأي عكرمة ومقاتل.

أما عكرمة فكان يصر على الرأي، لم يكن فقط يقول بأن المراد بأهل البيت نساء الرسول ويسكت، بل كان يصر على الرأي، والدليل على أنه كان يصر على هذا الرأي ما يرويه صحيح مسلم بأن عكرمة كان يدخل السوق ويقول: من شاء باهلته على أن الآية - أي: آية التطهير - نزلت في نساء النبي. وكان يقول: ليس كما تزعمون، أنها في فاطمة وولديها، وإنما هي في نساء النبي.

من نفس هذا الكلام نحن نفهم أن الرأي العام ذلك الوقت كان ضد رأي عكرمة، ولم يكن كذلك لما احتاج عكرمة إلى أن يدخل السوق ويصرخ ويقول: أيها الناس من شاء باهلته على أن الآية نزلت في نساء الرسول! لو كان الرأي العام في ذلك الزمان يقول بأن الآية نزلت في نساء النبي لما احتاج عكرمة أن يصر ويصرخ ويستدعي المباهلة والمناظرة، فمن نفس هذا الكلام نفهم أن الرأي نبع وتولّد من عكرمة نفسه، وكان الرأي العام ذلك الوقت خلاف رأي عكرمة، بل كان الرأي العام يقول بأن الآية نزلت في فاطمة وعلي والحسن والحسين.

طبعًا هو عكرمة لا يعتد برأيه، لذلك ما أسند القول إلى نفسه، بل قال: قال ابن عباس بأن الآية نزلت في نساء النبي، وابن عباس حبر الأمة، يصدّق قولُه. وتطوّر الرأي وجاء من بعده أخذ ورد ونقض وإبرام، إلى أن جاء جماعة وأكدوا هذا الرأي، وقالوا: الدليل على صحة هذا الرأي، وأن الآية نزلت في نساء النبي، هو السياق، أي: السياق القرآني.

أصلًا الآية التي قبل هذه الآية كانت تتحدث عن نساء النبي: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، بما أن الآية التي قبلها في نساء النبي فمقتضى وحدة السياق أن تكون هذه الآية أيضًا في نساء النبي، فلماذا نحملها على علي وفاطمة والحسن والحسين؟! هذا هو الرأي. نحن الآن نحاول أن نناقش هذا الرأي مناقشة تفصيلية، نناقش هذا الرأي من عدة نقاط:

النقطة الأولى: عكرمة ومقاتل في الميزان.

عكرمة ومقاتل هل هما من التابعين اللذين يعتمد عليهم في تفسير القرآن، وفي بيان مرادات القرآن، أم لا؟ نحن نحلّل شخصية عكرمة ومقاتل، نأتي إلى شخصية عكرمة: كان حروريًا من الخوارج، كان من الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين ، هذا إذا كان من الخوارج.. كما ينقل كتاب وفيات الأعلام - من كتب أهل السنة والجماعة - يقول بأن عكرمة كان على مذهب مجدل حروري، أي أنه كان حروريًا خارجيًا، هذا إذا كان من الخوارج فهل يمكن رجل خارج على الإمام علي وخارج عن طاعة الإمام علي يعترف للإمام علي بالعصمة؟! إذا هو خارج عن طاعة الإمام علي، وخارج عن حكم الإمام أمير المؤمنين، ويقول: لا حكم إلا لله، لا لعلي ولا لمعاوية.

إذا كان الرجل خارجًا عن طاعة الإمام علي فكيف يناقض نفسه؟! هو من جانب خارجي، ومن جانب آخر يقول بأن الآية نزلت في علي وفاطمة، أي أن عليًا معصوم تجب طاعته؟! الرجل لا يناقض نفسه، فما دام هو خارجيًا بحكم مذهبه وبحكم النهج الذي نهجه لا بد وأن يقول بأن الآية غير نازلة في الإمام علي وفي فاطمة والحسن والحسين، وإلا يناقض نفسه.

ثم عكرمة هذا كان يكذب على ابن عباس، هذه ليست أول كذبة، ما شاء الله من الكذب الذي كان يبلّغه عن ابن عباس. كتاب ميزان الاعتدال ينقل عن سعيد بن المسيّب أنه كان يقول لمولاه: لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس. القضية مشهورة ومعروفة، أن عكرمة كان يكذب على ابن عباس. أكثر من هذا، يروي نفس الكتاب أن عبد الله بن أبي الحرث، دخل على علي بن عبد الله بن عباس، دخل عليه وإذا هو قد أخذ عكرمة وقيده وجعله على باب الكنيف، والكنيف هو مكان الأوساخ والأقذار، يقول: دخلت عليه، قلت: يا هذا، هكذا تفعلون بمولاكم؟! خادمكم، شخص يخدمكم، هكذا تفعلون به؟! قال: ألا تعلم إنه يكثر الكذب على أبي. هذا دائمًا يكذب على أبي عبد الله بن عباس، ولا نرى له جزاءً إلا أن نربطه بالكنيف.

ويروي أيضًا الدر المنثور، يقول: عن خالد بن عمران: كنّا في المغرب أيام الموسم، أيام الموقف، موقف الحجاج بعرفات، نحن كنا هناك، وكان معنا عكرمة، فكان يقول: وددت لو أنَّ بيدي حربة فأعترض بها من في الموقف فأذبحهم يمنة ويسرة! لماذا؟! أليس هؤلاء مسلمين؟! وعن يعقوب الحضرمي أن عكرمة وقف على باب المسجد - المسجد النبوي - وقال: ما فيه إلا رجلٌ كافرٌ! هذا عكرمة، وهذه شخصيته، وهذه نفسيته، وهذا منهجه ومذهبه.

أما مقاتل فقد جعله النسائي من الكذّابين المشهورين، وفي ميزان الذهبي صرّح، قال: لقد كان كذّابًا جسورًا. وهذا مقاتل دخل على أبي جعفر المنصور، وقال: إن شئت أن أحدّث فيك بحديث أنا مستطيع، إذا أردت أن أزوّر حديثًا فأنا حاضر! هذا مقاتل، وهذا عكرمة، معروفان بالكذب، معروفان بالتزوير، ومع ذلك علماء المسلمين يعوّلون على آرائهم، ويقولون بأن الآية نزلت في نساء النبي، تعويلًا على قول عكرمة وعلى قول مقاتل! مع أنهم يعلمون أنهما بهذا المستوى من عدم الانضباط وفقدان الشخصية المؤمنة الملتزمة.

النقطة الثانية: عدم شمول كلمة الأهل للزوجة.

كلمة أهل أصلًا لا تطلق على الزوجة أبدًا، لا يقال للزوجة أنها أهل إلا على سبيل المجاز، وإلا على سبيل الحقيقة لا يقال للزوجة أهل، هذا في الاستخدام العربي موجود وشائع. يروي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم، زيد بن أرقم كان من العلماء، يروي عنه أنه سئل: هل أهل البيت يشمل نساء النبي؟ قال: لا؛ إن المرأة لتكون مع الرجل العصر من الدهر - أي: مدة من الدهر - ثم يطلقها فتذهب إلى بيت أهلها وقومها. يريد زيد بن أرقم أن يقول: أن الزوجة لا تعتبر من الأهل؛ لأن صلة الزوجة بالزوج ليس صلةً وشيجةً قويةً كصلة الولد بوالده، الولد بوالده هذا شيء لا يمكن فصله، هذه صلة لا يمكنه نزعها وفصلها، أما صلة الزوجة بالزوج فيمكن قطعها وفصلها، فالأهل يطلق على الأشخاص الذين تربطهم بالرجل صلةٌ لا تقبل الانفصال ولا تقبل القطع أبدًا، لا كصلة الزوجة بالزوج.

وهذا ما تؤكده الرواية التي رواها الدر المنثور عن أم سلمة قالت: نزلت آية التطهير في بيتي، وكان في البيت سبعة، جبرئيل وميكائيل وفاطمة وعلي والحسن والحسين وأنا، فلما نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا قال الرسول: إليَّ إليَّ إليَّ، فجمعهم تحت الكساء، فجئتُ، قلتُ: هل أنا من أهل البيت؟ قال: ”يا أم سلمة، إنما أنتِ على خير، إنما أنتِ من أزواج النبي“. الرسول نفسه فصل لفظ أهل البيت عن لفظ أزواج النبي، أي أن أهل البيت لا يشمل أزواج الرسول.

النقطة الثالثة: النص الوارد.

نحن لماذا نجتهد من عندنا؟! لا يجوز الاجتهاد في مقابل النص، نحن لماذا نجتهد ونعوّل على رأي عكرمة ومقاتل؟! ما دام عندنا نصوص وروايات واردة على أن آية التطهير نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين، عكرمة عندما قال بأنها نزلت في نساء النبي، هل استدل برواية؟! لم يستدل برواية عن الرسول، ولا استدل بحديث عن الرسول، بينما الرأي القائل بأن آية التطهير نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين يستدل إلى رواية وحديث. الحاكم والطبري وابن ماجة يروون رواية صحّحها البخاري وصحّحها مسلم عن أم سلمة: نزلت آية التطهير فجمع الرسول فاطمة وعليًا والحسن والحسين وأسدل عليهم الكساء وقال: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا“.

رواية أخرى: يرويها صحيح مسلم نفسه عن عائشة قالت: خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجّل، فاستدعى فاطمة وعليًا والحسن والحسين، وجلّلهم بالكساء، وقال: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي ولحمهم لحمي ودمهم دمي، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا“. نحن إذا عندنا روايات فلماذا نجتهد في مقابل النص؟!

النقطة الرابعة: مناقشة دعوى وحدة السياق.

بقيت قضية دعوى وحدة السياق، الآية التي قبلها كانت في نساء النبي، المفروض هذه الآية أيضًا تكون في نساء النبي. وحدة السياق لا حجية فيها بالنسبة إلى آيات القرآن الكريم؛ لأننا إنما نتمسك بالسياق إذا كان الكلام واحدًا، إذا كان الكلام من أول سطر إلى آخر سطر يتحدث عن موضوع واحد، ويتحدث عن قضية واحدة، فحينئذ نتمسك بوحدة السياق، نقول: مقتضى سياق الكلام أن يكون المعنى كذا والمراد كذا؛ لأن الكلام يتحدث عن موضوع واحد.

أما إذا كان الكلام متعدد الأطراف، متعدد المواضيع، أنا تكلمت كلامًا، لكن طرحت فيه عدة مواضيع، وعدة مفاهيم، وعدة قضايا، لا يقال: نتمسك بالسياق؛ لأن هذا الرجل يتكلم عن مواضيع متعددة، يطرح مفاهيم متعددة، فكيف نتمسك بوحدة السياق مع أن الكلام شامل لمواضيع مختلفة متباينة!؟ لا يصح التمسك بوحدة السياق مع تعدد الموضوع وتعدد أطراف الكلام.

كذلك في القرآن الكريم، أنت عندما تراجع القرآن الكريم تجد آية مكية في صف آية مدنية، وآية مدنية في صف آية مكية، إذا آية مدنية مقحمة بين آيات مكية، أو آية مكية مقحمة بين آيات مدنية، فكيف نقول بأن الموضوع واحد؟! كيف نقول بأن القضية واحدة؟! آية نزلت في مكة تتحدث عن موضوع، وآية نزلت في المدينة تتحدث عن موضوع، وأتى الصحابة، وضموا تلك الآية إلى هذه الآية، كيف نتمسك بوحدة السياق؟! لا توجد وحدة سياق؛ لأن هذه الآية نزلت في ظرف، وتلك الآية نزلت في ظرف آخر مباينٌ للظرف الأول، فأين هي وحدة السياق؟! أنت راجع الآيات كلها، راجع التفاسير كلها، ترى الآية الأولى مكية والآية الثانية مدنية والآية الثالثة مكية.. وهكذا، فإذا كانت الآيات مختلفة فأي سياق يتمسّك به؟!

ثانيًا: ليس من المعلوم أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة، افترض أن الآيات كلها مدنية، أو افترض أنها كلها مكية، لكن هل نزلت في دفعة واحدة؟! في وقت واحد نزل جبرئيل بسورة الأحزاب كلها، بما هو شامل لآية التطهير! ليس عندنا دليل على هذا، ربما تنزل آية واحدة، ربما تنزل آيتان، ربما تنزل ثلاث آيات، ربما تنزل نصف آية، وبعد مدة ينزل النصف الآخر، فليس عندنا دليل يثبت لنا أن الآيات نزل بها جبرئيل دفعة واحدة حتى نتمسك بوحدة السياق.

ولو كان السياق حجةً يعتمد عليه في القرآن الكريم، أو يقال بأن مقتضى ذلك هو الحديث عن نساء الرسول ، لاتحد الضمير، ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ دائمًا يعبر بنون النسوة، لستن، اتقيتن، فلا تخضعن، فلا تبرجن، أطعن... إلخ، يتحدث بنون النسوة، ولما دخل في آية التطهير تحدث بضمير آخر: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ولم يقل: عنكن، ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ ولم يقل: يطهركن، فلو كان الحديث مستمرًا عن نساء النبي لكان التعبير بالضمير مستمرًا أيضًا، فاختلاف التعبير دليلٌ على اختلاف المراد، وأن تلك الآية خاصة في نساء النبي، وأما الآية الثانية فهي تتحدث عن موضوع آخر، ألا وهم أهل البيت : فاطمة وعلي والحسن والحسين.

الفقرة الثانية: الإرادة.

عصمة أهل البيت كان متعلقة لإرادة الله عز وجل، الإرادة ما هي؟ الإرادة في مصطلح الفلاسفة على قسمين: إرادة تشريعية، وإرادة تكوينية. الإرادة التشريعية إرادة فعل الغير، والإرادة التكوينية إرادة فعلي أنا نفسي، فعل يتعلق بي شخصيًا أنا أريده، فمثلًا: عندما أطلب منك، أقول لك: يا فلان اقرأ القرآن، هذه تسمى إرادة تشريعية، لأنك تريد فعلًا للغير، والغير باختياره يريد أن يمتثل أو لا يمتثل، يقرأ أو لا يقرأ. أما إرادتي أنا الشخصية، أريد أن أشرب الماء فشربته، تسمى إرادة تكوينية، متعلقة بي شخصيًا، أريد أن أمشي فمشيت، إرادة تكوينية متعلقة بي شخصيًا.

الإرادة الموجودة في الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ هل هي إرادة تشريعية أم هي إرادة تكوينية؟ نقول بأن إرادة الله تارة تكون إرادة تشريعية، كما لو قال لنا: صلوا وصومواا، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، هذه تسمى إرادة تشريعية، لأنه أراد فعلًا من عندنا، ونحن باختيارنا نصلي أو نصوم أو نؤتي الزكاة أو لا، هذه إرادة تشريعية، أما عندما يريد الله أن يخلق السماء فتخلق، أو يريد الله أن يوجد الأرض فتوجد، هذه تسمى إرادة تكوينية، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

الله أراد العصمة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ، إنما تسمى أداة حصر، الله لا يريد شيئًا غير هذا، الله لا يريد شيئًا بالنسبة لأهل البيت غير العصمة والطهارة، حصر، فهل هذه الإرادة إرادة تشريعية أم هي إرادة تكوينية؟ نقول بأن هذه الإرادة إرادة تكوينية، أراد الله أن تكون العصمة لأهل بيت النبوة فكانت، ولا يتخلف مراده عن إرادته أبدًا، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، أراد أن يكونوا معصومين فكانوا معصومين بدون تخلف، لا يتخلف مراده عن إرادته.

المحور الثاني: الإرادة التكوينية وإشكالية جبرية العصمة.

بعضهم يتوهم أن الإرادة التكوينية تستلزم الجبر، إذا أراد الله تكوينًا أن يكون أهل البيت معصومين فلا بد أن يكونوا معصومين، فهذا يستلزم الجبر، أي: أن يكون أهل البيت مجبورين على الطاعة، مجبورين على ترك المعصية. طبعًا هذا المفهوم يُرَدُّ بما أوضحناه في الليلة السابقة، أوضحنا في الليلة السابقة أن العصمة لا تنافي الاختيار، والعصمة لا تستلزم الجبر، والعصمة لا تجبر الإمام على الطاعة، ولا تجبره على ترك المعصية، والله أراد العصمة، فإذا كانت العصمة لا تنافي الاختيار، وإذا كانت العصمة لا تستلزم الجبر، فإذن إرادة الله هنا لا تستلزم الجبر، الله أراد تكوينًا العصمة، والعصمة لا تستلزم الجبر، إذن هذه الإرادة التكوينية أيضًا لا تستلزم الجبر، فلما أراد الله أن يُخْلَق أهل البيت وهم معصومون عن الخطأ والزلل تحقق مراده، ولم يتخلف عن إرادته، فكان كما كان.

وهذا يرتبط بنظرية الجبر والاختيار، هذه النظرية المثارة بين المتكلمين من القديم، هل الإنسان مجبور أم أن الإنسان مختار؟ وطبعًا اعتقاد الشيعة على أنه ”لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين“، ما هو الربط بين نظرية الجبر والاختيار وبين العصمة؟ الربط واضحٌ، الآن مختصرًا نبيّن معنى نظرية الشيعة، نوضّح ذلك بالمثال. نقول: لو أن شخصًا كانت يده مشلولة، يده مشلولة لا يستطيع أن يحركها، هذه اليد المشلولة هناك طبيب معين ماهر استطاع أن يبعث الحركة في اليد، لكن بواسطة جهاز كهربائي، بواسطة قوة كهربائية خاصة، استطاع أن يبعث الحركة في اليد، بحيث يستطيع هذا الإنسان المشلول تحريك يده، الآن عندما يوصَل الجهاز، وتنبعث القوة في اليد، هذا المشلول الآن يستطيع تحريك يده، إذا قام المشلول وحرّك يده فماذا نسمّي هذه الحركة؟ هل نسميها حركة اختيارية أو حركة إجبارية؟

في الواقع لا نستطيع أن نقول حركة اختيارية محضة ولا حركة إجبارية محضة. هي ليست حركة اختيارية محضة لأنه يستطيع الآن تحريكها، لكن بمجرد فصل الجهاز لا يستطيع فعل شيء، هو ما دام الجهاز موصولًا يستطيع تحريكها، لكن بمجرد أن يقطع الجهاز لا يستطيع تحريك يده، فإذن الحركة ليست باختياره دائمًا، ليست حركة اختيارية محضة، ولا حركة إجبارية محضة؛ لأنه حتى مع وصول الجهاز وانبعاث القوة في اليد يستطيع أن يمسك يده ولا يحركها، مع وجود القوة، مع وجود القدرة على التحريك، لكن يستطيع أن يمسك يده ولا يحركها، فتبيّن أن القوة ليست إجبارية محضة.

إذن، ماذا نسمي حركة اليد؟ أمر بين أمرين، لا اختيار محض، لا جبر محض، ”لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين“. نفس القضية بالنسبة للإنسان، أنا أعطاني الله عز وجل قدرة على القيام وقدرة على القعود، وقدرة على أن أصلي وقدرة على أشرب الخمر، وقدرة على أن أصوم وقدرة على أن أزني، قدرة على الطاعة وقدرة على المعاصي. أنا عندما تكون القدرة موجودة عندي أستطيع أن أطيع وأستطيع أن أعصي، وعندما تسلب القدرة مني لا أستطيع القيام بأي عمل قط، فأنا عندما أقوم وأصلي لا أستطيع أن أقول هذه حركة اختيارية محضة؛ لأنه بمجرد أن يسلبني الله القدرة التي أعطاني إياها على الصلاة لا أقدر أن أصلي، كما أنها ليست حركة إجبارية محضة؛ لأنه يمكن أن الله يعطيني القوة والقدرة على الصلاة ومع ذلك لا أصلي باختياري، فإذن ”لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين“.

نأتي للمعصوم : المعصوم صحيح عنده قوة العصمة، الله تكوينًا خلق العصمة في نفس المعصوم، الله تكوينًا أعطى المعصوم نور العصمة ولطف العصمة، ولكن العصمة - كما بيناها في الليلة السابقة - مجرد قوة عقلية نورية توضّح للمعصوم أضرار المعاصي ونتائج المعاصي الوخيمة، وهذه القوة الفكرية أو العقلية التي أعطيت للمعصوم لا تمنعه أبدًا عن فعل المعصية، لا تجبره على الطاعة، هو بتمام اختياره كسائر البشر يأتي إلى الطاعة ويقوم بها أو يفعل المعصية، تمامًا كسائر البشر. إذن، الإرادة عندنا إرادتان: إرادة تشريعية، وإرادة تكوينية.

المحور الثالث: الإرادة في المصطلح الأخلاقي.

الإرادة بمصطلح علماء الأخلاق عبارة عن الحصانة والمناعة أمام شهوات النفس وأمام غرائز النفس، كيف؟ أنت الآن أحيانًا تشتهي مثلًا وأنت صائم أن تشرب الماء، فتريد أن تشرب، تقف الإرادة أمامك، تقول: أنت صائم ملتزم بصيامك فلا تشرب الماء، هذه يعبّر عنها بالإرادة، قوة الصمود المنبثة في النفس الواقفة أمام شهوة النفس تسمى الإرادة.

أنت صائم، تشتهي أن تأكل أكلًا لذيذًا، تريد أن تأكل، تقف الإرادة أمامك، تقول لك: لا تأكل. علماء الأخلاق يعبّرون عن هذه القوة المانعة عن الانقياد وراء شهوات النفس بالإرادة، وطبعًا نحن محتاجون إلى الإرادة احتياجًا كبيرًا، محتاجون إلى الوقوف أمام شهوات النفس وأمام غرائزها الشيطانية، الإنسان مثلًا أحيانًا تدعوه نفسه، يشتهي أن ينظر إلى الفتاة الحسناء، يشتهي أن ينظر إلى الفتاة الأجنبية، من الذي يمنعه عن النظر؟ ما الذي يقف أمامه ويحجزه عن النظر؟

هو الإرادة، إذا لم تكن عنده إرادة فإنه يباشر المعصية وينظر إلى الفتاة الأجنبية. يشتهي الإنسان أحيانًا أن يسمع صوت الغناء، يسمع صوت المغني الفلاني، صوت المغنية الفلانية، أغنيتها الحلوة العذبة، تدعوه نفسه، تحركه شهوته، ما الذي يقف أمامه؟ ما الذي يمنعه؟ ما الذي يحجزه؟ الإرادة. إذا كان عنده إرادة تقف أمام الشهوة وتمنعها وتحجزها عن سماع الأغنية فهو ذاك وإلا فلا، المدار مدار الإرادة.

ونحن محتاجون في الطاعة والالتزام بالواجبات إلى الإرادة، محتاجون احتياجًا ضروريًا إلى الإرادة. الآن كثير من الناس يقول لك: والله أنا بيني وبين فلانة علاقة، أتصل بها تلفونيًا، أراسلها، قد ألتقي معها، صدّقني لا أقدر على التخلص من هذه العلاقة، كلما حاولت التخلص من هذه العلاقة لم أقدر، كلما حاولت إذا اتصلت بي تلفونيًا ألا أكلمها في التلفون لا أقدر، ليس باختياري، أو إذا كتبت لي رسالة حب وغرام لا أقدر، ليس باختياري، لا أقدر! فما هو الحل؟! أنا متورط بهذه العلاقة، وأدري أنها علاقة غير مشروعة، وأدري أن وراءها جهنم ونارًا وتعذيبًا وحسابًا، ولكن ماذا أفعل؟! ليس باختياري، فما هو الحل؟! ما هو العلاج؟!

بابا! لا يوجد حل وعلاج إلا الإرادة، غير هذا لا يوجد، أي حل وأي علاج غير الإرادة غير موجود، إذا لم تكن هناك إرادة واقفة ومانعة أمام شهوات النفس وغرائزها فلا حل ولا علاج. اتصلت بك تلفونيًا، وشهوتك تحركت، وغرائزك دفعتك، ولكن هناك إرادة، إذا كانت هناك إرادة تقف أمام الشهوة انتهت القضية، كل شيء بالإرادة، كل شيء بحكم النفس، كل شيء بضبط النفس، إذا لم تكن هناك إرادة فالحل هو الإرادة.

مثال بسيط: كثير من الناس ممن يتعاطى التدخين، يقول لك: أنا أدري أن التدخين مضر، أدري أن التدخين مؤذٍ لصحتي، لكنني لا أقدر أن أترك التدخين، لا أقدر، أدري أن التدخين له أضرار، وأنا آخذ باكيت الدخان ومكتوب عليه: ننصحك بالامتناع عنه! يقول: أنا أدري بأضرار التدخين، والطبيب يقول لي اترك التدخين، وفلان يقول لي اترك التدخين، كل هذا أعلم به، لكن لا أقدر أن أترك التدخين، فما هو الحل؟! ألا ترون لي حلًا وعلاجًا لترك التدخين؟!

العلاج لترك التدخين الإرادة، إذا كانت هناك إرادة قوية تحجزك انتهت القضية، هو الإنسان بلحظة واحدة، بثانية واحدة، يقول: تركتُ التدخين، وانتهت القضية، إرادة، إذا الإرادة موجودة انتهى الأمر. نفس القضية في المعاصي، الابتعاد عن المعاصي يحتاج إلى الإرادة. الآن مثلًا يقول لك: أنا تاجر، وعندي أموال، أنا عندي مليون دينار، صحيح أن الله يقول: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وعليَّ خمس، لكن خمس مليون دينار 200 ألف دينار، 200 ألف دينار أدفعها إلى الشيخ أو للفقير؟! لا، زحمة! دينار، عشرة دنانير، مئة دنانير، معقولة، أما 200 ألف دينار أدفعها؟!

فهذا يقول: أنا أدري أن الخمس واجب، وأدري أنني يوم القيامة أوقف بين يدي الله، لماذا لم تخمّس؟ لماذا لم تؤدِ الواجب؟! أدري أنني جعلت في القبر أتاني منكر ونكير، وحاسباني على هذا الأمر، أدري، كل هذا أعرفه، لكنني لا أقدر أن أدفع 200 ألف! ما الذي يجعلك تقدر؟ ما الذي يجعلك تخمّس؟ ما الذي يجعلك تندفع نحو الواجبات؟ ما الذي يجعلك تندفع نحو عمل الطاعات؟ الإرادة، إذا كانت عندك إرادة قوية فهي التي تدفعك وتحركك، 200 ألف أو مليون دينار، كلها لا تساوي أنه أنا أقف بين يدي الله عز وجل، إذا الإنسان فكّر وتأمّل في الموقف الأخروي والحساب الأخروي تحركت عنده، صار عنده إرادة قوية.

الآن كثير من الشباب تنصحه، تقول له: أيها الشاب، سماع الأغاني حرام شرعًا، ومراجع الشيعة كلهم يفتون بحرمة الغناء، حرام، كذا، هناك عذاب وحساب وكذا.. بلي، صحيح، لكنني إلى أن أموت لا أسمع صوت عبد الحليم ولا صوت السيدة أم كلثوم؟! زحمة قليلًا، مشكلة! صعبة عليَّ، صعبة على نفسي، لا أستطيع تحمل هذا الأمر! أنت إذا تترك الغناء تنقل للمستشفى حالًا؟! أو إذا لم تسمع صوت عبد الحليم تنقلب السماء على الأرض ويصبح اهتزاز في الكون وارتجاج؟! أنا إذا تركت سماع صوت عبد الحليم وسماع صوت السيدة أم كلثوم أو سماع الموسيقى أو أو.. ما الذي يحدث؟! تنقلب الدنيا؟! تنطبق السماء على الأرض؟! تتزلزل الجبال؟! يصبح حادث خطير في الكون؟! والله فلان بن فلان ترك سماع الأغاني، ونتيجته صار اهتزاز في الأرض!! أبدًا، ولا يترتب على ذلك شيء.

والآن سائر البشر، الآن ما شاء الله من البشر لا يسمعون صوت عبد الحليم ولا صوت أم كلثوم، ماذا حدث لهم؟! عندهم اختلال في العقل؟! عندهم اختلال في صحتهم البدنية؟! عندهم اختلال في التوازن العقلي أو البدني؟! أبدًا، ما شاء الله من المؤمنين الذين لا يستمعون الأغاني، ليس عندهم اختلال في توازنهم العقلي، ولا عندهم اختلال في صحتهم ولا شيء، أبدًا.

فما هناك حل ودافع وحيد إلا الإرادة، الإرادة هي التي تحجبك عن سماع الأغاني، عن اقتراف المعصية، تدفعك نحو الطاعات، تدفعك نحو الواجبات، الإرادة هي كل شيء، فلتكن عندك إرادة، كما قال أمير المؤمنين : ”وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى“. أنا أروّض نفسي بالطاعات، بالعبادات، بالإكثار من ذكر الله، بالنوافل، بالمستحبات، أروّض نفسي على التقوى، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.

السير على المبادئ الإسلامية، والالتزام بالواجبات والطاعات يحتاج إلى صمود، يحتاج إلى إرادة، يحتاج إلى ثبات، ولولا الثبات ولولا الصمود ما التزم أحد بالمبادئ، هؤلاء الذين يلتزمون بالمبادئ كلهم يقدمون تضحيات، من يلتزم بالمبادئ أقل تضحياته أنه يقاوم شهواته، أقل تضحياته أنه يقاوم غرائزه، الالتزام بالمبادئ يحتاج إلى إرادة وصمود. الآن ما الذي جعل عمر بن سعد يقدم على قتل الحسين؟! ما الذي جعل الحر بن يزيد الرياحي يصبح من أنصار الحسين؟! هو الإرادة.

نموذج ضعف الإرادة: عمر بن سعد.

عمر بن سعد أمهله عبيد الله بن زياد ليلة، قال له: عندك ليلة فكّر فيها، تقدم على قتل الحسين تحصل على ملك الري، لا تقدم على قتل الحسين تبقى مثل سلة المهملات، لا وجود لك ولا لك شخصية رسمية، وأنت كما تشاء. ظلَّ طوال الليل يفكّر.

فوالله  ما  أدري وإني iiلحائرٌ
أأترك ملك الري والري منيتي
  أفكر في أمري على iiخطرينِ
أم أرجع مأثومًا بقتل iiحسينِ

بعد ذلك قال:

يقولون  إنَّ  الله  خالق iiجنةٍ
فإن صدقوا فيما يقولون إنني
  ونارٍ   وتعذيبٍ   وغل  iiيدينِ
أتوب إلى الرحمن من iiسنتينِ

أنا أولًا أقتل الحسين، وأحصل على ملك الري، ثم أتوب، وانتهت القضية! خرج عليه الفجر.. الإرادة تضاءلت عنده وتضاءلت إلى أن زالت الإرادة، شهوته حركته، أقدم على قتل الحسين.

نموذج قوة الإرادة: الحر بن يزيد الرياحي.

في المقابل، الحر بن يزيد في زهاء ألف فارس أقبل وحاصر الحسين، كلما أراد الحسين أن يصرف الفرس إلى جهة يقف أمامه، لا أدعك يا أبا عبد الله تنصرف حتى آتي بك إلى الأمير.. ”ثكلتك أمك يا حر! الموت أدنى إليك من ذلك“، لكن عندما استعر الموت، وقامت الحرب على قدم وساق. التفت الحر إلى ابن سعد، قال: يا بن سعد، أمصر أنت على قتال هؤلاء؟ قال: نعم قتالًا أهونه أن تسقط الرؤوس وتُقْطَع الأيدي. فارتعش الحر بن يزيد، وارتج بدنه، قال له أحد أصحابه: يا حر، لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، أنت أشجعهم، فلماذا ترتعش من القتال؟! قال: والله أخيّر نفسي بين الجنة والنار. أنا متردد، ثم قويت الإرادة والعزم عنده والصمود، قال: والله لا أختار على الجنة شيئًا أبدًا، وجاء يحبو على قدميه حتى سقط على قدمي الحسين.

نماذج أخرى لقوة الإرادة:

الإرادة التي تعلموها من الرسول الذي قال: ”لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه“، الإرادة التي بذرها الإمام أمير المؤمنين في أصحابه.

الحجاج بن يوسف الثقفي في زمانه قال: ألا يوجد شخص من أصحاب علي بن أبي طالب نتقرب إلى الله بدمه؟ قالوا: بلى، قمبر مولاه أقرب الناس إليه وأقدم أصحابه. أحضروا قمبر، قال له: أنت قمبر؟ قال: نعم. أنت أبو همدان؟ قال: نعم. أنت مولى علي بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي وعلي أمير المؤمنين ولي نعمتي. قال: يا هذا ابرأ من دين صاحبك، قال: إذا تبرأت منه هل تدلني على دينٍ غيره أفضل منه؟! قال: يا هذا، اعلم أنك مقتول، فأي قتلة تحب؟ قال: تركتُ ذلك لك، قال: لم؟ قال: لأني أعلم أنك كلما قتلتني بقتلة قتلك الله بمثلها! ولقد قال لي أمير المؤمنين أني أُذْبَح ظلمًا بغير حق. قال: إذن خذوه فاذبحوه، فأخذوه وذبحوه.

هذا ما الذي جعله يسير على الطريق، وقد كان بإمكانه أن يتنازل ويقول: تبرأت من دين علي بن أبي طالب، ويخلّص نفسه وينجو؟! ما هو إلا الإرادة والصمود. زياد عندما أرسل على رشيد الهجري، رشيد الهجري من أصحاب أمير المؤمنين، أرسل إليه، أحضروه، قال: يا رشيد، ماذا قال لك صاحبك؟ الإمام علي قال لأصحابه، علّم كل واحد كيفية قتله، قال: ماذا قال لك صاحبك؟ قال: قال لي صاحبي أنني تُقْطَع يدي ورجلي وأُصْلَب. قال: والله لأكذّبنه! دعوه، خلوا سبيله، لا نريد قتله. فلما خرج رشيد لم يصبر زياد، صار يغلي ويغلي، قال: أرجعوه وافعلوا به ما قال صاحبه. أرجعوه، وقطعوا يده ورجليه ولسانه وهو حي، ثم صلبوه.

الإمام علي يلتفت إلى حجر بن عدي، يقول: يا حجر، كيف بك إذا دعيت إلى البراءة مني؟ قال: والله يا مولاي لو أقطّع بالسيف إربًا إربًا وتضرم النار وألقى فيها وأحرق ثم أنشر ثم أحرق ما تبرأت منك، قال: جزاكَ الله خيرًا يا حجر عن الإسلام وأهله. كل هذا إرادة وثبات على المبدأ.

وخير وأروع الأمثلة وأروع الشواهد على الإرادة والصمود والثبات على المبدأ قوله: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة؛ يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون“، ”ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا“، كل هذا انطلاق من الإرادة والصمود، ولذلك كان أصحاب الحسين كالحسين في إرادتهم وصمودهم، ناهيك عن سفير الحسين مسلم بن عقيل، صاحب هذه الليلة، الذي تجلت فيه التضحية والفداء والتفاني في سبيل الحسين وفي سبيل عقيدته ومبدئه.