حديث الثقلين جزء 5

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الرسول محمد : ”إني مخلِّفٌ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“

في الليلة السابقة ذكرنا مناقشة أبي زهرة لحديث الثقلين في كتابه الإمام الصادق، طبعًا هناك عدة مناقشات طرحها أبو زهرة في كتابه حول حديث الثقلين، المناقشة الأولى كانت في سند الحديث، وقد طرحناها في الليلة السابقة.

المناقشة الثانية في مضمون الحديث، يقول أبو زهرة: حديث الثقلين قال: ”إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي“، عندما قال: ”وعترتي أهل بيتي“ لم يبيّن لنا الرسول من هم أهل البيت، أهل البيت أبناء العباس بن عبد المطلب؟ يحتمل، أهل البيت أبناء الحسن؟ يحتمل، أهل البيت أبناء الحسين؟ يحتمل، حتى أبناء الحسين يحتمل أن أئمة الزيدية هم أهل البيت، يحتمل أن أئمة الإسماعيلية هم أهل البيت، يحتمل أن أئمة الكيسانية هم أهل البيت، فلماذا حصرتم أهل البيت في أبناء الحسين بالذات، وقلتم بأنهم التسعة المعصومون من ذرية الرسول فقط؟!

الرسول قال أهل البيت وسكت، ما بيّن أكثر من هذا، فكما يحتمل أن المراد بأهل البيت أبناء الحسن، يحتمل أبناء الحسين، يحتمل أبناء زيد بن علي، يحتمل أئمة الإسماعيلية الذين يقولون بإمامة إسماعيل بن الإمام الصادق، يحتمل أئمة الكيسانية الذين يقولون بإمامة محمد بن الحنفية، على كل حال فالاحتمالات كثيرة، فما الموجب لأن تعيّن الشيعة أئمة أهل البيت فقط وفقط هم علي والحسن والحسين والتسعة المعصومون من ذرية الحسين؟ لماذا؟ في الرد على هذه المناقشة أولًا نتعرض إلى ثلاثة أمور:

الأمر الأول: وضوح هوية أهل البيت وارتكازيتها عند الصحابة.

نسأل أبا زهرة: الرسول عندما قال: ”وعترتي أهل بيتي“، لماذا لم يسأل المسلمون والصحابة الذين سمعوا الحديث من هم أهل البيت؟! إذا كان الرسول قال لهم وعترتي أهل بيتي، كان المفروض عليهم، فيهم الصحابة وكبار وهم ممن يفهم، كان المفروض أن يلتفتوا كما التفت أبو زهرة، لماذا الصحابة غاب عنهم هذا الالتفات ولم يلتفتوا مثل التفات أبي زهرة وقالوا له: يا رسول الله، أنت تقول وأهل بيتي، فمن هم أهل بيتك: أبناء عمك العباس أم أبناء علي، أبناء الحسن أم أبناء الحسين؟ لماذا الصحابة لم يسألوا رسول الله هذا السؤال؟!

الصحابة لم يسألوا رسول الله هذا السؤال لأنهم يعرفون أهل البيت حق المعرفة، الصحابة يعرفون ما المراد بأهل البيت، لذلك لم يسألوا الرسول، لما علموا المراد والمقصود بلفظ أهل البيت لم يحتاجوا إلى سؤال الرسول عن هوية أهل البيت، هم يعرفونهم معرفة تامة، كيف لا يعرفهم الصحابة وأبو الحمراء - من جملة الصحابة - يروي عنه الدر المنثور أنه قال: حفظت على رسول الله ثمانية أشهر كل صلاة فجر يقف على باب بيت فاطمة ويقول: الصلاة الصلاة أهلَ البيت، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. كذلك يروي الدر المنثور عن ابن عباس قال: رأينا رسول الله تسعة أشهر يقف على باب بيت فاطمة عند صلاة الفجر ويقول: الصلاة الصلاة أهل البيت يرحمكم الله ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.

بعد أكثر من هذا القضية صارت واضحة، يوم المباهلة عندما خاطبه الله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ خرج الرسول بمن؟ صحيح مسلم يروي: خرج الرسول بعلي وفاطمة والحسن والحسين، ثم لما وقف في مقام الدعاء قال: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي“، القضية قضية حصر واضح، الجملة تفيد الحصر، أهل بيتي محصور في هؤلاء.

إذن، الصحابة إذا رأوا الرسول يقع على باب بيت فاطمة ويقول: هؤلاء أهل البيت، يخرج يوم المباهلة بفاطمة وعلي والحسن والحسين ويقول: اللهم هؤلاء أهل بيتي، ويكرر على مسامع الصحابة وعلى مسامع المسلمين أن أهل البيت هم بيت فاطمة، فإن الصحابة لا يحتاجون أن يسألوا الرسول: يا رسول الله، من هم أهل البيت الذين خلّفتهم علينا؟! ولا داعي إلى أن يأتي أبو زهرة بعد ألف سنة ويقول: ما بيّن الرسول ما هو المراد بأهل البيت، فيحتمل أن المراد أبناء العباس أو أبناء الحسن أو أبناء الحسين! وقد أوردنا في الليالي السابقة عن صحيح مسلم عن عائشة أن الرسول خرج وعليه مرط مرجّل وقال: إليَّ إليَّ فاطمة حسن حسين علي، فلما اجتمعوا إليه قال: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا“.

الأمر الثاني: كفاية تعيين أحد أهل البيت لتعيينهم جميعًا.

نحن لا نحتاج في تعيين أهل البيت إلا إلى تعيين واحد منهم، بمجرد أن الرسول يعيّن واحدًا من أهل البيت، يقول: هذا خليفتي، أو هذا من أهل بيتي، هو هذا المعيَّن بعد ذلك يعيّن من بعده ومن بعده يعيّن من بعده، نحتاج نحن من الرسول لتعيين واحد منهم، وطبعًا هذا موضع النزاع بين الشيعة وغيرهم، أن الخلافة بالنص أو بالانتخاب، أبناء الشيعة تقول: الخلافة بالنص، لماذا الخلافة بالنص؟ لأن الرسول الذي ضحى من أجل الدين، وقال: ”لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه“، ضحى وكُسِرَت رباعيته، وربط حجر المجاعة على بطنه، وجاهد في أحد وبدر وحنين، وتحمل المتاعب في سبيل الدعوة، لا يمكن أن يضيع الدين والدعوة من بعده دون أن ينصب خليفة يحفظ دينه ورسالته، فأين كل هذه الأتباع التي تحملها؟! الأتباع والمشاق والمصاعب التي خاضعها الرسول، كلها تذهب سدى، ويخلّف أمته سدى، دون أن ينصب لها إمامًا وحافظًا وقيّمًا على دينه ورسالته؟! لا يمكن.

الرسول أراد أن يخرج إلى غزوة تبوك فخلّف عليًا على المدينة، إذا خرج الرسول عن أهله خلّف واحدًا على أهله، ثم يخرج من الدنيا ولا يخلّف أحدًا؟! غير معقول. وقد ذكرنا في الليلة السابقة أن سنة الرسول كانت غير مدونة، وكانت مشتتة ومضيّعة، تحتاج إلى من يحفظها، تحتاج إلى من يتحملها، تحتاج إلى من يقوم بتفسيرها وتوضيحها، فلا بد للرسول أن ينصب علمًا هاديًا حافظًا لسنته وقائمًا على رسالته ومؤديًا للأمانة التي كلّفه الله بأدائها، فلذلك نحن نقول لا بد وأن تكون الخلافة بالنص، وفعلًا حصل النص، إما النص على علي بالخلافة، وإما النص على عصمة أمير المؤمنين .

أما النص على علي بالخلافة فكثير من النصوص، حديث المنزلة، وحديث الدار، وحديث الغدير الذي رواه أكثر أهل السنة، أن رسول الله وقف في غدير خم وقال: ”إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تركت فيكم ثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن ومؤمنة، ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: اللهم اشهد، ألا فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه أينما دار“.

هذا نص على علي بالخلافة، وهناك نص على علي بالعصمة، وطبيعي إذا ثبت أن عليًا معصوم ثبت أنه هو الخليفة؛ لأن المعصوم هو الحافظ للشريعة، وهو المأمون على الشريعة، وهو الضامن لتطبيق الشريعة وتنفيذها، فالمعصوم أولى بالخلافة من غيره. روى ابن حجر في صواعقه المحرقة عن الرسول أنه قال: ”علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار“. طبعًا هذا يدل على عصمة الإمام أمير المؤمنين . وحديث آخر رواه ابن حجر عن الرسول قال: ”يا عمار، إذا سلك عليٌ واديًا وسلك الناس واديًا غيره فاسلك مع علي ودع الناس؛ فإن عليًا لن يدخلك باب ردى ولن يخرجك عن باب هدى“.

الأمر الثالث: كيفية إدخال التسعة المعصومين في عنوان أهل البيت.

نحن بمقتضى النصوص التي أتيت بها علمنا بأن المراد بأهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين، لكن من أين نعلم أن التسعة المعصومين من ذرية الحسين داخلون في لفظ أهل البيت؟ لعله أبناء الحسن مثلًا، أو أبناء الحسين غير الأئمة، فمن أين نعلم أنهم التسعة المعصومون فقط؟ نقول: نعلم هذا من طريقين:

الطريق الأول: أحاديث الاثني عشر.

الأحاديث التي أوردتها كتب أهل السنة في عدد خلفاء الرسول ، عندنا أحاديث تنصّ على أسماء الأئمة واحدًا بعد واحد حتى في كتب أهل السنة، إذا تراجع كتاب ينابيع المودة - وهو من كتب أهل السنة - تجده يذكر حديثًا عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: ”يا علي، أنت وصيي وخليفتي من بعدي، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم محمد المهدي“. حديث وارد في كتاب ينابيع المودة، هذا من كتب أهل السنة.

نحن بغض النظر عن هذا نرجع إلى أحاديث ذكرت عدد خلفاء الرسول . ذكر صحيح البخاري عن جابر بن سمرة عن رسول الله أنه قال: ”يكون فيكم اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش“، وروى صحيح مسلم عن رسول الله : ”لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة ويكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش“، هذا حديث ثان. حديث ثالث: روى أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس أن رسول الله قال: ”خلّفت اثني عشر خليفة كعدة نقباء بني إسرائيل“، ماذا نستفيد من هذه الأحاديث الثلاثة؟

نستفيد منها ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن خلفاء الرسول اثنا عشر فقط، والأمر الثاني: أن كلهم من قريش، والأمر الثالث: أنهم منصوصٌ عليهم لا بالشورى؛ لأن الرسول قال: ”كعدة نقباء بني إسرائيل“، نقباء بني إسرائيل كان منصوص عليهم؛ لأن الله عز وجل يقول في القرآن: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا فنقباء بني إسرائيل كان منصوص عليهم من قِبَل الله عز وجل، وكذلك الاثنا عشر خليفة بعد الرسول يجب أن يكون منصوصًا عليهم من قِبَل الله ومن قِبَل رسوله، فعندنا ثلاثة فوائد استفدناها من هذه الأحاديث الثلاثة.

نأتي ونخاطب أبا زهرة: يا أبا زهرة، طبّق هذه الأحاديث على خلفاء الرسول، أخرج لنا اثني عشر خليفة وكلهم من قريش وفي نفس الوقت منصوص عليهم من قِبَل الرسول! هل الرسول كاذب فيما قال؟! أستغفر الله، هل الرسول ينطق عن الهوى فيما قال؟! أبدًا، ما دام الرسول يقول: اثنا عشر فقط، وكلهم من قريش، وكنقباء بني إسرائيل منصوص عليهم، فمن هم؟! خلفاء بني أمية أكثر من اثني عشر، خلفاء بني العباس أكثر من اثني عشر، الفاطميون أكثر من اثني عشر، إذا تعد الجميع أكثر من مئة خليفة، نحن نريد اثني عشر خليفة كلهم من خليفة ومنصوص عليهم، من هم؟!

ترى المفسرين من علماء السنة يتحيرون في تفسير الحديث، لا يردون الحديث لأنهم يعلمون أن الحديث صدر قطعًا عن الرسول، لا أحد يرد الحديث، وإنما يختلفون في تفسيره. تأتي إلى السيوطي، يقول: الأول والثاني والثالث والإمام علي والحسن ومعاوية وعبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز والمهدي من بني العباس والظاهر من بني العباس ومهدي آل محمد الذي يخرج آخر الزمان ومهديٌ آخر، ما هذا المهدي الآخر؟! هي القضية ترقيع؟! مهدي آخر!! نريد تفسيرًا واقعيًا، تفسيرًا صحيحًا للحديث، فلا ينطبق الحديث إلا على ما تقوله الشيعة الإمامية من اثني عشر إمامًا، كلهم من قريش، ومنصوص عليهم من قِبَل الرسول .

وهم الباقون إلى يوم القيامة، لأن الرسول صرّح: ”لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة ويكون اثنا عشر“، صرّح الرسول ببقاء الاثني عشر إلى يوم القيامة، وهذا لا ينطبق، بقاء الأئمة إلى يوم القيامة لا ينطبق إلا على أئمة الشيعة؛ لأن الشيعة هم الذين يعتقدون بأن إمامهم باقٍ منذ غيبته إلى أن يأذن الله بخروجه «عجل الله تعالى فرجه الشريف».

الطريق الثاني: التمسك بحديث الثقلين نفسه.

الطريق الثاني لإثبات إمامة الأئمة من أبناء الحسين وأنهم المقصودون بلفظ أهل البيت: نقول له: ارجع إلى حديث الثقلين، حديث الثقلين قال: ”فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض“، أي أن أهل البيت لا يفترقون عن القرآن طرفة عين أبدًا، دائمًا مع القرآن، هذا الوصف ينطبق على من؟ نريد جماعة لا يفترقون عن القرآن طرفة عين أبدًا، هذا الوصف ينطبق على من بعد الرسول؟ على من ينطبق هذا العنوان: نخبة لا يفترقون عن القرآن في جميع أعمالهم وحركاتهم وسكناتهم؟ نقول له: يا أبا زهرة، راجع التاريخ ثم حلّل، إذا تراجع التاريخ راجع كتب أهل السنة، راجع كتاب ابن طولون مؤرخ دمشق، كتابه الأئمة الاثنا عشر، يترجم الأئمة من الإمام علي إلى الإمام المهدي ترجمةً موسّعةً ومفصّلةً في حياتهم. راجع كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر، يترجم الأئمة واحدًا بعد واحد، من الإمام علي إلى المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف».

راجع تراجم هؤلاء واحكم بنفسك، هل تقرأ في هذه التراجم أن واحدًا من هؤلاء حضر عند مدرس؟! راجع تراجعهم، راجع تاريخ أهل البيت، أئمة الشيعة، هل تجد واحدًا من مؤرخي السنة أو الشيعة يقول بأن جعفر الصادق حضر عند مدرس؟! لا يوجد، أو أن الباقر حضر عند معلم؟! لا يوجد، أو أن الجواد درس عند مدرس؟! لا يوجد، أو أن الهادي اتصل برهبان أو بمسيح أو بيهود؟! لا يوجد، كل التاريخ شيعة وسنة لا يطرح بأن أحدًا من أئمة أهل البيت حضر عند مدرس قط ولا استفاد من معلم قط، بينما يذكر في تراجم غيرهم أساتذة أبي حنيفة، يذكر أساتذة الشافعي، يذكر أساتذة أحمد بن حنبل، يذكر أساتذة مالك، لماذا هؤلاء لم يحضروا عند أساتذة وهؤلاء حضروا عند أساتذة؟! لماذا؟!

لا أحد ينكر أن جعفر بن محمد كان أعلم الأمة، ولا أحد ينكر علم الباقر وعلم الكاظم وعلم الرضا وعلم الجواد، من جميع أبناء المسلمين، إذا كانوا علماء ولم يحضروا عند معلم فمن أين أخذوا علمهم؟! إذا هم تعترف بأنهم علماء فقهاء ألّموا بجميع العلوم والفنون، ومع ذلك تعترف بأن التاريخ لم يذكر أن أحدهم حضر عند مدرس، ولا حضر عند معلم، فمن أين أخذوا العلم؟! من أين أخذوا المعرفة؟! من أين استفادوها؟! أليس هذا دليلًا على الاتصال الروحي منهم واحدًا بعد آخر إلى أن تصل إلى رسول الله ؟! ثم تعال وحلّل التاريخ من خلال ثلاث زوايا:

الزاوية الأولى: موقف الجماهير من أهل البيت.

نحن نقول لك: أئمة الشيعة من بعد الحسين من السجاد إلى الإمام العسكري أئمة ادعوا أنهم معصومون ظاهرًا، كل الناس سمعت هذه الدعوى، ادعوا أنهم أئمة، ادعوا أنهم معصومون، ادعوا أنهم أعلم الناس، ادعوا أنهم أزهد الناس، ادعوا أنهم أتقى الناس، وتبعتهم جماهير من الأمة الإسلامية ودانت بإمامتهم، وهذه الجماهير فيهم فقهاء، وفيهم رواة، وفيهم قراء قرآن، وفيهم تابعين، وفيهم من يعرف الحق وأهله، كل هذه الجماهير والحشود التي اتبعت هؤلاء ما كان فيهم واحد يعرف أن هؤلاء كاذبون في دعواهم؟!

كل هذه الجماهير مغفلة، كل هذه الجماهير من الأمة التي اتبعت الأئمة من السجاد إلى العسكري، كلها مغفلة؟! كلها مضللة؟! كلها لا يوجد فيهم واحد عاقل يفكّر ويقول: الإمام السجاد لا يملك مثلًا عصمة، لا يملك علمًا، لا يملك معرفة، لا يملك زهدًا... إلخ، لماذا؟! لماذا اتبعتهم هذه الجماهير، وقالت بإمامتهم، وتحملت الأذى في سبيلهم؟! مع أن فيهم فقهاء وعلماء، هذا دليل على أنهم رأوا منهم صدق القول، وأنهم فعلًا أئمة معصومون، وأنهم فعلًا أعلم الناس وأتقى الناس.

الزاوية الثانية: موقف السلطات من أهل البيت.

تأتي إلى السلطة ذلك الوقت، السلطات التي سايرت الأئمة، كيف تعاملت السطات مع الأئمة؟ إذا إنسان يعارض السلطة بفكره، عنده تيار يعارض تيار السلطة، أو عنده فكر يعارض فكر السلطة، كيف تتعامل السلطة معه؟ إذا كان هذا الإنسان الذي يعارض السلطة بفكره جاهلًا، ولا يملك علمًا، ولا يملك معرفة، فلا تحتاج السلطة إلى أن تسجنه ولا أن تعذّبه ولا أن تعاقبه، وإنما تحضره وتفضحه أمام الناس، تحضر له علماء يختبرونه ويبيّنون للناس أنه جاهل ولا يملك علمًا ومعرفة، هذا هو الأسلوب المفروض.

إذا كانوا يعرفون بأن هؤلاء الأئمة جهلة - والعياذ بالله - وأنهم مدّعون كان المفروض على السلطات الأموية والسلطات العباسية ذلك الوقت أن تحضر فقهاء يختبرون الإمام السجاد، ويبيّنون للناس أن الإمام السجاد مدعٍ فقط، وإلا فليس عنده علم ولا معرفة ولا أي شيء. يحضرون من يختبر الإمام الصادق، يحضرون من يختبر الإمام الكاظم، وهكذا يختبرونهم كلهم، فيبيّنون للناس جهلهم وعدم معرفتهم. لماذا تركت السلطة هذا الأسلوب واستخدمت أسلوب آخر، أسلوب القمع، أسلوب السجن، أسلوب القتل، أسلوب المواجهة؟ لماذا استخدمت الأسلوب الآخر؟

السلطات الأموية والعباسية إنما التجأت إلى أسلوب المواجهة بالقمع والتعذيب والسجن لأنها عرفت حقًا أنهم صادقون في كلامهم، وأنهم فعلًا أئمة معصومون هداة، لو كانوا جهلة لبان للناس جهلهم، ولكنهم لأنهم صادقون فإنها لا تستطيع تضييع أوقاتها وتحضر علماء وفقهاء وبعد ذلك ينحرجون، ولذلك واجهتهم بهذا الأسلوب. فنحن عندما نراجع التاريخ، ونجد أسلوب السلطات التي تعاملت مع الأئمة، نجد أن الأسلوب يوحي بأن السلطات عرفت فعلًا أن الأئمة على الحق، وأنهم أئمة حقًا وهداة.

الزاوية الثالثة: ظاهرة صغر بعض الأئمة.

تعال، دع الكبار منهم، قل بأن جعفر بن محمد الصادق مثلًا عاش 68 سنة، فهذا رجل استطاع - باعتبار العمر الطويل الذي عاشه - أن يهذّب سلوكه، واستطاع أن يحتفظ بمقدار من العلم والمعرفة، كذلك الباقر، كذلك الحسين مثلًا، هؤلاء الكبار مثلًا افترض أنهم تعلموا وعرفوا، لكن ماذا تفعل بالصغار منهم؟! نفس كتب أهل السنة تروي أن الإمام الجواد تولى الإمامة وهو ابن ثمان سنوات، متى تعلم؟! متى عرف؟! متى تهذّب؟! متى تخلّق؟! ابن ثمان سنوات تُجْمِع عليه جماهير من الأمة، مع ما فيها من الفقهاء والعلماء والرواة وقرّاء القرآن، كلهم يجمعون على إمام طفل! جماهير من الأمة تجمع على إمامة طفل وتدين بإمامته وتسلّم له مقاليدها وأمورها، كل هذه الأمة مغفلة، لا تعرف أن هذا طفل لا علم عنده، لا معرفة عنده، لماذا اتبعته؟! السلطة العباسية آنذاك كرّمت الإمام الجواد، وقدّرت موقفه، لماذا؟! إذا كان طفلًا ومدعيًا للإمامة فليقولوا: يا ناس، هذا طفل، ليس عنده علم ولا معرفة، فتعالوا واختبروه واسألوه.

ثم تعال، الأئمة طبعًا ليسوا جماعة تستروا مثل أئمة الإسماعيلية، أئمة الإسماعيلية والزيدية وأئمة الفرق الباطنية تستروا بعقائدهم، ما أظهروا، بينما الأئمة أظهروا عقائدهم جهارًا، وصرّحوا بأفكارهم، وصرّحوا بنظرياتهم أمام الملأ العام، والكل علم بأفكارهم وبنظرياتهم، والسلطات علمت آنذاك، فليسوا جماعة تستروا حتى نقول بأن تسترهم دليلٌ على أنهم ضعفاء فلذلك تستروا، بل قد صرحوا بأفكارهم ونظرياتهم. ونحن نقول: السلطات ما اختبرتهم.. لا، السلطات اختبرتهم علمًا وخُلُقًا، فرأتهم المثل الأعلى، كيف اختبرتهم علمًا وخُلُقًا.

أما علمًا: نحن نذكر قصة واحدة، قصة الإمام الجواد. ابن حجر في صواعقه المحرقة يروي أن الإمام الجواد تقلّد الإمامة وهو ابن ثمان سنوات، هؤلاء العباسيون جاؤوا للمأمون، قالوا له: ابن ثمان سنوات يدعي الإمامة، ويقول: أنا إمام ومعصوم وأعلم الناس.. ما القضية؟! قال لهم المأمون: وهو كذلك، وإذا أنتم لا تصدقون القضية فاختبروه لتروا. فأتوا له بقاضي القضاة يحيى بن أكثم، وقد كان أفقه العلماء آنذاك، يحيى بن أكثم رأى أمامه طفلًا، أحضروه ليختبر طفلًا، فالتفت إليه، قال: يا محمد، أسألك عن مسألة؟ قال له: سل، قال له: يا محمد، ما تقول في محرم قتل صيدًا؟ التفت إليه الإمام الجواد، قال له: يا يحيى، قتله في حل أم في حرم؟ قتله في البيت أم في خارجه؟ قتله مصرًا أم نادمًا؟ قتله مباشرة أم متسبّبًا؟ قتله مكفّرًا عما قبل أم غير مكفّر؟ هذا المقتول من الطير أم من غيرها؟ من ذوات الظلف أم من غيرها؟ من صغار الطير أم من كبارها؟ من الأنعام أم من غيرها؟ في الليل كان ذلك أم من النهار؟ وصار يعدّد له الفروع والتخريجات، فوقف يحيى بن أكثم عند حده، قال له: لا أدري يا سيدي.

ابن ثمان سنوات، وهو أحرج قاضي القضاة، ودان العلماء بإمامته، هذا دليل على ماذا؟! يا أبا زهرة، ويا غير أبي زهرة، هذا دليل على ماذا؟! إذا تأملنا في تاريخ هؤلاء، وتأملنا في القضايا التي نقلها التاريخ عنهم، نجد أنها دليل واقعي على صدق إمامتهم، أين أئمة الزيدية؟! أين أئمة الإسماعيلية؟! ما نقل التاريخ هذه القضايا وهذه الأدلة والبراهين عن غير التسعة المعصومين من ذرية الحسين.

واختبرتهم السلطات أيضًا سلوكيًا وخلقيًا، فرأت أنهم من أحسن الناس خُلُقًا وسلوكًا، جسّدوا الرسالة في أعمالهم وأفعالهم، جمعوا ومزجوا بين النظرية وبين التطبيق، مزجوا بين القول وبين العمل، لا مجرد أقوال، الأئمة ما كانوا يصدرون أقوالًا وفتاوى فقط، بل كانوا يعملون ثم يقولون، كانوا يفعلون ثم يأمرون، كان هكذا أئمة أهل البيت . تعال إلى سيرة وشخصية علي بن أبي طالب ، يقول: ”ألا وإن لكل مأموم إمامًا يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا إنكم لا تقدرون على هذا، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد“، كان يعمل ثم يتكلم.

لما تولى الخلافة جاء له بعض الجماعة، قالوا له: أعطِ الزبير قليلًا من المال، أعطِ طلحة قليلًا من المال، فلان، فلان، الرؤساء، الوجوه، الولاة، اجذبهم إليك، أسكتهم بالمال، بعد أن تجذبهم ثم إذا تمكنت من السلطة احكم بالعدل، لكن أولًا ألن القلوب. قال: ”ويحكم! أتدريدونني أن أطلب النصر بالجور؟! لو كان مالي لسوّيت بينهم، فكيف والمال مال الله؟!“، إذا كان المال مال الله فكيف أتصرف فيه بغير إذن الله وأستميل به القلوب؟! الإمام أمير المؤمنين عمل ثم قال، ”علي مع الحق والحق مع علي“.

مرةً كان الإمام خارجًا مع رجل ذمي، صاحبه في الطريق، الإمام كان يريد أن يدخل الكوفة، وهذا الرجل الذمي كان يريد أن يدخل مكانًا آخر قريبًا من الكوفة، فلما وصل إلى مفترق الطرق مشى الذمّي في طريقه، أيضًا الإمام مشى معه في الطريق، التفت الذمي إلى الإمام، قال له: يا عبد الله، ألم تقل لي بأنك تريد أن تدخل الكوفة؟ قال: بلى، قال: فلماذا مشيت معي؟ قال: علمت ذلك، قال: إذا كنت تعلم فلماذا مشيتَ معي؟ قال: ”لأن من آداب الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبَه هُنَيْئَة من الطريق ثم ينفصل عنه، هكذا أدّبنا نبيّنا“، قال: أو نبيكم يقول هذا؟ قال: بلى. التفت الرجل إلى نفسه، ثم التفت إلى الإمام علي، قال: إني أُشْهِدُك أني على دينك، ثم جاء مع الإمام علي إلى الكوفة، وأسلم على يديه.

هذا حصل نتيجة العمل، الإمام علي ما اكتفى بالقول، افترض أن الإمام علي جلس مع هذا الذمي طوال الوقت مناقشة وتفنيد قضية المسيح وتفنيد... إلخ، لا يفيد القول، لا يفيد الكلام، العمل هو الذي يجدي، الإمام قام بهذا الخُلُق، قام بهذه الكيفية، قام بهذه المعاملة، جذب قلب هذا الذمي وأدخله في الإسلام ببركة عمله.

أهمية المزج بين القول والعمل:

من هنا ننطلق إلى نقطة مهمة في حياتنا، هذه النقطة أن ننمزج بين القول وبين العمل، وخصوصًا الداعية، الإنسان الذي يكون داعية إلى الدين، وداعية إلى الدعوة، يجب أن يمزج بين القول والعمل، حتى يكون عمله مؤكدًا لكلامه، وإلا إذا عمله معاكس لكلامه فسوف تتصوّر الناس أن هذه مجرد فكرة وخيال، لو كانت هذه نظرية قابلة للتطبيق لطبّقها صاحبُها قبل غيره، لكن بما أن صاحبها الذي يدعو إليها لا يطبقها، فإذن هذه مجرد نظرية وفكرة مرسومة فقط، وليست عملًا، لا تخرج إلى الواقع، لا تخرج إلى حيّز العمل.

وطبعًا لا أقصد بالداعية العالم الديني أو الخطيب فقط، أنا وأنت كلنا داعية، أنت أيضًا تدعو لدينك، أنت أيضًا تدعو إلى مذهبك، أنت أيضًا تدعو إلى مجالس الحسين، كل داعية يجب أن يمزج بين القول والعمل، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، الإنسان يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، الإمام أمير المؤمنين يقول: ”كل من نصب نفسه إمامًا للناس فليبدأ بتأديب نفسه“، الداعية يمزج بين القول والعمل، وعندنا أحاديث كثيرة في هذا الأمر.

نحن مثلًا نتكلم عن الزهد، ونتحدث عن الزهد في الدنيا، والزهّاد، وقصصهم، ودرجات الزهد عندهم، ونأنس بهذه القصص، لكن نجلس في أحسن القصور، وفي أحسن البيوت، بذلك الإسراف الزائد في الزينة وفي الرخام وفي أثاث البيت، أحسن فرشة وأحسن زل، وأحضره من ألمانيا، ومن المكان الفلاني، وأتحمل في سبيل أن أجلس على أحسن سرير، وأحسن كرسي، وأحسن بيت، وأحسن فرشة... إلخ، فأين هو الزهد الذي تتحدث عنه؟!

وأنا إذا أعرض مائدة الطعام أعرض مختلف الأصناف التي أقدر أن آكلها والتي لا أقدر أن آكلها، التي أحتاج إليها والتي لا أحتاج إليها، في سبيل أن أظهر ذلك الغنى وذاك الترف، وألبس مختلف الألبسة، وأشتري من الألبسة ما أحتاج له وما لا أحتاج له، ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أين ذهبت؟! أين الزهد؟! إذا تسأله: أين الزهد؟ يقول لك: الزهد عن الحرام لا عن الحلال، أنا أزهد عن المحرمات لا عن الأمور الحلال، الزهد لا يكون زهدًا عن الحلال.

نحن لم نقل أنك ترتكب محرمات، لا، تجلس في أحسن البيوت، وتلبس أحسن اللباس، هذا ليس حرامًا، ولكن نقول: أنت تتكلم عن الزهد، فعلى الأقل أظهر قليلًا من الزهد، تظهر على نعمتك وتظهر على أمورك ومتعلقاتك، أو لا تتحدث عن الزهد. أو يتكلم عن الصبر والصابرين وتحملهم وتجلّدهم، وإذا أصابته مصيبة أو قضية تراه أكثر الناس جزعًا، وأكثر الناس انهيارًا، تقول له: أين الصبر؟ يقول لك: أنا إنسان، والإنسان يتأثر، أنا كسائر الناس! أو يتكلم عن الخُلُق الرفيع والتواضع والرأفة واللين والشفقة، وتجده يعامل الناس بالكبرياء وبالعنف وبالقسوة وبالرد والشدة، تقول له: بابا، أين التواضع الذي تتحدث عنه؟ يقول لك: الموقف يقتضي ذلك، المواقف تقتضي أنني أواجه الناس، أواجه الآخرين بهذه المواجهة! وهكذا.

كلامنا من جهة وعملنا من جهة أخرى، إذا تعارض نطق الدين مع مصلحتي الشخصية فإن مصلحتي الشخصية هي المقدّمة، ولست مستعدًا أن أترك مصلحتي الشخصية في سبيل ما تتكلم به وفي سبيل ما تقوله. ”إذا رأيتم العالم محبًا لدنياه، فاتهموه على دينكم؛ فإن كل من أحبَّ شيئًا يحوط ما أحب“، حديث وارد عن الإمام الصادق . الداعية يجب أن يكون شيءٌ من قوله في عمله، شيء على الأقل، لا نقول كل قول لا بد أن يصبح في عمله، شيءٌ من عمله في قوله وفي أفعاله وحركاته وسكناته.

وتعال إلى المظاهر التي تجلّت في الأئمة ، مظاهر الواقع الرسالي الذي يمزج القول بالعمل، والنظرية بالتجسيد والتطبيق، ترى من جملة المظاهر القيام بالمستحبات، نحن الواجبات لا نقدر عليها، وأنت تأمرنا بالقيام بالمستحبات؟! ما هي المستحبات؟! نعم، تقوم بالمستحبات. إلى متى أنت تبقى بدون القيام بالمستحبات؟! يا فلان، يستحب قبل أن تدخل في الصلاة أن تؤذن وتقيم، يقول: والله ما عندي وقت أن أؤذن وأقيم ثم أدخل في الصلاة، لا يوجد وقت كافٍ، تعال الله أكبر وادخل في الصلاة وذلك كافٍ، الإنسان يفعل الواجبات ويكتفي بذلك! تعال يا فلان، بعد الصلاة يستحب لك التسبيحة، تسبيح الزهراء، ذكر الأئمة ، أن تسجد سجدة الشكر، تعفّر جبينك بالتراب الذي تسجد عليه، هذا يستحب. تسبيح الزهراء وذكر الأئمة يضيّع الوقت، وأنا على عجلة، وعندي عمل، لا أقدر! يا فلان، كذا من المكروهات، فرقعة الأصابع مثلًا في الصلاة مكروه. ما أقدر، أنا مضطر إلى فرقعة أصابعي!

لماذا نحن نتهاون بالمستحبات؟! صحيح أن المستحبات لا يجب فعلها، والمكروهات لا يجب تركها، ولكن المفروض أن نتعوّد على المستحبات؛ لأننا إذا تجرّأنا على ترك المستحبات وفعل المكروهات تجرّأنا على فعل الحرام، الإنسان الذي لا يبالي بمكروه ولا بمستحب بعد ذلك سوف تتولد عنه اللامبالاة، وتنمو وتتضاعف وتتزايد، إلى أن يصبح غير مبالٍ بفعل الحرام ولا بترك الواجب، لكن الإنسان إذا قاوم نفسه، وقاوم شهوته، وحاول أن يعوّدها على المستحبات، وعلى النافلة، حين ذلك يستطيع أن يبتعد عن عالم الحرام، ويستطيع أن يؤدي الواجبات على أتم تأدية، فالمفروض علينا القيام بالمستحبات؛ لكي نكون داعيةً لغيرنا، ”كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم، حتى يروا منكم الاجتهاد والصدق والورع“.

وكما ذكرنا، يجب علينا أن نمزج القول بالعمل، وأن ندعو غيرنا إلى ديننا بعملنا، إذا رأوا أعمالنا صالحةً، ورأوا أفعالنا صالحة، وماشية على خط الطريق المستقيم، اهتدوا إلى ديننا، وقالوا: لولا أن دينهم صالح لما كانت أخلاقهم وأعمالهم صالحة. وتعال إلى أئمة أهل البيت فهم المثل الأروع، والمثل الأعلى في تطبيق الأخلاق، وفي القيام بالوظائف على خير قيام. تعال إلى أئمة أهل البيت وأبناء أهل البيت، ليس فقط أهل البيت، أهل البيت أيضًا ربّوا أجيالًا وأفرادًا، وقدّموهم إلى الأمة كنماذج رائعة في الجمع بين القول والعمل، كنماذج خيّرة في الجمع بين النظرية وبين الفعل، قدّموا لنا أهل البيت نماذج رائعة.

هذه النماذج الرائعة، أبناء علي، أبناء الحسين، أبناء الحسن، كم ولدًا للحسن ضحّى يوم كربلاء، وكم ولدًا للحسين ضحّى يوم كربلاء، وكم ولدًا لمسلم، وكم ولدًا لعبد الله بن جعفر؟ كل هؤلاء كانت نماذج خيّرة أثبتت المزج بين القول والعمل، وأثبتت الواقع الرسالي الذي أراده الله. وخير النماذج يوم الطف أبو الفضل العباس، خير النماذج صاحب هذه الليلة، ساقي عطاشى كربلاء، حامل لواء الحسين، ذلك الفارس العظيم، لاحظ إيثاره وتساميه في عالم الروحانية، وفي عالم القرب من الله، تسامٍ في عالم المعنى لا في عالم المادة تجلّى في شخصية أبي الفضل العباس .