حديث الثقلين جزء 8

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الرسول محمد : ”إني مخلِّفٌ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، وقد أنبأني اللطيف الخبير بأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فنظروا كيف تخلّفونني فيهما“

ما زلنا نتحدث حول مضامين حديث الثقلين، هذا الحديث المتواتر بين المسلمين. نقف الليلة عند بعض ألفاظ الحديث وحروفه لنستفيد منها بعض المعاني وبعض المداليل التي تساعدنا على الاستدلال على ثبوت بعض المفاهيم الإسلامية.

من جملة فقرات الحديث: ”كتاب الله“.

هذه الكلمة نستفيد منها أن القرآن الكريم كان مجموعًا على عهد الرسول ، وليس كما يدّعي البعض، أن القرآن الكريم جُمِع بعد وفاة الرسول على يد بعض الخلفاء أو على يد بعض الأشخاص، وإنما نفس هذه اللفظة تدلنا على أن القرآن كان مجموعًا على عهد الرسول ، كيف؟ طبعًا فكرة جمع القرآن بعد رسول الله فكرة ليس لها برهانٌ صحيحٌ، وليس لها دليلٌ قويٌّ يُعْتَمَد عليه.

الناحية التاريخية:

أنت عندما تناقش فكرة جمع القرآن تجد بأنَّ هذه الفكرة لا تثبت لا تاريخيًا ولا عقليًا، لا العقل يقبل هذه الفكرة، ولا التاريخ يقبل هذه الفكرة. أما التاريخ: أنت عندما ترجع إلى روايات الجمع، البخاري يروي روايات جمع القرآن بعد وفاة الرسول، تلاحظ هذه الروايات، رواية عن زيد بن ثابت أن الخليفة الأول استدعاه، فجاء زيد بن ثابت، قال له بأن الخليفة الثاني يقول بأنَّ قرّاء القرآن قد ماتوا، قُتِل منهم سبعون في بئر معونة، وقُتِل منهم 400 في حرب اليمامة، فنخاف أن يضيع القرآن، وأن يختلف الناس فيه، وأنت شاب عاقل لا نتهمك على كتاب الله، فاجلس في المسجد، فإذا رأيت شاهدين يشهدان بآية أو سورة من كتاب الله فاكتبها، يقول زيد بن ثابت: فجلست في المسجد ومعي الخليفة الثاني، فكلما جاء شاهدان بسورة أو آية كتبناها وسجلناها حتى جُمِع المصحفُ الشريف.

رواية ثانية: عن أبي الدرداء أن الخليفة الثاني سأل الناس عن سورة من السور، أين السورة الفلانية؟ قالوا: ذهبت مع رجلٍ قُتِل في حرب اليمامة، فغضب الخليفة الثاني، وصعد المنبر، وقال: أيها الناس، يوشك أن تختلفوا في كتاب الله كما اختلفت الأمم التي قبلكم، وإني أرغب أن يُجْمَع كتابُ الله. فحثّ المسلمين على ذلك، فجاء زين بن ثابت مع بعض الصحابة وجمعوا القرآن على زمن الخليفة الثاني.

رواية ثالثة: عن حذيفة بن اليمان أن الخليفة الثالث لما غزا أرمينيا وأذربيجان، وانتشر الإسلام في أصقاع الأرض، دخل عليه حذيفة بن اليمان، قال: يا خليفة رسول الله، إن الناس ليختلفون في القرآن اختلافًا شديدًا، فاجمع أصحاب رسول الله، ولتجمعوا القرآن، حتى لا يحدث هذا الاختلاف، فاستجاب له الخليفة الثالث، وجمع الصحابة، وقرّروا جمع القرآن، فُجِمَع ثم وزّعه على الأمصار.

نحن عندما نلاحظ هذه الروايات الثلاث نجد أنها متناقضة، والتناقض بينها واضح، رواية تقول: الذي جمع القرآن الخليفة الأول، رواية تقول: الذي جمع القرآن الخليفة الثاني، رواية تقول: الذي جمع القرآن الخليفة الثالث، نحن نثبت على أي رواية، وندين بأي رواية؟! إذا كنا نقول بجمع القرآن بعد وفاة رسول الله فعلى أي رواية نستند وأي رواية نتبع، والروايات متناقضة؟!

ثانيًا: هذه الروايات تقابلها روايات أخرى يرويها البخاري نفسه وغيره، مثلًا: يروي البخاري عن قتادة أنه قال: جمع القرآن على عهد رسول الله أربعةٌ من الصحابة: أُبَيُّ بن كعب، وجابر بن عبد الله، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. هذه نفس الرواية تصرّح أن القرآن جُمِع على عهد الرسول، فكيف تقول تلك الروايات الثلاث بأن القرآن جُمِع بعد وفاة رسول الله؟! ويروي النسائي بسند صحيح عن ابن عمر أنه قال: جمعتُ القرآن في عهد رسول الله، وصرتُ أقرأ القرآن في الليلة الواحدة، فقال الرسول: ”لا تقرأه كلَّ ليلة، وإنما اقرأه كلَّ شهر“، هذه أيضًا رواية تصرّح بأن القرآن جُمِع على عهد رسول الله.

نحن عندما نقابل هذه الروايات بتلك الروايات نجد التضارب، أولًا تلك الروايات متناقضة في أنفسها، ثانيًا هذه الروايات تكذّب مدلولها، تكذّب مضمونها. فإذن، من الناحية التاريخية فكرة جمع القرآن ليست فكرة ثابتة، وليس عليها دليلٌ قويٌّ.

من الناحية العقلية:

نحن عندما نفكّر ونتأمّل، المسلمون كانوا ولعين بالكلام البليغ، أي قصيدة بليغة كان العرب مولعين بها، يكتبونها، ويسجّلونها، ويعلّقونها، وعلّقوا القصائد السبع على الكعبة المشرفة، مفتخرين بذلك، ومولعين بذلك، من عادة العرب وطبعهم والمسلمين الاهتمام بالكلام البليغ، بكتابته وحفظه ونشره، فكيف بكتاب الله عز وجل؟! كتاب الله الذي هو قمة البلاغة، الذي هو قمة الإبداع والإعجاز، يبقى مضيَّعًا في الصدور وعلى اللخاف والعسب والأوراق دون أن يُجْمَع في عهد الرسول؟! غير كتاب الله من قصائد العرب وأشعار العرب يُهْتَمُّ بهم وتُجْمَع وتُكْتَب، أما كتاب الله فيُتْرَك؟! غير معقول.

ثانيًا: الرسول حثّهم على ذلك، هو نفس الرسول كان يحث المسلمين على جمع القرآن وعلى كتابة القرآن، بل إنَّ قارئ القرآن كان له شأنٌ عظيمٌ بين المسلمين، يفتخرون به ويعظمونه، والرسول ذكر لهم الثواب الجزيل والأجر العظيم من الله عز وجل لمن يكتب القرآن ولمن يحفظ القرآن، فهذه الأحاديث التي نادى بها الرسول، وهذه الرعاية والاهتمام الشديد من الرسول، كل ذلك لم يساعد على جمع القرآن؟! مع أن القرآن نزل في غضون 23 سنة، 23 سنة ما كان بإمكان المسلمين أن يكتبوا القرآن ويجمعوه؟! 23 سنة ما كان بإمكان المسلمين أن يحفظوا كتاب الله بين الدفتين، حتى يحتاجوا بعد ذلك إلى أن يجمعوه من اللخاف والرقاع والعسب وما أشبه ذلك؟! ليس معقولًا.

ابن حجر والطبراني يرويان أنَّ أم ورقة.. أم ورقة امرأة كان الرسول يزورها، ولقد قالت لرسول الله يوم أن غزا معركة بدر: أحب أن أخرج معكم لأداوي جرحاكم وأمرّض مرضاكم لعل الله يهديني الشهادة، قال لها رسول الله : ”إنَّ الله مهدٍ لكِ الشهادة“، وكان يسمّيها بالشهيدة. ابن حجر يروي أن أم ورقة جمعت القرآن على عهد رسول الله ، وعرضته على الرسول ففرح الرسول بذلك.

إذا النساء كن يهتمن بجمع القرآن، فهل الرجال من الصحابة ما كان عندهم اهتمام؟! إذا جمعت امرأة القرآن على عهد الرسول، باقي الصحابة والملتزمين بسيرة الرسول ما كانت عندهم إرادة واندفاع نحو جمع القرآن؟! هذا غير معقول. إذن، إذا تأمّلنا في التاريخ نستفيد أن فكرة جمع القرآن بعد وفاة الرسول فكرة غير مقبولة، بل أن القرآن جُمِع على عهد رسول الله.

بل إننا نستفيد من نفس حديث الثقلين أنَّ القرآن جُمِع على عهد الرسول، نفس تعبير الرسول: ”كتاب الله“، نفس التعبير بالكتاب يفيدنا أنه شيءٌ مجموعٌ؛ لأن الكتاب لا يُطْلَق على الشيء المحفوظ في الصدور، أنا في صدري سورة، وأنت في صدرك سورة، والصدر الثالث فيه سورة، الأمر المحفوظ في الصدور لا يسمى كتابًا، العرب عندما يقولون كتاب فهو شيء مكتوب ومجموع بين الدفتين، وإلا لا يسمّى كتابًا، فالكتاب في لفظ العرب وفي استعمال العرب إنما يراد به الشيء المجموع المكتوب بين الدفتين، فالرسول جرى على إطلاقهم، قال: ”مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله“، أي: شيء مجموع موجود بين أيديكم، حاضر بين الدفتين، ترجعون إليه، وتستنيرون بأنواره وإرشاداته وهداياته، لا أنه شيءٌ سيُجْمَع موزّع في الرقاع واللخاف والعسب والصدور، لا، بل أمر مجموع بين الدفتين.

النقطة الثانية: ”ولقد أنبأني اللطيف الخبير بأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض“.

تعبير الرسول ليس تعبير إنسانٍ عادي، بل هو تعبير دقيق، "وقد أنبأني اللطيف الخبير، لماذا الرسول قال: اللطيف الخبير؟ هناك صفات كثيرة لله عز وجل، لماذا لم يقل الرسول: ولقد أنبأني العليم القدير، أو قال: ولقد أنبأني الرحمن الرحيم، أو قال: ولقد أنبأني العلي العظيم... مثلًا؟ لماذا قال: اللطيف الخبير؟ لماذا عبّر بهاتين الصفتين من صفات الله عز وجل؟

طبعًا واضح أن تعبير الرسول باللطف والخبرة في هذا المقام باعتبار أن المقام مقام الإمامة، ومقام الإمامة نابعٌ من قاعدة اللطف، هناك قاعدة عند المتكلمين تسمّى قاعدة اللطف، وهي تقريب العبد إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية، فمثلًا: ولدي طفل رأسه حار، إذا أمرته بشيء لا يطيعني، لكن إذا أعطيته نصف دينار أطاع! هذا إعطاؤه النصف دينار يقرّبه من طاعتي ويبعّده عن معصيتي، هذا يسمى لطفًا، فاللطف هو التقريب إلى الطاعة والإبعاد عن المعصية.

الله جلَّ وعلا عندما علم أن البشر.. صحيح هو أرسل لهم رسلًا وأنبياء، وكتب لهم نظامًا وتشريعًا، وأعطاهم عقلًا يميّزون به طريق الحق عن طريق الضلال، ولكن مع ذلك علم بأنَّ العباد تأسرهم شهوتهم، وتأسرهم غرائزهم، وتستقوي عليهم نوازعهم النفسية، تطغى عليهم غرائزهم وعواطفهم، فهؤلاء العباد يحتاجون إلى مقرِّب إلى الطاعة، يحتاجون إلى مبعِّد عن المعصية، لا بمجرد أن يعطيهم الله نظامًا وعقلًا فإنهم يطيعون ويبتعدون عن المعصية، هم بشر مأسورون للشهوات والغرائز والنوازع النفسية والنفس الأمّارة بالسوء، فالله لما علم أنَّ البشر محتاجون إلى ما يقرّبهم إلى الطاعة، ويبعدهم عن المعصية، بعث فيهم أنبياء وأئمة هداة.

النبي ما هو دوره؟ النظام موجود، والعقل موجود، النبي دوره أن يؤكّد على الطاعة ويحث على الطاعة ويحث على أضرار المعصية، حتى يقرّب العباد من الطاعة ويبعّدهم عن المعصية، فإذن إرسال النبي لطفٌ من الله عز وجل. كذلك الإمام، لأن الإمام امتدادٌ للنبي، لماذا الإمام منصوب؟ العباد أمامهم نظام، وأمامهم رسالة، وعندهم عقل، لكنه لما علم الله أنهم لا يندفعون نحو الطاعة إلا بإمام يكون بين أيديهم، يقيم الحدود والتعازير والقصاص، يؤدّب الظالم، يردعه، ينتصف للمظلوم، يحكم بين الناس، إذا تحققت السلطة الشرعية بين الناس قربوا من الطاعة وابتعدوا عن المعصية، فإذن نصب الإمام لطفٌ من الله عزّ وجلّ.

إذن نصب الإمام بين الناس يحتاج إلى لطف وخبرة، أي: يحتاج إلى أن الله يكون خبيرًا بأن العباد محتاجون إلى الإمام، فبعد أن يكون خبيرًا باحتياج العباد إلى الإمام من لطفه ورحمته ورأفته يبعث الإمام فيهم، أو ينصب الإمام عليهم، ”وقد أنبأني اللطيف والخبير بأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض“.

الفقرة الثالثة: ”فانظروا كيف تخلّفونني فيهما“.

أنا نصبت خليفتين: كتاب الله وعترتي، أنتم كيف ستتعاملون مع القرآن ومع العترة؟ الرسول يسأل الأمة عن كيفية التعامل مع أهل البيت ، مع كيفية التعامل مع القرآ، الكريم، كيف نتعامل مع أهل البيت؟ كما أن الرسول سألنا، قال: كيف تتعاملون معهم إلى يوم القيامة ”فانظروا كيف تخلّفونني فيهما“، نحن أيضًا نسأل أنفسنا: كيف نتعامل مع أهل البيت؟ كيف نتعامل مع هذه العترة الهادية التي نصبها الرسول خلفاء على الأمة؟

التعامل مع أهل البيت إنما يتم بالرجوع إلى تاريخهم ودراسة حياتهم، المفروض علينا أن ندرس حياة أهل البيت، وطبعًا دراسة حياة أهل البيت ضرورية نابعة من احتياجنا العقائدي واحتياجنا الفكري إلى ذلك، لأن هؤلاء أئمتنا، وهؤلاء قادتنا، إذا لم ندرس حياتهم، ولم ندرس تاريخهم، فعقيدتنا بهم تكون عقيدة مهلهلة، تكون عقيدة ضعيفة، لكن لتقوية عقيدتنا بهم ولتركيزها يجب علينا دراسة تاريخهم، وكذلك من الجانب الثقافي، والجانب الفكري، والجانب العملي.

نحن عندما ندرس تاريخ أهل البيت، وعندما ندرس حياة أهل البيت ، سيكون ذلك لنا ثروةً فكريةً وثقافيةً، وسيكون لنا واقعًا عمليًا، نقوم به، ونتحرك من خلاله، ونسير في إطاره ومضماره. ونحن نعلم أن أهل البيت كانوا امتدادًا للرسول، كانوا امتدادًا للرسالة؛ لأنهم كانوا قد حملوا على عاتقهم أكبر مهمة، وأخطر قضية، ألا وهي إيضاح المفاهيم الإسلامية على مضمونها الواقعي، على مدلولها الواقعي. طبعًا أنت تعلم أن السلطات آنذاك - في عهد الأئمة - السلطات الأموية والعباسية حاولت أن تغيّر المفاهيم الإسلامية رأسًا على عقب، وجمعت حولها مرتزقة من الأجراء أصحاب الأموال، أو الذين يندفعون نحو المادة، هؤلاء الأجراء والمرتزقة اجتمعوا حول السلطات آنذاك، وحاولوا أن يشوّهوا حقائق الإسلام، في سبيل إبقاء السلطة، وفي سبيل تثبيت أركانها، وتطويد أوتادها.

مثلًا: يقول لك: أطع ولي الأمر برًّا أو فاجرًا! كان ولي الأمر عادلًا، كان ولي الأمر بارًا مطيعًا لله ورسوله، أو كان فاجرًا فاسقًا، أنت يجب عليك طاعته على كل حال، ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فجار أو أبرار، أطعهم وسر عليهم، وأي كلمة ضد ولي الأمر تعتبر شقًّا لعصا المسلمين، أنت تشق عصا المسلمين، وتثير فتنة، وتسفك دماء المسلمين؛ لأنك خرجت على ولي الأمر. وجاؤوا بالأحاديث الكثيرة في سبيل إعطاء القدسية لولي الأمر، سواء كان برًّا أو فاجرًا، ولذلك بعضهم تمسّك بهذه الأحاديث حتى بالنسبة لأهل البيت، شريح القاضي أفتى بجواز قتل الحسين ؛ لأنه شقَّ عصا المسلمين، وخارج على ولي الأمر! الحسين خارج على ولي الأمر، أما الذين خرجوا على الإمام علي فلم يخرجوا على ولي الأمر!

أو مثلًا حقائق أخرى، مثلًا: يقول لك: أي شيء يفعله الصحابي، أي شيء يفعله ولي الأمر فهو صحيح، لا يوجد خطأ أصلًا؛ لأنه مجتهدٌ، والمجتهد إن اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر، هو على كل حال حاصل على أجر، سواء أصاب أم أخطأ، ففلان الذي اجتهد ورأى أن حرب علي شيء شرعي حارب علي، خرج على علي وحاربه، لا تقل أخطأ، بل هو مجتهد له رأيه! فالذين حاربوا عليًا يثابون على حربهم لعلي، الرسول يصرّح: ”حربك حربي، وسلمك سلمي“، وأنت تقول: هؤلاء مأجورون، ويأتي يوم القيامة وقد أعطوا ثوابًا جزيلًا من الله على حربهم لعلي بن أبي طالب؛ لأنهم اجتهدوا، والمجتهد له أجر!!

وغيرها من هذه الأفكار والحقائق التي حاولوا أن يسجّلوها وحاولوا أن يشّوهوا الإسلام بها، بينما الأئمة وقفوا بالمرصاد، وقفوا خطًا مقابلًا لهذا الخط تمامًا، وقفوا بالمرصاد لإيضاح الحقائق الإسلامية على واقعها وعلى صورتها الواقعية، وهكذا جابهوا هؤلاء، وساروا على خط واحد، وعلى رسالة واحدة، ولذلك عاملتهم السلطات بألوان التعذيب والسجون والاضطهاد والقتل والتشريد؛ لأنهم حملوا فكرًا معارِضًا لفكر السلطة، لأنهم حملوا فكرًا واصلوه وساروا عليه وأصروا على إيضاحه ونشره بين الناس، وطبعًا تختلف الظروف التي عاشها الأئمة، ونتيجة لاختلاف الظروف اختلف الأسلوب في إبلاغ الحقائق الإسلامية.

أنت لا تقل: هناك تناقض بين موقف الحسن وموقف الحسين، أو بين موقف الحسين وموقف علي بن الحسين، أو بين موقف علي بن الحسين وموقف الصادق، لا، خط واحد، رسالة واحدة، هدفهم الأساسي والأول والأخير إبلاغ الحقائق الإسلامية على مضمونها الواقعي، لكن الظرف الذي عاشه الحسن كان يقتضي صلح معاوية، وصلح معاوية كان هو نداء الإسلام، وصلح معاوية كان هو المبلّغ لحقائق الإسلام على مضمونها الواقعي، فصالح الحسن معاوية من منطق الحكمة، ومن منطق العقل، ومن منطق التجربة وخبرة الأمور، صالح معاوية لأنه علم أن شرح حقائق الإسلام متوقفٌ على هذا الصلح، فصالح معاوية.

عندما جاء الظرف، وهيّأ الحسين لهذه الثورة، ولهذه النهضة، نهض وتكلم وصرخ، وكانت صرخته ونهضته وثورته هي إبلاغ الحقائق الإسلامية على مضمونها الواقعي. لما أتي وقت علي بن الحسين كان الظرف يقتضي الدعاء، كان الظرف يقتضي العبادة، كان الظرف يقتضي الابتهال، كان الظرف يقتضي التقرب إلى الله بهذه الصورة وبهذا الشكل، جاء الإمام علي بن الحسين، وسجّل لنا أروع الأدعية، وسجّل لنا أروع المفاهيم التي ضمّنها هذه الأدعية. أنت عندما تراجع الصحيفة السجادية تجد ثروة غنية بالمفاهيم الإسلامية على واقعها.

كما أن صرخة الحسين أعطتنا الإسلام وأجلت لنا الإسلام على واقعه، فكذلك الصحيفة السجادية أجلت المفاهيم الإسلامية على واقعها، وأوضحت المعارف الشرعية على واقعها، وجاء دور الإمامين الباقرين الصادقين «عليهما السلام»، جاء دور محمد وابنه جعفر، وكان دورهما نشر العلم والمعرفة، وهو نشرٌ للإسلام على واقعه، ابن الوشاء يقول: دخلت مسجد الكوفة وإذا 900 شيخ كل يقول: حدّثني جعفر بن محمد الصادق. فلا يوجد تناقض في مواقف الأئمة، لا يوجد تباين في مواقف الأئمة، هدف واحد، رسالة واحدة، تختلف الأساليب فقط في إبلاغ هذه الرسالة، تختلف الأساليب في أداء هذا الهدف.

الآن نأتي إلى الموقف الذي وقفه الحسين ، نأتي إلى شهيد هذه الليلة، شهيد عاشوراء، نأتي إلى موقف أبي الأحرار أبي عبد الله الحسين، لنرى أنه كيف سجّل ذلك المثل الأعلى في ثباته على مبدئه وعقيدته. طبعًا نهضة الحسين وثورة الحسين أمر معلوم من تاريخ الحسين ومن أقوال الحسين وأحاديث الحسين، فهمنا موقفه، وفهمنا هدفه، وفهمنا البواعث والعوامل التي ساعدت على أن يصرخ هذه الصرخة، وأن يقف هذا الموقف، ولكن نحن كيف نتعامل مع نهضة الحسين؟ كيف نتعامل مع قضية الحسين؟

طبعًا هناك أساليب متبعة عندنا، أساليب نمشي عليها، هذه المجالس الحسينية، الخطيب يصعد على المنبر مثلًا، يذكر قضية الحسين، يذكرها إما بأسلوب موضوعي، بطرح قضية الحسين، وتفصيل الأهداف التي ثار من أجلها الحسين، والأسباب التي دفعت الحسين إلى القيام بهذه النهضة، وإما أن يطرح القضية بأسلوب عاطفي، فيذكر صورًا رائعة فنية، يحاول أن يستجلب بها المشاعر، ويحرّك بها العواطف، نحو قضية الحسين، ونحو مظلومية الحسين.

كذلك نحن نتعامل مع قضية الحسين بالبكاء، بلطم الصدور مثلًا، بلبس السواد، بأن نشعر بأجواء الحزن والأسى في مثل هذه الأيام، هذا أسلوب متبع مشت عليه آباؤنا وأجدادنا. نحن لا نريد أن نقف موقف المهاجِم لهذا الأسلوب، نحن لا نريد أن نهاجم هذا الأسلوب، نقف موقف المهاجم والناقد نقدًا لاذعًا لهذا الأسلوب، لا نريد أن نقف هذا الموقف، وإنما نريد أن نقف موقف المستفيد من هذا الأسلوب، هذا أسلوب متّبع مشت عليه السيرة، مشى عليه العلماء والخطباء والشيعة منذ ذلك الزمان إلى هذا الزمان، أسلوب موجود، الآن نحن لا نريد تغيير الأسلوب، وإنما نريد أن نعرف كيف نستفيد من هذا الأسلوب، كيف ننتج من هذا الأسلوب، كيف نحرز العطاء من هذا الأسلوب، كيف نستغل هذا الأسلوب في سبيل فهم أهداف الحسين، وفي سبيل تجسيد أهداف الحسين.

هذا الأسلوب المتّبع له إيجابيات جبّارة عملاقة، ليست إيجابيات بسيطة، هذا الأسلوب الذي اتبعه علماؤنا وخطباؤنا من أول الزمان إلى الآن، أسلوب له فوائد جمة، فوائد عظيمة جدًا، له فوائد تربوية، هذا الأسلوب عندما يطلب منك - أنت الذي تحضر المأتم الحسيني - أن تعلن الاحتجاج الصارخ على أولئك الطغاة الذين تعدوا على الحسين وآل الحسين، على أولئك الظالمين الذين واجهوا تلك الصفوة الطاهرة بالأساليب الوحشية والهمجية، وقاموا بأشنع فاجعة، وقاموا بأشنع صورة، وبأشنع معركة في كربلاء المقدسة، أنت عندما يُطْلَب منك إعلان الاحتجاج، فما معنى هذا؟

هذا يعني ربطك بتاريخ التضحية والشهادة، لا ربطك بتاريخ الظلم والجور، نحن نستطيع ربطك بتاريخ بني أمية، نقول لك: ادرس تاريخ بني أمية من معاوية إلى آخر خليفة أموي، ماذا فعل؟ ما هي أعماله؟ ما هي مشاريعه؟ ما هي أياديه؟ وادرس تاريخ بني العباس من المهدي إلى آخر خليفة عباسي، ما هي مشاريعهم؟ وهذا هو تاريخ الدولة الإسلامية، وهذا هو التاريخ الإسلامي! لا، هذا ربطٌ بتاريخ الظلم والجور، هذا ربطٌ بتاريخ أولئك الذين شوّهوا حقائق الإسلام، وغيّروا مفاهيم الإسلام.

المأتم الحسيني، المجالس الحسينية، يريد أن يقول لك: ارتبط بتاريخ التضحية والشهادة، ارتبط بتاريخ الحسين وأبناء الحسين، ولا ترتبط بتاريخ آخر؛ لأنك إذا ارتبطت بهذا التاريخ صرت إنسانًا حرًّا يميّز طريق الحق عن طريق الضلال، وكما أنك تقف - أنت أيها الحسيني الحاضر لمأتم الحسين - أمام التاريخ، تقف موقف الناقد الحر، بدون أن تؤثر عليك أية قداسات مزيّفة، وأية صور مشوّهة، كذلك يُطْلَب منك كما تقف أمام التاريخ موقف الناقد تقف أمام الحاضر الذي تعيشه أيضًا موقف الناقد.

نحن عندما نربطك بتاريخ الحسين نقول لك: كما أنك تنتقد التاريخ، لك حق أن تنتقد واقعك الحاضر، واقعك المعاصر، ربطك بتاريخ الحسين، ربطك بقضية الحسين، يربّيك على أن تكون ناقدًا حرًّا لواقعك المعاصر، لحاضرك الذي تعيش في أجوائه وفي آفاقه. إذن، هذه الأساليب التي نتبعها لها فوائد تربوية، تعلّمنا كيف هي حرية الرأي، وكيف هي حرية النقد، وأن نقف موقفًا أمام التاريخ نفصح فيه إيجابياته وسلبياته، وبالتالي نتعلم كما أننا ننقد التاريخ ننقد أوضاعنا المعاصرة، ننقد أوضاعنا الحاضرة.

وله - هذا الأسلوب أيضًا - فوائد عملية، نحن عندما نريد أن نربطك بتاريخ الحسين لا ربطًا تاريخيًا ثقافيًا فقط، يعني أنا أستوعب قضايا كربلاء ومفاهيم كربلاء وانتهت القضية، وأقف أمام معركة كربلاء موقف الحزين المتألم الذي يذرف الدموع الساخنة على خديه، وأتأثر لأجل الحسين فقط وفقط.. لا، ربطك بتاريخ الحسين يعني أن تتحوّل تلك الصور التاريخية المشرقة بالنور وبالعطاء، أن تتحول واقعًا عمليًا تعيشه، أن تتجسّد في حركاتك وسكناتك، أن تتجسّد في أعمالك وأفعالك، هذا هو المطلوب.

إذن، هذا الأسلوب المتّبع نستطيع نحن أن نقف منه موقفًا عاطفيًا فقط، نقول: هذا الأسلوب أسلوب بكاء ولطم وحزن وانتهت القضية، ونجرّده عن معانيه الأساسية الحقيقية، نعتبره أسلوبًا أجوف خاليًا من المعنى، ونستطيع أن نستغله، ونحن نريد الأمر الثاني، كما أننا نستطيع أن نعتبره أسلوبًا عاطفيًا مجرّدًا عن كل معنى، كذلك نستطيع أن نستغله في سبيل فهم قضية الحسين، وفي سبيل الوصول إلى أهداف الحسين .

ولذلك، نحن نستطيع أن نمزج هذا البكاء، ونمزج هذا الحزن والأسى الذي يربطنا عاطفيًا بالحسين، والذي يمتد إلى أعماقنا وجوانحنا، ويجعلنا متفاعلين مع قضية الحسين تفاعلًا كبيرًا، تتربى عليه صغارنا، وتستمر عليه أطفالنا وأجيالنا، كذلك نستطيع أن نطرح قضية الحسين بالأسلوب الموضوعي الذي يبيّن أهداف الحسين، ويُبْلِغ صرخة الحسين إلى جميع المسامع، وإلى جميع الأذهان، من خلال الأشرطة، من خلال الكتب، من خلال المحاضرات، من خلال الخطب، من خلال الكلمات التي نطلقها ونتكلم بها، نستطيع أن نطرح قضية الحسين كما أرادها الحسين .

نحن في مثل هذه الليلة - ليلة عاشوراء - ليلة الصرخة، ليلة الدعوة، ليلة الكلمة الحرة، في مثل هذه الليلة، ونحن نتفاعل ونعيش أجواء الحسين، وآفاق الحسين ، من خلالها نستلهم الدرس الإسلامي الحقيقي، لنبلغه إلى أطفالنا وإلى أجيالنا، نعلّم أطفالنا على الحضور إلى مثل هذه المآتم، على الاستفادة من هذه المنابر، على المواظبة على هذه المجالس، لكي يعيش معهم الحسين كمبدأ، وكعقيدة، وكخط يسيرون عليه ويلتزمون به، لا فقط عاطفة جفواء، ولا فقط دموع ساخنة، وإنما هو مبدأ وعقيدة يعيش في ضمائرنا وضمائرهم، وجوانحنا وجوانحهم.