كلمة بمناسبة مولد الإمام الحسن (ع) - مالمو - السويد

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد عن النبي المصطفى أنه قال في حق الحسن والحسين: ”ابنا هذان إمامان قاما أو قعدا“، وورد عنه أنه قال: ”الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة“

صدق الرسول الكريم

عندما نريد أن نتناول هذه الشخصية العملاقة - الشخصية الحسنية - فنحن نتناولها من صفحتين من صفحاتها المشرقة: الصفحة السياسية، والصفحة الخلقية.

الصفحة الأولى: الصفحة السياسية.

الصفحة السياسية للإمام الحسن الزكي من أجلى معالمها وأوضح مصاديقها ما قام به الإمام الحسن الزكي من ترك الأمر لمعاوية بن أبي سفيان، وهذا ما أثار جدلًا وبحوثًا في أن الإمام المجتبى هل ترك الأمر لمعاوية خوفًا أو ترك الأمر لمعاوية تجنبًا للصراع أو أن هناك حكمةً يمكن أن تتجلى لنا من خلال قراءة التاريخ؟ عندما نريد أن نحلّل هذه النقطة بالذات - وهي أن الإمام الحسن بن علي ترك الأمر لمعاوية - فإننا ننطلق من الروايات التي وردت عن الإمام الحسن نفسه، من خلال الروايات الشريفة التي وردت عنه نستجلي منطلقين انطلق منهما الإمام الحسن في تركه الأمر لمعاوية.

المنطلق الأول: عزة منصب الإمامة وموقع الإمامة.

هذا المنطلق منطلقٌ مشتركٌ بين الحسن والحسين، الحسين انطلق من منطلق الحفاظ على عزة منصب الإمامة، والحسن نفسه انطلق من نفس المنطلق، وهو الحفاظ على عزة منصب الإمامة، الإمام الحسين أدرك أن بيعة يزيد بن معاوية من قِبَل سبط رسول الله إذلالٌ لمنصب الإمامة، ليس إذلالًا لشخص، ولا إذلالًا لعائلة، ولا إذلالًا لفرد، وإنما إذلال لمنصب الإمامة، ولهذا الموقع القدسي في نفوس المسلمين، فمن أجل الحفاظ على عزة منصب الإمامة، ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.

رفض الحسين بيعة يزيد بن معاوية مهما كلفه الرفض من ثمن، وقال: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وجذور طابت“، أي أن الحفاظ على عزة منصب الإمامة أمر متجذر في هذه العائلة وفي هذه الدوحة، وليس بدعًا من الحسين ، ”وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“.

نفس هذا المنطلق انطلق منه أخوه الحسن قبله، الإمام الحسن الزكي أدرك أنه لو خاض الحرب مع معاوية بن أبي سفيان لن تنتهي الحرب بشهادة الإمام الحسن، لن تنتهي الحرب بقتل الإمام الحسن، سوف تنتهي الحرب كما خطط لها الأمويون بأسر الإمام الحسن، كان هدف الأمويين أن يرى الحسن أسيرًا، كان هدفًا بذل في سبيله كل ما يريدون، اشتروا بعض الضمائر، أغروا بعض الشخصيات، في سبيل أن يروا الحسن أسيرًا مغللًا بالأقياد بين يدي معاوية بن أبي سفيان.

ولو حصل هذا الموقف لكان إذلالًا لمنصب الإمامة، لو كان هذا الفرض وهذه الصورة لكان إذلالًا لهذا الموقع القدسي، أن سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة وأولى الناس وصاحب المنصب الإلهي يقف أسيرًا مغللًا بين يدي معاوية بن أبي سفيان، ويمن عليه معاوية بالعفو؛ ليعيد الصورة التي حدثت يوم فتح مكة، حيث كان أبو سفيان وبنو أمية طلقاء لرسول الله ، فيصبح الحسن طليقًا لمعاوية بن أبي سفيان.

أراد الحسن تفويت هذه الفرصة على معاوية، وسد الأبواب أمامه؛ لكيلا يتوصل إلى هذه الصورة التي توقع موقع الإمامة في الذلة والانكسار، فقال: ”أما والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سرًا، فلئن أسالمه وأنا عزيز“ طبعًا ليس المقصود العزة الشخصية، بل العزة لموقع الإمامة، ومنصب الإمامة، ”فلئن أسالمه وأنا عزيز أحب إليَّ من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمن عليَّ بالعفو، فتكون سُبَّة على بني هاشم، لا يزال يمن بها معاوية هو وعقبه على الحي منا والميت“.

فالحسن انطلق من نفس منطلق الحسين، الحسين حفاظًا على عزة منصب الإمامة رفض بيعة يزيد، والحسن حفاظًا على عزة منصب الإمامة رفض أن يخوض الحرب مع معاوية بن أبي سفيان؛ لأنها لن تنتهي بشهادته، بل ستنتهي بأسره، وذلك إذلال لمنصب الإمامة.

المنطلق الثاني: إصلاح أمر الأمة وحقن دمائها.

المنطلق الثاني الذي انطلق منه الحسن الزكي هو ما عبّر عنه في الأحاديث الشريفة بإصلاح أمر الأمة وحقن دمائها، قال لحجر بن عدي الثائر الشهيد عندما سأله عن حكمة تركه الأمر لمعاوية، قال: ”إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية هو حقٌ لي تركته لإصلاح أمر الأمة وحقن دمائها“، وقال: ”والله لو كان مثلك عشرة لقاتلت بالسيف قدمًا“.

الإمام الحسن الزكي في هذا التعبير ما قال لحقن الدماء فقط، بل لمجموع أمرين: إصلاح أمر الأمة وحقن دمائها، فلم يكن حقن الدماء هدفًا مستقلًا، بل كان الهدف هو المجموع من الأمرين، إصلاح أمر الأمة وحقن دمائها، والمقصود من هذا الحديث الشريف أن الإمام الحسن الزكي يريد أن يشير إلى أن الأمة التي جرّبت عدل أمير المؤمنين، والحكومة العادلة - حكومة الإنسان - لأمير المؤمنين علي تحتاج إلى أن تعيش دروسًا من المعاناة والصبر مع معاوية بن أبي سفيان؛ كي تسترد إرادتها، وكي تستيقظ عزيمتها، وكي تسترجع عقليتها مرة أخرى، لتمتلك إرادة التغيير عن قناعة واختيار.

الأمة الإسلامية عاشت الحكومة العلوية العادلة، لكنها لم تنصهر مع هذه الحكومة العادلة، والحكومة العادلة لعلي لم تستقر، خمس سنوات إلا أشهر عاشت اضطرابًا وغليانًا في الأوضاع والظروف، لم تستقر الحكومة العلوية، كانت الناس تحتاج إلى أن تتأمل، تحتاج إلى أن تراجع أوراقها، تحتاج إلى أن تراجع نفسياتها وظروفها، كانت الأمة فاقدة للإرادة، فهي تحتاج إلى ظروف صعبة تستعيد فيها إرادتها، تستعيد فيها عزيمتها، تستعيد فيها قوتها في مجال رفض الظلم والطغيان.

الإمام الحسن الزكي قال: لا يمكن إصلاح أمر الأمة بأن أخوض حربًا مع معاوية، لو خضت حربًا مع معاوية فإن الأمة قد تعتبر القتال والصراع صراعًا بين شخصين على كرسي أو منصب، لكن حتى تقتنع الأمة بأن هذه الدولة الأموية دولة الظلم والطغيان لا بد أن تمر بفترة من عهد معاوية؛ لتذوق ظلمه، وتذوق جوره، وتذوق سلطانه، وبعد ذلك تمتلك إرادة التغيير عن قناعة واختيار، فتكون الأرض مهيّأةً ومعدّةً لثورةٍ أخرى على الظلم والطغيان، ألا وهي ثورة الإمام الحسين .

فلذلك كان ترك الحسن للأمر لمعاوية تمهيدًا لثورة الحسين ، وإعدادًا للأرضية من أجل ثورة الحسين ، لو ثار الحسين بعد مقتل أبيه أمير المؤمنين ما كانت الثورة ناجحة، لو كانت هناك أي حرب خاضها الهاشميون بعد مقتل أمير المؤمنين لن تكون ناجحة؛ لأن النفوس كانت مريضة، وكانت الظروف متشنجة، وكان الوضع بحدٍ تعدّ أي حرب صراعًا بين شخصين على الكراسي والمناصب، فكان لا بد من امتحان وابتلاء تمر به الأمة، وتجربة مريرة تمر بها الأمة، وهي تجربة حكم معاوية، لتستعيد الإرادة، وهي إرادة النصرة لخط آل البيت .

فلذلك قال الحسن الزكي: ”إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية هو حقٌ لي تركته لإصلاح أمر الأمة“ أي: لكي تستعيد الأمة صلاحها، وصلاحها بقوة إرادتها، وقوة إرادتها بأن تمر هذه التجربة المريرة، وهي تجربة حكم معاوية بن أبي سفيان، لتعرف بالمقارنة بين الحكومة العلوية والحكومة الأموية أنها لا بد أن تقف مع خط أهل البيت، خط رفض الظلم والطغيان، وإعادة الموقعية لمنصب الإمامة، المنصوص عليه من قبل الله عز وجل.

وإلا، فالإمام الحسن الزكي لم يدع الأمر خوفًا وجبنًا، وهو الذي كان يصدع بالحق أمام معاوية من دون تردد، كتب معاوية بن أبي سفيان إلى الإمام الحسن الزكي: ”أنا خيرٌ منك؛ لأن الناس أجمعت عليَّ ولم تجمع عليك“، فكتب إليه الإمام الحسن الزكي : ”إن الذين أجمعوا عليك بين مكره ومطيع، فأما المكره فهو معذور في كتاب الله، وأما المطيع فهو عاصٍ لله، وأنا لا أقول أنا خير منك؛ لأنه لا خير فيك؛ فلقد برّأني الله من الرذائل كما برّأك من الفضائل“.

هذا المنطق لا يصدر من شخص جبان، ولا يصدر من شخص خائف، ولا يصدر من شخص يترصد فرص أن يفوز بلقلب أو بمنصب أو بكرسي، إنما صدر من شخص مبدئي مصر على مبادئه وقيمه وفضائله، لذلك ترك الأمر لمعاوية من منطق الحكمة، ومن منطق الإعداد والتخطيط لتلك الثورة المباركة، ثورة الحسين بن علي ، فلأجل ذلك كانت ثورة الحسين ثورةً حسنيةً قبل أن تكون ثورةً حسينيةً.

الصفحة الثانية: الصفحة الخلقية.

بمجرد أن يقرأ الإنسان شخصية الحسن الزكي يتبادر لذهنه خصلتان: حليم آل البيت، كريم آل البيت. كان في الحلم أروع مثل، وفي الكرم أروع مثل. الحلم والكرم ليسا خلقين مستقلين، هما يرجعان إلى خلق واحد، الحلم والكرم يرجعان إلى محور واحد، ومبدأ واحد، ألا وهو إرادة السيطرة على النفس ونزواتها، من سيطر على نفسه كان حليمًا، من سيطر على نفسه كان كريمًا لا محالة، هذان الخلقان يرجعان إلى محور واحد، ومبدأ واحد.

النفس التي تختزن الشهوة، وتختزن الغرائز، وتختزن الميول، هذه النفس البشرية لأنها تختزن الميول والشهوات والغرائز، من أجل ذلك هذه النفس تغضب لأي إثارة، لماذا النفس تغضب للإثارة؟ لأنها تريد أن تحافظ على إنيتها، تريد أن تحافظ على شخصيتها، إنما يغضب الإنسان إذا أثير انطلاقًا من الحفاظ على إنيته وشخصيته، فالغضب ينطلق من حب النفس، والغضب ينطلق من انقياد النفس لإنيتها وشخصيتها. وكذلك الكرم، لماذا يصبح الإنسان بخيلًا؟ البخل ناشئ عن الحرص على الحياة، الحرص على الثروة، الحرص على حب الذات، البخل والغضب منطلقهما واحد، البخل والغضب محورهما حب النفس، والدوران حول النفس، والتقوقع حول النفس.

وفي مقابلهما: الحلم والكرم منطلقهما واحد، وهو السيطرة على النفس وغرائزها وشهواتها، من سيطر على نفسه وامتلك الإرادة الصامدة أمام غرائزه وشهواته كان مسيطرًا على أعصابه وانفعالاته، كان حليمًا، من سيطر على نفسه ضحى بما عنده، لأنه لا يرى المال ولا الجاه ولا المنصب إلا وسيلة للوصول إلى رضا الله وليس غاية، من أجل ذلك كان الحلم والكرم نابعين من منبع واحد، فتجليا في شخصية الإمام الحسن الزكي .

الإمام الحسن رآه رجل شامي، فسأل: من هذا؟ قيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فشتمه وشتم أباه، ولم استكمل سبابه التفت إليه الإمام الحسن، قال: ”يا هذا، أظنك غريبًا، ولعلك اشتبهت فينا، فإن كنت طريدًا آويناك، وإن كنت جائعًا أشبعناك، وإن كنت فقيرًا أغنياك، فهلّا حوّلت رحلك إلينا، ونزلت ضيفًا علينا، فإن لنا منزلًا رحبًا، وجاهًا عريضًا، ومالًا وفيرًا“، فما تمالك الرجل حتى انقاد إليه، وأخذه ضيفًا معه، إلى أن أصبح ذلك الرجل من المعترفين والمقرين بإمامة الحسن الزكي ، قبّل يده وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته فيكم أهل بيت النبوة.

الإمام الحسن الزكي كان يأتيه السائلون فلا يرد أحدًا، وكان يقاسم ربَّه أمواله في حياته ثلاث مرات، حتى لقد كان يمسك نعلًا ويتصدق بالنعل الآخر، جاءه سائل، طرق باب بيته، قال:

لم  يخب  الآن  من  iiرجاك
أنت   جواد   وأنت   iiمعتمد
لولا  الذي  كان من iiأوائلكم

 
ومن حرك دون بابك الحلقة
أبوك  قد  كان قاتل iiالفسقة
كانت علينا السماء iiمنطبقة

الإمام الحسن الزكي أخرج له صرة الدراهم والدنانير من وراء الباب، قال: أستحي أن أرى ذل السؤال على وجهه، وأعطاه إياها، وقال:

خذها    فإني   إليك   iiمعتذر
لو كان في سيرنا الغداة غطًى
لكن   ريب  الزمان  ذو  غيرٍ

 
واعلم  بأني  عليك  ذو شفقة
كانت   سمانا  عليك  iiمندفقة
والكف   مني   قليلة   iiالنفقة

الإمام الحسن الزكي لم يكن مسرفًا في كرمه، ولم يكن كرمه مجرد طبع كما كان حاتم الطائي كريمًا بطبعه، بل كرم الحسن كان عملًا هادفًا، يصدر من الحسن ضمن أهداف معينة، وضمن منظور معين، لم يكن الكرم إضاعةً للثروة، ولم يكن طبعًا تحلى به الحسن، بل كان الكرم عملًا توعويًا هادفًا، يصدر من الحسن عن تخطيط واختيار، كما كان حلمه ، لم يكن حلمه جبنًا ولا خوفًا ولا سكوتًا عن الحق، بل كان يضع حلمه في الموضع المناسب، فكان يحلم في المواضع التي يترتب على حلمه فيها إنقاذ شخص مغرر به، أو تهدئة صخب، أو معالجة أزمة معينة، حلمه وكرمه فعلان واعيان هادفان صادران عن محور واحد، وهو الإرادة الهادفة، والتخطيط الهادف، هكذا كان الإمام الحسن الزكي .