كيف يحمينا الإمام الزكي من الانحراف الخلقي؟

كلمة بمناسبة مولد الإمام الحسن (ع)

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ

صدق الله العلي العظيم

إنَّ هذه الآية المباركة ترشدنا إلى أنَّ المقياس والميزان في أهلية الإنسان للإمامة هو ملكة الصبر، وإنما يكون الميزان في الإمامة هو ملكة الصبر باعتبار أن الصبر يحتاج إلى قوة الإرادة، فمن لم يمتلك إرادة صارمة، ومن لم يمتلك قوة نفسية صامدة، لا يمكنه أن يمتلك صبرًا، الصبر على الطاعة يحتاج إلى إرادة صلبة، والصبر على البعد عن المعصية يحتاج إلى إرادة صلبة، والصبر على خوض الحياة بمصاعبها، بمآسيها، بأزماتها، يحتاج إلى إرادة شامخة. إذن، تتلخص شخصية الإنسان في الصبر وقوة الإرادة، ولذلك قال عز وجل: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، أي: إذا أردت أن تكتشف أنك شخصية ذات عزم وصلابة فاختبر نفسك عند طرو المصيبة، هل أنت صابر أم لا.

ميزان شخصية الإنسان التي بها يتميز على غيره من أبناء البشر أن يكون إنسانًا صاحب إرادة، شخصيتك بقوة إرادتك، إرادتك هي التي تجعل منك إنسانًا مستقيمًا، وضعف إرادتك واسترسالك وراء غريزتك يجعل منك إنسانًا منحرفًا، إنسانًا ضعيفًا، قوة الإرادة هي الميزان، قوة الإرادة هي التي تحدث عنها القرآن الكريم عندما يقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى، نهي النفس عن الهوى يحتاج إلى إرادة، من لم يمتلك إرادة يسترسل مع نفسه، مع شهواته، مع غرائزه، مع ميوله النفسية، مع الإغراءات والإثارات، ولذلك ليس هذا الشخص ذا شخصية، ليس ذا رجولة تامة؛ لأنه مسترسل وراء شهواته وغرائزه، أما الشخص الذي يمتلك إرادة، والذي يستطيع أن يقف أمام غرائزه وشهواته وأن يقول: لا، فهو الذي ينهى النفس عن الهوى، ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى.

الإرادة هي الميزان في شخصيتك، أن تكون ذا خلق عالٍ تحتاج إلى إرادة، أن تكون إنسانًا عابدًا تحتاج إلى إرادة، أن تكون إنسانًا نشيطًا في القضايا الاجتماعية تحتاج إلى إرادة، إذن أي باب من أبواب الشخصية تطرقه فإنه يحتاج إلى إرادة وصبر، ولأن الإرادة والصبر ميزان الشخصية لذلك جعل القرآن الكريم الصبر ميزان الإمامة أيضًا، لأن الصبر والإرادة ميزان شخصية الإنسان - كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“ - ماذا تحسن؟ هل تحسن أن تكون إنسانًا طبيبًا؟ هل تحسن أن تكون إنسانًا فقيهًا؟ هل تحسن أن تكون إنسانًا نشيطًا اجتماعيًا؟ هل تحسن أن تكون إنسانًا صاحب خلق؟ لا يمكنك أن تحسن شيئًا إلا إذا أردت امتلك إرادة.

قوة الشخصية بالإرادة، لذلك منصب الإمامة أيضًا أنيط بقوة الإرادة، وبالصبر، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا لأنهم امتلكوا قوة الإرادة فامتلكوا أهلية الإمامة وكفاءة الإمامة، ولذلك ورد في زيارة السيدة الزهراء : ”يا ممتحة امتحنك الله قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة“، الصبر، قوة الإرادة، هو الذي جعل من السيدة الزهراء التقية النقية الرضية المرضية الزكية الزاكية، وهو الذي جعل من الأئمة أئمةً. إذن، الله جعلهم أئمة، وحباهم العلم والعصمة؛ لأن الله علم أن هؤلاء أشد الناس صبرًا وأقواهم عزيمة وأصلبهم إرادة، لذلك لما علم الله بكفاءتهم قبل أن يخلقهم خلقهم وهم معطرون بنور الإمامة والعصمة.

كيف يحمينا الإمام الزكي من الانحراف الخلقي؟

لأنه يغذينا بسيرته، بتعاليمه، بقوة الإرادة. لا يمكن للإنسان أن يقف أمام الهوي والهبوط الخلقي إلا إذا امتلك إرادة صلبة، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، هل تمتلك إرادة تستطيع بها أن تصقل نفسيتك وأن تهذبها وأن تصلحها وأن تجعل منها نفسية مضيئة مشرقة؟ إذا استطعت أن تمتلك إرادة التغيير النفسي استطعت أن تمتلك إرادة التغيير الاجتماعي.

الإمام الحسن الزكي يؤكد من خلال سيرته على أن الشخصية تساوي الإرادة، الشخصية المستقيمة الخلقية هي الشخصية صاحبة الإرادة. الإمام الحسن الزكي لُقِّب بكريم أهل البيت وحليم أهل البيت، والكرم والحلم كلاهما فرعان لقوة الإرادة. البخيل لا يمتلك إرادة، الإنسان المتشبث بالأموال، الإنسان الغارق في حب الثروة، لا يمكنه أن يمتلك إرادة، لو امتلك إرادة لكان كريمًا، الكرم يحتاج إلى التضحية، الكرم تضيحة بالمال، تضحية بالوقت، تضيحة بالجهد، والتضحية تحتاج إلى إرادة، فالكرم فرعٌ من فروع الإرادة، فرعٌ من فروع الصبر.

الحلم أيضًا، الإنسان الغضوب لا يمتلك إرادة، الإنسان الذي تستطيع أن تهزه، وأن تثير شخصيته بكلمة نابية، هذا الإنسان ضعيف أمام نفسه، لا يمتلك إرادة، الإنسان الصلب هو الذي لا يغضب بسرعة، هو الذي لا يستجيب لإثارات النفس وانفعالاتها، الإنسان الحليم هو الإنسان صاحب الإرادة، فالكرم يحتاج إلى إرادة، الحلم يحتاج إلى إرادة، الخلق بصفة عامة يحتاج إلى إرادة، الإمام الحسن كريم آل البيت حليم آل البيت، أي أنه صاحب الإرادة التي سيطر بها على انفعالاته وميوله، فضحى بوقته وماله فأصبح كريمًا، وضبط أعصابه وانفعالاته فأصبح حليمًا.

جاءه شيخٌ من شيوخ العشائر يشتكي الفقر، بمجرد أن طرق الباب قال: أعطوه ما في الخزانة، قال: هلّا انتظرت مسألتي وعرفت حاجتي؟! قال:

نحن أناس نوالنا خضل = يرتع فيه الرجاء والأمل

تجود قبل السؤال أنفسنا = خوفًا على ماء وجه من يسل

لو علم البحر فضل نائلنا = لغاض جدبًا وإنه خجل

الإمام الحسن الزكي قاسم ربه ثلاث مرات في حياته، أي أنه تبرع بأمواله ثلاث مرات في حياته، حتى كان يمسك نعلًا ويتصدق بالنعل الآخر، يقسم كل ثروته نصفين: نصفًا للفقراء ونصفًا لعائلته، ثلاث مرات في حياته قاسم ربَّه أموالَه، هذه التضحية تحتاج إلى قوة إرادة.

الإمام الحسن الزكي رآه رجل شامي، قال: من هذا؟ قالوا: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، والشاميون معبّؤون من خلال الإعلام الأموي ضد آل البيت، فلحق الإمام وشتمه وشتم أباه، والإمام ساكت، إلى أن انتهى من سبابه وشتمه، التفت إليه ببسمته الجذّابة، التفت إليه بكلماته الهادئة، التفت إليه بتلك الطلاقة وذلك المحيا الرحب، قال: ”يا هذا، أظنك اشتبهت فينا. إن كنت طريدًا آويناك، إن كنت جائعًا أشبعناك، إن كنت عطشًا أرويناك. هلًا حوّلت رحلك إلينا، ونزلت ضيفًا علينا؛ فإن لنا منزلًا رحبًا، وجاهًا عريضًا، ومالًا وفيرًا“.

ما تمالك الرجل حتى أخذه الإمام، وأتى به إلى بيته وأكرمه، وحوّل منه من شخص ناصبي ينصب العداء لعلي وذريته، إلى شخص موال يعشق عليًا وذريته، عشق الفضيلة عندما تجسّدت في الحسن الزكي، وتجسّدت من خلال قوة الإرادة، التي ضبط بها انفعالاته، واستجاب لهذا النداء الوجداني في جذب هؤلاء الأشخاص إلى حظيرة التدين، وكان يقول : ”الغضب ضربٌ من الجنون، وذلك لأن صاحبه يندم، وإن لم يندم فجنونه مستحكم“، وورد عنه : ”إن لم تكن حليمًا فتحلّم“.

إذن، لنحمِ انحرافات أبنائنا وإخواننا بتثقيفهم بضرورة تقوية الإرادة، وتغذية الإرادة، فإنها الوسيلة الوحيدة لحماية الإنسان من الاسترسال وراء شهواته وغرائزه وميوله، نفعنا الله بالحسن بن علي، ورزقنا زيارته وشفاعته، والحمد لله رب العالمين.