مشاركة | احتفال ميلاد الإمام المجتبى

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد عن النبي محمد أنه قال: ”الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة“، وقال: ”ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا“

صدق الرسول الكريم

القيادة الناجحة الفاعلة تعتمد على أركان ثلاثة: الركن الأول هو كفاءة شخصية القائد، بأن يمتلك الخبرة والوعي والإرادة الصامدة، والركن الثاني: الرصيد الشعبي، والأتباع المخلصون الموالون لقيادته، حيث لا يمكن للشخص أو لجهة أن يقود مجتمعًا دون أن تكون هنالك أرضية اجتماعية متفاعلة مع قيادته، ومنسجمة مع رؤاه، والركن الثالث هو وجود الاستراتيجية الهادفة التي ترسم مراحل للحركة وأهدافًا واضحة للحركة، بحيث يقتنع بها الجمهور، ويمكنه أن يتفهمها ويتفاعل معها.

إذا عرفنا أن القيادة الفاعلة والناجحة تعتمد على هذه الأركان الثلاثة، فلو قمنا بدراسة مقارنة بين قيادة النبي وبين قيادة الأئمة من بعده، ونخص بالذكر الإمام عليًا والحسن؛ لأنهما هما الإمامان اللذان تزاحما الدولة الإسلامية بعد النبي . إذا قمنا بالمقارنة بين قيادة النبي وقيادة هذين الإمامين، ربما يقول قائل: سنجد البون شاسعًا، والفرق واضحًا بين القيادتين. قيادة النبي كان قيادة ناجحة، كان قيادة موفقة، كان قيادة أحرزت أهدافها وفاعليتها على المستويات الثلاثة: المستوى العسكري، المستوى السلمي، المستوى الاجتماعي.

على المستوى العسكري، نجد أن النبي انتصر في أغلب الغزوات التي خاضها، والتي قام بها أمام المشركين. وعلى المستوى السلمي، نجد أن النبي أيضًا انتصر في سلمه، عندما صالح قريشًا صلح الحديبية، صالحهم لكنه كان يخطط من ورائهم، صالحهم واغتنم فرصة الصلح ليعد العدة والعتاد، ويهيئ الأمة لكي يعدها للانتصار العسكري الحاسم، وهذا ما حصل بعد صلح الحديبية، عندما فتح مكة بذلك الجيش الهائل الذي أعدّه في فرصة الصلح والسلم بينه وبين قريش. إذن، انتصر في صلحه، وانتصر في سلمه أيضًا.

وعلى المجتمع الاجتماعي، نلاحظ أن قيادة النبي لم تولد أعداء، لم تولد اختلافات، النبي قاد الأمة بشكل واحد، لم يكن هناك أعداء له بين صفوف الأمة، لم يكن هناك مناوئون له بين صفوف الأمة، تسالمت الأمة تحت قيادته؛ لأنه كان يقوم بخطوات اجتماعية جذّابة. النبي وضع للمؤلفة قلوبهم سهمًا من الزكاة، كما ذكر القرآن الكريم، وهذا جذب طبقة من الناس إليه، وهم المؤلفة قلوبهم، النبي كان يصغي حتى للمنافقين الذين يثرثرون أمامه، ويحاولون وضع المكائد ووضع الخطط، لكنه كان يصغي لهم، ويظهر أنه يقبل كلامهم، وهذا ما جذبهم إليه، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ.

إذن، النبي على المستويات الثلاثة انتصر، النبي على المستوى العسكري انتصر، على مستوى السلم انتصر، على مستوى القيادة الاجتماعية انتصر، هذه الانتصارات على المستويات الثلاثة وفي خلال أحد عشر سنة عاشها في المدينة أقام الدولة الإسلامية، وسيطرت الدولة على الحجاز والمناطق الأخرى، هذه تكشف عن أن النبي كان قائدًا كفئًا، كان قائدًا محنكًا، كان قائدًا مظفرًا.

أما عندما نأتي لقيادة الإمام علي، وقيادة الإمام الحسن، نجد الأمر ليس كذلك. قيادة الإمام علي والحسن لم تنتصر، لا على المستوى العسكري، ولا على المستوى السلمي، ولا على المستوى الاجتماعي. عندما ننظر إلى قيادة الإمام علي والحسن نجد أنها لم تصل إلى مستوى قيادة النبي .

أما على المستوى العسكري: الإمام علي خاض حروبًا ثلاثة طاحنة انتصر في واحدة منها انتصارًا حاسمًا، وهي معركة الجمل، دون البقية، وأما على المستوى السلمي: الإمام الحسن صالح معاوية بن أبي سفيان، لكن لم تستغل فرصة الصلح لإعداد العدة والعتاد وتهيئة الجيش حتى ينقض مرة أخرى على معاوية، ويستلم الأمر منه، بل معاوية هو الذي استغل فرصة الصلح، وثبّت أركانه، ودخل العراق، وقال: كل شرط اشترطته مع الحسن فهو تحت قدميَّ هاتين.

وعلى المستوى الاجتماعي تعرّضت قيادة الإمام علي لمناوئين من الخوارج، من بعض الصحابة، تعرضت قيادة الإمام الحسن لمناوئين ومعارضين أشداء حتى في صفوف الشيعة والموالين للإمام الحسن ، الذين دخل بعضهم عليه، وقال: ليتك مت يا حسن ولم تبايع معاوية، لقد رجعوا مسرورين بما أحبوا، ورجعنا مرغمين بما كرهنا.

إذن، عندما نقارن بين قيادة النبي، ونجد الانتصار الواضح على جميع المستويات، وبين قيادة الإمامين علي والحسن، ونجد أنه لم يكن هناك انتصار لهذه القيادة في مختلف المستويات، عندما نقارن بين هاتين القيادتين تتولد عندنا شبهة، يتبادر إلى ذهننا سؤال: أليس هذا خللًا في القيادة؟ لو كانت القيادة تمتلك الخبرة والكفاءة والوعي والتخطيط لما انهزمت، لما أخفقت قيادة الإمامين الإمام علي والإمام الحسن «عليهما السلام»، ألا يكشف هذا عن خلل في القيادة، وأن القيادة لم تكن بالمستوى الذي كانت عليه في زمن النبي ؟

بعض الباحثين عندما يتحدث عن الإمام علي والحسن: الإمام علي كان منظِّرًا ولم يكن قائدًا، الإمام الحسن كان إمامًا لكنه لم يكن قائدًا، النبي كان قائدًا، الإمام علي والحسن كانا على مستوى التنظير وطرح المبادئ والإخلاص لها، كانا موفقين، ولكن على مستوى القيادة وإدارة المجتمع فليس الأمر كذلك. هل هذه هي الحقيقة: أن عليًا وابنه الحسن ما كانا قائدين، وإنما كانا منظرين وإمامين، بينما النبي هو الذي كان متصفًا بصفة القيادة، أم أن هناك أمرًا آخر وراء ذلك؟

نحن عندما نريد أن نجيب عن هذا التساؤل نقول: لم يكن هناك أي خلل في الشخصية القيادة للإمام علي والإمام الحسن الزكي «عليهما السلام»، إذن لماذا أخفقت المواقف في عصر الإمام علي وعصر الإمام الحسن «عليهما السلام»؟ هناك ثلاثة وجوه لا بد أن نتأمل فيها.

الوجه الأول: اختلاف الظرف واختلاف الأمة.

المجتمع في زمن النبي كان بصالح النبي، من حيث العامل الاقتصادي ومن حيث العامل الاجتماعي. في زمن النبي، قبل أن يبدأ النبي دعوته ويقيم دولته، كان المجتمع مضطهدًا اقتصاديًا من قبل قريش، كان الفقر مدقعًا، كان أغلب أبناء المجتمع يعيش حالة الفقر، جاء النبي ونادى بأن هناك اقتصادًا وثروةً طائلةً لا بد أن تصل إلى الطبقة الفقيرة، فرض الزكاة في الأنعام الثلاثة، فرض الزكاة في النقدين، فرض الزكاة في الغلات الأربع.

لما فرض الزكاة، وأخذ من ثروات الأغنياء، وسلمها للفقراء، صار العامل الاقتصادي بصالح النبي، فصار المجتمع مع النبي ، إلا بعض الأثرياء والأغنياء، أما الطبقة العامة من المجتمع وقفت مع النبي؛ لأن العامل الاقتصادي كان عاملًا مشجعًا، النبي أخذ ثروات الأغنياء وسلّمها للفقراء، النبي كان يقسّم غنائم الحروب على جنوده الفقراء، النبي كان يحث على الصدقة وتفقد بيوت المسلمين واحدًا واحدًا. إذن، العامل الاقتصادي صار بصالح النبي، التفت الفقراء حول النبي .

وكذلك العامل الاجتماعي: تعرفون أن زمان النبي قبل أن يقيم دولته كان هنالك أسياد وعبيد، النبي حرّر العبيد من العبودية، النبي جعل من أصحابه بلال بن رباح وعمار بن ياسر، إذن هذه الطبقة الملونة من المجتمع التفت مع النبي ؛ لأنه حرّرها من العبودية والرقية. العامل الاقتصادي والاجتماعي انضم مع النبي، فساهم في انجذاب المجتمع له، وفي التفاف المجتمع حوله، وهذا كان سببًا مهمًا في انتصار قيادته.

أما عهد الإمام علي فبالعكس، صار العامل الاقتصادي والاجتماعي على عكس التيار، على مسرى الإمام أمير المؤمنين ، وهذا ما ساهم في تولد أعداء مناوئين لقيادته. في عصر الخليفة الثالث فُتِحَت الثروات، وخزانة بيت مال المسلمين أصبحت بأيدي العرب، بأيدي قريش، صار المال والثراء بيد قريش وبيد الأمويين وبأيدي هذه الطبقة المتعالية، من الطبيعي أن هذه الطبقة التي عاشت عصر الخليفة الثالث، عاشت عشر سنين أو عشرين سنين مرفهة منعمة، بيدها الأموال، بيدها الثروات، وهي طبقة كبيرة من المجتمع، طبقة مهمة من حيث العدد ومن حيث العدة في المجتمع.

جاء الإمام علي، أراد أن يرجع الناس إلى المربع الأول، أن يرجعوا كما كانوا في زمان النبي ، لا فضل لقرشي على غيره، ولا فضل لعربي على عجمي، وأن العطاء يوزّع بالتساوي، أي أن الثروات الطائلة التي بيد الأمويين وبيد أتباعهم وأصدقائهم وبيد قريش، هذه الثروات تؤخذ منهم، ترجع إلى بيت مال المسلمين، صار العامل الاقتصادي معاكسًا لحركة الإمام علي ، فأخذت هذه الطبقة التي كانت كبيرة وممتدة في المجتمع الإسلامي آنذاك، أخذت موقفًا معارضًا من حكومة الإمام علي، وجيشت الجيوش ضده، فالعامل الاقتصادي صار معاكسًا لحركة الإمام علي.

وكذلك العامل الاجتماعي: منذ عصر الخليفة الثاني إلى أن جاء الإمام علي إلى الحكم كان العرب يفضَّلون على الموالي، العربي مقدم على غير العربي في العطاء، في الغنائم العربي مقدم، العربي هو صاحب الفضل، وهذه خلقت عند العرب شعورًا بالامتياز، شعورًا بالرقي، شعورًا بالعلو، جاء الإمام علي ونسخ هذا القانون، لا فرق بين عربي وعجمي، العجمي والعربي على حد سواء في العطاء وفي تقسيم الغنائم، هذا خلق عاملًا اجتماعيًا معاكسًا للإمام علي .

صار العرب الذي يهدفون إلى الامتياز، ويشعرون أنهم عنصر متميز عن غيرهم من الأجناس، صاروا مناوئين للإمام علي ، وفي معاوية بن أبي سفيان، الذي كان يؤكد على الفرق بين العرب وبين غيرهم، وبين العربي وبين المولى، أي: من كان من جنس آخر.

إذن، الظرف لم يخدم الإمام عليًا، وخدم النبي، المجتمع الذي عاشه النبي كان مع النبي؛ لأن العامل الاقتصادي كان بصالح النبي، والعامل الاجتماعي كان بصالح النبي، أما المجتمع في عصر الإمام علي لم يخدم الإمام عليًا، بل كان العامل الاقتصادي والاجتماعي بصالح الخطة الأموية، وبصالح المنهج الأموي آنذاك، وهذا ما شكّل تعثّرًا في غزوات وفي حروب الإمام علي ، وفي انبساط رايته على المجتمع الإسلامي آنذاك، فليس هناك خلل في الشخصية القيادية للإمام علي، ولكن الخلل في المجتمع نفسه، المجتمع نفسه أراد أن يبقى على القوانين التي سادت قبل وصول الإمام علي للخلافة، وهذا ما سبّب عوائق وعقبات أمام قيادة الإمام علي .

وهذا الإشكال لا يختص بالإمام علي، قد يأتيك شخص ويقول لك: الإمام علي لم يكن قائدًا موفقًا، بينما النبي كان قائدًا موفقًا؛ لأن النبي انتصر بينما الإمام علي ما انتصر! والحال أن الأنبياء قبل النبي لم ينتصروا، فهل كانوا أنبياء غير موفقين؟! جميع الأنبياء من نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى لم ينتصروا على أعدائهم، فهل هذا يعني أنهم لم يكونوا قادة موفقين، وأن السماء نصبت قادة غير موفقين، وغير مؤهلين؟! إنما الخلل كان في المجتمع الذي عاشوا فيه، لا في الشخصية القيادية التي كان يمتلكها هؤلاء الأنبياء وهؤلاء الرسل.

حتى النبي نفسه نجح في إقامة دولة، لكن في إقامة مجتمع إيماني لم ينتصر كما انتصر في إقامة الدولة، والدليل على ذلك أنه بمجرد أن أغمض عينيه ظهرت كوامن ما في القلوب، اختلف أصحابه منذ أول يوم، اختلفوا في السقيفة، اختلفوا بعد مقتل الخليفة، اختلفوا بعد مقتل الخليفة الثالث، اختلفوا في عصر الخليفة الرابع، مما يكشف أن النبي بنى دولة، لكنه ما بنى مجتمعًا إيمانيًا، بل المجتمع ظهرت مساوئه بمجرد أن أغمض النبي عينيه، فهل هذا يعني أن النبي لم يكن قائدًا موفقًا في بناء مجتمع إيماني؟! أم أن هناك طرقًا للخلل في نفس المجتمع الذي تعب عليه النبي ؟ هذا الوجه الأول من الجواب.

الوجه الثاني: الفرق بين تأسيس الدولة وتأسيس المبادئ.

هناك فرق كبير بين تأسيس الدولة وتأسيس المبادئ، مشروع النبي كان تأسيس دولة، مشروع الإمام علي والحسن كان تأسيس مبادئ لا تأسيس دولة، فاختلف المشروع واختلف الهدف، ولذلك من الخطأ أن تقارن بينهما، فتقول: النبي نجح في قيادته، والإمام علي والحسن ما نجحا في قيادتهما! لا، انظر لمشروع كل منهما، هل حقّق كل منهما أهدافه من مشروعه أم لا؟ ثم بعد ذلك استنتج الحكم.

كان مشروع النبي إقامة دولة، فعلًا وُفِّق في مشروعه. لأجل أن يقيم دولةً، جعل سهمًا من الزكاة للمؤلفة قلوبهم حتى يسكتوا وتقوم الدولة، لأجل أن يقيم دولة صالح قريشًا حتى تهدأ ويقيم الدولة، ولأجل أن يقيم دولة عندما دخل مكة قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، أعطى كرامة لأبي سفيان حتى يسكت ويحترم الدولة القادمة، ومن أجل أن يقيم الدولة تعامل النبي بالمهادنة مع سائر الأطراف، بالملاينة مع سائر الأطراف، حتى يتحقق هدفه من إقامة الدولة، إقامة الدولة تحتاج إلى ذلك.

لكن مشروع الإمام علي لم يكن إقامة دولة، بالنسبة للإمام علي الدولة لا تعني شيئًا، بقيت أم ذهبت، لم يكن ذلك مهمًا عنده، ما كان الإمام علي مصرًا على الدولة، وهو الذي قال من أول يوم: ”أنا لكم وزيرًا خير لكم مني أميرًا“، وهو الذي قال من أول يوم: ”دعوني والتمسوا غيري“، ”والله لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء، ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا على سبغ مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها“، الإمام علي ما كان يخطط لإقامة دولة أبدًا، وإنما أجبر من قِبَل الناس على أن يتصدى لإدارة الدولة الإسلامية آنذاك.

كان مشروعه تأسيس مبادئ، فبما أن مشروعه تأسيس مبادئ فلا يمكن للإمام علي أن يدخل في مساومات؛ لأن المساومات تؤثر على مشروعه. لو كان هدف الإمام علي أن يبقى في الدولة لدخل في مساومات حتى تبقى الدولة له، وحتى يبقى في العرش، ولكن كان مشروعه تأسيس المبادئ، أي: العدالة الاجتماعية بحذافيرها أوكلها النبي للإمام علي، النبي تكفل بأول مرحلة، وهي إقامة الدولة، والمرحلة الأخرى - وهي: ترسيم المبادئ وترسيخها - أوكلها النبي للإمام علي .

بما أن مشروع الإمام علي تأسيس مبادئ، لا يمكن الدخول في مساومات، إذ لو دخل في مساومات لتعرضت المبادئ للاستخفاف، لتعرضت المبادئ للاستصغار، ولقال الناس: أي مبدأ هو هذا الذي يبيعه الإمام علي من أجل مساومات وحتى يصل إلى الكرسي؟! إذن، أصر على موقفه، ”والله لو أعطيت الأقانيم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“، وقال: ”والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر“.

الإمام علي ، وكذلك الإمام الحسن، كتب إليه معاوية بن أبي سفيان: يا أبا محمد، أنا خيرٌ منك؛ لأن الناس أجمعت عليَّ ولم تجمع عليك. صارت لي دولة ولم تصر لك دولة، أنا أفلحت في قيادتي بينما أنت لم تفلح في قيادتك! يظن أن الإمام الحسن مشروعه الدولة، فكتب إليه الإمام الحسن: ”أنا لا أقول: أنا خير منك؛ لأنه لا خير فيك؛ فلقد برّأني الله من الرذائل، كما برّأك من الفضائل، وأما قولك أن الناس أجمعت عليك فإن الناس بين مكره ومطيع، فأما المطيع فهو عاص لله، وأما المكره فهو معذور في كتاب الله“.

مشروع الإمام علي تأسيس مبادئ، لذلك رفض أي مساومات، أي مهادنة، أي تنازل لأحد، أي إصغاء لأحد؛ لأنه لو فعل ذلك لتعرض مشروعه للضياع والانقراض، ولذلك بقي التاريخ، حتى الذين يلومون الإمام علي في بعض المواقف، إلى الآن أي قلم إسلامي يكتب عن سيرة الإمام علي يقول: كان إمامًا عادلًا، سني، شيعي، مسلم، كافر، من أي ملة، يكتب عن الإمام علي يقول: هذا ما ترك العدالة، كان إمامًا عادلًا، لم يرفع يده عن العدالة تحت أي مساومات، حتى لو خسر الدولة، حتى لو خسر العرش، حتى لو تعرض لحروب طاحنة ومواجهات عنيفة، فإنه ما ساوم على خط العدالة ومشروع العدالة.

إذن، الإمام علي نجح في قيادته؛ لأنه مشروعه كان كذلك، ونجح في مشروعه. صحيح أنه خسر الدولة، الإمام علي ما استقرت له دولة، بعض الناس يتمسكون، يقولون: لماذا الشيعة لا تكون لهم دولة؟ دائمًا عندما تصل لهم الدولة يتعرضون للقلائل والمشاكل والمواجهات العنيفة! فليكن كذلك، هذا غير مهم، المهم مشروع المبادئ، مشروع القيم، مشروع المثل، المهم أن يعرف أهل البيت وشيعتهم بأنهم أهل مبادئ لا يساومون عليها، وأهل قيم لا يساومون عليها، المهم أن يعرف هذا.

علي كان مشروعه مشروع تأسيس مبادئ، وقد نجح في مشروعه، والإمام الحسن نجح في مشروعه، وهو تأسيس المبادئ؛ لأن التاريخ إلى يومنا هذا لا يتردد في أن عليًا والحسن كانا إمامين عادلين بكل معنى الكلمة، سعيا في ترسيم مبادئ العدالة.

الوجه الثالث: الفرق بين صلح الحديبية وصلح الإمام الحسن.

نحن عندما نقارن بين صلح النبي يوم الحديبة وصلح الإمام الحسن، فرق بين الصلحين تمامًا، لا ينبغي لباحث ولا لمحلل أن يخلط ويقارن بين صلح النبي وبين صلح الإمام الحسن. النبي صالح قريشًا يوم الحديبية لأجل أن يتفرغ لتعبئة الجيش، الهدف هو كان هكذا، كان هدف النبي من صلح الحديبية أن يتفرغ لتعبئة الجيش، فلذلك كان صلحه موفقًا، فعلًا تفرّغ لإعداد الجيش وتعبئة الجيش، إلى أن تكوّن جيش ضخم، دخل به مكة، هزم قريش.

الإمام الحسن ما كان هدفه من الصلح مع معاوية أن يعبّئ جيشًا حتى يقال: الإمام الحسن ما وفق؛ لأنه لم يستطع تشكيل جيش، بمجرد أن صالح معاوية اغتنم معاوية الفرصة وتمكن من الدولة الإسلامية أكثر! إذن، الإمام الحسن ما وُفِّق في صلحه لأنه لم يغتنم فرصة الصلح!! لا، ما هو هدف الحسن من الصلح؟

لم يكن هدفه إعداد جيش، لم يكن هدفه مواجهة معاوية، كان هدف الإمام الحسن من الصلح إعداد الأرضية لثورة شعبية لا لثورة عسكرية، فرق بين الثورة العسكرية والثورة الشعبية، الثورة العسكرية ربما تنتصر، لو أن الإمام الحسن تفرغ، عشرين سنة يعبئ جيشًا من الكوفة، من الحجاز، من اليمن، ربما يوفق بعد ذلك، ينقلب على الدولة الأموية، يطيح بالدولة الأموية، يحكم، ربما يكون كذلك، لكن مجرد إقامة الدولة وهزيمة الدولة الأموية لا يعني أن الإمام الحسن خلق مجتمعًا فاضلًا، حتى يتكون مجتمع فاضل لا بد من ثورة شعبية لا من ثورة عسكرية.

الإمام الحسن كان يهدف بصلحه لمعاوية أن يُتْرَك الخيار للناس، حتى لا يقول الناس: أهل البيت دكتاتوريون، يصرون على العرش، يصرون على الكرسي! لا، هذا المفهوم - مفهوم أن أهل البيت جماعة مستبدون - دعه يزول من ذهن الناس، يُتْرَك الخيار للناس، تجرب حكم معاوية، تجرب ظلم معاوية، تجرب طغيان معاوية، إذا جربت الأمة بنفسها ظلم معاوية فإنها بنفسها ستثور ثورة شعبية اختيارية على معاوية، الإمام الحسن ما كان هدفه من صلحه إعداد جيش حتى يقال: ما وُفِّق في صلحه، وما اغتنم فرصة الصلح، كان هدفه من صلحه إعداد الناس روحيًا لثورة شعبية اختيارية، وهذا الهدف وُفِّق له.

الإمام الحسن بعد موته بعشر سنين ظهرت ملامح أهدافه، ثار الإمام الحسين بثورة شعبية، ثار أهل المدينة في واقعة الحرة بثورة شعبية، ثار أهل الكوفة في واقعة ومعركة التوابين بثورة شعبية، وهذا ما خطّط له الإمام الحسن الزكي .

إذن، لا ينبغي أن نقول بأنَّ هناك فرقًا كبيرًا بين النبي والإمامين علي والحسن، النبي كان قائدًا ناجحًا، والإمام علي والحسن ما كانا قائدين ناجحين! كلاهما قائد ناجح في خطته ومشروعه الذي رسمه، وفي أهدافه التي خطّط لها، وهذا ما عبّر عنه الإمام الحسن الزكي عندما قال: ”والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سرًا، فلئن أسالمه وأنا عزيز أحب إليَّ من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمن عليَّ بالعفو، فتكون سُبَّةً على بني هاشم، لا يزال يمن بها معاوية هو وعقبه على الحي منا والميت“، فهو بصلحه صان منصب الإمامة من الإذلال، وهو بصلحه حفظ دماء المسلمين عن الذهاب في فتنة عمياء، وهو بصلحه هيّأ الأرضية الإسلامية العامة لثورةٍ شعبيةٍ اختياريةٍ امتدت في ثورات وحركات، إلى أن أطاحت بالدولة الأموية.