لغة التعالي في القرآن، حقيقة أم وهم؟ ج1

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ

صدق الله العلي العظيم

تحدثنا فيما سبق عن بعض الشبه التي أوردت من قِبَل بعض الحداثيين حول انتساب القرآن الكريم بمعناه ولفظه إلى الخالق تبارك وتعالى. الشبهة الثانية: وهي شبهةٌ تتعلّق بالأسلوب القرآني في مجال الخطاب بين الله وعبده.

المحور الأول: معالم الشبهة.

من أجل توضيح هذه الشبهة نذكر أمورًا:

الأمر الأول: الهدف من نزول القرآن.

إن الهدف والغرض من نزول القرآن الكريم هو هداية الخلق، كما أفصح القرآن الكريم: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وقال عز وجل: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وقال أيضًا: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، الهدف والغرض من نزول القرآن الكريم هداية المجتمع البشري.

الأمر الثاني: لزوم التناسب بين الوسيلة والهدف.

إن مقتضى الحكمة التناسب والانسجام بين الوسيلة والهدف، فإن الإنسان إذا أراد تحقيق أهداف معينة فمقتضى الحكمة أن تكون أساليبه ووسائله منسجمةً مع هذه الأهداف، بحيث تكون طريقًا للحصول على تلك الأهداف، فمتى ما كان هناك تباينٌ وتغايرٌ بين الوسيلة والهدف، بحيث إن الوسيلة لا تؤدي إلى تحقيق الهدف، فهذا منافٍ للحكمة، بل كما يعبّر عنه علماء الكلام بأنه قبيحٌ؛ لأن نقض الغرض قبيح. إن مقتضى الحكمة أن يتحفظ الحكيم على غرضه وعلى هدفه، ومقتضى تحفظه على غرضه وهدفه أن يجعل الوسائل المناسبة للوصول إلى ذلك الغرض، فإذا جعل وسائل مبعِّدة عن الغرض كان ذلك نقضًا منه لغرضه ونقضًا منه لهدفه، ونقض الغرض قبيحٌ لا يصدر من الحكيم، فكيف بالحكيم تبارك وتعالى؟!

الأمر الثالث: اشتمال القرآن على أسلوب التعالي.

إنّ القرآن الكريم مشتملٌ على أسلوب التعالي، أي أن الله تبارك وتعالى يتحدث مع الخلق بلغة التعالي، وبأسلوب التعالي، وأسلوب التعالي لا يصب في تحقيق الهدف من القرآن الكريم، ألا وهو الهداية؛ لأن أسلوب التعالي يحجز حاجزًا بين المحدث والمخاطب، بين المتكلم والمتلقي، ولأن أسلوب التعالي يخلق حاجزًا سميكًا بين المتحدث والمتلقي لأجل ذلك لا يكون أسلوب التعالي محققًا للهدف، ألا وهو التربية والهداية، وأخذ يد العبد إلى ما فيه صلاحه وهدايته. وأسلوب التعالي إنما نستجليه ونستوضحه في القرآن الكريم في عدة موارد:

المورد الأول: لغة المن.

إن القرآن الكريم يتحدث بلغة المن، دائمًا يذكر النعمة، يقول: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا، ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، نحن خلقناكم، نحن صورناكم، نحن رزقناكم... إلخ، وذكر النعم بتكرار وفي كثير من السور يعدُّ منًّا على العبد، فإن الله يمن على عبده بأن رزقه، بأن خلقه، بأن صوّره، بأن أنعم عليه، وأسلوب المن منفر، فإذا كان مثلًا لديك أب أو أستاذ، ودائمًا يمن عليك ويقول: أنا أعطيتك، أنا أعطيتك، أنا وهبتك، أنا رزقتك، أنا نفعتك... إلخ، فإن التكرار في المن والإكثار من ذكر النعم يوجب نفورًا من المستمع والمخاطب، فلأجل ذلك لا يكون هذا الأسلوب - ألا وهو أسلوب ذكر النعم بنحو المن المتكرر - وسيلةً لتحقيق الهدف من نزول القرآن، ألا وهو هدف الهداية.

المورد الثاني: مورد الذم.

إننا نرى القرآن يكرّر الذم للمجتمع البشري، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ، ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.

هذا الأسلوب - وهو أسلوب ذم المجتمع البشري بذم الأكثرية من المجتمع البشري - أسلوبٌ من أساليب التعالي، وهذا الأسلوب لا يصب في تحقيق غرض وهدف الهداية؛ لأن المربّي الذي يريد أن يربّي الخلق ويهديهم إلى الصراط المستقيم مقتضى هذا الغرض أن يجشعهم على الاعة، أن يمدحهم، أن يذكر النقاط الإيجابية التي يتمتعون بها من أجل أن يحصل لهم الحماس والاندفاع نحو الطاعة، لا أن يصب عليهم الذم، وأن يصب عليهم التقريع، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، فإن هذا أسلوب منفّرٌ وليس أسلوبًا محبِّبًا.

المورد الثالث: مورد التوبيخ على ترك التعقل.

هناك أكثر من عشرين آية في القرآن الكريم توبّخ على ترك التعقل، مثلًا: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ، ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. هذه الآيات الكثيرة التي توبّخ العبيد على ترك التعقل وترك التفكّر، إنما هي تخلق حاجزًا بين الله وبين عباده، لأنك إذا أردت أن تثير عقل شخص حتى يتفاعل مع فكرك، وحتى يتأثر بحديثك، فعليك أن تمدحه بالفكر والعقل، وأن تقول له: أنت ذو عقل، وذو فكر، فاستثمر عقلك، وحرّك تفكيرك، ووجّه مدى نظرك إلى ما أقول، وستصل إلى النتيجة. أما إذا ذممت عقله، وذممت تفكيره، ووبّخت تفكيره، فإن هذا يخلق حاجزًا بينك وبينه يمنعه من التفاعل مع فكرك وحديثك.

المورد الرابع: أسلوب التعظيم.

إن القرآن عندما يعبّر عن الله تبارك وتعالى يعبّر غالبًا بأسلوب التعظيم، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ، ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ، ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، فاستخدام التعبير بنحن الذي هو إشارةٌ للعظمة وإشارةٌ للعلو لا ينسجم مع التلطف بالعبد، والتودد له، بحيث ينجذب إلى الطاعة، فإنك إذا أردت أن تربي شخصًا وأن تهديه تعبر عن نفسك بأسلوب متواضع، حتى تذوب فيه الأنانية، وينكسر قلبه لهذا النوع من الهداية والوعظ والإرشاد.

هذه الموارد الأربعة التي استقرأناها يتجسّد فيها جميعًا أسلوب التعالي، وأسلوب التعالي أسلوبٌ لا يوصل إلى غرض الهداية والتربية على التقوى، وإنما هو حاجزٌ بين الله وبين عباده في الوصول إلى هذا الهدف، وهذا يتنافى مع الحكمة التي هي عبارة عن إيجاد التناسب بين الوسيلة والهدف، وهو نقض للغرض، ونقض الغرض قبيح، فلذلك يكون استخدام أسلوب التعالي في القرآن الكريم إشارة واضحة على أن القرآن الكريم لم يكن بتعبيرٍ من الخالق نفسه، وإنما هو تعبيرٌ من النبي صاغه بأسلوب بشري منسجم مع لغة زمانه وثقافة زمانه، لذلك بقيت بعض الأساليب فيه غيرَ منسجمةٍ مع الهدف الذي من أجله نزل القرآن الكريم.

المحور الثاني: مناقشة الشبهة.

بعد أن بيّنّا الشبهة بتمامها توضيحاتها، نأتي الآن إلى الجواب عن هذه الشبهة.

الوجه الأول: التفريق بين حقيقة التعالي وأسلوب التعالي.

إنَّ هناك فرقًا بين حقيقة التعالي وأسلوب التعالي، والذي يتنافى مع هدف الهداية وهدف التربية على الهداية هو حقيقة التعالي وليس أسلوب التعالي؛ فإن حقيقة التعالي هي أن يتعالى عليك من يتكلم معك، فإذا كان يظهر نفسه أنه أعلى منك عندما يتحدث معك، ويظهر نفسه أنه أعلم منك وأفهم منك عندما يتحدث معك، فإن هذا الإظهار وهذا الإبراز للعلو هو المعبّر عنه بحقيقة التعالي، وحقيقة التعالي قد يقال بأنَّها أسلوبٌ منفِّرٌ من الهداية، ومانعٌ من التربية على التقوى.

أما أسلوب التعالي من دون أن يكون هناك تعالٍ حقيقيٌّ عند المتكلم، فالأسلوب بما هو أسلوبٌ ليس مانعًا من هدف الهداية، وذلك لأن علماء اللغة يقولون: قيمة الأسلوب بغرضه لا بذات الأسلوب، ليس القيمة لنفس الأسلوب، القيمة للغرض والهدف من الأسلوب، فإذا كان التعالي مجرد أسلوب وليس حقيقة، فبما هو أسلوبٌ لا يتنافى مع غرض الهداية، بل لا بد أن نلاحظ الغرض من هذا الأسلوب، فإن قيمة الأسلوب وميزانه بغرضه.

والمفروض أن حقيقة التعالي لا تُتَصَوَّر وتُتَعَقَّل في الله عز وجل؛ لأنَّ الذي يحتاج إلى التعالي هو السافل، إذا كان الموجود سافلًا دانيًا فإنه يحتاج إلى التعالي؛ لأنه فاقدٌ للعلو، وبما أنه يشعر بالنقص وأنه فاقدٌ للعلو، لذلك تراه يحتاج إلى التعالي، ولذلك إذا تحدثت مع إنسان ورأيت نصف كلامه: أنا وأنا وأنا... إلخ، 50 مرة أنا، وأنا فعلت وأنا قلت وأنا سأفعل وأنا سأقول... إلخ، هذه الأنا تكشف عن شعورٍ بالنقص، يريد أن يكمله بهذه الكلمات، وبهذه الألفاظ، فالتعالي الحقيقي هو عبارة عن إظهار الداني العلوَ، وإظهار السافل أنه عالٍ، وهذا لا يُتصوّر في حقيقته تعالى؛ لأنه هو عين العلو، وعين المجد، فلا يتعقّل في حقيقته أنه يبرز التعالي، ويبرز التسامي، لأنه عين السمو وعين العلو، فلا يحتاج إلى أن يبرز أنه متعالٍ، وأنه متسامٍ على خلقه.

فإن كان المنظور هو حقيقة التعالي فحقيقة التعالي غير موجودة، ولا تُعْقَل في حقّه تبارك وتعالى، وإن كان المنظور هو أسلوب التعالي فإن أسلوب التعالي لا يتنافى مع غرض الهداية، كما ذكرنا: الأسلوب بما هو أسلوب ليست قيمته بلفظه، وليست قيمته بسجعه، وإنما قيمته بالغرض منه والهدف من صياغته، فلنرجع إلى غرضه لنرى هل أن الغرض من أسلوب التعالي يتنافى مع غرض الهداية أم لا؟ فهو منافٍ لغرض الهداية - وهي حقيقة التعالي - غير موجودة، ولا تتصوّر في حقه تعالى، وما هو موجود أو يتوهّم وجوده - وهو أسلوب التعالي - فليس منافيًا لغرض الهداية.

وبيان ذلك: يذكر علماء البلاغة أن المراد الاستعمالي من الأسلوب يختلف عن المراد الجدّي، بمعنى: قد يكون للكلام معنى واحد، لكن له أغراضًا متعددةً وأهدافًا متعددة، وقيمته بتعدد أغراضه وأهدافه، فمثلًا: صيغة الأمر، صيغة افعل، هذه الصيغة لها معنى واحد، وهو النسبة الطلبية، فإذا قال: افعل، يعني أطلب منك، لكن هذه النسبة الطلبية التي هي معنى واحد تتجسّد بأغراض كثيرة، وبأهداف متنوعة، فقد تكون صيغة الأمر أمرًا، وقد تكون صيغة الأمر دعاءً، وقد تكون صيغة الأمر التماسًا، وقد تكون صيغة الأمر تسخيرًا، وقد تكون صيغة الأمر تحقيرًا، وقد تكون صيغة الأمر تهديدًا، وقد تكون صيغة الأمر ترخيصًا، هي صيغة واحدة لكنها تتنوّع مظاهرها بتنوّع أغراضها، فقيمتها في كل موضع بالغرض منها، لا بكونها صيغة أمر.

صيغة الأمر إذا صدرت من العالي سمّيت أمرًا، إذا قال لك أبوك مثلًا: اذهب إلى السوق، هذا أمر؛ لأنه صدر ممن هو عالٍ لمن هو دانٍ بحسب المقاييس الاجتماعية، وإذا صدرت هذه الصيغة من الداني إلى العالي، أن الطفل يطلب من أبيه، يقول: اشتر لي لعبة، هذا ليس أمرًا، لا أحد يقول: الطفل يأمر أباه! يقولون: يرجو، كانت أمرًا وصارت رجاءً، ونفس هذه الصيغة إذا صدرت من الصديق إلى صديقه تسمى التماسًا، ليست أمرًا ولا رجاءً، أن يقول الصديق لصديقه مثلًا: أعطني جوالك لأستخدمه، هذا ليس أمرًا ولا رجاء، وإنما هو التماسٌ، فهي صيغة واحدة وأسلوب واحد، لكنه له مظاهر عديدة تتعدد بتعدد الأغراض.

ونفس صيغة الأمر هذه قد تكون أحيانًا ترخيصًا وليست أمرًا ولا طلبًا، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا، ما معنى فاصطادوا؟ يعني يأمرهم بالصيد؟! لا، وإنما يرخّص لهم، إذا حللتم من الإحرام فالصيد لكم مباح، هي صيغة أمر لكنها جاءت بمعنى الترخيص والإباحة. أو تأتي بمعنى التعجيز، ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، أو تأتي بمعنى التسخير: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أو تأتي بمعنى التحقير: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ.

إذن، نفس الصيغة يكون لها مضامين عديدة بعدد الأغراض، مما يكشف لنا أن قيمة الأسلوب ليست بلفظه ولا بمعناه اللغوي، وإنما قيمة الأسلوب بالغرض الذي صيغ لأجله، فصيغة الأمر تتعدد مضامينها بتعدد أغراضها، وكذلك الذي يعبّر عنه بأسلوب التعالي، هو مجرد أسلوب، إذا لاحظته بما هو أسلوب تقول: هذا أسلوب تعالٍ، لكن إذا لاحظت أغراضه وأهدافه: لما اُستخدم هذا الأسلوب في هذا الموقع؟ لماذا اُستخدم هذا الأسلوب في موقع آخر؟ فسترى أن أغراضه وأهدافه تصب في غرض الهداية والتربية على التقوى.

إذن، لا معنى لأن يقال: إن التعالي يتنافى مع الهداية! ما هو التعالي؟ إذا كان المراد بالتعالي حقيقة التعالي فهي لا تتصور في حق الباري تبارك وتعالى، وإذا كان المراد بالتعالي أسلوب التعالي فأسلوب التعالي بما هو أسلوب لا يتنافى؛ لأن وزن الأسلوب وقيمته بغرضه وهدفه لا بلفظه، كي يقال بأن هناك منافاة بين أسلوب التعالي وغرض الهداية. هذا الجواب الأول، وهو تمهيدي.

الوجه الثاني: إنكار وجود أسلوب التعالي في القرآن.

نقول: ليس في القرآن أسلوب التعالي أصلًا، لا أننا ننكر حقيقة التعالي فقط، بل ننكر حتى أسلوب التعالي، فنقول: ليس في القرآن أسلوب التعالي، وما ذُكِر إنما هو اشتباهٌ وتوهّمٌ، فلنستقرئ الموارد التي اُستشهد بها على أن في القرآن أسلوبَ التعالي.

المورد الأول: ذكر النعم.

الله يذكر النعم دائمًا، وفي كثير من السور، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا، ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. إن ذكر النعم ليس تعاليًا وامتنانًا، وإنما هو إرشادٌ إلى مبدأين ارتكازيين فطريين لدى الإنسان، وهما:

المبدأ الأول: حسن شكر المنعم.

الإنسان بفطرته يؤمن بأن شكر المنعم جميلٌ، والكفران بالمنعم قبيحٌ، فهناك مبدأ انعقدت عليه فطرة الإنسان، وهو حسن شكر المنعم، فهذه الآيات التي تذكّر بالنعم وتكرّر ذكر النعم الغرض منها إثارة ذلك المبدأ الفطري، الغرض منها إثارة الفطرة، وإيقاظ الفطرة على أن تتنبه لهذا المبدأ، ألا وهو أن المنعم يُشْكَر، فإن شكر المنعم جميل، والكفران بالمنعم قبيح.

المبدأ الآخر: مبدأ حق الطاعة.

المقصود بهذا المبدأ - الذي يعبّر عنه علماء الكلام بمبدأ حق الطاعة - أن هناك ملازمة بين الخالقية وبين حق الطاعة، هذا ليس أي منعم، هذا ليس مثل الأب أنعم عليك بنعمة التربية، أو الأستاذ أنعم عليك بنعمة التعليم، لا، بل أنت منذ كنت أنت ومن عالم الأرواح إلى أن تصل إليه، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، إلى يوم اللقاء، منذ ذلك اليوم - يوم عالم الذر - إلى ذلك اليوم يوم عالم اللقاء وأنت محفوفٌ بنعمه، محفوفٌ بفضله، محفوفٌ فبعطائه، محفوفٌ برزقه، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، فهنالك ملازمة بين الخالقية وبين حق الطاعة، فمن كانت له الخالقية المطلقة ومن كانت له الموجودية المطلقة بحيث لا ينفك الإنسان في كل آن عن مدد ووجود منه تبارك وتعالى فله حق الطاعة على عبده.

وهذا المبدأ - وهو مبدأ الملازمة بين الخالقية وحق الطاعة - مبدأٌ انعقدت عليه فطرة الإنسان، لكنه يحتاج إلى إثارة، فهذه الآيات التي تكرّر ذكر النعم ليست تعاليًا، بل هي إيقاظٌ للمرتكز الفطري من حكم الفطرة وقضائها بالملازمة بين الخالقية وحق الطاعة، وهذا المعنى تشير إليه الآية المباركة: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، إذا هو فطرني وخلقني كيف لا يستحق العبادة عليَّ؟! إذن، هناك ملازمة ارتكازية وفطرية بين الخالقية وحق الطاعة، فأرادت هذه الآيات الكثيرة إيقاظ هذا المبدأ، وإثارة الفطرة للقضاء والحكم بهذا المبدأ.

المورد الثاني: ما عُبِّر عنه بذم أكثرية المجتمع.

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، وأمثال هذه الآيات. الصحيح أن هذه الآيات ليست ذمًا، بل هي إخبار، وفرق بين الإخبار وبين الذم؛ فإن الذم من مقولة الإنشاء، فهناك فرق بين أن تقول: فلان منحرفٌ فاشلٌ في حياته مخفقٌ في طريقه، هذا ذمٌ، وبين أن تقول: فلان مريض، فيه المرض الفلاني، فلان دخل في تجارة وانكسر. هذا لا يقال له ذم، هذا يقال له إخبار، أنت تخبر عن واقع، لا تذمه، صحيح أن ما أخبرت به هو مشكلة، هذا والله مريض بمرض خطير، ما أخبرت به هو في حد ذاته سوء، لكن هذا إخبار عن السوء وليس ذمًّا، فالذم من مقولة الإنشاء، لا من مقولة الإخبار.

هنا يؤكد القرآن الكريم على مقولة يؤكدها علماء الاجتماع أيضًا، وهي أن المؤثر في أغلب البشر هو الحكم العاطفي وليس الحكم العقلاني، أنت إذا أردت أن تثير مجتمعًا حرّك لهم قضية عاطفية، أغلب المجتمع يتفاعل معها، بينما عندما تطرح قضية عقلية فإن من يتفاعل معها قليل، طبيعة المجتمعات تتحرك بالمحركات العاطفية، وتثار بالمثيرات العاطفية، هذا حكم يذكره علماء الاجتماع.

وهذا ما يظهره القرآن الكريم، وهو ما يسمّى بحسب علماء الكلام بالضلال الاقتضائي، فرق بين الضلال الفعلي والضلال الاقتضائي، تارة نقول بأن أغلب البشر في كل زمان وفي كل مجتمع وفي كل حضارة ضالون بالفعل ومنحرفون بالفعل، هذا ليس صحيحًا، وتارة نقول: أغلب البشر لكل مجتمع ولكل زمن ولكل حضارة لديهم الاستعداد للضلال، هذا يسمى بالضلال الاقتضائي والضلال الاستعدادي، أغلب المجتمعات لديها المقتضي ولديها الاستعداد للضلال، والمقتضي الموجب للاستعداد للضلال هو حكومة العاطفة، فإن حكومة العاطفة على شخصية الإنسان أكثر من حكومة العقل والتفكير، وحكومة الانفعالات الوجدانية والعاطفية على سلوك الإنسان ومسيرة الإنسان أكثر من حكومة العقل.

وهذا المعنى الذي يسمّى بالضلال الاقتضائي - الذي هو عبارة عن حكومة العاطفة والانفعالات - يذكره علماء الاجتماع، والقرآن يتحدث عنه، فعندما يقول القرآن: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، إنما هو إخبار عن أن المقتضي للضلال والانحراف والزلل لدى أكثر الناس موجودٌ، ألا وهو حكومة النفس، حكومة العاطفة، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ يعني بطبعها وباستعدادها تميل نحو الهوى.

ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى لماذا ينهاها؟ لأن من طبيعتها الاستعداد للهوى، والتاريخ شاهد على ما ذكرناه، أنت استقرئ بنفسك، بدون القرآن، أنت استقرئ، أغلب البشرية في أي زمان هم مع الإيمان أم مع الجهة الأخرى؟! أنت باستقرائك وبدون الاستناد إلى كلام القرآن الكريم، من الواضح أن أغلب البشرية في أي زمان وفي أي مجتمع وفي أي حضارة هم مع الكفة الأخرى، إلا لم يكونوا ضُلّالًا بالفعل فهم ضُلَّال بالميل والاستعداد وكثرة الزلل، فما أخبر به القرآن واقعٌ، ولم يكن في مقام الذم، وإنما كان في مقام بيان الحقيقة والإخبار بالواقع، وأن هناك طبيعة متأصلة لدى أكثر الناس، ألا وهي حكومة النفس والشهوة والعاطفة. وسيأتي بقية الكلام في اليوم الآتي إن شاء الله.