هل أن الوحي القرآني بشري خاضع للتكامل والتطور 1&2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ

صدق الله العلي العظيم

ما زال كلامنا في الشبه التي طُرِحَت حول القرآن الكريم؛ بلحاظ أن الشهر الكريم شهر القرآن، فذلك يقتضي دفع الشبهات الفكرية التي سُجِّلَت على حقيقة القرآن وفاعليته، وكلامنا فعلًا عن الشبهة الثالثة في محورين.

المحور الأول: معالم الشبهة.

حتى تتضح معالم الشبهة الثالثة التي طُرِحَت في القرآن الكريم من قِبَل بعض الحداثيين نتحدث عن ثلاث زوايا:

الزاوية الأولى: الفكرة بشكل مجمل.

إن الفكرة والنظرية السائدة لدى المسلمين أن القرآن الكريم كان كتابًا جاهزًا بتمام تفاصيله وتمام آياته قبل أن ينزل على النبي الأعظم ، مستدلين على ذلك بقوله عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فالقرآن كان كتابًا مكنونًا في كتاب آخر قبل نزوله على النبي المصطفى ، وأنه نزل على النبي المصطفى مرتين: مرةً دفعةً واحدةً، كما هو ظاهر قوله عز وجل: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، ثم نزل مرة أخرى تدريجًا نجومًا لمدة ثلاثين وعشرين سنة، كما هو ظواهر قوله عز وجل: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا.

هذه هي الفكرة السائدة لدى المسلمين، ولكن هناك فكرةً أخرى يطرحها بعض الحداثيين، وهي أن القرآن وإن كان وحيًا من قِبَل الله تبارك وتعالى، إلا أنه وحيٌ خاضعٌ لإطار التكامل والتطور البشري، فهو لم يكن كتابًا جاهزًا قبل أن ينزل إلى الأرض، وإنما خضع في نزوله على النبي المصطفى لإطار التكامل والتطور والنمو.

وبالتالي فالقرآن الكريم هو بشريٌّ في عين كونه إلهيًا، وأرضيٌّ في عين كونه سماويًا، فهو إلهي بلحاظ الفاعل وبلحاظ المصدر، أي لأنه صادرٌ من الله تبارك وتعالى، فهو من هذه الجهة وبلحاظ مصدره هو إلهي سماوي، وحي من الله، ولكنه بلحاظ قابله، أي: المتلقي له، والمتكفل باستيعابه وتبليغه فهو بشري، لأن المتلقي بشر يخضع لإطار التكامل، ويخضع لمسيرة التطور والنمو، لذلك القرآن من جهة مصدره إلهي، وروحٌ قدسيٌ، لكن من جهة المتلقي والقابل له أرضيٌ بشريٌ خاضعٌ لمسيرة التطور والتكامل.

وهذا نظير الماء - ماء المطر - الذي ينزل من السماء على الأرض، فإن ماء سماوي لأن مصدره السماء، لكنه أرضي لأنه بمجرد أن تتلقاه الأرض يتأطر بإطار الأرض، فيتحول إلى أنهار، ويتحول إلى جداول، ويتحول إلى عيون، وبالتالي فإنه يتأطر بإطار ما يتلقاه، وإن كان سماويًا، لكنه يتأطر بإطار المتلقي له، فيصبح عيونًا وجداول وأنهارًا، ويتحدد ويتبعض ويتجزّأ، وهذا يعني أنه سماوي في عين أنه أرضي، وأرضي في عين أنه سماوي.

فالقرآن الكريم كذلك، معانٍ ومضامين وتجلياتٌ تلقاها فكرٌ وعقلٌ بشريٌ، وهو عقل النبي المصطفى ، فتأطر ذلك القرآن بإطار من تلقاه، وبما أن من تلقاه إنسانٌ يخضع إلى التكامل ويخضع إلى النمو، لذلك فالوحي تابع للنبي، لا أن النبي تابع للوحي، فليس هناك وحيٌ جاهزٌ كاملٌ تلقاه النبي ووظيفته التبليغ فقط، بل إن الوحي تابعٌ للنبي، نزل على النبي فتأطر بالإطار البشري للنبي المصطفى .

ومما يزيد الفكرة وضوحًا، أن نضرب هذا المثال: لو فرضنا أن شخصًا كان في ذهنه مشروع معين بشكل إجمالي، لكنه يريد أن يجسّد مشروعه ويفعّل مشروعه على أرض الواقع، فإن هذا المشروع الذي كان يختمر في عقله بشكل إجمالي، حتى يتحول إلى أرض الواقع قطعًا سوف يخضع للتكامل، وسوف يخضع للنمو، لأنك إذا أردت أن تحول الفكرة إلى واقع ستصطدم بعوائق، ستواجه استفهامات، ستكتشف زوايا غامضة، وبالتالي حتى ينسجم هذا المشروع مع أرض الواقع ستكتشف أن هذا المشروع يخضع لمسيرة نمو وتكامل وتطور، إلى أن يتأقلم معه الواقع الذي أريد تطبيقه فيه، ويتأقلم هو مع الواقع الذي أريد تطبيقه فيه.

مثلًا: لو فرضنا أن مدرسًا من المدرسين اختمرت في ذهنه فكرة، قال: أنا أريد أن أعلم تلامذتي وطلابي في الفصل الدراسي كيفية إنشاد الشعر لا كيفية إلقائه، هذه فكرة إجمالية في ذهني، ولكن كيف ستتم؟ وكيف سيتحول هذا المشروع إلى واقع حي متجسد؟ هذا أمرٌ تابعٌ للتجربة، وليس سابقًا عليها، فإذا دخل في إطار التجربة اُكتشفت أبعاد المشروع وزواياه وآفاقه وحدود تأثيره، ثم يدخل المدرس إلى الفصل، ويبدأ طرح فكرته الإجمالية، فيواجه هذا الأستاذ أسئلةً لم يكن يحسب لها حسابًا، ويكتشف عوائق أمام التطبيق لا بد من علاجها حين التجربة، ويكتشف أن هناك زوايا غامضة في هذا المشروع لا بد من إشباعها، ولا بد من توضيحها.

وبالتالي فإن هذا المشروع الذي كان فكرة إجمالية في ذهن المدرس لم يتحول إلى واقع حتى خضع للتجربة نفسها، وبما أن التجربة بطبيعتها هي مسألة تنموية، مسألة تكاملية، لأن التجربة بطبيعتها تتكامل وتتدرج من الأقل إلى الأكثر، ومن الأدنى إلى الأكبر، إذن تلك الفكرة تحولت إلى مشروع متكامل متطور، لا أنها كانت فكرة جاهزة بكل تفاصيلها وبكل حذافيرها، ولم تكن وظيفة المدرّس إلا تبليغها وإيضاحها، بل صارت وظيفة المدرس هي كشف زواياها، دفع العوائق عنها، تنميتها، تفعيلها، وبالتالي فهي تابعة لتجربة المدرس، لا أن تجربة المدرس تابعةٌ لها.

وهكذا - كما يقول صاحب الشبهة - كان الوحي والقرآن الكريم، فالوحي والقرآن الكريم أفكار ومضامين نزلت على النبي ، لكن هذه المضامين حتى تتحول إلى واقع يعيشه الناس - وهو نظام عبادي معاملاتي حكومي تام - صار هذا الوحي تابعًا للتجربة البشرية التي خاضها النبي وخاضها معه المجتمع البشري الذي تلقى هذا الوحي.

ومن هنا نقول بأن القرآن في عين الوقت الذي هو إلهيٌ - أي: نازل من القرآن - لكنه بشري؛ لأن المتلقي له المجتمع البشري بتجربته البشرية، وبنموه وتكامله البشري، وفي نفس الوقت نقول بأنَّ القرآن الكريم تابعٌ للتجربة التي خاضها النبي وليس العكس.

الزاوية الثانية: الشواهد المؤيدة لهذه الفكرة.

ما هي الشواهد على هذه الفكرة؟

الشاهد الأول: تصريح القرآن نفسه بمروره بإحكام وتفصيل.

نلاحظ أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن نفسه فإنه يكشف لنا أنه خضع لإطار التكامل، وخضع لإطار التطور، ولم يكن جاهزًا بشكل واحد قبل أن ينزل إلى الأرض، فالقرآن الكريم من جهة يقول: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وظاهر الآية أنه نزل دفعة واحدة، ومن جهة أخرى يقول: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا وهو يعني أنه نزل تدريجًا ونجومًا، والجمع بين الآيتين بالرجوع إلى آية ثالثة، وهي قوله عز وجل: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، فالقرآن خضع لمسيرة التطور، أحكمت ثم فصلت، أي أن هذا القرآن كان مضامين، لكن هذه المضامين إنما تحولت إلى تفاصيل حيوية واقعية بواسطة تجربة المجتمع البشري الذي تلقى هذا القرآن.

وهذا معنى أن القرآن نزل دفعةً واحدةً أولًا، أي نزل نزولًا إجماليًا لا تفصيليًا، ثم نزل تدريجيًا، أي نزل نزولًا تفصيليًا، ففي النزول الإجمالي كان أفكارًا ومادة خامًا، وفي النزول التفصيلي صار تابعًا للتجربة البشرية التي أخضعته لإطار التكامل والتطور.

الشاهد الثاني: تدرّج استيعاب النبي للوحي.

إن القرآن الكريم عندما يتحدث عن النبي نفسه الذي تلقى القرآن، كيف تلقاه؟ هل النبي نفسه تلقى القرآن بشكل متساوٍ؟ أي أن النبي تلقى القرآن في مكة كما تلقاه في المدينة؟! ليس الأمر كذلك، بل إن النبي نفسه أيضًا خضع لتجربة باطنية، فكان في أول البعثة لا يقدر على تحمل القرآن بتمام تفاصيله، ثم اعتاد عليه، وأصبح أكثر استيعابًا وأكثر تقبّلًا وقدرةً على تحمله، إلى أن أصبح القرآن دمَه ولحمَه.

القرآن عندما يتحدث عن النبي يقول: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، أي أن النبي كان بحسب قدرته وكفاءته البشرية آنذاك غير قادر على أن يتحمل سورة طويلة، وعلى أن يتحمل تفصيلًا إلهيًا طويلًا، بل كان الأمر ثقيلًا عليه، وحتى كان بعض المؤرخين يقول: إنه كان يتصبب عرقًا، ويضيق صدره إذا تلقى الوحي، ثم بمرور الوقت خاض تجربة باطنية نفسية تربوية إلى أن تكامل استعداده وكفاءته في تلقي القرآن بنسق تفصيلي طويل.

ولذلك ترى هناك فرقًا بين السور المكية والسورة المدنية، فالسور المكية قصار؛ لأن النبي لم يكن قادرًا على أكثر من ذلك، والسور المدنية طوال، حتى أن نصف سورة براءة نزلت عليه وهو على الناقة في المدينة، وكانت الآيات المكية قصارًا جدًا، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ إلى آخره، بينما الآيات المدنية آيات طويلة، حتى أن آية الدين التي نزلت عليه في أواخر الأيام كانت من أطول الآيات التي نزلت في القرآن الكريم.

فالقرآن نفسه يتحدث عن أن النبي خاض تجربة عسيرة في تلقي الوحي، ولذلك يقول القرآن عنه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً لماذا لا ينزل دفعة واحدة؟ ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، أي أنك لست قادرًا على أن تتلقاه دفعة واحدة، وإنما تتلقاه بشكل تدريجي حتى تتعايش معه، وبمرور الوقت تتكامل تجربتك الروحية، وتصبح أكثر اطمئنانًا واستقرارًا ويقينًا بنزول هذا القرآن. ويقول في آية ثالثة: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ، فلولا أن القرآن كان يواكب تجربته الروحية ويزيده اطمئنانًا ويقينًا ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا.

الشاهد الثالث: التكامل طبيعة بشرية.

الشاهد الثالث على هذه الفكرة أن طبيعة الإنسان هي التكامل، ولا يمكن أن يشذ عن هذه القاعدة نبيٌ ولا رسولٌ، فإن طبيعة الإنسان هي التكامل، كما تحدث القرآن عن النبي موسى : ﴿يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، فبما أن طبيعة البشر تتكامل إذن من الطبيعي أن يتكامل النبي في تجربته الروحية مع القرآن، وفي تجربته الإدارية في إدارة مجتمع، وفي تجربته التبليغية في بيان تعاليم الوحي.

مثلًا: أنت الآن تمر بمراحل متعددة، تستمع المحاضرة، هذه مرحلة الأولى، تستوعب المحاضرة، هذه مرحلة ثانية، تتأمل في زوايا المحاضرة ومداليلها وأبعادها وأهدافها، هذه مرحلة ثالثة، تقوم بشرح هذه المحاضرة للآخرين، هذه مرحلة رابعة، تقوم بتوضيحها وتفعيلها، هذه مرحلة خامسة، والإنسان بطبعه عندما يمر بهذه المراحل ينمو مع هذه المحاضرة وتنمو معه، فهناك علاقة تفاعلية وتبادية، حيث إن الفكرة تنمو مع تجربته، وتجربته تنمو مع هذه الفكرة.

والنبي كما أنه يتكامل في عبادته إلى الله تبارك وتعالى، فكلما عبد الله زاد قربًا من الله، وازداد يقينًا وعشقًا لله تبارك وتعالى، إذن فكذلك يتكامل في تجربته الوحيانية، أي في تعامله مع الوحي تلقيًا واستيعابًا وتفهّمًا وتبليغًا وتطبيقًا.

الشاهد الرابع: تعليق القرآن على ظواهر مؤقتة.

من الشواهد على هذه الفكرة أننا نرى أن الأحداث التي وقعت قبل زمن البعثة وأثناء مسيرة البعثة وضعت بصماتِها على القرآن الكريم، فمثلًا: ظاهرة الرق، فإن ظاهرة الرق والاستعباد كانت موجودة قبل البعثة وبعد البعثة وبعد وفاة النبي وبقيت زمنًا طويلًا، وعندما يُشْكَل على علماء المسلمين: لماذا لم يحارب الإسلام الرق؟ ولماذا لم يلغِ الاستعباد كما ألغى عبادة الأصنام والأوثان ووأد البنات وهن على قيد الحياة؟ لماذا لم يحارب ظاهرة الرق؟

يجيب علماء المسلمين بأنه لم يمكن إلغاء هذه الظاهرة دفعة واحدة؛ لأن الرقيق والعبيد كانت عجلة الاقتصاد في ذلك الوقت، فإن الاقتصاد في المجتمع العربي على الأقل في ذلك الوقت كان قائمًا على الرقيق والعبيد، التجارة، الصنع، الزرع، النقل، كل الحركة الاقتصادية كانت تقوم على سواعد الرقيق والعبيد، فلم يمكن للإسلام أن يلغي هذه الظاهرة دفعة واحدة؛ فإن ذلك يشكّل انهيارًا للحركة الاقتصادية آنذاك، ولكنه ندب وحثَّ على العتق وتحرير العبيد بشكل مكثف في الأحاديث وفي النصوص الواردة عن النبي .

وهذا يعني أن ظاهرة الرق فرضت نفسها على القرآن، فلولا وجود ظاهرة الرق لما أتت آياتٌ من القرآن تتحدث عن كيفية التعامل مع هؤلاء الرقيق ومع هؤلاء العبيد، فظاهرة الرق فرضت نفسها على الوحي، فصار الوحي تابعًا للظاهرة مؤطرًا لها بعد أن كانت موجودة.

وهناك ظواهر أخرى حدثت في زمن النبي ، ولو لم تحدث لما نزل القرآن فيها، كحادثة الإفك واتهام عائشة بالإفك، لو لم تحدث هذه الحادثة لما نزلت آية تتكلم عن الإفك، لو لم يحدث أن ذُمَّ النبي عند زواجه من زينب بنت جحش لما نزلت الآيات التي تتحدث عن هذه الحادثة، مثلًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ آية تتحدث عن الإفك، ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا آية تتحدث عن زواجه من زينب بنت جحش. لو لم يكن في المدينة منافقون لما نزلت آية تتحدث عن المنافقين: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.

إذن، هناك حوادث وقعت فرضت نفسها على الوحي، ففرضت على القرآن أن ينزل بآيات تتكلم عنها وتعالجها، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، تتحدث عن شيء حاصل، هناك أشخاص يتحدثون معك من وراء الحجرات، وهم جالسون في بيوتهم ينادون: يا محمد افعل كذا وكذا.. بدو! إذن، هناك حوادث وهناك قضايا طبيعية فرضت نفسها على القرآن، فصار القرآن تابعًا للتجربة البشرية التي خاضها النبي .

الشاهد الخامس: الأسئلة الواردة في القرآن.

الأسئلة التي وردت على النبي المصطفى وأجاب عنها القرآن الكريم، فإن هذه الأسئلة جعلت جزءًا مهمًا من القرآن جوابًا لا خطابًا، فلم يصبح القرآن خطابًا ينزل من السماء ابتداءً، بل أصبح جوابًا عن أسئلة تثار، وأصبح دوره ردة الفعل وليس الفعل، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ.

لولا ورود هذه الأسئلة من الناس لما نزلت هذه الأجوبة من القرآن، وهذا يعني أن القرآن في جزء مهم من آياته مجرد جواب، ومجرد ردة فعل، وليس فعلًا، فلم يكن كتابًا جاهزًا بتمام تفاصيله قبل نزوله على النبي ، بل هو تعليقٌ وإجاباتٌ وإرشاداتٌ إلى حوادث واقعة خضع لها الوحي في مقام التفاعل معها.

ولذلك، لو أن النبي عاش أكثر مما عاش، فإن النبي المصطفى محمدًا عاش ثلاثًا وستين سنة، ولو عاش أكثر لصار القرآن أكبر؛ إذ ما دام القرآن تابعًا للحوادث المستجدة، مواكبًا لها، مجيبًا على الأسئلة الواردة، فهذا يعني أن القرآن سيكبر، ولو عاش النبي ألف سنة لصار القرآن مئة مجلد؛ لأن دوره دور التفاعل والإجابة والتعليق، فكيف يقال بأن القرآن كتاب جاهز في كتاب مكنون بتمام تفاصيلها، ونزل على النبي المصطفى مرتين: مرة دفعة واحدة، وأخرى بشكل تدريجي؟!

الزواية الثالثة: نتيجة هذه الفكرة.

النتيجة التي نستنتجها من هذه الشبهة - صاحب الشبهة لا يقول كلامًا فقط، بل يريد أن يصل إلى شيء - هي أننا لا يمكن أن نعمل بالآيات القرآنية على أساس أنها قاعدةٌ عامةٌ لجميع الأزمنة ولجميع المجتمعات، إذ ما دام القرآن تابعًا للتجربة البشرية إذن كل آية نزلت في مرحلة زمنية من زمن تجربة النبي كانت لعلاج تلك التجربة في تلك الفترة الزمنية، وليس وقواعد عامة لكل زمن ولكل مجتمع، وهذا معنى القول بتاريخية القرآن وبشرية القرآن.

مثلًا: قوله عز وجل: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، لا يمكن لنا أن نقول بأن هذه قاعدة عامة، وهي أن شهادة رجل واحد بشهادة امرأتين، بل نزلت هذه الآية في حقبة زمنية معينة خاضعة لمسيرة بشرية معينة، وكذلك قوله: ﴿قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا هو يعلق على كلامهم: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، من المحتمل أن هذه الآية كانت علاجًا لتجربةٍ بشريةٍ في حقبةٍ زمنيةٍ معينةٍ، فكيف تصبح قاعدةً عامةً يُعَوَّل عليها ويُسْتَنْبَط منها؟! هذه هي الشبهة.

المحور الثاني: الجواب عن هذه الشبهة.

نحن نذكر الأجوبة مفصّلةً عن هذه الشبهة اليوم وفي غد، وبإمكانكم أن تراجعوا هذه المحاضرات على الموقع؛ لأن هذه شبهات متصلة بعضها ببعض، حتى تستوعب لا بد من ملاحظة هذه السلسلة بتمامها، ليُعْرَف ترابط المعلومات بعضها بالبعض الآخر.

الجواب الأول: جواب إجمالي.

وهو مرتبطٌ بالتناغم والانسجام بين الوسيلة والهدف، ولأجل ذلك لا بد من ذكر أمور.

الأمر الأول: ما هو الهدف من نزول الوحي؟

لا بد أن نحدده لنعرف أن الوسيلة التي اُستخدِمت لأجل هذا الهدف هل هي منسجمةٌ معه أم لا، فالهدف الذي لأجله نزل الوحي على المجتمع البشري حدّدته الآية المباركة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، أي أن الهدف من نزول الوحي هو تحقيق نظام العدالة، تحقيق نظام عادل، هذا هو الهدف.

الأمر الثاني: لزوم اختيار الوسائل الموصلة للهدف.

مقتضى الحكمة، إذا كان هذا الموجود المتصدّي لإنزال الوحي حكيمًا، والمفترض أن هناك حكيمًا، مقتضى الحكمة اختيار الوسائل الموصلة لهذا الهدف، فلا بد من اختيار الوسائل المنسجمة والمتطابقة مع تحقيق هذا الهدف، فأي نقصٍ في أي وسيلةٍ من وسائل تحقيق هذا الهدف والوصول إلى هذا الهدف يعدُّ نقضًا للهدف وإهدارًا له، ونقض الهدف قبيحٌ، والقبيح لا يصدر من الحكيم.

فلا بد بمقتضى الحكمة أن تكون الوسائل رسولًا ولغةً ومُرْسَلًا إليه متطابقةً تمامًا مع هذا الهدف، حيث إن هناك ثلاث وسائل استخدمها الله تبارك وتعالى لتحقيق الهدف من نزول الوحي: الواسطة، وهي الرسول، واللغة التي صيغ بها هذا النظام من أجل تحقيق الهدف، والمرسَل إليه، وهو المجتمع الإنساني في تلك الفترة والحقبة الزمنية التي برز فيها النبي محمد .

فمن أجل تحقيق النظام العادل، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، لا بد أن تكون هذه الوسائل الثلاث مؤهّلةً تأهيلًا تامًّا لإيصال هذا الهدف، ولتحقيق هذا الهدف، فلا بد أن تكون الوسيلة الأولى - وهي الرسول - إنسانًا قادرًا على استيعاب هذا الوحي، قادرًا قدرةً تامةً على استيعاب الوحي بتمامه، وعلى تبليغه بحذافيره، وعلى تفعيله بحذافيره، وإذا لم يكن قادرًا - أي: إذا كان عاجزًا أو ناقصًا - في أي جهة من الجهات، فحينئذ يعدّ إعطاؤه النظام وإنزال النظام عليه نقضًا للغرض ونقضًا للهدف، ونقض الهدف والغرض قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى.

وإلا فيأتي السؤال: لماذا اختار الله.. إذا لم تكن هناك حكمة، فلماذا اختار الله هذا الشخص بالذات من بين المجتمع الإنساني كله في تلك الفترة؟ ولماذا اختار هذه اللغة - اللغة العربية - دون غيرها؟ ولماذا اختار هذه الحقبة الزمنية بالذات لإنزال الوحي دون ما قبلها أو ما بعدها؟ إن كل ذلك يعني أن هذه الوسائل الثلاث مؤهّلةٌ لأن تعتنق هذا الوحي، ولأن تستوعبه، وإلا فأي نقصٍ في أي وسيلةٍ من هذه الوسائل هو نقضٌ للهدف.

وهذا ما ركّز عليه القرآن الكريم في الوسيلة الأولى، قال: الوسيلة الأولى وسيلة معصومة، الرسول - الذي هو الواسطة في تلقي الوحي واستيعابه وتبليغه - وسيلةٌ معصومةٌ لا تخطئ ولا تزل، ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا الغيب هو الوحي ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، فالوسيلة الأولى يؤهلها تأهيلًا تامًا لأن تستوعب تمام الوحي، وتبلّغ تمام الوحي.

وكذلك الوسيلة الثانية، التي تحدث عنها بقوله: ﴿بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، أي أن هذه اللغة بقدر القانون السماوي لا تزيد ولا تنقص، مبينة للقانون، متطابقة مع الهدف الذي من أجله نزل هذا القانون. إذن، لا يمكن لنا أن نقول بأن الوحي اضطر لأن يتطوّر ويتكامل لأجل أنَّ المتلقي للوحي متطورٌ ومتكاملٌ، فبما أن المتلقي للوحي متطور ومتكامل فلا بد أن يكون الوحي نفسه متطورًا ومتكاملًا على طبق من تلقاه؛ فإن هذا يعني أن المتلقي للوحي قد تلقى بعضَ فقرات الوحي ليست على واقعها، بل تلقاها بنحوٍ من النقص، بل تلقاها بنحوٍ من عدم الاستيعاب.

وبالتالي الوحي في كل فترة مضطرٌ لأن يجاري هذا الرسول، فيوحي إليه بمقدار كفاءته البشرية، فلا يكون الوحي المُفْرَغ في هذه الفترة وحيًا متكاملًا مستوعبًا لجميع فقرات القانون! إذن فبالنتيجة: عندما يقال بأن الوحي تابعٌ للتجربة البشرية، والتجربة البشرية متكاملةٌ متطورةٌ، فالوحي نفسه متطور ومتكامل، إذن فهناك أجزاء من الوحي نزلت بنحوٍ ناقصٍ؛ لأن المتلقي لها كان ناقصًا، وبالتالي لا يمكن العمل بها لتحقيق نظام العدالة، وهذا يعني أن هناك عدم تطابق بين الهدف من القانون، وهو تحقيق نظام العدالة، وبين الوسائل التي اُستخدمت في صياغة هذا القانون وتبليغه.

نعم، الحاجات على قسمين: هناك حاجات مرحلية، وهناك حاجات دائمة، وتحقيق نظام العدالة على الأرض لا يتم إلا بتغطية كلا هذين الصنفين، وكلا هذين النوعين من الحاجات، فالحاجات المرحلية تحتاج إلى نُظُم وقوانين مرحلية، والحاجات الدائمة تحتاج إلى قوانين ونُظُم دائمة، وبالتالي لا يمكن أن يقال بأن هذه القوانين خضعت للتطور والتكامل وهي قد جاءت لتغطية حاجات دائمة وثابتة في كل زمن وفي كل مجتمع وفي كل مكان.

الجواب الثاني: جواب تفصيلي.

العلاقة بين شيئين تارة تكون علاقة تبادلية، وتارة تكون علاقة إنتاجية. العلاقة التبادلية تعني وجود طرفين كلٌ منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، فهناك علاقة تبادلية بينهما. مثلًا: علاقة الروح بالجسد هي علاقة تبادلية، الروح تتأثر بالجسد، والجسد يتأثر بالروح، حياة الجسد وحركة الجسد تفتقر إلى روح؛ لأن الروح هي مكمن الحياة، ورصيد الحياة، فالجسد حتى تنبعث فيه الحيوية والنشاط يحتاج إلى مدد الروح، يحتاج إلى عطاء الروح، لكن الجسد أيضًا يؤثر على الروح، فالجسد المريض يؤثر على الروح فيعطيها ويكسبها تعبًا وسأمًا، والجسد النشيط يعطي للروح نشاطًا وحيوية وانطلاقًا، فهناك علاقة تبادلية بين الروح وبين الجسد.

أيضًا الفكر، الفكر أحيانًا تكون علاقته بمن يفكّر وبمن يستقبل علاقة تبادلية، وقد ضرب يوم أمس هذا المثال: افترض أنك مدرس مثلًا، وعندك فكرة إجمالية مختمرة في ذهنك، وهي أنك تريد أن تعلّم طلابك كيفية إنشاد الشعر، كيف يكونون شعراء، تريد أن تعلمهم على هذه المهارة، وعلى هذه الملكة، هذه فكرة مختمرة في ذهنك، لكن ما هي أبعادها؟ ما هي حدودها؟ كيف سيتم تفعيلها؟ هذا الشيء لا يمكنك أن تحدّده في درجة وفي رتبة سابقة؛ لأن تحديد الأبعاد يفتقر إلى أن تتحوّل الفكرة إلى تجربة، فما لم تتحول الفكرة إلى تجربة معاشة لا يمكن اكتشاف أبعادها وحدودها.

فيدخل المدرّس إلى الفصل، ويقول: أنا فكرتي هذه، فلنبدأ بتطبيق هذه الفكرة، وهنا يكتشف المدرّس أن هناك أسئلة تحتاج إلى جواب، أن هناك زوايا غامضة تحتاج إلى توضيح، أن هناك عوائق أمام الفكرة وتطبيقها تحتاج إلى تذليل وإذابة، وبالتالي عندما يقوم المدرّس بممارسة التجربة أيامًا يستطيع بعد ذلك أن يحدّد أبعاد هذا المشروع، فهذا المشروع تحدّدت أبعاده واتضحت زواياه واتضحت مراحله عبر التجربة، فاحتاجت الفكرة إلى التجربة كما احتاجت التجربة إلى الفكرة، فهناك علاقة تبادلية بين الفكرة وبين التجربة، لولا الفكرة لما وُلِدت التجربة، ولولا التجربة لما نضجت الفكرة وتحدّدت أبعادها.

وهذا ما يعبّر عنه الفلاسفة بعلاقة المادة والصورة. هناك مادة وهناك صورة، هذا الكرسي له مادة، وهي الخشب، وله صورة وهي الهيئة، هناك علاقة تبادلية بين المادة والصورة. التجربة اكتسبت المادة من الفكرة، والفكرة اكتسبت الصورة والهيئة من التجربة، فحصلت علاقة تبادلية بين الفكرة والتجربة، هذا يسمى علاقة تبادلية.

وهناك عندنا علاقة إنتاجية، العلاجة الإنتاجية لا يكون فيها مؤثر ومتأثر من كلا الطرفين، بل المؤثر طرف، والمتأثر طرف، وبالتالي فالمنتِج المؤثر لا يخضع لمسيرة المتأثر، ولا يخضع للقوانين التي يمر بها المتأثر، وهذا نظير علاقة الشمس بالكائنات الحية على الأرض، الشمس تبث شعاعها ودفأها وحرارتها على الكائنات الحية التي تعيش على الأرض، ودور الكائنات الحية دور التلقي والاستقبال، هذا العلاقة بين شعاع الشمس وبين هذه النبتة التي تنمو ما هي؟ هل هي علاقة تبادلية أم هي علاقة إنتاجية؟ طبعًا علاقة إنتاجية، النبتة تتأثر، أما شعاع الشمس لا يتأثر بالنبتة، شعاع الشمس مرسَل على كل حال، سواء كانت هذه النبتة موجودة أو غير موجودة، شعاع الشمس يبث ذيوله على كل حال سواء وُجِد هذا الإنسان والحيوان على الأرض أم لم يكن موجودًا.

إذن بالنتيجة: هذه النبتة تتأثر بالشمس، وتأخذ حصتها من ضوء الشمس ودفئها، وتنمو ببركته، أما شعاع الشمس لا ينمو بالنبتة، شعاع الشمس لا يخضع لتطور لأن النبتة تخضع للتطور، في العلاقة الإنتاجية لا يكون المنتِج محكومًا بقوانين المنتَج، لا يكون المنتِج خاضعًا للقوانين التي يخضع لها المنتَج، وإنما ذلك في العلاقة التبادلية، حيث يخضع أحدهما لقوانين الآخر، لما كانت هناك علاقة تبادلية بين الفكرة وبين التجربة خضعت الفكرة للتجربة، فكما أن التجربة تعيش تطورًا وتكاملًا فإن الفكرة تعيش تطورًا وتكاملًا؛ لأن العلاقة بينهما تبادلية، أما في العلاقة الإنتاجية المنتِج يرسل نتاجه ولا يخضع للتكامل والتطور الذي يخضع له الأثر المنتَج أبدًا.

وكما يقول الفلاسفة: المعلول منقهرٌ بالعلة وليست العلة منقهرةً بالمعلول، المعلول وجودٌ نازلٌ من وجودات العلة، نأتي مثلًا إلى علاقة النار بالحرارة، النار وجودٌ حراريٌّ يختزن الحرارة في ذاته وفي صميم وجوده، الحرارة التي تخرج من النار ما هي إلا فيضٌ ورشحٌ من تلك الحرارة الكامنة في هذا الوجود الناري، الحرارة تخضع للقوانين التي تمر بها النار وليس العكس، لكن النار لا تخضع للمراحل التي تمر بها الحرارة المنتَجة من خلالها، فالمنتِج لا يتبع المنتَج، بل الأمر بالعكس، وإلا لكان ذلك خُلْف العلية وخُلْف الإنتاج.

بعد أن نفهم هذا، نطرح سؤالًا: علاقة الوحي بالتجربة الإنسانية التي عاشها النبي محمد وعاشها المجتمع البشري آنذاك، هل هي علاقة تبادلية، أم هي علاقة إنتاجية؟ هل أن نسبة الوحي لتجربة النبي نسبة الفكرة إلى التجربة، أم نسبة شعاع الشمس لما ينمو ويحيا ويتكامل بهذا الشعاع وبهذا الضوء؟

نحن نقول: علاقة الوحي بالتجربة البشرية.. لو فرضنا أن هناك تجربة للنبي، أو نفرضها تجربة للمجتمع الذي تلقى الوحي، علاقة الوحي بالتجربة البشرية ليست علاقة تبادلية، بل هي علاقة إنتاجية، وبالتالي الوحي لا يخضع لقوانين التطور والتكامل التي تخضع لها التجربة البشرية نفسها، تمامًا كعلاقة ضوء الشمس بالكائنات الحية المتطورة.

والسر في ذلك: أن علاقة الوحي بالموحى إليه علاقة العلم بالمتعلِّم، والمعلومات التي جاء بها القرآن الكريم على أربعة أقسام: معلومات تاريخية، ومعلومات قيمية، ومعلومات قانونية، ومعلومات رمزية. هناك أربعة أصناف من المعلومات القرآنية.

الصنف الأول: المعلومات التاريخية.

ماذا حدث لإبراهيم؟ ماذا حدث لموسى؟ ماذا حدث لعيسى؟ ماذا حدث لنوح؟ ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، هذه المعلومات التاريخية لا تقبل التطور، هي إما شيء حدث أو لم يحدث، فلا معنى للتطور فيها، هذه المعلومات التاريخية لا تقبل التطور والتكامل؛ لأنها تحكي ما جرى في حقبة زمنية معينة، هذا ما جرى لموسى وعيسى وإبراهيم ونوح وإدريس وإلياس وغيرهم من الأنبياء والرسل، وما جرى للقصة البشرية من لدن يوم آدم إلى يوم نبينا محمد ، فالمعلومات التاريخية بطبعها لا تقبل التطور والتكامل، بل هي مجرد معلومات وصلت إلى النبي .

الصنف الثاني: المعلومات القيمية.

وهي التي تتناول القيم والأخلاق الإنسانية العامة، التي لا يشذ عنها بشر، ولا يستثنى منها حضارة، قبح الظلم، حسن العدل، قبح الخيانة، حسن الأمانة، قبح الكذب، حسن الصدق، ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، وهكذا. هذه المعلومات القيمية لا معنى لخضوعها للتطور والتكامل؛ لأن هذه المعلومات القيمية هي جذورٌ فطريةٌ في كل إنسان، جاء الدين لإثارتها وإيقاظها ليس إلا.

ولذلك ورد في الروايات الشريفة: ”ليثيروا دفائن العقول“، ”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“، مكارم الأخلاق جذورٌ فطريةٌ تعيشها الإنسانية في كل زمن وفي كل مكان وفي كل حضارة، وليست أمورًا تخضع للتطور والتكامل، وهذا واضح.

الصنف الثالث: المعلومات القانونية.

﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، هل هذا يخضع للتطور؟! إما أن يتوجه إلى القِبلة أو لا يتوجه، ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ، ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وأمثال ذلك. المعلومات القانونية لا تخضع للتطور والتكامل، هذه النقطة يجب فهمها، الذي يخضع للتطور والتكامل بيانها لا نفس القانون، هناك فرق بين التكامل في بيان القانون، وبين التكامل في نفس القانون، القانون نفسه لا يتكامل، الذي يتكامل بيانُه.

افترض مثلًا في أول الدعوة قيل لهم: إن الخمر فيه إثم، بعد فترة قيل لهم: اجتنبوا الخمر، بعد فترة قيل لهم: الخمر حرام، هو القانون من البداية حرمة الخمر، التدرج والتطور جاء في بيان القانون لا في نفس القانون، القانون نفسه لا يقبل التطور والتكامل؛ لأن القوانين - كما ذكرنا - على قسمين: قوانين تعالج حاجات مرحلية، وتعالج حاجات وقتية، وقوانين تعالج حاجات دائمة مع دوام الإنسان، لكل زمن ولكل مجتمع.

فهناك تغايرٌ بين القانونين، ليس تطورًا، ليس القانون الثاني تطورًا للقانون الأول، بل هما قانونان، هذا قانون يعالج حاجة مرحلية فهو قانون وقتي، وهذا قانون يعالج حالة دائمة فهو قانون دائم، القانون الثاني ليس كمالًا للقانون الأول، بل هو قانونٌ آخر تبعًا لاختلاف الحاجة، ولهذا القرآن عبّر عن الأول بالمنسوخ وعبّر عن الثاني بالناسخ، فهما قانونان، هذا ليس تطورًا، ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، هذا تغايرٌ في القانون، وهو أمرٌ ضروريٌ، وليس تطورًا في نفس البنية القانونية، ونفس المعلومة القانونية، القانون نفسه لا يقبل التطور والتكامل.

وبالتالي، هذا القانون الدائم إنما أن تحتاج إليه البشرية في زمن محمد أو لا تحتاج، إن كانت البشرية تحتاج إليه في زمن النبي فلا بد من تشريعه بتمام حذافيره؛ لأن تشريعه ناقصًا لن يغطي الحاجة التي من أجلها شُرِّع هذا القانون، وإذا لم يغطِ الحاجة التي من أجلها شُرِّع القانون حصل تغايرٌ بين الوسيلة والهدف، والتغاير بين الوسيلة والهدف خلاف الحكمة، وما هو خلاف الحكمة لا يصدر من الحكيم. وإما لا يحتاج إليه المجتمع البشري، فهذا خُلْف كونه قانونًا يعالج حاجة دائمة ثابتة لكل مجتمع ولكل حضارة.

مثلًا: أنت تأتي إلى القوانين التي وضعها أفلاطون، وضعها سقراط، منذ متى؟ من قبل الإسلام، من قبل ميلاد السيد المسيح، أفلاطون وسقراط جاءا قبل ميلاد المسيح وقبل الإسلام، القوانين التي وضعها.. نحن الآن في مقام تقريب الفكرة، وإلا هناك فرق بين القانون الذي يصدر من الله والقانون الذي يصدر من البشر، وإنما من باب تقريب الفكرة نقول: القوانين التي وضعها أفلاطون لعلم المنطق، هناك علمٌ من العلوم يسمى علمَ المنطق، هذا العلم يعصم الفكرَ من الخطأ إذا روعيت المادةُ والصورةُ، علمٌ مذكورٌ ومشروحٌ، له كتبه.

هذه القوانين مثل القوانين الرياضية، لا تتغير، لا تقبل التغيّر، هل القانون الرياضي يخضع للتجربة البشرية؟! في هذا الزمان 1 زائد 1 يساوي 2 لكن بعد مئة سنة يكون الناتج 5! وبعد ألف سنة يصبح... إلخ، لا يتغير، قانونٌ يعالج زاوية معينة دائمة، لا يقبل التطوّر والتكامل، القوانين المنطقية كالقوانين الرياضية، جعلها أفلاطون، وضعها، وبعبارة أدق: اكتشفها، وبقيت، ربما ثلاثة أو أربعة آلاف سنة منذ يوم أفلاطون إلى يومنا هذا، القوانين كما هي، كما أن قوانين الرياضيات كما هي، لا تقبل التطور والتكامل.

إذا كان القانون الذي يمكن أن يكتشفه البشر - كأفلاطون - يبقى ثابتًا لا يخضع لمسيرة التطوّر والتكامل، فكيف بالقانون الذي يشرّعه الله تبارك وتعالى لعلاج ولتغطية حاجة دائمة ثابتة في كل مجتمع وفي كل زمن؟! فإنه من باب أولى ألا يكون خاضعًا للتطور والتكامل.

قوانين علم الطب، لا أقصد النظريات، فرق بين نظريات علم الطب وبين حقائق علم الطب، الحقائق الثابتة، أو مثلًا قوانين علم الفلك - أي: الحقائق الثابتة في علم الفلك - هل تتغير؟! نيوتن عندما اكتشف قانون الجاذبية فهل سوف يتغيّر هذا القانون بعد بعض السنين لأنه يخضع للتطور والتكامل؟! لا.

إذن بالنتيجة: نحن نقول: القوانين التي نزل بها الوحي على قسمين: قوانين مرحلية تعالج حاجات مرحلية، وقوانين دائمة تعالج حاجات دائمة، وليس هناك تطورٌ في القانون. نعم، قد يحصل تطورٌ في بيان القانون، لكنه بالنتيجة في نفس زمن النبي وفي حياته سيُبَيَّن القانون بشكل كامل؛ لأن المجتمع البشري آنذاك كان يحتاج للقانون الدائم؛ لأنه يعيش الحاجة الدائمة، فيحتاج إلى القانون الدائم، فلا بد من تشريعه بتمامه وكماله في زمن النبي المصطفى ، ولذلك نزل قوله عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.

إذن، ليس هناك تطوّرٌ في نفس البنية القانونية حتى يقال بأنَّنا لا نستطيع أن نتعامل مع القوانين القرآنية كقوانين دائمة؛ إذ لعلها تعالج حقبة بشرية، أو حقبة زمنية معينة، فإنه يقال: هناك قوانين على قسمين: قوانين مرحلية، وقوانين دائمة، فما جاء النص به على أساس أنه قانون دائم فهو قانون دائم.

الصنف الرابع: المعلومات الرمزية.

المقصود بالمعلومات الرمزية أن القرآن الكريم من أجل إيصال المجتمع البشري إلى الهداية - ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ - تحدث عن حقائق كونية لكن بشكل رمزي لا بشكل صريح، وحديثه عن هذه الحقائق الكونية بشكل رمزي، هذا النوع من المعلومات تتفاوت فيه الأفكار والتجربة البشرية، فكلما تقدمت ونضجت التجربة البشرية كانت قراءتها لتلك المعلومات الرمزية أكثر دقة وعمقًا من البشرية التي سبقتها.

هذا في قسم من المعلومات القرآنية، فمثلًا: عندما يقول القرآن: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، هو قال: لو تعلمون، أي أن التجربة البشرية ستعيش مراحل حتى تصل إلى علم هذا القسم، التجربة البشرية في زمان النبي تفهم هذه المعلومة بفهم، والتجربة البشرية بعد مئتي سنة تفهمها بفهم آخر، والتجربة البشرية في زماننا تفهمها بفهم ثالث؛ لأن طبيعة هذه المعلومات هي معلومات رمزية وليست صريحة، تحكي حقائق كونية بلغة رمزية، تشير إلى الهدف من دون أن تكون صريحةً فيه، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، هذه من المعلومات الرمزية.

في هذا القسم الرابع نحن نسلِّم، القسم الرابع يخضع فهمه لا نفسه، هو لا يخضع، هو شيء ثابت، هذه المعلومة الرمزية هي ثابتة لا تتغير، لكن فهم هذه المعلومة الرمزية يخضع لإطار التطور والتكامل لدى المجتمع البشري، فلا يكون هناك خلطٌ بين أقسام المعلومات الواردة في القرآن، وبالتالي تحصّل مما ذكرنا أن علاقة الوحي بالتجربة البشرية من خلال المعلومات بأقسامها الأربعة هي علاقةٌ إنتاجيةٌ وليست علاقةً تبادليةً. يأتي الكلام في يوم غد إن شاء الله عن بقية الأجوبة.