هل أن الوحي القرآني بشري خاضع للتكامل والتطور 4

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ

صدق الله العلي العظيم

ما زال كلامنا حول الشبهة التي طُرِحَت في الوحي القرآني، وهي أن الوحي القرآني يتكامل بتكامل التجربة البشرية التي جاء القرآن من أجل علاجها وتنميتها، وذكرنا أنه اُسْتُشْهِد لهذه الشبهة بعدة شواهد، نتعرّض فعلًا لتلك الشواهد التي اُسْتُشْهِد بها.

الشاهد الأول: مرور القرآن بإجمال وتفصيل.

أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن نفسه فإنه يذكر أنه يخضع لحالة من التغير والتطور، فهناك صنفٌ من الآيات القرآنية ظاهره أن القرآن الكريم نزل دفعة واحدة، كقوله عز وجل: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وهناك صنفٌ من الآيات ظاهره أن القرآن الكريم نزل نجومًا وتدريجًا كما في قوله عز وجل: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا، ولكن هناك صنفًا ثالثًا ظاهره أن القرآن مرّ بمراحل تطوّر وتكامل فيها، كقوله عز وجل: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، فإن ظاهرها أن الآيات القرآنية لم تكن على نسق واحد، ولم تكن بدرجة واحدة، وإنما خضع هذا الكتاب لوجودين: وجود إجمالي عبّر عنه بالإحكام، ووجود تفصيلي عبّر عنه بالتفصيل، وهذا التطور من الإحكام إلى التفصيل إنما اكتسبه القرآن الكريم من خلال تطوّر التجربة البشرية وتكاملها.

لكنَّ هذا الشاهد القرآني لا يصلح الاستدلال به على هذه الفكرة وعلى هذه النظرية، والوجه في ذلك أن القرآن الكريم في هذه الآية يتحدث عن حقيقة كونية تشمل سائر الموجودات ولا تختص بالقرآن الكريم، فإن جميع الموجودات - ومنها الإنسان نفسه - خاضعٌ لمرحلتين من الوجود: مرحلة الإجمال ومرحلة التفصيل. كل موجود إمكاني نزل إلى عالم المادة فهو خاضعٌ لهاتين المرحلتين، مرحلة الإجمال ومرحلة التفصيل، وهذا لا يختص بالقرآن الكريم.

مثلًا: مثّلت بهذا المثال كذا مرة، أن هذه الشجرة المثمرة المعطاء مرّت بوجودين: وجود إجمالي عندما كانت بذرة، ووجود تفصيلي عندما تحولت إلى شجرة، فإن هذه البذرة التي توضَع في التراب وتسمّد وتسقى بالماء وتحفّ بها العوامل الطبيعية التي توجب انبثاقها وإثمارها، هذه البذرة هي وجود للشجرة، أي أن الشجرة المثمرة وجود مختصر ومختزن في هذه البذرة الصغيرة، فالبذرة الصغيرة هي شجرة، لكنها شجرة بوجود إجمالي، ثم يخرج هذا الوجود الإجمالي الكامن ليتفجر ويتحول إلى وجود تفصيلي.

وهذا الإنسان أيضًا، هذا الإنسان العملاق الذي أنجز هذه الحضارة بفكره، بخبرته، بمشاريعه، بإنجازه، هذا الإنسان العملاق كان وجودًا مختصرًا ضمن نطفة صغيرة، تلك النطفة هي إنسان، هي وجود مختزن ومختصر لهذا الإنسان ذوي المواهب، ذوي الملكات، ذوي الإنجازات العظيمة، كل ذلك كان مختصرًا ضمن نطفة صغيرة، فانتقل الإنسان من وجود إجمالي، وهو وجوده في النطفة، إلى وجود تفصيلي، وهو وجود عطائه وملكاته ومشاريعه وإنجازاته.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، نفس الإنسان جعلناه، هذا الإنسان كله جعلناه مختصرًا ضمن نطفة، فالإنسان كالشجرة يمر بوجودين: إجمالي وتفصيلي. ولأجل أن ينتقل هذا الإنسان من عالم الوجود الإجمالي إلى عالم الوجود التفصيلي لا بد من خارطة، كما أن هذا البيت، وهذا المسجد، لم يتحول من فكرة في رأس شخصٍ إلى وجود ماثل على الأرض، إلا بخارطة، تجسّد هذا البيت في خارطة ورقية مفصّلة، كانت هذه الخارطة تقديرًا لهذا الوجود المادي الماثل على الأرض.

وكذلك الإنسان، الإنسان كان روحًا في عالم الذر، وتلك الروح كانت تختزن هذه المواهب، وتختزن هذه الطاقات، فهذا كان إنسانًا قبل أن يكون ماديًا، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله عز وجل: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، أي: هو كان شيئًا، لكن لم يكن شيئًا مذكورًا، كان روحًا في عالم الذر، لكنه لم يكن مذكورًا؛ لأن الإنسان إنما يكون مذكورًا إذا نزل إلى عالم المجتمع، إذا عاش ضمن مجتمع، إذا نزل إلى مجتمع وعاش ضمنه أصبح مذكورًا، لكن هذا الإنسان قبل أن يدخل في إطار العالم الاجتماعي كان شيئًا لكنه لم يكن مذكورًا.

وأيضًا عندما نلاحظ قوله عز وجل وهو يتحدث عن عالم الذر: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، هؤلاء الأرواح كلها كانت في عالم الذر تعيش، وخوطبت بنداء الربوبية، ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى. إذن، هذا الإنسان مرَّ بوجود محكم، مرَّ بوجود مجمل، وهو أنه كان روحًا في عالم الذر، فلما أريد وقُدِّر إنزاله إلى عالم المادة، وعالم المادة يعني عالم التغير من حال إلى حال.

﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، ومن صحة إلى مرض، ومن صورة من أحسن الصور إلى أسفل سافلين، هذا الإنسان الذي يمر بهذه الأطوار في عالم المادة سبق نزولَه إلى عالم المادة سبقًا رتبيًا عالمُ التقدير، كان هناك تقديرٌ لتفاصيل حياته، وخارطةٌ لوجوده، سُلِّمت هذه الخارطة للملائكة الذين يرعون هذا الوجود، ويواكبون هذا الوجود الإنساني، فمرَّ الإنسان بوجود إجمالي، وبعالم تقدير لحياته، ثم نزل إلى عالم التفصيل.

وجميع الموجودات هكذا، ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا، جميع الموجودات بلا استثناء خضعت لوجودين إجمالي وتفصيلي، وجميع الموجودات بلا استثناء لكل موجود منها خارطة ولوح تقدير يتضمن تفاصيل حياته، ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، كل ذلك في كتاب التقدير.

القرآن لا يشذّ عن هذه القاعدة، هذا القرآن أيضًا خلق من خلق الله، فهذا القرآن أيضًا مر بوجود إجمالي وبوجود تفصيلي، إلا أنه في كلا وجوديه الإجمالي والتفصيلي كان قبل نزوله إلى عالم المادة، هذا القرآن بوجوديه الإجمالي والتفصيلي كان في عالم قبل عالم المادة، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ.

ولما نزل إلى عالم المادة أصبح صوتًا، وأصبح خطًا يُكْتَب، ومن الطبيعي أن هذا الصوت يتغير من شخص لآخر، عوارض عالم المادة تعرض على القرآن الصوتي، وتعرض على القرآن الكتبي، فإن القرآن الصوتي يتغير بتغير الأصوات وتغير الأزمنة، والقرآن الكتبي يتغير بتغير الخطوط وبتغير الأزمنة، هذا أمر طبيعي لأن هذا أمر مادي يخضع لإطار عالم التغير والتبدل، إلا أن القرآن بإحكامه وتفاصيله كان في عالم قبل هذا العالم، ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فلا يصح الاستشهاد بقوله: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ على أن القرآن تكامل بتكامل التجربة البشرية.

الشاهد الثاني: خضوع النبي للتكامل.

اُسْتُشْهِدَ على أن الوحي القرآني يتكامل بتكامل التجربة البشرية بأنَّ القرآن نفسه تحدّث عن شخصية النبي ، وأفاد أن النبي يخضع للتكامل، فبما أن القرآن تحدث عن أن النبي المتلقي للوحي كان يتكامل ويتطور بالوحي، إذن فالوحي تابعٌ له، لأنه هو الأرض التي تتلقاه، وبما أنه هو الأرض التي تتلقى الوحي إذن فالوحي يسايره في كل مرحلة، ويتكيّف بتكيّف تطوّره وتكامله من كل مرحلة إلى أخرى.

يقول القرآن الكريم في حق النبي المصطفى : ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، معناه أن النبي ما كان قادرًا على تحمل الوحي في أوائل نزوله، فكان ثقيلًا عليه، وهذا يعني أن كفاءته البشرية لم تكن بمستوى تلقي الوحي من أول الأمر، ثم أصبح الوحي بمرور الوقت ميسورًا له؛ لأنه اكتسب الاستعداد والإمكانيات الوافية لتلقي الوحي واستقباله. أو قوله عز وجل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً لماذا لم ينزل مرة واحدة؟ ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، فإن معنى الآية أن النبي خضع لتطور وتكامل. أو قوله عز وجل: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ، إذن معناه أن النبي خاضعٌ للتطور والتكامل، فإذا كان المستقبل للوحي متكاملًا فالوحي متكاملٌ بتكامله. نحن نناقش هذا الشاهد بثلاثة وجوه:

الوجه الأول: هل أن الطبيعة البشرية تفترض التكامل في المتلقي، أم لا؟

قد يقال: ما دام النبي بشرًا فمقتضى الطبيعة البشرية أن يكون خاضعًا لإطار التكامل، فمن الطبيعي في الإنسان أنه إذا سمع المعلومة يحصل على درجة من الاستيعاب، وإذا تأملها حصل على درجة أخرى، وإذا قام بتبليغها وتعليمها حصل على درجة ثالثة من الاستيعاب، وكلما قام بالتعليم يزداد خبرةً فيما يعلِّم، فيكون بأعلى درجات الاستيعاب، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”المال تفنينه النفقة، والعلم يزكو مع الإنفاق“، أي: يزداد الإنسان به خبرةً وسيطرةً وتمكّنًا، فمن الطبيعي في الإنسان أن يتكامل في تلقي المعلومة وتبليغها وتعليمها، فلماذا يكون النبي استثناءً من هذه القاعدة؟

نقول: لا ملازمة بين أن يكون الإنسان بشرًا خاضعًا للتكامل وبين أن يكون متكاملًا في تلقي الرسالة وتبليغها. لا شك أن النبي المصطفى كان يتكامل في درجات القرب من الله عز وجل، مع أنه في كل آن هو أقرب الناس إلى الله وأفضل الخلق، ولكنه أيضًا في كل آن يزداد قربًا من الله، وفي كل آن ينتقل من مقام إلى مقام قربي من الله عز وجل، ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى سوف يعطيك من المقامات التي لا حصر لها، المقامات الروحية التي تنتقل فيها من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة.

لكن تكامله في المقامات القربية شيءٌ، وتكامله في تلقي الوحي شيءٌ آخر، لا ملازمة بين الأمرين، ليس النبي في أول البعثة يستوعب بدرجة 60% وفي وسط البعثة يستوعب بدرجة 90% وفي آخر البعثة يستوعب بدرجة 100% فهو يتكامل في درجة الاستيعاب! لا، يتكامل في المقامات القربية، وهذا مقتضى العبادة، مقتضى المواهب الرحمانية التي تترى عليه في كل آن، ولكن لا ملازمة بين تكامله في المقامات الروحية وتكامله في درجة ضبط الوحي واستيعابه وتبليغه، بل هو من أول يوم تلقى الوحي فيه، ومن أول لحظة تلقى الوحي فيها، بنفس الدرجة الاستيعابية الكاملة التي تلقى بها الوحي وهو في آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة ، فهو عقلٌ كاملٌ من أول الأمر إلى آخر الأمر.

ولا يُعْقَل أن يكون غير ذلك، لا يُعْقَل أن يكون النبي متفاوتًا في درجات التلقي؛ لأن معنى ذلك أن ما أبلغه في أول البعثة مشوبٌ بالنقص، ولا يحكي القانون السماوي بكامله، إذن بما أن النبي أبلغ الوحي في ثلاث وعشرين سنة فمعنى تكامله أن نصف هذه المدة أو ثلثيها المعلومات كانت ناقصة؛ لأن استقباله لها كان بدرجة أقل مما كان عليه أواخر عمره، وهذا يعني أن المعلومات الوحيانية والقرآنية التي بلّغها لا تتطابق مع المادة السماوية التي أُنْزِلَت إليه؛ لأن درجة الاستيعاب عنده لم تكن متكافئة.

وهذا خلاف الحكمة كما ذكرنا؛ لأن مقتضى الحكمة في المقنّن أن تكون الواسطة في إبلاغ قوانينه واسطةً تحكي القانون بتمام حذافيره، وإلا لتخلف القانون عن الهدف الذي من أجله نزل، فإن الهدف معالجة حاجة ثابتة، وذلك يقتضي أن يكون القانون النازل قانونًا تامًا وافيًا بإشباع الحاجة الثابتة، فإذا كانت الواسطة في نقل القانون واسطةً لا تستوعبه بتمام حذافيره فمقتضى ذلك عدم التناسب بين الواسطة وبين الهدف الذي من أجله نزل القانون، وهذا يتنافى مع الحكمة.

ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ الغيب هو عالم الوحي؛ لأن النبوة هي اتصالٌ بعالم الغيب، النبي من ينكشف له عالم الغيب، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا يعني وحيه ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ إذا ارتضاه، أي: رآه ذا كفاءة لتلقي الوحي واستيعابه وتعليمه كما هو دون زيادة أو نقص، ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فمقتضى الحكمة ضمان تمامية الوسيلة والواسطة في إبلاغ القانون، وإلا لكان ذلك خلاف الحكمة، فلا يمكن للواسطة - النبي المصطفى - أن تختلف درجات استيعابه.

نعم، المجتمع البشري الذي عاش في تلك الفترة كان مجتمعًا يحتاج إلى التطور، فأولًا كان يحتاج إلى مرحلة عقائدية، بمعنى أنه يحتاج إلى مرحلة تهذَّب وتصحَّح فيها عقيدتُه، وهذا ما صنعه النبي في السنين الأولى، ركّز على عقيدة التوحيد.

ثم انتقل المجتمع إلى مرحلة أخرى، وهي المرحلة القيمية، كان يحتاج إلى تهذيب الأخلاق، كان يحتاج إلى تتميم مكارم الأخلاق، كان يحتاج إلى تصفية النفوس وتطهيرها، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وعندما تجاوز هذه المرحلة القيمية، وأصبح المجتمع مجتمعًا متعاطفًا، ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا، تحول في هذه المرحلة القيمية إلى نماذج عظيمة.

انتقل به إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الدفاع عن الكيان الإسلامي، وخاض معارك الجهاد الرائعة، وأثبت أن هذا المجتمع يمتلك من البذل والعطاء والتضحية ما يكون عضدًا ويدًا ولسانًا يدافع عن الكيان الإسلامي، ثم تجاوز به هذه المرحلة إلى مرحلة الإدارة، أصبح مجتمعًا يحتاج إلى نظام، يحتاج إلى إدارة، يحتاج إلى قوانين تحكمه، وأتت القوانين في العبادات والمعاملات والدولة وسائر الأمور المتعلقة بشؤون المجتمع الإدارية.

المجتمع تطوّر وتكامل - هذا لا إشكال فيه - من مرحلة إلى مرحلة، لكن تطوّر المجتمع لا يعني أن الوحي كان يتطور، بل علاقة المجتمع بالوحي علاقة الأب بتربية ولده، الأب لا يتطور بتطور ولده، صحيح أن الولد يحتاج إلى أن يمر بمراحل، كما ورد عن النبي : ”لاعب ابنك سبعًا، وأدّبه سبعًا، وصاحبه سبعًا“، فالأب يمر مع الابن تارة بمرحلة التأديب، ثم ينتقل به إلى مرحلة الصحبة والتعليم، لكن تطوّر الولد من مرحلة إلى مرحلة لا يعني أن الأب يتطور بتطور الولد ويتكامل بتكامله؛ لأن هذه علاقة التربية وعلاقة الهداية، فهذه العلاقة لا تقتضي أن يتكامل الهادي بالمهتدي والمربّي بالمتربّي على يديه.

نفس المجتمع كان يتطور، لكن الوحي كان يغذيه في كل مرحلة بما يحتاجه من تعاليم، لا أن نفس الوحي كان مادة خامًا ثم تطوّر وتكامل ببركة هذه التجربة البشرية، فإنه لا ملازمة عقلية بين تطور المهتدي وتطور الهادي.

الوجه الثاني: قصور دلالة الآيات عن مدّعى صاحب الشبهة.

هذه الآيات التي اُسْتُشْهِد بها على تكامل النبي ليست شاهدًا على ذلك، أما قوله عز وجل: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا فهذا لا يقصد الآية التي سوف تنزل، بل يقصد القرآن كله، هذا القرآن كله الذي سنلقيه عليك إلى آخر عمرك، هذا ليس كلامًا عاديًا، بل هو كلام ثقيل، فليس المراد بالثقل الثقل على عقل النبي، أو الثقل على بدن النبي، كما روى العامة عن عائشة أنه كان إذا نزل عليه الوحي يرتعد ويتصبب عرقًا! الوحي ليس إلا انكشاف عالم الغيب، ينكشف لروحه عالم الغيب، لا يتصبب عرقًا ولا يرتعد، ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، ثقيل بمعانيه وبمضامينه؛ لأنه نظامٌ عامٌّ للبشرية جمعاء، لهذا القرآن قولًا ثقيلًا، وليس معنى الثقل أنه ثقيلٌ على عقله وعلى استعداده وعلى قدرته البدنية، هذا لا ربط له بمسألة ثقل الوحي.

وأما قوله عز وجل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، ووردت مثل هذه التعابير في القرآن الكريم: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، هذا حديثٌ عن تزايدٍ وتكاملٍ في درجات القرب اليقيني من الله تبارك وتعالى، لا أن استعداده يتكامل، ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ أي أن النزول التدريجي للقرآن الكريم دخيلٌ في ازدياد مقاماتك القربية واليقينية بالله عز وجل، تمامًا كالعبادة، فأنت عندما تصلي مثلًا فالصلاة عبادة، لماذا عبادة؟ لأنها اتصال روحي بينك وبين الخالق عز وجل، ولذلك ورد في الحديث الشريف: ”الصلاة قربان كل تقي“، الصلاة اتصال روحي بين العبد وربه، وكان الحسن بن علي «صلوات الله عليه وعلى آله» إذا وقف على باب المسجد ارتعدت فرائصه واصفرّ لونه وقال: أتدرون أنني أقف بين يدي من؟! إنني أقف بين يدي جبّار الجبابرة وملك الملوك.

الصلاة اتصالٌ بين العبد وبين ربه، لذلك الصلاة تعتبر عبادة، فكيف بالقرآن؟! القرآن اتصال واضح، وقت نزول القرآن النبي في حال عبادة، نزول القرآن عليه عبارة عن عبادة؛ لأن نزول القرآن عليه يعني الاتصال الروحي بينه وبين خالقه عز وجل، فكما أن الصلاة اتصالٌ روحيٌ نزول القرآن اتصالٌ روحيٌ، فالنبي والقرآن ينزل عليه يعيش حالة من العبادة، يعيش حالة من العروج إلى الله، يعيش حالة من الاتصال الروحي بين روحه الشريفة وبين الخالق تبارك وتعالى، فكما أن الصلاة والعبادة توجب زيادة في مقاماته القربية، كذلك نزول القرآن التدريجي يوجب زيادةً في مقاماته القربية من الله عز وجل؛ لأن نزول القرآن هو ضربٌ من العبادة، وضربٌ من الاتصال الروحي بين الرسول وبين خالقه.

لا أن النبي يتكامل استعداده ودرجة تلقيه بمرور الوقت، وإلا لكان خلاف الحكمة، ألم يجعله يعيش أربعين سنة قبل البعثة؟! لماذا لم يدربه ويمرنه طوال هذه السنين، كل يوم ينزل عليه حرفًا إلى أن يعتاد، بعد أربعين سنة ينزل عليه القرآن! مقتضى الحكمة أن يختار الواسطة التامة الاستعداد لتلقي مراميه ومعانيه وقوانينه، لا أن مقتضى الحكمة أن يجعل الواسطة خاضعة للتجربة، خاضعة لإطار التغير والتكامل، فتتلقى المعلومات مشوّشةً منقوصةً إلى أن تتكامل فتبلغها بنحو كامل، فإن هذا خلاف الحكمة، ولا يصدر من الحكيم تعالى.

وأما الآية الثالثة: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، هذا يسمى الركون اللولائي، الوجود اللولائي ليس وجودًا فعليًا، فرق بين الوجود اللولائي والوجود الفعلي، لاحظ مثلًا قول الشاعر:

يذيب الرعبُ منه كل عظبٍ   فلولا  الغمد  يمسكه لسالَ

هذا السيلان ليس وجودًا فعليًا، هو ما سال بالفعل، هذا وجود تقديري، «لولا الغمد يمسكه لسال» لكن الغمد أمسكه فما سال، السيلان وجود تقديري وليس وجودًا فعليًا، كذلك في الآية التي تتحدث عن النبي يوسف «على نبينا وآله و»: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ هي فعلًا همت به، ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، أي: لو لم ير برهان ربه لهمّ بها، لكنه رأى برهان ربه فما همّ بها، هذا يسمى وجودًا لولائيًا، لأنه رأى برهان ربه ما همّ بها، فوجود الهم لم يكن وجودًا فعليًا، وإنما كان وجودًا تقديريًا، وهذا الوجود التقديري لا يتنافى مع العصمة، وليس المقصود ببرهان ربه هذا الذي يذكره بعض المفسرين، رأى طفلًا موجودًا أو قميصًا ممزقًا.. لا، البرهان - برهان ربه - هو روح القدس الذي يصاحبه كل حين، فعالم الغيب منكشف أمامه، فهو على اتصال لحظي آني بربه تبارك وتعالى، لا ينفك عنه لحظة، ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.

إذن، هنا أيضًا المسألة مسألة لولائية وليست مسألة فعلية، يقول: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ، فالركون وجود لولائي، لو لم نثبتك بالعلم والعصمة وسائر الملكات التي لم يحظَ بها أحدٌ غيرك من العالمين من الأولين والآخرين، لولا ذلك لركنت شيئًا قليلًا، لكن لأنك ثابت بعلمك وعصمتك وطهارتك لم يحصل منك أي ركون، فالركون وجود لولائي وليس وجودًا تقديريًا، فلا يصح الاستشهاد بهذه الآية أيضًا على أن النبي خضع لنوع من التكامل في درجة التلقي ودرجة الاستعداد لاستيعاب الوحي ولتبليغه.

الوجه الثالث: القرآن نفسه ينفي التكامل.

إنَّ هذا المستدل - صاحب النظرية - إما أن يصح لديه الاستشهاد بالقرآن أو لا، إذا كان يبني في إثبات نظريته على الاستشهاد بالقرآن فلا يصح أن يستشهد بآيات دون آيات، فيختار الآيات التي توهم مراده، ويغفل الآيات التي تخالف بظاهرها مراده ونظريته، فإننا إذا رجعنا للآيات القرآنية الأخرى وجدنا أنها تحكي عن كتاب كامل قبل نزوله إلى عالم المادة، ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، أي أن الكتاب كامل، ويقول: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا كل شيء رتبناه وهو جاهز، لا نحتاج إلى التجربة البشرية ولا إلى التكامل، كل شيء جاهز من عندنا، المعاني والألفاظ والسبك، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، نحن متكفلون بكل شيء، فهو كتابٌ جاهزٌ بمعناه ولفظه، وكاملٌ قبل أن ينزل إلى النبي المصطفى محمد ، فإذا أريد الاستشهاد بالقرآن فإن ظاهر الاستشهاد بالقرآن هو تمامية الوحي قبل نزوله على النبي.

وإذا ألغينا الاستشهاد بالقرآن، وقلنا: نحن نحتمل حتى هذه الآيات هي تعالج جزءًا من القرآن، وتتحدث عن بعض القرآن لا عن كل القرآن، إذن فلا يصح الاستشهاد أيضًا بتلك الآيات التي ادعي ظهورها في أن القرآن يتكامل أو أن النبي المصطفى يتكامل . فتحصّل بما ذكرنا كله أن الصحيح ما عليه جمهور المسلمين من أن القرآن كتابٌ متكاملٌ، نزل مرتين: نزل مرة دفعة واحدة على قلب النبي المصطفى ، وذلك في ليلة القدر، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ونزل نجومًا بعد ذلك لمدة ثلاث وعشرين سنة لحكمةٍ اقتضت مواكبة الآيات لما يحصل من أحداث، وإلا فالآيات نزلت من قبل ذلك على النبي المصطفى ، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ.