الدرس 1

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وقع البحث: في التنبيه الثاني: من تنبيهات العلم الإجمالي، ألا وهو: انحلال العلم الإجمالي. حيث تكرر هذا البحث في المسائل الأصولية.

فمنها على سبيل المثال: في بحث حجية خبر الثقة. حيث استدل بعض الأصوليين على حجية خبر الثقة بالعلم الإجمالي. وهو: أننا نعلم إجمالاً بوجوج أخبار صادرة عن المعصوم ع، او نعلم اجمالا بوجود اخبار منجزة للواقع، ومقتضى هذا العلم الاجمالي: أن نبني على العمل لكل خبر دال على حكم الزامي.

وقد عُلّق على هذا الاستدلال: بأن هذا العلم الإجمالي منحل، وذلك بالظفر بمقدار من أخبار الثقاة، فمثلاً: اذا علمنا بوجود ألف خبر صادر أو ألف خبرٍ منجزٍ ثمّ ظفرنا تفصيلاً بألف خبر ثقة، فإن العلم الاجمالي الاول قد انحل بالعلم التفصيلي الثاني.

ومن الأمثلة: ما استدل به بعض المحدّثين على عدم جريان البراءة في الشبهات التحريمية. حيث قيل: بأننا نعلم إجمالاً بتكاليف إلزامية متعددة في الشبهات، ومقتضى هذا العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية هو الاحتياط، وعدم جريان البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية.

وقد أجيب عن الاستدلال: بدعوى الانحلال. وهو: أننا ظفرنا بعد الفحص والبحث بنفس المقدار المعلوم بالإجمال تفصيلاً، فإذا كنا قد علمنا إجمالاً بوجود عشرة آلاف تكليف إلزامي فنحن بملاحظة منهاج الصالحين، قد ظفرنا بهذا المقدار تفصيلاً. ومقتضى ذلك انحلال العلم الإجمالي الأول.

فدعوى الانحلال متكررة في عدة من المسائل الأصولية، وهذا هو الذي اقتضى عقد تنبيه في العلم الإجمالي، حاصله: إن العلم الاجمالي هل ينحصل إما حقيقة وإما حكماً. ولأجل ذلك: فهنا مقامان للبحث:

المقام الأول: في إثبات الإنحلال الحقيقي للعلم الإجمالي، أي أن المعلوم بالإجمال يزول ويتبخر بالمعلوم بالتفصيل.

المقام الثاني: في إثبات الانحلال الحكمي، اي: ان كان المعلوم بالاجمال ما زال باقياً في الذهن ولم يتبخر فهل يجري الأصل المرّخص في غير ما علمنا به تفصيلا ام لا؟. وهو ما يعبر عنه بالانحلال الحكمي.

فلنا مقامان في البحث:

المقام الأول: في الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي.

ومن أجل توضيح مركز البحث في انحلال العلم الإجمالي حقيقةً. نذكر أموراً ثلاثة:

الأمر الأول: سبق عندما بحثنا في حقيقة العلم الإجمالي، قلنا: هل أن العلم الإجمالي متعلق بالواقع؟ ام هو متعلقٌ بالجامع؟.

فإذا بنينا على مسلك المحقق العراقي «قده»: من أنّ العلم الإجمالي علمٌ بالفرد بصورة إجمالية، أي أن الفرد الثابت في الواقع له صورتان: صورة إجمالية، وصورة تفصيلية، فالعلم الإجمالي: عبارة عن علم لذلك الواقع المعين بصورة اجمالية.

فعلى مبنى العراقي «قده» لو علمنا بالواقع بصورة تفصيلية، كما اذا علمنا بوجود نجاسة في أحد هذين الإناءين ثم علمنا أن النجاسة في الإناء الأبيض. فهنا أفيد: بأنه إن نظرنا للصورة فلا إشكال في عدم الانحلال، لان الشيء لا ينقلب عما قوع عليه، اي ان نفس الصورة الاجمالية لا تنقبل صورة تفصيلية، فبالنظر لنفس الصورة لا انحلال قطعا، ولكن بالنظر للمتصور بهذه الصورة اي متعلق العلم، فالانحلال ممكن بل واقع.

وأما اذا بنينا على المبنى الآخر الصحيح: وهو مبنى المحقق النائيني «قده»: بتقريبنا:

من أن العلم الاجمالي علم بالجامع، غاية ما في الباب أن هذا الجامع مشير لواقع وراءه، فعلقة الجامع بالواقع علقة الاشارة، وبالتالي: فالمعلوم بالإجمال متقوم بعنصرين: أحدهما: انه جامع، والآخر: أنه لا يخرج عن حده الجامعي بإشارته الى فرد، فإذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين فإنّ هذا الأحد وإن كان مشيراً لنجاسة متشخصة إلا أن هذه الإشارة لا تخرج الجامع عن كونه جامعاً. لذلك وقع البحث في الانحلال، وهو: أنه هل يتصور خروج الجامع عن حده الجامعي؟ وتحوله الى الحد الفردي؟ بحيث يتحقق الانحلال الحقيقي؟!، فمركز البحث في الانحلال هو: بناءً على أن العلم الإجمالي علم بالجامع، اذ يقال: ما علمنا به إجمالاً هو الجامع - نجاسة احد الإناءين - وما علمنا به تفصيلا هو الفرد، حيث علمنا بقطرة معينة من البول في هذا الإناء. فهل يتحقق انحلال حقيقي ام لا؟.

هذا هو الأمر الأول.

الأمر الثاني: أن الانحلال الحقيقي قد اتضح مفهومه، وهو: عبارة عن تحول الحدّ الجامعي الى الحدّ الفردي. أي بعد العلم التفصيلي بقطرة معينة من البول في أحد الإناءين لا يبقى علم بجامع بالحد الجامعي. فهل هذا يحصل ام لا؟.

وهو ما عبّر عنه في الكلمات: بإحراز الانطباق، اي اننا نحرز انطباق الصورة الأولى على الصورة الثانية.

الأمر الثالث: إنّ المعلوم بالإجمال إما ذو علامة، او ليست له علامة. وإذا كانت له علامة فإما أن يحرز توفر العلامة في المعلوم بالتفصيل او لا يحرز. وإن لم تكن له علامة فإما أن تحرز وحدة المعلوم او لا تحرز. فهنا صورتان: لكل صورة فرضان:

الصورة الأولى: أن يكون المعلوم بالاجمال ذا علامة. وبيان ذلك:

إن العلم الإجمالي كسائر الحوادث لابد له من سبب وعله اذ لا يعقل حصوله من دون سبب، ومقتضى تحصص المسَّبب بالسبب، ان المعلوم بالاجمال متحصص بسببه، فإن كل مسبب يتحصص بسببه. مثلا: طبيعي الحرارة له اسباب منها: الشمس منها الحركة منها النار، الا ان المسبب عن النار غير المسبب عن الشمس فالمتحصص يتحصص بسببه، فلا محالة فإن المعلوم بالاجمال حتماً يتحصص بسببه. لذلك:

اذا كان السبب متعينا في الذهن كان المعلوم بالإجمال بمقتضى تحصصه بسببه ذا علامة، كما اذا رأينا قطرة بول تسقط الى أحد الإناءين، هذا هو السبب، فحيث إن السبب متعين فلا محالة المعلوم بهذا السبب ذو علامة وهي: إن النجاسة في أحد الإناءين متميزة بكونها قطرة بول معينة. ولهذه الصورة فرضان:

الفرض الاول: أن يكون المعلوم بالفصيل ناظرا للمعلوم بالاجمال معينا له، كما اذا علمنا بوقوع القطرة الكذائي من البول الكذائي في احد الأناءين، ثم علمنا تفصيلا بأن تلك القطرة في هذا الاناء. فهنا حيث إن المعلوم بالتفصيل ناظرٌ للمعلوم بالإجمال معين له فالانحلال حتميٌ لا كلام فيه. أي: أنّ الجامع خرج عن حدّه الجامعي وتبخر، وأصبح ما هو مرتسم في الذهن الفرد بحدّه الفردي.

الفرض الثاني: ان لا يحرز الانطباق، سواء احرزنا التغاير بين الصورتين او لم نحرز. مثلاً: إذا علمنا إجمالاً بقطرة معينة من البول وقعت في أحد الإناءين ثم علمنا تفصيلا بأن هذا الإناء فيه نجاسة، إما قطرة بول او قطرة دم، على أية حال هذا الاناء الابيض فيه نجاسة، ففي مثل هذا الفرض: نحن نحرز ان لا تطابق بين الصورتين، علم بقطرة بول والصورة الثانية مجملة، فالأولى لا تتطابق مع الثانية، وهنا لا كلام ولا اشكال في عدم الانحلال فإن هذا خاضعاً لمحل البحث في الانحلال. او لم نحرز التطابق بل احتملنا تطابق الصورتين واحتلمنا تغايرهما. كما اذا حصل لدينا علم اجمالي بمعلوم ذي علامة وهو العلم بوقوع قطرة معينة من البول في احد الإناءين، ثم علمنا تفصيلا بقطرة من البول في الإناء الأبيض، ونحتمل أنها غيرها. فهنا أيضا: لا اشكال في عدم الانحلال. إذ ما دمت تحتملون أنها هي او غيرها، إذاً فالجامع ما زال جامعاً، إذ الجامع معناه: ما يحتمل انطباقه على كلٌّ من الفرطين، فالحد الجامعي الا وهو: قابلية الانطباق على كلٌّ من الفردين ما زال باقياً، فلم يحصل انحلال.

إذاً اين بحث الانحلال؟ اين مركز الانحلال؟... يأتي الكلام عنه غداً إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.